قصص إسلامية للأطفال
فتي من قريش
بقلم
الكاتب الإسلامي المصري سيد مبارك
------------------------------------
جلس "قيس بن رباح" على ركبتيه في خشوع يتضرع لأصنام صنعها بيديه من الطين، وجعلها في جوف بيته في مكان خاص يليق بمقامها.
وكيف لا يفعل وهؤلاء الآلهة لهم الفضل عليه وعلى مهارته في صناعة السيوف؟ حتى اشتهر بين قبائل العرب بصناعته تلك، ويتفاخر الجميع فيما بينهم بسيوفهم وقوتها وصلابتها، ومن كان سيفه من صنع "قيس بن رباح" وعليه ختمه الخاص به كان له الفخر والثناء كله.
والحق لقد كانت تجارته من صناعة السيوف رابحة ورائجة، يصنعها في مكان بناه بجوار بيته.
كان يجلس بخشوع أمام أحد هذه الأصنام، ويدعوه بصوت هامس خاشع: أيها الإله العظيم، شكرًا لك على نعمتك وكرمك؛ فقد صار "قيس بن رباح" بفضلك ملء السمع والبصر، والكل يهفو إلى شراء إنتاجه من السيوف.
أيها الإله، زوجتي "أسماء بنت صخر" حامل في شهرها الأخير و... سكت برهة عندما تذكر زوجته وحملها، وخشي أن يكون طفله القادم بنتًا تجلب له العار والفضيحة، يسود لها وجهه، ويتجنب قومه، فتبور بضاعته، ويخسر نفسه وعمله، وقد يضطر لتجنب هذا العار إلى أن يدفنها حية، كما يفعل الكثير من قومه!
وقد ذكر الله تعالى في كتابه الكريم هذا الفعل الشنيع فقال: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [النحل: 58، 59].
ثم استطرد وهو يكاد يبكي قائلًا: أيها الإله، استجب لي وارزقني ولدًا أفخر به بين قومي، ويكون سندًا لي في عملي، ولا تُشمِت بي بين قومي وترزقني بنتًا يسود لها وجهي، وتجلب لي الفضيحة والعار بين قومي.
ثم تمهل وبلع ريقه، ثم عاد إلى تضرعه ودعائه، ثم سمع صرخة زوجته تتعالى في أرجاء المنزل، فهُرع من فوره إلى حجرتها؛ ليعرف السبب في صياحها، فإذا بها قد جاءها المخاض وسقطت على الأرض من شدة آلام الطلق.
قال "قيس": يا رحمة الإله! وخرج من بيته ينادي على قومه وجيرانه.
يا بني عبدمناف، أدركوا امرأتي، وليدعُ أحدكم زوجته تساعد زوجتي؛ فقد جاءها المخاض، أسرعوا بالله عليكم.
كان العرب من كل القبائل يملكون النخوة والشجاعة، وكانوا أهل فضل وكرم، لا يتخلون عن مساعدة السائلين من الغرباء عنهم، وتقديم واجب الضيافة؛ فهم أهل كرم مع غيرهم، أما فيما بينهم فكان الأمر غريزة طبعوا عليها، وواجبًا لا يتأخرون عنه أبدًا رغم شركهم وعبادتهم لغير الله تعالى بسبب عادات وتقاليد لا ترحم.
وما أن سمعوا مقالة "قيس" حتى خرجت الكثيرات من نساء جيرانه إلى بيته من غير تردد.
ظل "قيس بن رباح" خارج بيته، يطيب خاطرَه رجالٌ من جيرانه، ينصحونه بعدم القلق.
وقال أحدهم: يا قيس، بحق الإله "هبل" لا تخف، وسيكون الأمر على ما يرام.
نظر له قيس ونفسه تحدثه بالسوء مما ينتظره، وعينه على باب بيته لا يدري هل يسمع البشرى بالولد أم بالبنت، وبينما هو كذلك خرجت امرأة عجوز من جيرانه قائلة: أبشر "يا قيس"، إنه ولد، اشكر الآلهة واحمدها يا ولدي.
تدافع جيرانه لتهنئته، وما انتهى حتى أسرع إلى الكعبة وسجد للآلهة، شاكرًا لها على نعمة الولد، وأخذته نوبة من البكاء بعد أن كاد أن تنهار نفسيته لحظة الولادة، ثم رفع رأسه وقال رافعًا يديه متضرعًا: أيها الآلهة العظام، أقسم أن أجعل ابني هذا أعظم رجال قريش، يضحي بحياته من أجلكم، ومن أجل دينه، سوف أزرع في قلبه محبتكم أكثر من حبه لي أو حبي له، ومرضاتكم على مرضاتي، سأجعله نعم العبد لكم.
خالد بن قيس يرى الرسول (صلى الله عليه وسلم)
شب بطلنا "خالد بن قيس" في بيت أبيه حتى صار له من العمر عشر سنوات، وكان في أحيان يساعده في صنعته على قدر طاقته، وفي أحيان أخرى يلعب مع فتيان القبيلة من جيرانه وأصدقائه، من هم في مثل عمره.
كان "خالد" شجاعًا مقدامًا، وبرع في مصارعة الفتيان؛ لِما يملك من بنيان قوي وذكاء يفوق سنه، وسرعة بديهة جعلته يتولى زعامة فتيان القبيلة.
ورغم كل هذه الصفات كان يشعر في قرارة نفسه بضيق، وأن حياته تمر على غير هدى ولا غاية، حياة لا طعم لها، ولا هدف منها.
روتين سقيم، وحياة رتيبة، وكان يحس في قرارة نفسه أنه خُلق لأمر عظيم، وكان هذا يحيره بشدة.
وبينما هو غارق في تفكيره هذا، حدث أمر لم يكن في الحسبان، وأفاق على هرولة الرجال والنساء وفتيان القبيلة، التي أخذت تعدو أمامه وكأنما تفر من وحش كاسر يريد الفتك بها، وكاد أن يقع على الأرض من قوة اندفاعهم، فأفاق وقد علاه الدهشة يسأل: ما الخبر؟
كان الكل يجري، ثم أدرك السبب، إنه صوت ينادي من قريب على جبل الصفا، ولكنه الآن واضح وقوي: (يا بني فِهر، يا بني عَدي، يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبدمناف، يا بني عبدالمطلب).
قال خالد لنفسه: من هذا الذي ينادي على قبيلته؟ ولم تطل حيرته طويلاً؛ فقد صاح رجل من قبيلته وهو يعدو: أسرعوا؛ فإن "محمدًا" هذا الساحر الذي جاء لنا بدِين جديد ينادينا، يريد أن يلقي علينا بعضًا مما أصابه، هيا لنضحك ولا يفوتنا شيء.
لقد سمع خالد شيئًا عن محمد صلى الله عليه وسلم من أبيه، وقد وصفه بأنه شاعر يأتي بكلام عجيب، يضحك به على رجال ونساء وفتيان قريش..
ويدعوهم سرًّا هو وأتباعه الذين آمنوا بدعوته، وذكر أبوه أن "محمدًا" صلى الله عليه وسلم يدَّعي أنه رسول من عند ربه، وهو إله واحد لا شريك له، ثم يشير أبوه إلى الأصنام في جوف البيت ويقول ساخرًا: وماذا عن هؤلاء؟
ثم يحذرنا من كلامه أو سماع شيء مما يتناقله الناس، حتى لا يسحرنا بكلامه ونكفر بالآلهة، ويضحك فنضحك معه أنا وأمي.
ثم قال خالد لنفسه: وماذا يمنع أن أسمعه بنفسي اليوم، وأحكم عليه بما يقوله، ولم يكد ينتهي من تفكيره وقراره هذا حتى أخذ يعدو مع فتيان قبيلته ورجالها ونسائها إلى حيث يتجه الجميع.
• • •
كان الحشد كثيرًا، والصوت واضحًا، ولكنه لم يكن يستطيع الرؤية، فكان يندفع بين الحشود ويتقدم للصفوف الأولى ليرى ويسمع جيدًا.
وها هو "محمد" صلى الله عليه وسلم قد صار أمامه مباشرة على جبل الصفا، وسمعه يقول بوضوح وثقة: ((أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي بسَفْح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم، أكنتم مُصَدِّقِيَّ؟)).
رفع الجميع أصواتهم وقالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبًا، ما جربنا عليك إلا صدقًا.
وأرهف خالد سمعه وقد أدرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تصديق قومه وشهادتهم لأمانته وصدقه سيصدمهم بكلامه.
وسمعه يقول لهم صلى الله عليه وسلم: ((إني نذير لكم بين يدي عذابٍ شديد))، وقال كلامًا لم يسمعه من الضجيج وارتفاع الأصوات معترضة ترهيبه لهم بعذاب رب لا يؤمنون بوجوده، ولكنها صمتت؛ فقد كانت "لمحمد" صلى الله عليه وسلم هيبة ووقار.
وعاد الصوت واضحًا قويًّا، واستمعت للرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول بحسم وثبات عجيبين: ((يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، أنقذوا أنفسكم من النار؛ فإني لا أملِكُ لكم من الله ضرًّا ولا نفعًا، ولا أُغني عنكم من الله شيئًا.
يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار؛ فإني لا أملك لكم ضرًّا ولا نفعًا.
يا بني مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار.
يا معشر بني قصي، أنقِذوا أنفسكم من النار؛ فإني لا أملك لكم ضرًّا ولا نفعًا.
يا معشر بني عبدمناف، أنقذوا أنفسكم من النار؛ فإني لا أملك لكم من الله ضرًّا ولا نفعًا، ولا أغني عنكم من الله شيئًا.
يا بني عبدشمس، أنقذوا أنفسكم من النار.
يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار.
يا معشر بني عبدالمطلب، أنقذوا أنفسكم من النار؛ فإني لا أملك لكم ضرًّا ولا نفعًا، ولا أغني عنكم من الله شيئًا، سلُوني من مالي ما شئتم، لا أملك لكم من الله شيئًا.
يا عباس بن عبدالمطلب، لا أغني عنك من الله شيئًا.
يا صفيةُ بنتَ عبدالمطلب عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئًا.
يا فاطمة بنت محمد رسول الله، سليني ما شئت من مالي، أنقذي نفسَك من النار؛ فإني لا أملِكُ لك ضرًّا ولا نفعًا، ولا أغني عنك من الله شيئًا، غيرَ أن لكم رحِمًا سأبُلُّها بِبلالها))؛ أي: أصِلها حسب حقها.
وبعد مقالة النبي صلى الله عليه وسلم وتحذيره الذي شمل كل القبائل، ومنها قبيلته، بدا الناس ينصرفون مختلفين في انطباعاتهم، منهم من يضحك ساخرًا لقوله ولم يهتمَّ، ومنهم من أصابته كلماته بالخوف والشك، ومنهم المصدق بكل ما قاله، وانصرف الناس..
وظل "خالد" ينظر رد الفعل وقد أصابت كلمات الرسول شغاف قلبه، وأيقن في قرارة نفسه بصدقه، كان يطيل النظر إليه ويتأمله وقلبه يخفق بشدة، هناك شيء فيه يجذبه إليه لا يدري كهنه.
نفسه تدفعه ليرفع صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
سمع رجلاً يقول للنبي: "تبًّا لك سائر اليوم"، ألهذا جمعتنا؟
فإذا به "أبو لهب"، كان رجلًا غليظ القلب، عرف "خالد" من أبيه أنه من زعماء قريش، وعقلها الذي يخطط ويدبر، وتعجب مما قاله أبوه بأنه عم النبي، فكيف يغلظ له القول ويقول له ما قال؟!
ثم سمع "خالد" بعد ذلك من الناس ما نزل على "النبي" من قرآن من ربه، أوحي له، بقوله عن عمه وزوجته التي كانت مثل زوجها في عدواتها له صلى الله عليه وسلم:
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ﴾ [المسد: 1 - 5].
انصرف الناس وعاد معهم أدراجه، ولكن طوال الطريق لبيته كانت كلمات النبي صلى الله عليه وسلم تؤثر في وجدانه.
هل هو على حق، وإن كان كذلك، فلماذا لا يصدقونه وقد تحجج بأمانته وصدقه، وشهدوا على ذلك!
وكيف يحذرهم بكل هذا القوة واليقين حتى أهله وابنته لم يستثنِهم من التحذير والترهيب؟!
إنه صادق ورب الكعبة، قالها خالد في نفسه ولم يبدها، خشية أن يسمعه أحد ويخبر أباه، وهو لا يريد المتاعب له، ولا لأهله، ولكن الشك أخذ بتلابيب قلبه، وبدأ يفكر ويهمس محدثًا نفسه وأطلق لها العنان:
هؤلاء الرجال الذين اتبعوه مثل أبي بكر وعثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف والزبير بن العوام وغيرهم من رجال قريش الأغنياء والأقوياء والضعفاء، كيف خدعهم؟
ثم قال يحدث نفسه في ثقة: لا أظن في الأمر خدعة، بل الرجل صادق، ودليل ذلك هذا القرآن الذي يتداول الناس من قومه كلمات يقول: هي من عند ربه، وقد سمع بعضها، إنها كلمات لم يسمع مثلها من قبل، ثم أخذ يقرأ سورة مما سمع من الناس وحفظها بسهولة، يسمع بذلك نفسه، ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ - الفاتحة: 1 - 7.
كلمات استشعر حلاوتها وجمالها، وبدأ شعاع من الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم يضيء في قلب خالد، ويزيده يقينًا، ويزيح الشك جانبًا.
وكانت هذه هي بداية حياة جديد.
حياة كان يبحث عنها ويجد فيها نفسه
خالد يكتم إيمانه
مر على هذا الموقف وقت طويل، وظل "خالد" خلالها يكتم إيمانه؛ فقد كان يرى الكثير من المسلمين يعذبون من المشركين، بسبب إيمانهم بالله، وكفرهم بالأصنام، فخاف على أبيه وأمه أن يظهر عليه شيء فيؤذيهما بسببه.
وكان يتابع أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما سمع من الناس بوجوده في مكان يسرع ليراه ويسمعه، ولم يشك فيه أحد لصغر سنه، وفي مرة من المرات التي كان يسمع فيها النبي صلى الله عليه وسلم وينظر إليه ويملي عينه منه حبًّا وإجلالًا له، حدث ما لم يكن في الحسبان.
دس رجلٌ بجواره رقعة من الجلد في يده، فنظر إليه، فإذا به يبتسم له ويقول: وضعت في يديك رقعة فيها كلامٌ لا تقرأه إلا في مكان لا يراك فيه أحد.
قال خالد متعجبًا: ولماذا أنا؟
ابتسم الرجل وهمس في أذنيه وقال: انظر في عيون الناس تدرك السر.
نظر خالد في وجوه الناس يتأمل عيونهم ثم قال للرجل: لا أفهم ماذا تعني! وما علاقة الرقعة بما في عيون الناس؟ وماذا كتبت فيها؟
ابتسم الرجل وقال: رويدك يا فتى، هل تخبرني باسمك؟!
قال خالد: اسمي خالد بن قيس.
ابتسم مشجعًا وقال: شرفني التعرف بك يا خالد، ثم همس في أذنيه مرة ثانية حتى لا يسمعه أحد وقال:
أترى كيف ينظرون لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو يخبرهم بأمر ربه نظرات مختلفة ما بين التهكم والسخرية والشك والريبة مما يقول؟
أومأ خالد برأسه موافقًا على كلام الرجل الذي أردف وقال له هامسًا:
أما أنت فقد رأيت في عينيك نظرة مختلفة، لا يعرفها إلا من جربها وأدرك مغزاها ومعناها!
قال خالد مستغربًا في حدة: أي نظرة رأيتها في عيني؟
قال الرجل وهو يلتفت خشية أن يكون هناك من يتابع حديثهما، ثم قال: إنها نظرة محب، إنك تنظر لمحمد بحب، وهذا لا يكون إلا من قلب صادق يبحث عن الحق واليقين.
هذا ما يميزك عن الناس، وبالمناسبة أسمى "وليد"، ومن أتباع هذا النبي صلى الله عليه وسلم، تذكرني، ومن يدري لعلنا نلتقي مرة ثانية في ظروف أفضل إن شاء الله تعالى.
ثم ضغط على يديه وفيها الرقعة وقال له: ضعها في جيب قميصك، واحرص عليها بحياتك، وانصرف وسط الحشود العائدة حتى غاب عن بصره، ودس "خالد" الرقعة في جيب قميصه، وأسرع إلى البيت وكله شوق لمعرفة ما فيها.
خالد والإله المزعوم
دخل "خالد "منزله فوجد أباه يركع على ركبته يبتهل ويتضرع لربه، ولما شعر بوجوده دعاه.
تعال يا خالد، اجلس هنا بجواري، واركع على ركبتيك، فلما فعل ذلك وضع يديه على كتفه في حنان أبوي وقال:
اسمع يا بني، عندما ولدتك أمك أقسمت للآلهة أن تكون مميزًا، وأعظم رجال قريش، ومن يدافع عنها ويكرمها، وأنت أهل لذلك، فلا تخيِّب أملي يا خالد!
ثم نظر لصنمه وقال: انظر يا بني لهذا الإله الذي صنعته لك ولولدتك كي نعبده؛ فهو ولي نعمتنا، وله علينا السمع والطاعة، هل تفهم ما أقوله؟!
قال خالد في شك: نعم أفهم.
قال أبوه: أحسنت يا بني، وأراد أبوه أن يقول شيئًا لولا أن صوتًا خارج البيت ينادي عليه: هل من أحد في المنزل؟ يا "قيس بن رباح" هل تخرج على الفور بالله عليك؟
قال قيس لابنه خالد: نكمل حديثنا فيما بعد، يبدو أن هناك من يريدنا، لعله يريد شراء سيف، ثم ابتسم لخالد مشجعًا وقال:
والآن أتركك في خلوتك مع إلهك، فهناك عمل أريد أن أنتهي منه، وحاول أن تتضرع إليه يا ولدي؛ فهو يستجيب ويعرف ما تقول، وهو قادر على كل شيء!
أومأ خالد برأسه، فانصرف أبوه راضيًا، وجلس خالد يتأمل الصنم، وتحسسه ثم قال:
إلهي، أنا عبدك الضعيف خالد، أتسمعني؟!
إلهي، أنا أشجع فتيان قبيلتي وأتفاخر بذلك، ولكن قلبي حزين، أتعلم ما في قلبي؟ وهل ترى كم أنا حزين؟!
إلهي أنا أكلمك، وأحتاج كلمة حكمتك، فهل تخبرني ما يجب أن أفعله، فلست راضيًا عن حياتي في اللعب واللهو؟!
توقف خالد عن مناجاة الصنم، وأخذ ينظر إليه، فإذا به صامت، فقال: عجبًا! كيف نعبد إلهًا من الحجَر لا يسمع ولا يتكلم ولا يرى، متى ينفعني وكيف يضرني؟!
إنه الآن يدرك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم على حق، وأنه نبي من عند الله تعالى، الذي يحذرنا عذابه وقوته، وأدرك بذكائه وسلامة فطرته أن هذه الآلهة المزعومة التي يصنعها الرجال بأيديهم ليست سوى حجارة، فكيف يعبدها من يصنعها ويكسرها ويعيد تركيبها في أشكال مختلفة كما يحلو له ثم يعبدها لقوتها؟ فقال متعجبًا: أي قوة تملكها هذه الحجارة الصماء؟!
ثم تذكر الرقعة التي أعطاها إياه الرجل، وتذكر نصيحته، لا تجعل أحدًا يراك وأنت تقرؤها.
فنظر عن يمينه وشماله، فلما أحس أنه في خلوة أخرج الرقعة بيد مرتعشة ونظر فيها وقرأ..
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: 1 - 6].
ثم نظر "خالد" للصنم وقال في تهكُّم:
أيها الإله، هذا رب محمد يدعوني لعبادته وحده، وأرى كلامه، وأرسل لي رسوله؛ ليحذرنا من عبادة غيره، فماذا عنك؟
أين كلامك خلال هذه السنين؟ وماذا تطلب مني؟ ولماذا نعبدك ونعبد غيرك من الآلهة؟ لماذا لا تغضب؟ ومن الذي خلقني، أنت أم هم؟!
وأين رسولك؟ لا عجب أنك حجر أصم، لا تسمع ولا تنفع.
ثم خطرت على باله فكرة خطيرة، قد تكون سببًا في إثارة غضب أبيه وعقابه الشديد له، ولكنه بعد التفكير لم يبالِ؛ لأنه يريد أن يبين لأبيه وأمه حقيقة هذه الآلهة المزعومة، فماذا فعل؟
•• •• •• •• •• ••
يتبع إن شاء الله...