وقد جاء عن الإمام الحسن البصري أن رجلاً سأله:
أيتزوج الرجلُ المرأةَ من أهل الكتاب؟
فقال: ما لهُ ولأهلِ الكتاب، وقد أكثر اللهُ المسلمات؟!
فإن كان ولابد فاعلاً، فليعمَد إليها حصاناً (أي مُحصنة) غير مُسافحة.
قال الرجل: وما المُسافحة؟!
قال: هي التي إذا لمح الرجل إليها بعينه اتبعته.
ولا ريب أن هذا الصنف من النساء في المجتمعات الغربية في عصرنا يعتبر شيئاً نادراً بل شاذاً، كما تدل عليه كتابات الغربيين وتقاريرهم وإحصاءاتهم أنفسهم، وما نسميه نحن البكارة والعفة والإحصان والشرف ونحو ذلك، ليس له أية قيمة اجتماعية عندهم، والفتاة التي لا صديق لها تعير من أترابها، بل من أهلها وأقرب الناس إليها.
القيد الثالث:
ألا تكون من قوم يُعادون المسلمين ويُحاربونهم, ولهذا فرَّق جماعة من الفقهاء بين الذِّميَّة والحربيَّة، فأباحوا الزواج من الأولى، ومنعوا الثانية.
وقد جاء هذا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- فقال: من نساء أهل الكتاب مَن يحل لنا، ومنهم مَن لا يحل لنا، ثم قرأ: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يُحرِّمون ما حرَّم اللهُ ورسولهُ، ولا يدينون دينَ الحق من الذين أوتوا الكتابَ حتى يُعطوا الجِزيةَ..) فمَن أعطى الجزية حلَّ لنا نساؤه، ومَن لم يُعط الجزية لم يحل لنا نساؤه.
وقد ذكر هذا القول لإبراهيم النخعي -أحد فقهاء الكوفة وأئمتها- فأعجبه، وفي مصنف عبد الرزاق عن قتادة قال: لا تُنكح امرأة من أهل الكتاب إلا في عهد، وعن علي رضي الله عنه بنحوه.
وعن ابن جريج قال: بلغني ألا تُنكح امرأةٌ من أهل الكتاب إلا في عهد.
وفي مجموع الإمام زيد عن علي: أنه كره نكاح أهل الحرب.
قال الشارح في "الروض النضير":
والمراد بالكراهة: التَّحريم؛ لأنهم ليسوا من أهل ذمة المسلمين.
قال: وقال قوم بكراهته ولم يُحرموه، لعموم قوله تعالى: (والمُحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) فغلّبوا الكتاب على الدار، يعني: دار الإسلام.
والذي من أهل دار الإسلام بخلاف غيره من أهل الكتاب.
ولا ريب أن لرأي ابن عباس وجاهته ورجحانه لمَن يتأمل، فقد جعل اللهُ المُصاهرة من أقوى الروابط بين البشر، وهي تلي رابطة النسب والدم، ولهذا قال سبحانه: (وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً).
فكيف تتحقق هذه الرابطة بين المسلمين وبين قوم يُحادونهم ويُحاربونهم؟ وكيف يسوغ للمسلم أن يصهر إليهم، فيُصبح منهم أجداداُ لأولاده وجداتهم وأخوالهم وخالاتهم؟ فضلاً عن أن تكون زوجة وربة داره وأم أولاده منهم؟ وكيف يؤمن أن تطلع على عورات المسلمين وتخبر بها قومها؟
ولا غرو أن رأينا العلامة أبا بكر الرازي الحنفي يميل إلى تأييد رأي ابن عباس مُحتجاً له بقوله تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون مَن حاد الله ورسوله) والزواج يوجب المودة، يقول تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة) سورة الروم.
قال: فينبغي أن يكون نكاح الحربيَّات محظوراً، لأن قوله تعالى: (يوادون مَن حاد الله ورسوله) إنما يقع على أهل الحرب، لأنهم في حد غير حدناً.
يؤيد ذلك قوله تعالى: (إنما ينهاكم اللهُ عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تَولَّوهم، ومن يتَولّهم فأولئك هم الظالمون).
وهل هناك تولٍ لهؤلاء أكثر من أن يُزوج إليهم، وتصبح الواحدة من نسائهم جزءاً من أسرته بل العمود الفقري في الأسرة؟
وبناءً على هذا لا يجوز لمسلم في عصرنا أن يتزوج يهودية، ما دامت الحرب قائمة بيننا وبين إسرائيل، ولا قيمة لما يُقال من التفرقة بين اليهودية والصهيونية، فالواقع أن كل يهودي صهيوني، لأن المكونات العقلية والنفسية للصهيونية إنما مصدرها التوراة وملحقاتها وشروحها والتلمود، وكل امرأة يهودية إنما هي جندية -بروحها- في جيش إسرائيل.
القيد الرابع:
ألا يكون من وراء الزواج من الكتابية فتنة ولا ضرر مُحقَّق أو مُرجَّح، فإن استعمال المُباحَات كلها مُقيد بعدم الضرر، فإذا تبين أن في إطلاق استعمالها ضرراً عاماً، مُنعت منعاً عاماً، أو ضرراً خاصاً مُنعت منعاً خاصاً، وكلما عظُم الضَّرر تأكد المنع والتَّحريم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا ضَرر ولا ضِرار".
وهذا الحديث يُمثل قاعدة شرعية قطعية من قواعد الشرع، لأنه -وإن كان بلفظه حديث آحاد- مأخوذ من حيث المعنى من نصوص وأحكام جزئية جمَّة من القرآن والسنة، تُفيد اليقين والقطع.
ومن هنا كانت سلطة ولي الأمر الشرعي في تقييد بعض المُباحات إذا خشي من إطلاق استخدامها أو تناولها ضرراً معيناً.
والضرر المخوف بزواج غير المسلمة يتحقق في صور كثيرة:
أن ينتشر الزواج من غير المسلمات، بحيث يؤثر على الفتيات المسلمات الصالحات للزواج، وذلك أن عدد النساء غالباً ما يكون مثل عدد الرجال أو أكثر، وعدد الصالحات للزواج منهن أكبر قطعاً من عدد القادرين على أعباء الزواج من الرجال.
فإذا أصبح التزوج بغير المسلمات ظاهرة اجتماعية مألوفة، فإن مثل عددهن من بنات المسلمين سيُحرمن من الزواج، لاسيما وأن تعدُد الزوجات في عصرنا أصبح أمراً نادراً، بل شاذاً، ومن المُقرر المعلوم بالضرورة أن المُسلمة لا يحل لها أن تتزوج إلا مسلماً، فلا حَلَ لهذه المُعادلة إلا سدُ باب الزواج من غير المُسلمات إذا خِيفَ على المُسلمات.
وإذا كان المسلمون في بلد ما، يُمثلون أقلية محدودة، مثل بعض الجاليات في أوروبا وأمريكا، وبعض الأقليات في آسيا وأفريقيا، فمنطق الشريعة وروحها يقتضي تحريم زواج الرجال المسلمين من غير المسلمات، وإلا كانت النتيجة إلا يجد بنات المسلمين -أو عدد كبير منهن- رجلاً مسلماً يتقدم للزواج منهن.
وحينئذ تتعرض المرأة المسلمة لأحد أمور ثلاث:
(أ) إما الزواج من غير مُسلم، وهذا باطل في الإسلام.
(ب) وإما الانحراف، والسير في طريق الرذيلة، وهذا من كبائر الإثم.
(ج) وإما عيشة الحرمان الدائم من حياة الزوجية والأمومة.
وكل هذا مما لا يرضاه الإسلام، وهو نتيجة حتمية لزواج الرجال المسلمين من غير المسلمات، مع منع المسلمة من التزوج بغير المسلم.
هذا الضَّرر الذي نبهنا عليه هو الذي خافهُ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه -فيما رواه الإمام محمد بن الحسن- في كتابه "الآثار" حين بلغه أن الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان تزوج -وهو بالمدائن- امرأة يهودية، فكتب إليه عمر مرة أخرى: أعزم عليك ألا تضع كتابي هذا حتى تُخلي سبيلها، فإني أخاف أن يقتدي بك المسلمون، فيختاروا نساءَ أهل الذمة لجمالهن، وكفي بذلك فتنة لنساء المسلمين".
وقد ذكر الإمام سعيد بن منصور في سُننه قصة زواج حذيفة هذه، ولكنه ذكر تعليلاً آخر لمنع عمر لحذيفة، فبعد أن نفى حرمة هذا الزواج قال: "ولكني خشيت أن تَعاطُوا المُومِسات منهن".
ولا مانع أن يكون كل من العلتين مقصوداً لعمر رضي الله عنه.
فهو يخشى -من ناحية- كساد سوق الفتيات المسلمات، أو كثير منهن، وفي ذلك فتنة أي فتنة.
ومن ناحية أخرى يخشى أن يتساهل بعض الناس في شرط الإحصان -العفاف- الذي قيد به القرآن حِل الزواج منهن، حتى يَتعاطوا زواج الفاجرات والمُومِسَات، وكلتاهما مفسدة ينبغي أن تُمنع قبل وقوعها، عملاً بسد الذرائع.
ولعل هذا نفسه ما جعل عمر يَعزم على طلحة بن عبيد الله إلا طلَّق امرأة كتابية تزوجها، وكانت بنت عظيم يهود، كما في مُصنف عبد الرزاق.
إن الزواج من غير المسلمة إذا كانت أجنبية غريبة عن الوطن واللغة والثقافة والتقاليد -مثل زواج العربي والشرقي من الأوروبيات والأمريكيات النصرانيات- يمثل خطراً آخر يحس به كل من يَدرس هذه الظاهرة بعمق وإنصاف، بل يراه مُجسداً ماثلاً للعيان.
فكثيراً ما يذهب بعض أبناء العرب المسلمين إلى أوروبا وأمريكا للدراسة في جامعاتها، أو للتدريب في مصانعها، أو للعمل في مؤسساتها، وقد يمتد به الزمن هناك إلى سنوات ثم يعود أحدهم يصحب زوجة أجنبية، دينها غير دينه ولغتها غير لغته، وجنسها غير جنسه، وتقاليدها غير تقاليده، ومفاهيمها غير مفاهيمه، أو على الأقل غير تقاليد قومه ومفاهيمهم، فإذا رضيت أن تعيش في وطنه -وكثيراً ما لا ترضى- وقد لأحد من أبويه أو إخوته أو أقاربه، أن يزوره في بيته، وجد نفسه غريباً.
فالبيت بمادياته ومعنوياته أمريكي الطابع أو أوربي في كل شيء، وهو بيت "المدام" وليس بيت صاحبنا العربي المسلم، هي القوَّامة عليه، وليس هو القوَّام عليها.
ويعود أهل الرجل إلى قريتهم أو مدينتهم بالأسى والمرارة، وقد أحسُّوا بأنهم فقدوا ابنهم وهو على قيد الحياة!!
وتشتد المصيبة حين يولد لهما أطفال، فهم يَشِبُّونَ -غالباً- على ما تريد الأم، لا على ما يريد الأب إن كانت له إرادة، فهم أدنى إليها، ألصق بها، وأعمق تأثراً بها، وخصوصاً إذا ولدوا في أرضها وبين قومها هي، وهنا ينشأ هؤلاء الأولاد على دين الأم، وعلى احترام قيمها ومفاهيمها وتقاليدها، وحتى لو بقوا على دين الأب، فإنما يبقون عليه اسماً وصورةً، لا حقيقةً وفعلاً.
ومعنى هذا أننا نخسر هؤلاء الناشئة دينياً وقومياً، إن لم نخسر آباءهم أيضاً.
وهذا الصنف أهون شراً من صنف آخر يتزوج الأجنبية، ثم يستقر ويبقى معها في وطنها وبين قومها، بحيث يندمج فيهم شيئاً فشيئاً، ولا يكاد يذكر دينه وأهله ووطنه وأمته.
أما أولاده فهم ينشأون أوربيين أو أمريكيين، إن لم يكن في الوجوه والأسماء، ففي الفكر والخُلق والسلوك، وربما في الاعتقاد أيضاً، وربما فقدوا الوجه والاسم كذلك، فلم يبق لهم شيء يُذكرهم بأنهم انحدروا من أصول عربية أو إسلامية.
ومن أجل هذه المفسدة، نرى كثيراً من الدول تُحرم على سفرائها، وكذلك ضباط جيشها، أن يتزوجوا أجنبيات، بناءً على مصالح واعتبارات وطنية وقومية.
تنبيـــــــــــه مهــــــــــــــم
وفي ختام هذا البحث، أرى لزاماً عليَّ -في ضوء الظروف والملابسات التي تتغير الفتوى بتغيرها- أن أنبه على أمر لا يغيب عن ذوي البصائر، وهو في نظري على غاية من الأهمية، وهو:
إن الإسلام حين رخص في الزواج من الكتابيات راعى أمرين:
أن الكتابية ذات دين سماوي في الأصل، فهي تشترك مع المسلم في الإيمان بالله وبرسالاته، وبالدار الآخرة، وبالقيم الأخلاقية، والمُثل الروحية التي توارثتها الإنسانية عن النبوات، وذلك في الجملة لا في التفصيل طبعاً.
وهذا يجعل المسافة بينها وبين الإسلام قريبة، لأنه يعترف بأصل دينها، ويقر بأصوله في الجملة، ويزيد عليها ويتممها بكل نافع وجديد.
إن المرأة الكتابية -وهذا شأنها- إذا عاشت في ظل زوج مسلم ملتزم بالإسلام، وتحت سلطان مجتمع مسلم مستمسك بشرائع الإسلام -تصبح في دور المتأثر لا المؤثر، والقابل لا الفاعل- فالمتوقع منها والمرجو لها أن تدخل في الإسلام اعتقاداً وعملاً.
فإذا لم تدخل في عقيدة الإسلام -وهذا من حقها إذ لا إكراه في الدين- اعتقاداً وعملاً، فإنها تدخل في الإسلام من حيث هو تقاليد وآداب اجتماعية.
ومعنى هذا أنها تذوب داخل المجتمع الإسلامي سلوكياً، إن لم تذب فيه عقائدياً.
وبهذا لا يُخشى منها أن تؤثر على الزوج أو على الأولاد، لأن سلطان المجتمع الإسلامي من حولها أقوى وأعظم من أي محاولة منها لو حدثت.
كما أن قوة الزوج عادة في تلك الأعصار، وغيرته على دينه، واعتزازه به اعتزازاً لا حد له، وحرصه على حسن تنشئة أولاده، وسلامة عقيدتهم، يُفقد الزوجة القدرة على أن تؤثر في الأولاد تأثيراً يتنافى مع خط الإسلام.
أما في عصرنا، فيجب أن نعترف بشجاعة وصراحة:
إن سلطان الرجل على المرأة المثقفة قد ضعف، وإن شخصية المرأة قد قويت، وبخاصة المرأة الغربية، وهذا ما وضحناه فيما سبق.
أما سلطان المجتمع المسلم فأين هو؟
إن المجتمع الإسلامي الحقيقي الذي يتبنى الإسلام عقيدة وشريعة ومفاهيم وتقاليد وأخلاقاً وحضارة شاملة، غير موجود اليوم.
وإذا كان المجتمع المسلم غير موجود بالصورة المنشودة، فيجب أن تبقى الأسرة المسلمة موجودة، عسى أن تعوض بعض النقص الناتج عن غياب المجتمع الإسلامي الكامل.
فإذا فرطنا في الأسرة هي الأخرى، فأصبحت تتكون من أم غير مسلمة، وأب لا يُبالي ما يَصنع أبناؤه وبناته، ولا ما تصنع زوجته، فقُل على الإسلام وأهله السلام!.
ومن هنا نعلم أن الزواج من غير المسلمات في عصرنا ينبغي أن يُمنع سداً للذريعة إلى ألوان شتى من الضرر والفساد، ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.
ولا يسوغ القول بجوازه إلا لضرورة قاهرة أو حاجة ملحة، وهو يُقدَّر بقدرها.
ولا ننسى هنا أن نذكر أنه مهما تَرَخَّصَ المُترخصون في الزواج من غير المسلمة، فإن ممَّا لا خلاف عليه، أن الزواج من المسلمة أولى وأفضل من جهات عديدة، فلا شك أن توافق الزوجين من الناحية الدينية أعون على الحياة السعيدة، بل كلما توافقا فكرياً ومذهبياً كان أفضل.
وأكثر من ذلك أن الإسلام لا يكتفي بمجرد الزواج من أية مسلمة، بل يرغب كل الترغيب في الزواج من المسلمة المتدينة، فهي أحرص على مرضاة الله، وأرعى لحق الزوج، وأقدر على حفظ نفسها وماله وولده، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "فاظفر بذات الدين تربت يداك".