المبحث الثاني
الجمع بسبب المطر
-------------------------
اتفق جمهور الفقهاء:
المالكية والشافعية والحنابلة على مشروعية الجمع بين الصلاتين بسبب المطر ( 1 ).
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
أولا:
قال تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) ( 2 ) .
وجه الدلالة:
ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى رفع الحرج عن جميع المسلمين في جميع أمور الدين من ضيق بعدم تكليف ما يشق القيام به ، وهذا أصل لقاعدة: " المشقة تجلب التيسير " ( 3 ) .
ولا خلاف بين الفقهاء أن كل مشقة تقتضي التخفيف والجمع بين الصلاتين فيه تخفيف عن المسافر ، وكذا من به عذر يمنعه من الالتزام بأداء الصلاة في وقتها ، ولهذا كان التخفيف عن طريق الجمع بين الصلاتين .
ثانيا:
عن يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ : " قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلا سَفَرٍ " ( 1 ) .
ثالثا:
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا بِالْمَدِينَةِ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلا سَفَرٍ قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ فَسَأَلْتُ سَعِيدًا لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ كَمَا سَأَلْتَنِي فَقَالَ أَرَادَ أَنْ لا يُحْرِجَ أَحَدًا مِنْ أُمَّتِهِ " ( 2 ) .
وجه الدلالة:
ووجه الدلالة من الحديثين السابقين أن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين من غير سفر ولا خوف ، فدل ذلك على أن الجمع بين الصلاتين كان بسبب المطر .
رابعا:
ثبت أن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وسيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كانا يجمعان بين الصلاتين بسبب المطر .
وهذان الصحابيان الجليلان معروفان بصلاحهما وتشبههما بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع أقواله وأفعاله ، ولا يمكن أن يحدث منهما مثل هذا الأمر إلا عن علم علماه من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ( 3 ).
فدل كل ما سبق على مشروعية الجمع بين الظهر والعصر بسبب المطر .
لكن المالكية والحنابلة خالفوا الشافعية في الجمع بين الظهر والعصر وبين جمع التقديم وجمع التأخير بسبب المطر .
فذهب المالكية والحنابلة إلى عدم جواز الجمع بين الظهر والعصر بسبب المطر ، وعللوا ذلك بأن المشقة في المغرب والعشاء أشد لأجل الظلمة ( 1 ) .
أما الشافعية فقد قالوا بمشروعية الجمع بين الصلاتين في الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء .
وعللوا ذلك بإطلاق الأحاديث الواردة في ذلك ؛ ولأن علة الجمع هي المطر ولا فرق بين أن يكون المطر ليلاً أو نهاراً ( 2 ) .
واختلفوا أيضا في جمع التقديم والتأخير:
فذهب المالكية والشافعية في قول إلى جواز جمع التقديم فقط دون جمع التأخير لأن استدامة المطر ليست مؤكدة ( 3 ) ؛ ولأن المطر قد ينقطع فيترتب عليه أداء الصلاة في غير وقتها من غير عذر ، وذهب الشافعية في قولهم الثاني ووافقهم الحنابلة على جواز جمع التأخير بسبب المطر كالسفر ( 4 ) .
واشترط الفقهاء لجواز الجمع بين الصلاتين بسبب المطر ما يأتي:
- أن يبدأ بالأولى من الصلاتين .
- أن ينوي الجمع بينهما .
- الموالاة بين صلاة الظهر والعصر أو بين صلاة المغرب والعشاء .
وزاد المالكية على الشروط السابقة ما يأتي:
- وجود المطر في أول الصلاتين، وعند السلام من الأولى، وعند دخول الثانية .
- أن تكون صلاة الجمع في المسجد .
- أن يوجد الطين أو الوحل .
- والشرط الأخير قال به الحنابلة؛ لأنه يلوث الثياب والنعال، وقد يؤدي إلى ضرر بالإنسان كالزحلقة ونحوها، والخطر هنا يكون أشد من خطر البلل ( 1 ).
الترجيح:
بعد أن استعرضنا أقوال المالكية والشافعية والحنابلة فيما ذهبوا إليه وما تعللوا به نرى أن الرأي الراجح في هذه المسألة هو: مشروعية الجمع بين الصلاتين بسبب المطر الشديد ؛ لأن وجود المطر الشديد يلحق الضرر بالمصلين عند ذهابهم إلى المساجد وعند رجوعهم ويؤدي إلى مشقة ، والشريعة الإسلامية تعمل على رفع الضيق والمشقة عن الإنسان.
ولهذا فإننا نقول:
إن الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بسبب المطر الشديد الذي يؤدي إلى وحل أو طين ، ويترتب عليه عدم القدرة على السير في أمن ، وأن كل ذلك يجعل الجمع مباحا بشرط أن يكون الجمع في جماعة بالمساجد ، أما بالمنازل فليس فيها من الحرج ما هو بالمساجد ؛ ولذلك فلا يجوز الجمع بين الصلاتين في المنازل بسبب المطر .
---------------------------
المبحث الثالث
الجمع بسبب المرض
---------------------------
اتفق الفقهاء:
المالكية والشافعية والحنابلة على جواز الجمع بين الصلاتين بسبب المرض .
وهذا أمر لا خلاف عليه بين هؤلاء الفقهاء ( 1 ) .
لكنهم اختلفوا فيما بينهم في كيفية الجمع بين الصلاتين:
ومذهب المالكية في ذلك هو جواز جمع التقديم فقط ( 2 ) .
أما الشافعية والحنابلة فذهبوا إلى جواز الجمع مطلقا لا فرق في ذلك بين جمع التقديم وجمع التأخير ( 3 ) .
والحق أن هذا الاختلاف ليس له أثر كبير لأن المهم هو مشروعية الجمع بسبب المرض ، والمرض من الأعذار التي تبيح الجمع.
ولهذا رأينا المالكية يقولون:
إن الجمع الجائز بسبب المرض هو جمع التقديم فقط لمن خاف الإغماء أو الحمى أو غيرهما ، وإن سلم من هذه الأمراض ولم تصبه أعاد الثانية في وقتها ( 4 ) .
وهذا معناه أن المريض إذا جمع بين الظهر والعصر بسبب الإغماء أو الحمى أو ما شابه ذلك ولكنه ظل في عافية إلى وقت العصر فعليه إعادة صلاة العصر في وقتها ؛ لأن التقديم كان لعذر سوف يطرأ ولكنه لم يطرأ أو ظل المريض في عافية فكأنه صلى في وقت غير وقت الصلاة . وأداء الصلاة في غير وقتها يجعلها كأن لم تكن ويطالب فاعلها بالإعادة .
وقد استدل الفقهاء: المالكية والشافعية والحنابلة على جواز الجمع بسبب المرض بأحاديث متعددة منها ما يأتي:
1 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: " صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلا سَفَرٍ " ( 1 ) .
وجه الدلالة:
ووجه الدلالة أنه بمجموع الروايتين تبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين ، وكان جمعه لغير غرض السفر أو الخوف أو المطر ، وقد اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز الجمع لغير عذر ، وليس من عذر وراء الثلاثة ( السفر - الخوف - المرض ) إلا المرض ، فتعين أن يكون الجمع بسبب المرض .
2 - إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَر سهلة بنت سهيل وحمنة بنت جحش رضي الله عنهما لما كانتا مستحاضتين بتأخير الظُّهْرَ وتعجيل الْعَصْر والجمع بينهما بِغُسْلٍ وَاحِدٍ " ( 2 ) .
وجه الدلالة:
ووجه الدلالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر المرأتين حينما سألتاه عن الجمع بين الصلاتين أباح لهما ذلك من غير سفر ولا خوف ولا مطر .
ويفهم من هذا أن الاستحاضة مرض ، ولهذا رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل من المرأتين بالجمع بين الصلاتين بسبب الاستحاضة ؛ ولأن هذا أشبه بالمريض بسلس البول .
فإذا كان المريض بسلس البول يتوضأ لكل صلاة ، فإن المستحاضة تغتسل أولا ثم تتوضأ عند كل صلاة ؛ وذلك لدفع الحرج والمشقة عن كل من المريض بسلس البول والمستحاضة .
وإذا كان الحنفية لا يجيزون الجمع بين الصلاتين ، فإن هذا يرجع إلى اختلافهم في جمع الصلاة مطلقا ، وهم لم يقولوا بجواز الجمع بين الصلاتين إلا في المزدلفة فقط ، ولهذا فلا يجوز الجمع بسبب السفر ولا غيره .
وذهب بعض الشافعية إلى أن الجمع بسبب المرض لا يجوز وعلل هؤلاء قولهم : بأنه لم يثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سيما أنه صلى الله عليه وسلم مرض أمراضا كثيرة ، ولم ينقل أنه جمع بين الصلاتين بسبب المرض كما أن مواقيت الصلاة ثابتة فلا يجوز تركها لأمر محتمل .
الترجيح:
بعد أن استعرضنا أقوال الفقهاء وأدلتهم يتبين لنا أن ما ذهب إليه المالكية والشافعية والحنابلة وهو القول بجواز الجمع بين الصلاتين بسبب المرض ؛ لأن الشريعة الإسلامية قائمة على التيسير وإذا كان الإسلام قد يسر على المسافر ويسر في حالة المطر ، أليس المريض أولى من هؤلاء جميعا بالتخفيف عنه والتيسير عليه إذا كان المرض يسبب له نوبة تخرجه عن وعيه وإدراكه أو توصله إلى حالة لا يقدر أثناءها على أداء الصلاة في وقتها .
كما أن المريض بالفشل الكلوي ونحوه يستمر تحت الأجهزة الطبية لساعات طويلة تمنعه من الحركة فماذا يفعل ؟
هل يترك الصلاة ؟ أو يجمع بين الصلاتين ؟
ونحن نرى أن كل مريض بمرض يمنعه من أداء الصلاة في وقتها له أن يجمع بين الصلاتين جمع تقديم أو جمع تأخير ، بمعنى أنه يجوز له أن يفعل أرفقهما به .
وأقوى دليل على ذلك ما ذكره الله عز وجل في قوله: (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ) ( 1 ) .
----------------------------------------
المبحث الرابع
الجمع بين الصلاتين لغير السفر والمرض
----------------------------------------
اتفق المالكية والشافعية والحنابلة على أن الجمع بين الصلاتين بسبب السفر أو المرض جائز ، واتفقوا أيضا على عدم جواز الجمع لغير السفر أو المرض .
لكن طائفة من الفقهاء قالوا بجواز الجمع لحاجة ما لم يتخذ ذلك عادة ، ونقل هنا عن أشهب من المالكية وابن المنذر من الشافعية وابن سيرين وابن شبرمة ( 1 ) .
سبب الاختلاف:
وسبب الاختلاف بين الفقهاء في هذه المسألة يرجع إلى اختلاف الفقهاء في مفهوم الآثار الواردة في ذلك...
فمن رأى أن صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت في مواقيتها المحددة قال بعدم جواز الجمع بين الصلاتين .
ومن رأى أن الشريعة الإسلامية قائمة على رفع الحرج ، وأن الحرج ما دام قد وجد فلا بد من رفعه قال بجواز الجمع بين الصلاتين للحاجة .
الأدلة:
استدل القائلون بعدم جواز الجمع بين الصلاتين لغير السفر والمرض بما ثبت عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: " دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَرَفَةَ فَنَزَلَ الشِّعْبَ فَبَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَمْ يُسْبِغْ الْوُضُوءَ فَقُلْتُ لَهُ: الصَّلاةُ ، فَقَالَ: " الصَّلاةُ أَمَامَكَ " فَجَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلاةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلاة فَصَلَّى وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا " ( 1 ) .
وجه الدلالة:
ووجه الدلالة من هذا الحديث النبوي الشريف هو بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جمع بين الصلاتين إلا بمزدلفة ؛ لأن سيدنا زيد بن حارثة رضي الله عنه حينما دفع الرسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة قال الصلاة ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الصلاة أمامك " أي أن المغرب لا تُصَلَّى هنا .
وكأن سيدنا زيد بن حارثة ظن أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم نسي صلاة المغرب ورأى وقتها قد كاد أن يخرج أو خرج ، فأعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها في تلك الليلة يُشرع تأخيرها لتجمع مع العشاء بالمزدلفة .
وهو يدل على أن سيدنا زيداً لم يكن على علم بهذه السنة إلا بعد أن أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المغرب والعشاء يُجْمَع بينهما بمزدلفة وذلك من أجل النسك ، وهذا هو ما قال به الحنفية ( 2 ) .
واستدلوا أيضا بما ثبت عن سيدنا عمر وأبي موسى أنهما قالا: " الجمع بين الصلاتين بغير عذر من الكبائر " ( 1 ) .
وروي هذا مرفوعاً عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَن جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى باباً من أبواب الكبائر " ( 2 ) .
وجه الدلالة:
ووجه الدلالة مما سبق أن من جمع بين صلاتين وليس له عذر في الجمع فإنه يكون قد فعل إثما عظيما ، وكأنه فعل كبيرة من الكبائر .
واستدلوا أيضا بالمعقول فقالوا:
إن السبب في عدم جواز الجمع لغير عذر هو أن أخبار المواقيت الثابتة لا تجوز مخالفتها إلا بدليل خاص؛ ولأنه تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحافظة على أوقات الصلاة خاصة وأن الجمع كان لسبب النسك ، كما ذهب إلى ذلك الحنفية ، وبسبب السفر والمرض كما قال المالكية والشافعية والحنابلة ( 3 ).
دليل القائلين بجواز الجمع: استدلوا بما يأتي:
1 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا بِالْمَدِينَةِ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلا سَفَرٍ " قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: فَسَأَلْتُ سَعِيدًا لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ كَمَا سَأَلْتَنِي فَقَالَ: أَرَادَ أَنْ لا يُحْرِجَ أَحَدًا مِنْ أُمَّتِهِ " ( 1 ).
2 - عن جَابِر بن زيد قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيًا جَمِيعًا وَسَبْعًا جَمِيعًا " قُلْتُ: يَا أَبَا الشَّعْثَاءِ أَظُنُّهُ أَخَّرَ الظُّهْرَ وَعَجَّلَ الْعَصْرَ وَعَجَّلَ الْعِشَاءَ وَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ .
قَالَ: وَأَنَا أَظُنُّهُ " ( 2 ) .
وجه الدلالة:
ووجه الدلالة مما سبق هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين وهو مقيم بالمدينة من غير خوف ولا مطر.
وأنه صلى الظهر والعصر جمعاً ، والمغرب والعشاء جمعاً ولم يكن هناك خوف ولا مطر .
فدل ذلك على جواز الجمع بين الصلاتين إذا كانت الحاجة داعية إلى ذلك ولكن هذا مشروط بأن لا يتخذ الإنسان ذلك عادة له .
وبهذا القول قال أشهب وابن سيرين وربيعة وابن المنذر والقفال وقالوا:
إن إباحة الجمع هنا لرفع الحرج عن المسلم ( 3 ) .
وقال ابن المنذر:
يجوز الجمع في الحضر من غير خوف ولا مطر ولا مرض ؛ وذلك لما روي من بعض الآثار عن علماء الحديث وعن بعض الصحابة والتابعين من أنهم كانوا يجمعون بين الصلاتين لغير الأعذار المذكورة ( 1 ) .
المناقشة:
وناقش القائلون بجواز الجمع لغير السفر أو المطر والمرض لمخالفيهم الذين قالوا بعدم جواز الجمع بما يأتي:
قالوا لهم في استدلالهم بحديث أسامة بن زيد الذي قال فيه: " دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة ... إلخ الحديث " إن هذا الحديث لا ينفي مشروعية الجمع في غير عرفة والمزدلفة بل هو مثبت للجمع فيها .
والفقهاء لم يختلفوا في جواز الجمع بين الظهر والعصر جمع تقديم بعرفة وبين المغرب والعشاء جمع تأخير بمزدلفة ، وإنما الخلاف فيما هو غير ذلك .
وقالوا في الاستدلال الثاني للذين قالوا بعدم جواز الجمع لغير السفر والمطر:
إن استدلالكم بحديث ابن عباس فيه حنش بن قيس وهو ضعيف ولا يصح الاستدلال به .
وقالوا في الاستدلال بالمعقول:
إن هذا الاستدلال الذي تستدلون به لا يصلح أن يكون دليلا على دعواكم ؛ لأن الجمع بين الصلاتين بعذر السفر من الأمور المشهورة المستعملة فيما بين الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين .
مع الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عن أصحابه .
ثم إن الجمع رخصة فلو لم يكن الجمع مباحا لكان أشد ضيقا وأعظم حرجا في السفر من الإتيان بكل صلاة في وقتها .
ثم إن أداء الصلاة جمعا ثابت عن كثير من الصحابة والتابعين ، وهم يستحيل عليهم أن يقولوا شيئا من غير دليل تطمئن إليه النفوس .
والأدلة كثيرة وواضحة .
أما الذين قالوا بعدم جواز الجمع لغير عذر فقد قالوا ما يأتي:
إن الجمع المذكور الذي تستدلون به على دعـواكم كان لمـرض أو كان لغيم أو أن الجمع كان صوريا ، بمعنى أنه أخر الظهر إلى آخر وقتها وعجل العصر في أول وقتها .
وأجاب المخالفون لهؤلاء بقولهم:
لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين لعذر المرض لما صلى معه إلا من له نحو ذلك العذر .
أما عن التعليل بوجود الغيم فإنه تعليل باطل ؛ لأنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر ، فلا احتمال فيه في المغرب والعشاء .
أما تعليلهم بالجمع الصوري فإنه احتمال ضعيف ؛ لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل .
الترجيح:
والراجح في هذه المسألة هو ما ذهب إليه القائلون بجواز الجمع بين الصلاتين لغير عذر السفر والمرض ونحوه ؛ وذلك بشرط أن لا يتخذ ذلك عادة له .
لأن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما صلى بالبصرة صلاة الظهر والعصر ليس بينهما شيء ، فعل ذلك من شُغْل " ( 1 ) .
وعن عبد الله بن شقيق أن شغل ابن عباس كان بالخطبة وأنه خطب بعد العصر إلى أن بدت النجوم ثم جمع بين المغرب والعشاء كما أن سيدنا عبد الله بن عباس علل هذا بنفي الحرج ، ونفي الحرج هنا ظاهر في مطلق الجمع .
ولهذا نقول بجواز الجمع بين الصلاتين إذا كان هناك من الأعذار ما لا يقدر الإنسان معه على أداء الصلاة في وقتها ما لم يتخذ ذلك عادة له ؛ لأن الشريعة قائمة على التيسير ورفع الحرج .
---------------------------------------
المبحث الخامس
حكم الأذان والإقامة للجمع بين الصلاتين
----------------------------------------
اتفق الفقهاء على أن الإقامة للصلاة مشروعة في الحضر والسفر ( 1 ) .
واتفقوا على أن الإقامة مطلوبة لكل صلاة .
واستدلوا على ذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة وأقام لكل صلاة .
ولأنهما صلاتان جمعهما وقت واحد وتُصَلَّى كل صلاة وحدها فاقتضى أن تكون لكل صلاة إقامة ( 2 ) .
عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي المغرب والعشاء بإقامة واحدة " ( 3 ) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء بجمع ، صلى المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين بإقامة واحدة " ( 4 ) .
وجه الدلالة:
ووجه الدلالة من هذه الأحاديث السابقة يؤكد لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين بأذان واحد وإقامتين ، وهذا معناه أن المصلي الذي يجمع بين الصلاتين عليه أن يؤذن لإعلام الناس بأداء الصلاة.
والمراد بقوله:
" صلى المغرب والعشاء بإقامة واحدة أو صلى المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة واحدة " أي إقامة واحدة لكل صلاة كما ثبت ذلك عند البخاري عن ابن عمر أيضاً ، وكذلك في بعض روايات أبي داود ، وهو الذي يتفق مع حديث جابر وحديث ابن مسعود ، وإلى ذلك ذهب الجمهور واختاره الطحاوي .
ثم عليه أن يقيم للصلاة الأولى ليعلم الناس بإقامته الصلاة ، ثم يقيم لأداء الصلاة الثانية ، وهذا أمر لا خلاف فيه بين الفقهاء ( 1 ) وهذا هو ما نرجحه ونميل إليه .
تم البحث بحمد الله وتوفيقه.