فقه الأولويات عند الأقليات المسلمة في الغرب
" الجالية المسلمة في سويسرا نموذجا".
مصطفى محمد حابس
رئيس منظمة هجرة الدولية لحقوق الإنسان
العضو الإسلامي في مجلس حوار الأديان السويسري
إعلامي وخطيب مسجد - جنيف / سويسرا
*************************************
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى أله الأطهار الطيبين وصحبه أجمعين وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين..
- اللهم إن النور في كتابك ونحن في حاجة إلى نور، والهدى في شريعتك ونحن في حاجة إلى الهدى..
- اللهم إن المسلمين في ديار الغرب يعيشون في بحيرات مالحة توحشت أسماكها في أكل قويها الضعيف، ولا رادع في البحر يردع الطغاة الجبابرة إلا صواعق غضبك، تسلطها على من استذل خلقك فأفسد الحرث والنسل، وزرع بين القوم شحناء العداوة ومتفجرات البغضاء..
- اللهم إن كلمتنا هذه فيها معنى العجز وطعم اليأس، ومرارة الإندثار..
فعلمنا يا رب، كيف تزغرد الكلمات بالأمل وتحيا الأقوال بالعمل..
اللهم إنه منك وإليك، تباركت ربنا وتعاليت..
نستفتح بالذي هو خير: "رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ".
وبعد:
توطـئــــة:
أستهل هذه الكلمة بتوجيه كلمة شكر وعرفان للسيدات والسادة أصحاب الفضيلة القائمين على تنظيم هذا المؤتمر المبارك، خاصة منهم أستاذنا الكبير وشيخنا الكريم سماحة السيد محمد علي التسخيري، حفظه الله ورعاه، الذي كان يحل علينا منذ سنوات خلت ضيفاً كريماً متميزاً، أيام ملتقيات الفكر الإسلامي المباركة بالجزائر، ونحن طلبة، حيث تعلمنا منه ومن علماء الأمة بصفة عامة خيراً كثيراً..
وأسأل الله أن يجعل من عمل القائمين والمشاركين في هذا المؤتمر نوراً يسعى بين أيديهم يوم القيامة، وأن يقر أعينهم برؤية ثماره خيراً عميماً يمتد نفعة إلى الأمة الإسلامية في الداخل وشتات الغرب.. فاللهم آمين.
- إنه من نافلة القول أن الإنسان مدني بطبعه، ومجبول بفطرته على التواصل مع محيطه الإنساني والمادي، ولا يمكن له أن يعيش عيشة هانئة في ديار الغرب بمفرده، كما لا يمكن له أن يجد للحياة طعما إذا عاش بمعزل عن الناس، واستغنى بفكره وذاته عن محيطه والعالم الذي حوله، ذلك لأن صحة الأبدان وأمن الأوطان ورغد العيش هي مقومات الحياة، ولذلك قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): { من أصبح منكم آمناً في سربه معافىً في بدنه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها} [أخرجه الترمذي و إبن ماجة وهو حديث حسن]،
و لأن تناول -قديما و حديثا- عدد لا يستهان به من الكتاب والباحثين والمفكرين مسألة "فقه الأقليات" أو "فقه الأولويات" أو "فقه المهجر" أو "فقه الواقع" التي تصب كلها في كيفية العيش مع الآخر فرداً ومجتمعاً والتواصل معه بسلام على أرض الإسلام أو بلاد الغرب عموماً، فإن الناظر المتفحص فيما تزخر به الساحة الفكرية المعاصرة من مؤلفات وأبحاث ودراسات وكتب، يجد أنه لا تزال ثمة حاجة قصوى إلى المزيد من الدراسات العلمية الجادة التي تنطلق من رؤية منهجية موضوعية واقعية رشيدة تستند في منطلقها إلى أصول الشرع العامة، ومراعية خصوصيات المجتمعات والأوطان والثقافات، كما أصطلح عليه في العصور الأخيرة "فقه المكان" أو "فقه الجغرافية"، ومن ثم فإن هذه الوريقة المتواضعة ترنو -منهجياً- إلى تسليط الضوء على "حياة المسلمين في سويسرا وتعايشهم مع الآخر" و من المؤسف اليوم أن نتناول هذا الموضوع في ظل موجة جديدة من التوتر، على خلفية الانتخابات الأخيرة "ضد المآذن" و "ضد الأجانب"، وهي قضية تندرج -بكل أسف- ضمن مسلسل مقيت من التحريض ضد الإسلام وأمته، وإثارة الضغائن والأحقاد، لإرباك مشاريعنا الفتية ومؤسساتنا الإسلامية الطموحة من طرف حزمة من المشوشين العنصريين في هذا البلد المحايد المضياف.
ومما زاد الطين بلة جهل العديد من المنتسبين للإسلام بأولويات العمل الإسلامي في الغرب، متناسين أن النص القرآني معجزة كله.
وكما يحلو للإمام محمود بوزوزو، رحمه الله (من تلامذة الشيخ العلامة بن باديس، وأول إمام لمسجد جنيف بسويسرا في بداية الستينات)، تكراره علينا في حلقاته ونحن شباب في الثمانينات من القرن الماضي، ما ملخص قوله: "أن في القرآن الكريم الإعجاز البياني والعلمي كما فيه من الإعجاز التشريعي والإصلاحي، وإذا كان الأوائل وقفوا في بعض النصوص عن ما تتيحه الألفاظ، فإن من المتأخرين من أعاد قراءة هذه النصوص، فكشفوا عن معجزات علمية خدمت العقيدة خدمة جليلة، ولا ريب أن يصل الأواخر في ذلك إلى ما لم يصل إليه الأوائل، وإذا ساغ ذلك في مجال العلم فهو سائغ في مجال التشريع بلا شك، بل قال ابن عبد البر: "ليس أضر على الدين من مقولة: لم يترك الأوائل للأواخر ما يقولون فيها".
وصاحب هذه السطور ليس فقيهاً في العلوم الشرعية ليتشعب في الفروع كبقية العلماء المبجلين المدعوين اليوم لهذا المؤتمر، بقدر ما هو دارس ومراقب وممارس، بل قل انطلاقاً من كونه مسلماً يعيش في البيئة الغربية، واقفاً على رأس مؤسسة معنية بالتواصل والتفاهم المتبادل بين المسلمين من جهة والأخرين من جهة ثانية، وطرف محوري ممثل للإسلام في مجلس حوار الأديان السويسري، همنا وما يشغلنا دائماً هو مطلب الارتقاء بالعلاقات التفاعلية بين أبناء البلد الواحد مهما اختلفت عقائدنا ومذاهبنا، عملاً بالتوجيه القرآني البليغ، في قوله تعالى: [لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ] (الممتحنة: وقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] (المائة: 8).
وما علينا إلا بالتذكير، عملاً بالأمر الرباني: [فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ].
1- حتمية تعايش المسلمين مع الأخر:
لقد عرف الاسلام التعايش مع الآخر منذ انطلاقته الأولى في مكة المكرمة عندما كان المسلمون أقلية مستضعفة، وعرفه أيضاً في المدينة المنورة عندما أصبحوا أكثرية غالبة ولهم كيان مستقل.
وبعبارة أخرى:
فإن تجربة الاسلام في التعايش السلمي تمتد منذ فجر الإسلام الأول إلى يوم الناس هذا، وهي تجربة طويلة، متعددة ومتنوعة بحسب طبيعة البيئة التي ترعرعت فيها، مثل أن تكون بيئة أقلية إسلامية أو أغلبية إسلامية، وبيئة من أهل الكتاب أو من غيرهم، أو بيئة دينية أو حتى علمانية غير دينية.
رغم ذلك فقضية التعايش تبقى معقدة التفاصيل ومتجددة العوامل، مثل مستوى معرفة المسلمين بدينهم، ودرجة فهمهم له، وطريقة تفاعلهم مع الأخر.
فالله سبحانه خلق الإنسان وسخر له الكون ليكون خليفة الله في الأرض، مصداقاً لقوله تعالى: [إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ] ( الاحزاب: 72).
وبالتالي فمن قديم الزمان انقسم بنوا الإنسان إلى مؤمن وكافر وبر وفاجر، ولم يمنع ذلك من عيشهم على هذا الكوكب في مد وجزر، مع إبقاء جذوة تعاونهم حية فيما بين شؤونهم اليومية في غير أوقات الحروب والنزاعات.
وبحكم هذا الاختلاف الحتمي والطبيعي بين الناس فليس أمامهم من خيار غير التعاون في المتفق عليه، وإن اختلفت عقائدهم وتعددت مشاربهم وتباينت أهدافهم، وبغيره يقع ما لا تحمد عقباه من تنافر وتناحر يقطع الأرحام ويأتي على الأخضر واليابس.
لذلك جاء التوجيه القرآني يعرف المسلمين بداية من هم، في قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون - وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ] (سورة الحج: 77-78)،
وثانيا يعرفهم بوسطية منهجهم فقال لهم سبحانه وتعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا] (البقرة: 143)، وفق وسطية هذا الدين السمح، كما يلخصها الدكتور عصام البشير، الأمين العام للمركز العالمي للوسطية، بقوله: "الوسطية الإسلامية تقدم منهجاً متوازناً مرتبطاً بالزمان والمكان والإنسان، موصولاً بالواقع، مشروحاً بلغة العصر، جامعاً بين النقل الصحيح والعقل الصريح، محافظاً في الأهداف، متطوراً في الوسائل، ثابتاً في الكليات مرناً في الجزئيات.. مستصحباً لكل قديم نافع ومرحباً بكل جديد صالح.. منفتحاً على الحضارات بلا ذوبان ومراعياً للخصوصيات بلا انكفاء.. ملتمساً للحكمة من أي وعاء خرجت" .."وأن فقه الأقليات يقوم على الإجتهاد الإنتقائي والإنشائي، ويركز على مجموعة قواعد من أهمها: المشقة تجلب التيسير، مراعاة مقاصد الشريعة، تنزيل الحاجات منزلة الضرورات، تنزيل الجماعة منزلة القاضي فيما يعود لرأيها دون مصادمة للقوانين الجارية.." ([1]).
أما الآخرين من المسلمين في الدائرة الكبرى للأمة فلكل قوم ملتهم ومذهبهم وحتى من غير المسلمين لهم حق الاختلاف لكل شرعة ومنهاجاً، نظرتهم للكون والحياة تختلف من مصر لمصر ومن عصر لعصر، فمهما كانت عقائدهم وعاداتهم وتقاليدهم، فالاختلاف سنة فيهم، مصداقاً لقوله تعالى: [وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ] (هود: 118-119)،
ولغير المسلمين هؤلاء لهم ما يقدسونه ويحتفون به من آلهة يعبدونها، أو مبادئ يعتزون بها، لأن مبدأ الاحترام مبدأ قرآني أصيل دل عليه قوله تعالى: [وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُون] (الأنعام: 108)،
أي لا تسبوا آلهة المشركين وأصنامهم فيسبوا الله جهلاً واعتداءً لعدم معرفتهم بعظمة الله، قال ابن عباس: "قال المشركون: لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجون ربك، فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم".
ومعاملة أي من الطرفين للآخر بعدم احترام، وخاصة في هذا الجانب، ستكون لها آثار مأسوية على الجانبين.
وأنصع مثال تهكم الصحيفة الدنماركية ورسوماتها من شخص الرسول الكريم، وبعض الكتابات المسيئة للدين الإسلامي، من أمثال ما اقترفته أقلام بعض السذج المستغربين.. وعلى ضوء هذا التشهير بالدين الإسلام، خوف بعض العوام في سويسرا مثلاً، لتكون انتخاباتهم ضد بناء المآذن، وفي فرنسا ضد الحجاب.. لكن رغم ذلك فهذا القذف في الإسلام وسب المسلمين سيف ذو حدين، لما لا والإسلام اليوم في الغرب أول ديانة تستقطب الشباب والنساء، وثالث وأحياناً ثاني ديانة يتعبد بها في دول الغرب.. بل هو الطريق الثالث كما سوف أشرحه في الفقرة الموالية.
2- الإسلام هو الطريق الثالث لنجدة الإنسانية في الغرب:
في حوار مطول لي نشرته مؤخراً في يوميتي الشرق القطرية والبلاد الجزائرية، في أربع حلقات، مع المفكر الألماني الكبير الدكتور مراد هوفمان، السفير الأسبق لألمانيا في عدد من دول العالم الإسلامي، ومدير الإعلام الأسبق في الناتو، صرح لي بأمور سارة وفي غاية الأهمية، خلاصتها، أن الغرب اليوم بعد أن اكتوى بناري الرأسمالية والاشتراكية، أخذت تترسخ لديه فكرة البحث عن طريق ثالث، ومن خلال مؤشرات كثيرة فإنني أرشح الإسلام ليكون هو هذا الطريق الثالث بحول الله، بشرط أن يعي المسلمون طبيعة هذا الوضع أو المنعطف العالمي القلق، ويساهموا بجدية وفاعلية في الدفع به باتجاه هذا الطريق الثالث الذي يبحث عنه الغرب والإنسان المعاصر عامة.
وهذا الطريق الثالث الذي يتحدث عنه هذا المفكر الكبير، لم يكن سراً بل دعا إليه غيره من كبار الساسة الغربيين، أمثال الرئيس الأمريكي الأسبق كلينتون، فقد استخدم عبارة الطريق الثالث، كما استخدمها توني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق واستخدمها أيضاً كثير من الساسة الفرنسيين، وهؤلاء هم الذين ابتدعوا النظام العالمي الجديد، وهم الذين يريدون تطويره، لكن ماذا يعنون بالطريق الثالث؟ فتلك هي الإشكالية الحقيقة، لأن الإحساس بالأزمة العالمية قد عم الشعورُ بها، وبقي تحديد البدائل الصحيحة لمواجهتها؟ فهل أدرك المسلمون هذه الحاجة أو الضرورة العالمية؟ وهل وعوا ما في الإسلام من إجابات جدية على ذلك كما يعتقد الدكتور هوفمان فعلاً؟ ([2]).
إن الموضوع الذي نطرحه هو أن الإسلام بروحانيته المنمِّية للأشواق الروحية لدى الإنسان، وبتوجُّهاته ومضامينه الاجتماعية الملبيَّة والمُشبِعة للحاجات الاجتماعية للناس كذلك، ممثلة في تأكيده الشديد على السلوك والعمل المنتج النافع ابتداء مادياً وروحياً، ثم على التوزيع العادل للثروة ثانياً، فكرية كانت أم إجتماعية أم سلوكية، وإشراك الفرد والمجتمع في منافع هذه الثروة ثالثاً، عبر نظام التعايش الأخوي بين المسلمين من مذاهب شتى والإنسانية بصفة عامة، وبقية الأنظمة السياسية والاجتماعية المختلفة، يشكل إمكاناً حضارياً حقيقياً لمواجهة الكثير من مشكلات الحياة المعاصرة التي تعوق الدعوة الإسلامية في الغرب، ويقود الناس إلى العبودية لله تعالى طواعية وحباً، خاصة عندما نأخذ بروح النصوص، وننفتح على مقاصدها الكلية التي تتسع لتستوعب مفهوم الرحمة العالمية الذي جاءت به الشريعة كما في قوله تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ] (الأنبياء: 107).
ورحمة العالمين تقتضي أن ينفتح نفع الأخوة بين عامة المسلمين على اختلاف مذاهبهم وبركات التواصل مع عامة الناس والتفاعل الإيجابي يشمل الجانب الفكري والاجتماعي والسياسي والتربوي، ممن أشارت إليهم العديد من آيات الذكر الحكيم التي يعترف فيها الإسلام بالأخوة الإنسانية في قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] (الحجرات: 13).
فهل يمكن للفقه الإسلامي أن يتجاوب مع المفهوم العالمي الإنساني للأخوة والرحمة، ويتيح الفرصة لكل ذوي الحاجات من المسلمين وغيرهم للاستفادة من بركات وسطية منهجه، هذه الرحمة المهداة، ويتيح الفرصة أمام المسلمين وغيرهم للانفتاح على خيريَّة الإسلام وعظمته؟
وفي نفس حواري مع الدكتور هوفمان، وحوارات أخرى أجريتها مع مسلمين أخرين جدد، ومع موظفين دوليين في أروقة الأمم المتحدة، في دورات مجلس حقوق الإنسان بمقر المنظمة الأممية بسويسرا، التي مثَّلت فيها مع بعض الزملاء "منظمة الهجرة الدولية لحقوق الإنسان"، صرح لي العديدُ من هؤلاء المسلمين الجدد، الذين أعلن بعضهم إسلامه وأخفاه بعضهم لمصالح معتبرة شرعاً، وأكدوا كثيراً على هذه الحقيقة التي يمر عليها المسلمون بغفلة، ألا وهي أن الإسلام بشموليته وواقعيته وانفتاحيته على الهموم البشرية من ناحية، وبخبرته الحضارية التاريخية المتميزة من ناحية أخرى، وبإمكانات أهله المتنوعة الهائلة، يمتلك كل المؤهلات التي تجعله يشكل الطريق الثالث الذي يتحتم على الشرق والغرب انتهاجه، إن أريد للإنسان المعاصر أن ينعتق من مشكلات الفساد المرهق نفسياً واجتماعياً وحضارياً، كما أشار القرآن إلى ذلك في مواطن كثيرة، لعل من أهمها قوله تعالى: [ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] (الروم: 4).
ونفس النتيجة وقفت عليها من خلال مشاركتي في جلسات ومؤتمرات "مجلس حوار الأديان السويسري" كممثل للجالية المسلمة هناك لسنوات عديدة ([3])، حيث أدركت مدى القوة والإمكانية الكبيرة التي يتوفر عليها الإسلام، لو تمكنا نحن المسلمين من تمثُّلِه في نفوسنا وواقعنا وبين مذاهبنا وتياراتنا، وأحسسنا نقله للآخرين الذين يبحثون عن الطريق الثالث بكل جدية، ولا يعرفون الطريق الصحيح إليها حتى الآن.
رغم كل ذلك يبقى المجهود الداخلي بين المسلمين بشتى أطيافهم وفهوماتهم، هو الأوكد والمستعجل، لفهم ذلك تعالوا معنا نتصفح بعض المحطات التاريخية للإسلام في سويسرا في المدة الأخيرة.
3- الجاليات المسلمة في سويسرا أرقام وتعاليق رسمية:
سويسرا دولة فدرالية تأسست عام 1848، يسكنها حاليا، حسب إحصائيات العام الماض قرابة 7 ملايين و 800 ألف نسمة، للشعب السويسري أربع لغات وطنية رسمية معتمدة هي الألمانية والفرنسية والإيطالية والرومنشية، تتربع سويسرا على مساحة قدرها: 41300 كلم2، النظام السويسري ينتهج سياسة الديمقراطية المباشرة، كما يجلس على عرش الدولة 7 وزراء فدراليين، يتداولون على الرئاسة كل سنة، بصفة دورية سلسة.
تنقسم سويسرا إدارياً إلى 26 كانتون (مقاطعة أو ولاية) تضم بداخلها 2636 بلدية. ([4]) ويبلغ عدد المسلمين المقيمين في سويسرا، بحسب آخر إحصاء عام (أجري على المستوى الفدرالي في عام (2000)، 310000 نسمة، ويرجح الخبراء أن يناهز عددهم في الوقت الحاضر 400 ألف نسمة، وفيهم من يرجح أن يكون قرابة النصف مليون.
تضاعف عدد المسلمين عدة مرات في السنوات الأخيرة، خاصة في أعقاب انفجار الوضع في الإتحاد اليوغسلافي سابقاً ولجوء عشرات الآلاف من البوسنيين وألبان كوسوفو ومسلمي مونتينيغرو (الجبل الأسود) إلى سويسرا فراراً من ويلات الحرب الأهلية.
تشير أرقام رسمية أيضاً إلى أن المسلمين في سويسرا يتوزعون على النحو التالي:
مسلمون من أصول سويسرية (11.7%)، ومن بلدان جنوب شرق أوروبا (56.4%)، ومن بقية أقطار أوروبا (21.3%)، ومن المغرب العربي (3.4%)، ومن الشرق الأوسط (2%)، ومن بقية بلدان آسيا (2.6 %).
من جهتها أوصت دراسة حول المسلمين في الكنفدرالية، أنجزتها "مجموعة البحث حول الإسلام في سويسرا سنة 2005، بضرورة الاعتراف رسمياً بالدِّين الإسلامي باعتبار أنه أصبح الدِّين الثاني بعد المسيحية، وتشجيع المسلمين على التكتُّـل داخل اتحادات على مستوى الكانتونات وتعزيز إجراءات اندماج هذه الأقلية، لكن سرعان ما أقبرت هذه الفكرة.
يمثل الشبان المسلمون، الذين تقل أعمارهم عن 25 عاماً، نصف الجالية المسلمة تقريباً، إذ يصل عددهم إلى 151815، فيما لا تتعدى نسبة الحاصلين على الجنسية السويسرية 11,75% من مجموع الجالية المسلمة في سويسرا.
يقيم معظم أبناء الجالية المسلمة في المدن والمراكز الحضرية وينتمون إلى الجيل الثاني من الأجانب الذي يشمل الإيطاليين والإسبان والبرتغاليين والصرب أساسا.
4- بسطة تاريخية لأسباب تشتت المسلمين وتعثر الحركة الإسلامية في توحيد كلماتها أيام الانتخابات السويسرية:
في التاسع والعشرين من شهر نوفمبر 2009، مرت سنة كاملة وأشهر على الاستفتاء العام المثير للجدل الذي نظمته سويسرا العام الماضي، وقرر فيه الناخبون بأغلبية 57.5% حظر بناء المزيد من المآذن في سويسرا، علماً أنه لا يوجد بسويسرا كلها إلا أربع مآذن، لا يتعدى طول الواحدة منها بضعة أمتار عن سطح الأرض.
وقد كانت لذلك القرار انعكاسات على صورة سويسرا في الخارج، وعلى علاقتها بالأقلية المسلمة في الداخل، كما شكل ذلك الحدث صدمة للمسلمين في سويسرا وأوروبا عموماً باختلاف مذاهبهم ومشاربهم، ودفعهم إلى رد الفعل في اتجاهات مختلفة.
بعدها وتحديداً يوم 28 نوفمبر صوّت السويسريون بالموافقة على مبادرة جديدة لحزب الشعب اليميني المتطرف تدعو إلى طرد المجرمين الأجانب.
ولرصد هذه التغيرات التي شهدتها الساحة السياسية والاجتماعية في سويسرا عقب حظر المآذن، والموافقة على طرد الأجانب، هذه توطئة تبين محطات تاريخية للسياسة وللتربة التي أينعت فيها منذ سنوات، في بلاد تعد من أول الدول النموذجية في الاستقرار والسيادة والريادة على كافة الأصعدة خاصة منها احترام حقوق الإنسان بما فيها الدينية، لما لا ومدينة جنيف هي "العاصمة الدولية الرسمية لحقوق الإنسان" كما يعرف ذلك العام والخاص وتقره منظمة الأمم المتحدة بمواثيقها.
رغم ذلك فأن هذه المواقف الأخيرة مع الديانة الإسلامية والأجانب لا تعد استثناء في تاريخ سويسرا الحديث، فهذا البلد منذ عام 1848، السنة التي نشأت فيها الدولة الاتحادية السويسرية الحديثة شهدت العديد من الإستفتاءات المثيرة للجدل، كالمبادرة الداعية إلى طرد المهاجرين الإيطاليين من سويسرا قبل 40 سنة، خلت.
وبفارق أصوات قليلة جدا فشلت تلك المبادرة التي كانت ستؤدي إلى طرد 340.000 إيطالي من سويسرا.
هؤلاء كانوا عمالا بسطاء لم يطالبوا ببناء مآذن، ولم يرتكبوا جرائم، جرمهم الوحيد أنهم كانوا مهاجرين وإيطاليين.
وإن كان لمبادرة المآذن من خصوصية، فهو انه لأوّل مرة يستفتى الشعب السويسري حول قضية ذات طابع ديني في استفتاء فدرالي، لأن الجميع يعلم أن القضايا الدينية تدخل ضمن اختصاص الكانتونات (المقاطعات أو الولايات) منذ نشأة النظام الفدرالي في سويسرا.
في الماضي القريب نجد مثلا أن كانتون( فو) الذي أقطنه حاليا، حظر استعمال ناقوس الكنائس على الكاثوليك من أبناء جلدتهم، لكن الأمر توقف عند حدود هذا الكانتون ([5]).
و النظام التشريعي السويسري يتميز بكثرة الانتخابات في السنة الواحدة، ففي العشرية الأخيرة فقط، صوّت السويسريون منذ عام 2000 ثماني مرات على قضايا تخص الأجانب المقيمين في بلدهم، وانتهت كلها تقريبا إلى تشديد قوانين الإقامة واللجوء، والزواج المختلط، والجنسية،...([6]).
ومبادرة المآذن لم تكن سوى التعبير القانوني والسياسي عن رفض نوع من الإسلام والمسلمين، والتعبير عن عدم الترحيب بهما في سويسرا (خاصة من قبل شريحة من الشعب وليس الدولة ولا حتى ممثلي الديانات الأخرى) ([7])، رغم أن الإسلام لم يعد دينا غريبا أو أجنبيا على سويسرا، أو قضية تعني الأجانب فقط، حيث يوجد عشرات الآلاف من المواطنين السويسريين المؤمنين بالإسلام، وغالبيتهم ولدوا في سويسرا.
ومن الإنصاف كان الأجدر معالجة ملف الإسلام والمسلمين على مستويين:
من جهة على مستوى المواطنة، والمواطنون وفقا للتعريف والدستور متساوون، ولكل مواطن واحد صوت انتخابي واحد لا غير.
ومن جهة أخرى، على مستوى الحقوق الأساسية وضرورة احترام الحقوق المدنية.
وذلك باعتبار أن الإسلام دين المئات من الآلاف من اللاجئين السياسيين في أغلبهم قدموا إلى سويسرا هروبا من ويلات التطهير العرقي والكراهية والإبادة الجماعية للمسلمين البلقان (يوغسلافيا سابقا) وأقلية من العالم الإسلامي ( تركيا والمغرب العربي).
وبالتالي لا يعتقد المسلمون في هذه الديار، أن هذا النوع من المبادرات القائمة على الكراهية والإقصاء سوف تتوقف.
كما أن النقاش العام حول الأجانب والأقليات سوف يصبح أكثر تصلبا وحدّة، لان الوضع الحالي الذي تعيشه الأقلية المسلمة يشبه إلى حد كبير ما عاشه اليهود في عقود ماضية في هذا البلد وفي البلدان المجاورة.
وإذا كان ينظر اليوم إلى اليهود على إنهم جزء من نسيج الثقافة والحضارة الغربية، وأصبحوا يتمتعون بكل حقوق المواطنة، فإن هذا لم يحصل إلا عقب عمليات الهولوكوست، وبعد أن طردوهم إلى خارج الدائرة الأوروبية مع قيام الدولة الصهيونية سنة 1948 على التراب الفلسطيني.
أما تصويت السويسريين الأخير يوم 28 نوفمبر 2010 على مبادرة جديدة لحزب الشعب تدعو إلى طرد المجرمين الأجانب، أعتقد أنها ليست إلا استمرار لقصة الدعايات المغرضة للحملة الانتخابية التي استعملها الحزب العنصري كرسومات الكاريكاتير الإشهارية التي غطت كل الساحات، كرسومات "الأغنام السوداء"، و"الفئران التي تسرق الجوازات السويسرية"، و"المآذن التي هي في شكل صواريخ تخترق العلم السويسري"، وغيرها...
إنه الإتجاه نفسه الذي يوظّف الخوف والإقصاء لتحقيق مكاسب فئوية ضيقة، لأنه بالنسبة للمجرمين الأجانب، القوانين الجاري العمل بها اليوم تحقق الغرض، ففي سنة 2009 طردت سويسرا ما يزيد عن 700 أجنبيا بعد إدانتهم من طرف المحاكم في كانتون فو فقط ([8]).
ثم التعديل الجديد الذي يطالبون به يفرض على الأجنبي عقوبة مزدوجة: الحكم الذي تصدره المحكمة، ثم الطرد إلى خارج سويسرا.
هذا المنطق القانوني الأعرج من المفترض انه لا مكان له في ظل دولة القانون، والأنظمة الديمقراطية التي تريد سويسرا أن تكون من روادها.
إن وجه الشبه بين مبادرة المآذن، ومبادرة طرد المجرمين الأجانب هو أن الأولى تضيف إلى الدستور تمييزا بين الأديان التي لها الحق في تشييد رموزها، والتعبير العلني عن وجودها، وأديان أخرى تمنع من ذلك، ويفرض عليها أن تظل غائبة عن الساحة العامة. هذا التمييز يتجلى بشكل آخر في إستفتاء 28 نوفمبر 2010، حيث سيتم إقرار قانون جديد يصنف مرتكبي الجرائم إلى ثلاث دوائر: السويسريون، والأوروبيون، والبقية (أغلبهم من المسلمين).
فبالنسبة للسويسريين، سوف يحاكمون، بعد ان يبحث لهم عن كل الأعذار المخففة، وبعد قضاء أحكامهم، يعودون أحراراً، ثم دائرة الأوروبيين، وهؤلاء في كل الأحوال سوف تحميهم اتفاقيات حرية تنقل الأشخاص، ويكفي أن يطرد منهم بعض الأشخاص حتى تتحرك آليات الإتحاد الأوروبي، فتضطر سويسرا إلى التراجع.
أما الدائرة الثالثة فتخص الأشخاص القادمين من خارج الإطار الأوروبي، وهؤلاء هم الضحايا الحقيقيين المستهدفين من هذه المبادرة، وبالتالي يدفع المسلمون ثمن طيش شخص ينتمي إلى دينهم شكلاً لا مضموناً.
رغم كل هذا، طبعا نفس القانون السويسري يفتح الباب للمسلم والمقيم الأجنبي الشرعي عموما أن يصبح عمدة في إحدى كبرى المدن السويسرية كلوزان او جنيف أو نوشاتيل وغيرها، بل يلاحظ في المدة الأخيرة تزايد انتخاب مسيري المناطق من أصول أجنبية أوروبية، كما يوجد منتخبون من أصول عربية وإسلامية من كل الأحزاب، كما يوجد أيضا في البرلمان الفدرالي منتخب واحد من أصول إفريقية ذو بشرة سوداء منذ سنوات فقط. وهذه المكاسب مهمّة جدا، و يجب انتظار المزيد في المستقبل خاصة مع وصول مسؤولة اشتراكية إلى وزارة العدل والشرطة، على الأقل على مستوى العلاقة بين الإسلام والمسلمين من جهة ([9]).
رغم هذا الإنفتاح على الآخر تبقى مشكلة المسلمين فيما بينهم والتشويش ببعض الطيش وسوء إستعمال حرية التعبير بينهم، و على سبيل المثال لا الحصر، فبعد مرور بضعة أسابيع فقط عن استفتاء المآذن أثيرت مرة أخرى قضية المقابر الخاصة بالمسلمين، فقد طالب رئيس منظمة إسلامية محلية باللجوء إلى المحكمة للاعتراض على قرار بلدية، رغم أنه يعرف أن المآذن ليست من صلب العقيدة الإسلامية، و ليست أولوية بالنسبة لعامة المسلمين.
ثم لاحقا بعد هذه الزوبعة، انشغل الإعلام بظاهرة عبد الله بلانكو (شاب طيب من أصول سويسرية أشهر إسلامه منذ سنوات) ومطالبة التيار الذي ينتمي إليه بإنشاء مدارس خاصة بالمسلمين بدلا من المطالبة بحق المسلمين في التمسك بخصوصياتهم الثقافية داخل المدارس الرسمية.
ثم طرحت قضايا أخرى متفرقة كالحجاب والبرقع، والإعلام لم ينشغل كعادته بأغلب المواطنين المسلمين العاديين الذين يشكلون النسبة الغالبة في المجتمع.
الأمر الآخر المهم هو ظهور فئة من المسلمين على الساحة بادروا بأخذ الكلمة والمشاركة في الحوار العام حول العديد من القضايا التي تهم المجتمع السويسري، وهو ما ساعد في النهاية على الخروج نوعا ما من الحوار القديم بين رجال دين يمارسون السياسة، ورجال سياسة يتكلمون بمنطق الأئمة.
لقد اكّد هؤلاء أن هناك بديلا ثالثا، يتمثل في إرساء حوار جاد وعميق يعالج القضايا على أساس من الشراكة في المواطنة، والمساواة امام القانون، ورفض تشكيك هذا الطرف أو ذاك في حب هذا الوطن وحب خدمة شعبه وثوابتهما المشتركة.
ورغم كل ذلك وفي محاولة لتجاوز آثار حظر المآذن، أطلقت الحكومة السويسرية حواراً مع المسلمين دعت إلى المشاركة فيه 19 شخصية مسلمة، من باب أن "المسلمين في سويسرا مواطنون شرعيون، فيهم الوافد من العالم الإسلامي وفيهم خاصة سويسريون اصليون"، وفتح مخرج سياسة الاعتراف بالآخر من باب "حقوق الإنسان"، لأنها تعلم أن المسلمين لهم عدة هيئات تمثيلية غير رسمية نافذة، علما أن الإسلام غير معترف به لحد اليوم، مقارنة بالديانات اليهودية والمسيحية التي لها تمثيل رسمي معترف به من طرف الدولة، وهيئات هذه الأخيرة مصنفة في جمعيات ذات النفع العمومي، والمشتغلون فيها لهم رواتب من الدولة، بينما الهيئات الإسلامية تقتات من تبرعات المحسنين والمتطوعين لا غير.
5- حقوق الإنسان المسلم في سويسرا "مسقط رأس حقوق الإنسان":
تعد حقوق الإنسان في عصرنا كما تبلورت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في ديسمبر/كانون الأول 1948 عن الأمم المتحدة وما تلاه من العهدين الدوليين الصادرين سنة 1966 للحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية وما لحقهما من اتفاقات دولية ضد كل ضروب التمييز.. المقياس الرئيسي الذي تقاس إليه الدول والجماعات والمذاهب تقدما أو تأخرا، تحضرا أو تخلفا، بحسب احترامه أو انتهاكه.
ولقد عمدت المنظمة الأممية نفسها إلى إقامة مؤسسة لمراقبة مدى التزام الدول الأعضاء باحترام تعهداتها.
كما نهضت شبكات دولية ومحلية من المنظمات متخصصة في إصدار التقارير حول مسالك الدول والجماعات إزاء هذه الإعلانات والمعاهدات.
كما تأسست، منذ سنوات، محاكم إقليمية مثل "المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان" للفصل في ما تتهم به دول الاتحاد من تجاوز لمبادئ حقوق الإنسان، ومحاكم دولية تطال ولايتها حتى رؤساء الدول، وهو تطور محمود في ذاته، و قد إستفادت منه الجالية المسلمة في العديد من المناسبات.
وهذا التطور يعبر عن نوع من يقظة ضمير بشري إزاء ما تعرضت وتتعرض له جماعات بشرية ضعيفة من عدوان على إنسانيتها يبلغ حد الإبادة، كقضية البوسنة والهرسك.
ومع ذلك يبقى هذا التطور من منظور الإسلام محمودا ولو لمجرد الاعتراف بهوية إنسانية واحدة يستحق حاملها بمجرد هذا الوصف حقوقا متساوية بصرف النظر عن الجنس واللون والدين والطبقة.
كيف لا وقد جاء الإسلام معلنا تكريما إلهيا لجنس الإنسان "ولقد كرمنا بني آدم" (70: الإسراء).
وجاء ذكر "الناس" مكرراً خمس مرات في آخر وأقصر سور القرآن الكريم، وكانت خطبة الوداع لنبي الإسلام (عليه الصلاة والسلام) إعلانا عاما لحقوق الإنسان، مؤكدا القيمة المركزية -في رسالته الخاتمة- للإنسان وحقوقه، قيمة المساواة بين البشر، موصيا بالنساء خيرا، مسقطا كل الفوارق بين الأجناس والألوان.. وأي سند لاستغلال الإنسان لحاجة أخيه الإنسان.
الإنسان في الإسلام مستخلف عن الله، وضمن عهد الاستخلاف تتنزل جملة حقوقه وواجباته ويتم التوفيق في الإسلام بين الحقوق الفردية والمصلحة العامة، فقد تضمّن كل حق للفرد حقا لله، أي للجماعة، مع أولوية حق الجماعة كلما حدث التصادم.
ولأن شرائع الإسلام إنما جاءت لرعاية مصالح العباد في الدنيا والآخرة، وهي مصالح متدرجة من الضروري إلى التحسيني الكمالي، كان من الطبيعي أن تعتبر تلك المصالح هي الإطار العام الذي تنتظم داخله مسالك الأفراد وتمارس فيه الحريات الخاصة والعامة ([10]).
يتبع إن شاء الله...