أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: منزلة السنة في الإسلام وبيان أنه لا يُستغنى عنها بالقرآن الإثنين 16 مارس 2015, 10:31 pm | |
| بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وآله وصحبه ومن والاه . وبعد: فهذه محاضرة كنت قد ألقيتها في مدينة الدوحة عاصمة قطر، في شهر رمضان المبارك من عام 1392 هـ، وقد اقترح عليَّ بعض الإخوان طبعها لما فيها من فوائد هامة ، ولحاجةِ المسلمين إلى مثلها. واستجابة لطلبهم أنشرها تعميماً للنفع بها ، ومراعاة للذكرى والتاريخ ، وقد أضفنا إليها بعضَ العناوين التفصيلية إعانة للقارئ الكريم على استجماع أفكارها الرئيسية ، وأرجو الله ـ عز وجل ـ أن يكتبني في جملة الدافعين عن دينه ، والناصرين لشرعه، وأن يثيبني عليها ، وإنه أكرم مسئول . منزلة السنة في الإسلام وبيان أنه لا يُستغنى عنها بالقرآن: إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) ، ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ) ، ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً ) . أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار. وبعد: فإني لأَظن أنني سوف لا أستطيع أن أقدم لهذا الحفل الكريم ـ لا سيما وفيه العلماء الأجلاء والأساتذة الفضلاء – شيئاً من العلم لم يسبق أن أحاطوا به علماً ، فإن صَدَقَ ظني فحسبي من كلمتي هذه أن أكون بهذا مذكراً ، متبعاً لقول الله تبارك وتعالى : ( وذَكِّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) [الذاريات: 55] . إن كلمتي في هذه الليلة المباركة من ليالي شهر رمضان المعظم لم أر أن تكون في بيان شيء من فضائله ، وأحكامه ، وفضلِ قيامه، ونحو ذلك مما يطرقه فيه عادةً الوعاظ والمرشدون، بما ينفع الصائمين ، ويعود عليهم بالخير والبركة ، وإنما اخترتُ أن يكون حديثي في بحثٍ هام جداً ؛ لأنه أصل من أصول الشريعة الغراء ، وهو بيان أهمية السنة في التشريع الإسلامي . وظيفة السنة في القرآن: تعلمون جميعاً أن الله تبارك وتعالى اصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم بنبوته ، واختصه برسالته ، فأنزل عليه كتابه القرآن الكريم ، وأمره فيه ـ في جملة ما أمره به ـ أن يبينه للناس ، فقال تعالى : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّل إليهم ) [النحل: 44] . والذي أراه أن هذا البيان المذكور في هذه الآية الكريمة يشتمل على نوعين من البيان : الأول : بيان اللفظ ونظمه ، وهو تبليغ القرآن ، وعدم كتمانه ، وأداؤه إلى الأمة، كما أنزله الله تبارك وتعالى على قلبه صلى الله عليه وسلم . وهو المراد بقوله تعالى : ( يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك ) [المائدة: 67] ، وقد قالت السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ في حديث لها : " ومن حدثكن أن محمداً كتم شيئاً أُمر بتبليغه ، فقد أعظم على الله الفرية ، ثم تلت الآية المذكورة " [ أخرجه الشيخان] . وفي رواية لمسلم : " لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً أُمر بتبليغه لكتم قوله تعالى : ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ) [الأحزاب: 37] " . والآخر: بيان معنى اللفظ أو الجملة أو الآية الذي تحتاج الأمة إلى بيانه ، وأكثر ما يكون ذلك في الآيات المجملة ، أو العامة ، أو المطلقة ، فتأتي السنة ، فتوضح المجمل ، وتُخصِّص العام ، وتقيد المطلق . وذلك يكون بقوله صلى الله عليه وسلم ، كما يكون بفعله وإقراره . ضرورة السنة لفهم القرآن وأمثلةٌ على ذلك: وقوله تعالى: ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) [ المائدة: 38] مثال صالح لذلك، فإن السارق فيه مطلقٌ كاليد ، فبينتِ السنة القولية الأول منهما، وقيدته بالسارق الذي يسرق ربع دينارٍ بقوله صلى الله عليه وسلم : " لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً " [أخرجه الشيخان ] . كما بينت الآخَرَ بفعله صلى الله عليه وسلم أو فعل أصحابه وإقراره ، فإنهم كانوا يقطعون يد السارق من عند المفصل، كما هو معروف في كتب الحديث، وبينت السنة القولية اليد المذكورة في آية التيمم : ( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ) [النساء: 43، المائدة: 6] بأنها الكف أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم : " التيمم ضربة للوجه والكفين " [أخرجه أحمد والشيخان وغيرهم من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما] . وإليكم بعض الآيات الأخرى التي لم يمكن فهمها فهماً صحيحاً على مراد الله تعالى إلا من طريق السنة: 1 ـ قوله تعالى : ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) [الأنعام: 82 ] . فقد فهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قوله : ( بظلم ) على عمومه الذي يشمل كل ظلم ولو كان صغيراً ، ولذلك استشكلوا الآية فقالوا : يا رسول الله ! أيُّنا لم يلبس أيمانه بظلم ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " ليس بذلك ، إنما هو الشرك ؛ ألا تسمعوا إلى قول لقمان : ( إن الشرك لظلم عظيم ) [ لقمان: 13 ] ؟ " [ أخرجه الشيخان وغيرهما ] . 2 ـ قوله تعالى : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) [ النساء: 101] . فظاهر هذه الآية يقتضي أن قصر الصلاة في السفر مشروط له الخوف ، ولذلك سأل بعض الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : ما بالنا نقصر وقد أَمِنَّا ؟ قال : " صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته " [ رواه مسلم ] . 3 ـ قوله تعالى : ( حرمت عليكم الميتة والدم ..) [ المائدة: 3 ] . فبينت السنة القولية أن ميتة الجراد والسمك ، والكبد والطحال من الدم حلال ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أحلت لنا ميتتان ودمان : الجراد والحوت ( أي السمك بجميع أنواعه )، والكبد والطحال " [أخرجه البيهقي وغيره مرفوعاً وموقوفاً ، وإسناد الموقوف صحيح ، وهو في حكم المرفوع ، لأنه لا يقال من قِبَلِ الرأي ] . 4 ـ قوله تعالى : ( قل لا أجد في ما أوحي إلي مُحرَّماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً ، أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به ) [ الأنعام: 145 ] . ثم جاءت السنة فحرمت أشياء لم تُذكر في هذه الآية، كقوله صلى الله عليه وسلم : " كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير حرام " . وفي الباب أحاديث أخرى في النهي عن ذلك: كقوله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر : " إن الله ورسوله ينهيانكم عن الحمر الإنسية ، فإنها رجس " [ أخرجه الشيخان ] . 5 ـ قوله تعالى : ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) [ الأعراف: 32 ] . فبينت السنة أيضاً أن من الزينة ما هو محرم ، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج يوماً على أصحابه وفي إحدى يديه حرير ، وفي الأخرى ذهب ، فقال : " هذان حرام على ذكور أمتي ، حل لإناثهم " [ أخرجه الحاكم وصححه ] . والأحاديث في معناه كثيرة معروفة في " الصحيحين " وغيرهما . إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة المعروفة لدى أهل العلم بالحديث والفقه . ومما تقدم يتبين لنا أيها الإخوة أهمية السنة في التشريع الإسلامي ، فإننا إذا أعدنا النظر في الأمثلة المذكورة ـ فضلاً عن غيرها مما لم نذكر ـ نتيقن أنه لا سبيل إلى فهم القرآن الكريم فهماً إلا مقروناً بالسنة . ففي المثال الأول: فهم الصحابة (الظلم) المذكور في الآية على ظاهره، ومع أنهم كانوا ـ رضي الله عنهم ـ كما قال ابن مسعود : ( أفضل هذه الأمة ، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تَكلُّفاً ) فإنهم مع ذلك قد أخطئوا في ذلك الفهم ، فلولا أن النبي صلى الله عليه وسلم ردهم عن خطئهم وأرشدهم إلى أن الصواب في ( الظلم ) المذكور إنما هو الشرك لاتبعناهم على خطئهم ، ولكن الله تبارك وتعالى صاننا عن ذلك، بفضل إرشاده صلى الله عليه وسلم وسنته . وفي المثال الثاني: لولا الحديث المذكور لبقينا شاكين على الأقل في قصر الصلاة في السفر في حالة الأمن ـ إن لم نذهب إلى اشتراط الخوف فيه كما هو ظاهر الآية ـ وكما تبادر ذلك لبعض الصحابة لولا أنهم رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصر، ويقصرون معه وقد أمنوا . وفي المثال الثالث: لولا الحديث أيضاً لحرمنا طيبات أحلت لنا : الجراد والسمك ، والكبد والطحال . وفي المثال الرابع: لولا الأحاديث التي ذكرنا فيه بعضها لاستحللنا ما حرم الله علينا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من السباع وذوي المخلب من الطير . وكذلك المثال الخامس: لولا الأحاديث التي فيه لاستحللنا ما حرم الله على لسان نبيه من الذهب والحرير، ومن هنا قال بعض السلف: السنة تقضي على الكتاب . ضلال المستغنين بالقرآن عن السنة: ومن المؤسف أنه قد وجد في بعض المفسرين ، والكُتَّاب ، المعاصرين من ذهب إلى جواز ما ذُكر في المثالين الأخيرين من إباحة أكل السباع ولبس الذهب والحرير اعتماداً على القرآن فقط، بل وجد في الوقت الحاضر طائفة يَتَسَمَّوْنَ بـ ( القرآنيين ) يفسرون القرآن بأهوائهم وعقولهم ، دون الاستعانة على ذلك بالسنة الصحيحة ، بل السنة عندهم تبعٌ لأهوائهم ، فما وافقهم منها تشبثوا به ، وما لم يوافقهم منها نبذوه وراءهم ظهرياً . وكأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى هؤلاء بقوله في الحديث الصحيح : " لا أَلْفِيَّنَ أحدكم متكئاً على أريكته ، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به ، أو نهيت عنه ، فيقول : لا أدري ! ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه " [رواه الترمذي ] . وفي رواية لغيره : " ما وجدنا فيه حراماً حرمناه ، ألا وإني أتيت القرآن ومثله معه " . وفي أخرى : " ألا إن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله " . بل إن من المؤسف أن بعض الكتاب الأفاضل ألَّف كتاباً في شريعة الإسلام وعقيدته ، وذكر في مقدمته أنه ألفه وليس لديه من المراجع إلا القرآن !. فهذا الحديث الصحيح يدل دلالة قاطعة على أن الشريعة الإسلامية ليست قرآناً فقط ، وإنما قرآن وسنة ، فمن تمسك بأحدهما دون الآخر ، لم يتمسك بأحدهما ، لأن كل واحد منهما يأمر بالتمسك بالآخر كما قال تعالى : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) [ النساء: 80 ] ، وقال : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ) [ النساء: 65 ] ، وقال : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً ) [ الأحزاب: 36 ] ، وقال : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) [الحشر: 7 ] . وبمناسبة هذه الآية يعجبني ما ثبت عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وهو أن امرأة جاءت إليه ، فقالت له : أنت الذي تقول : لعن الله النامصات والمتنمصات، والواشمات .. الحديث ؟ قال : نعم ، قالت : فإني قرأت كتاب الله من أوله إلى آخره ، فلم أجد فيه ما تقول ! فقال لها : إن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ، أما قرأت : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) قالت : بلى! قال : فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لعن الله النامصات .. الحديث [متفق عليه] . عدم كفاية اللغة لفهم القرآن: ومما سبق يبدو واضحاً أنه لا مجال لأحدٍ مهما كان عالماً باللغة العربية وآدابها أن يفهم القرآن الكريم ، دون الاستعانة على ذلك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية ، فإنه لم يكن أعلم في اللغة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين نزل القرآن بلغتهم ، ولم تكن قد شابتها لوثةُ العُجمة والعامية واللحن ، ومع ذلك فإنهم غلطوا في فهم الآيات السابقة حين اعتمدوا على لغتهم فقط. وعليه فمن البدهي أن المرء كلما كان عالماً بالسنة ، كان أحرى بفهم القرآن واستنباط الأحكام منه ؛ ممن هو جاهل بها ، فكيف بمن هو غير معتَدٍّ بها ، ولا ملتفتٍ إليها أصلاً ؟ ولذلك كان من القواعد المتفق عليها بين أهل العلم: أن يفسر القرآن بالقرآن والسنة1 ثم بأقوال الصحابة .. إلخ . ومن ذلك يتبين لنا ضلال علماء الكلام قديماً وحديثاً ومخالفتهم للسلف ـ رضي الله عنهم ـ قي عقائدهم ـ فضلاً عن أحكامهم ـ وهو بُعدهم عن السنة والمعرفة بها وتحكيمُهم عقولهم وأهواءهم في آيات الصفات وغيرها . وما أحسن ما جاء في " شرح العقيدة الطحاوية " ( ص 212 ـ الطبعة الرابعة ): ( وكيف يتكلم في أصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة ، وإنما يتلقاه من قول فلان ؟ ! وإذا زعم أنه يأخذه من كتاب الله . لا يتلقى تفسير كتاب الله من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ولا ينظر فيها ولا فيما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، المنقول إلينا عن الثقات الذي تخيرهم النُّقَّاد ؛ فإنهم لم ينقلوا نظم القرآن وحده ، بل نقلوا نظمه ومعناه ، ولا كانوا يتعلمون القرآن كما يتعلم الصبيان ، بل يتعلمونه بمعانيه . ومن لا يسلك سبيلهم فإنما يتكلم برأيه . ومن يتكلم برأيه ، وبما يظنه دين الله، ولم يتلق ذلك من الكتاب فهو مأثوم ( ! ) وإن أصاب . ومن أخذ من الكتاب والسنة فهو مأجور وإن أخطأ ، لكن إن أصاب يضاعف أجره ) . ثم قال ( ص 217): ( فالواجب كمال التسليم للرسول صلى الله عليه وسلم ، والانقياد لأمره ، وتلقي خبره بالقبول والتصديق دون أن نعارضه بخيالٍ باطل نسميه معقولاً ، أو نحمله شبهة أو شكاً ، أو نقدم عليه آراء الرجال وزبالة أذهانهم ، فنوحده صلى الله عليه وسلم بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان ، كما نوحد المُرسِلَ ـ سبحانه وتعالى ـ بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل ) . وجملة القول: أن الواجب على المسلمين جميعاً أن لا يُفرِّقوا بين القرآن والسنة ، من حيث وجوب الأخذ بهما كليهما ، وإقامة التشريع عليهما معاً . فإن هذا هو الضمان لهم أن لا يميلوا يميناً ويساراً ، وأن لا يرجعوا القهقرى ضُلالاً ، كما أفصح عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " تركت فيكم أمرين ، لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما : كتاب الله وسنتي ، ولن يتفرقا حتى يرِدا على الحوض " [ رواه مالك بلاغاً ، والحاكم موصلاً بإسناد حسن] . ________________________________________ (1) لم نقل كما هو شائع لدى كثير من أهل العلم: يفسر القرآن بالقرآن إن لم يكن ثمة سنة ، ثم بالسنة ، لما سيأتي بيانه في آخر هذه الرسالة عند الكلام على حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه . ---------------------------------------------------------------- تنبيه هام: ومن البدهي بعد هذا أن نقول: إن السنة التي لها هذه الأهمية في التشريع ، إنما هي السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالطرق العلمية والأسانيد الصحيحة المعروفة عند أهل العلم بالحديث ورجاله . وليست هي التي في بطون مختلف الكتب من التفسير والفقه ، والترغيب والترهيب ، والرقائق والمواعظ وغيرها ؛ فإن فيها كثيراً من الأحاديث الضعيفة والمنكرة والموضوعة ، وبعضها مما يتبرأ منه الإسلام . مثل حديث هاروت وماروت ، وقصة الغرانيق ، ولي رسالة خاصة في إبطالها وهي مطبوعة 2 ، وقد خرجت طائفة كبيرة منها في كتابي الضخم " سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة " ، وقد بلغ عددها حتى الآن قرابة أربعة آلاف حديث 3 ! وهي ما بين ضعيف وموضوع وقد طبع منها خمس مئة فقط ! فالواجب على أهل العلم ، لاسيما الذين ينشرون على الناس فقههم وفتاويهم أن لا يتجرأوا على الاحتجاج بالحديث إلا بعد التأكد من ثبوته ، فإن كتب الفقه التي يرجعون إليها عادة ، مملوءة بالأحاديث الواهية المنكرة وما لا أصل له ، كما هو معروف عند العلماء . وقد كنت بدأت مشروعاً هاماً في نظري ، وهو نافع جداً للمشتغلين بالفقه سميته : " الأحاديث الضعيفة والموضوعة في أمهات الكتب الفقهية " . وأعني بها : 1 ـ الهداية للمرغيناني في الفقه الحنفي . 2 ـ المدونة لابن القاسم في الفقه المالكي . 3 ـ شرح الوجيز للرافعي في الفقه الشافعي . 4 ـ المغني لابن قدامة في الفقه الحنبلي . 5 ـ بداية المجتهد لابن رشد الأندلسي في الفقه المقارن . ولكن لم يُتح لي إتمامه - مع الأسف - لأن مجلة ( الوعي الإسلامي الكويتية ) التي وعدت بنشره ، ورحبت به ، حين اطلعت عليه لم تنشره . وإذ قد فاتني ذلك ، فلعلي أوفق في مناسبة أخرى ـ إن شاء الله تعالى ـ إلى أن أضع لإخواني المشتغلين بالفقه منهجاً علمياً دقيقاً يساعدهم ، ويسهل لهم طريق معرفة درجة الحديث بالرجوع إلى المصادر التي لا بد من الرجوع إليها من كتب الحديث ، وبيان خواصها ومزاياها ، وما يمكن الاعتماد عليه منها ، والله تعالى ولي التوفيق . ________________________________________ 2- وأسمها " نصب المجانيق في نسف قصة الغرانيق " طبع المكتب الإسلامي . 3- وقد جاوز العدد الآن الخمسة آلاف ولعل الله ييسر طبعها قريباً . ---------------------------------------------------------- ضعيف حديث معاذ في الرأي وما يستنكر منه: وقبل أن أنهي كلمتي هذه أرى أنه لا بد لي من أن أُلفت انتباه الإخوة الحاضرين إلى حديث مشهور ، قلما يخلو منه كتاب من كتب أصول الفقه ، لضعفه من حيث إسناده ولتعارضه مع ما انتهينا إليه في هذه الكلمة من عدم جواز التفريق في التشريع بين الكتاب والسنة ، ووجوب الأخذ بهما معاً ، ألا وهو حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين أرسله إلى اليمن : " بم تحكم ؟ " قال : بكتاب الله ، قال : " فإن لم تجد ؟ " قال : بسنة رسول الله ، قال : " فإن لم تجد ؟ " قال : أجتهد رأيي ولا آلو ، قال : " الحمد لله الذي وفَّقَ رسولَ رسولِ الله ، لما يحب رسول الله " . أما ضعف إسناده، فلا مجال لبيانه الآن، وقد بينت ذلك بياناً شافياً ربما لم أسبق إليه في السلسلة السابقة الذكر 4 ، وحسبي الآن أن أذكر أن أمير المؤمنين في الحديث الإمام البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ قال فيه : ( حديث منكر ) . وبعد هذا يجوز لي أن أشرع في بيان التعارض الذي أشرت إليه فأقول: إن حديث معاذ هذا يضع للحاكم منهجاً في الحكم على ثلاث مراحل ، لا يجوز أن يبحث عن الحكم في الرأي إلا بعد أن لا يجده في السنة ، ولا في السنة إلا بعد أن لا يجده في القرآن . وهو بالنسبة للرأي منهج صحيح لدى كافة العلماء ، وكذلك قالوا إذا ورد الأثر بطل النظر . ولكنه بالنسبة للسنة ليس صحيحاً ؛ لأن السنة حاكمة على كتاب الله ومبينة له ، فيجب أن يبحث عن الحكم في السنة ، ولو ظن وجوده في الكتاب لما ذكرنا ، فليست السنة مع القرآن ، كالرأي مع السنة ، كلا ثم كلا، بل يجب اعتبار الكتاب والسنة مصدراً واحداً لا فصل بينهما أبداً ، كما أشار إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " ألا إني أُتيت القرآن ومثله معه " يعني السنة وقوله : " لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض" . فالتصنيف المذكور بينهما غير صحيح لأنه يقتضي التفريق بينهما وهذا باطل لما سبق بيانه . فهذا هو الذي أردت أن أنبه إليه ، فإن أصبت فمن الله. وإن أخطأت فمن نفسي ، والله تعالى أسأل أن يعصمنا وإياكم من الزلل ومن كل ما لا يرضيه . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين . ________________________________________ ( 4 ) وهو برقم 885 من السلسلة المذكورة ( ونرجو أن يطبع المجلد الموجود فيه قريباً إن شاء الله ) . |
|