ثانياً: سبع وأربعون سورة (47) افتتحت بجملة إنشائية
والإنشاء بضد الخبر هو لا يوصف بصدق ولا كذب، وينقسم إلى قسمين: إنشاء طلبي، وإنشاء غير طلبي. والطلبي هو ما يستدعي مطلوباً غير حاصل وقت الطلب مثل التمني والاستفهام، والنداء والترجي، والأمر والنهي، يضاف إليها القسم.
مثال التمني:
قال تعالى: )قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ( (القصص: 79).
وقال المتنبي:
ليت الحوادث باعتني الذي أخذت منّي بحلمي الذي أعطت وتجريبي
ومثال الاستفهام:
قال تعالى: )وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ( (المائدة: 116).
ومثال النداء:
قال تعالى: )وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ( (الزخرف: 77).
ومثال النداء بالهمزة قول شاعرة:
أمحمد ياخير كفء كريمة في أهلها والفحل فحل معرق
ومثال الترجي:
قول أبي الطيب:
لعل الله يجعله رحيلاً يعين على الإقامة في ذراكا
ويأتي الترجي للإشفاق لقوله تعالى: )فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا( (الكهف: 6).
ومثال الأمر:
قال تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ... ( (البقرة: 282).
أمر بفعل الأمر فاكتبوه، وأمر بلام الأمر: ليكتب
ويأتي الأمر باسم فعل الأمر: كقول المؤذن حيَّ على الصلاة.
كما يأتي بالمصدر: كقوله تعالى: )فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ..( (محمد: 4).
ومثل قول قطري بن الفجاءة:
فصبراً في مجال الموت صبراً فما نيل الخلود بمستطاع
ومثال النهي:
قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ... ( (الحجرات: 11).
ومثال القسم:
قوله تعالى: )فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا( (مريم: 68).
وغير الطلبي هو الذي يتضمن أمراً مطلوباً، ولكنه حاصل في اعتقاد المتكلم وقت الكلام.
ويشمل أساليب المدح والذم والتعجب.
مثال المدح:
قوله تعالى: )نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ( (ص: 30).
ومثال الذم:
)حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ( (الزخرف: 38).
)أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ( (الأنبياء: 67)
ومثال التعجب:
ويأتي على صيغتين، ما أفعله وأفعل به
ما أعظم القرآن! وأعظم به!
ومن بلاغة الإنشاء الطلبي في العربية أنه قد لا يكون مطلوباً على الحقيقة؛ إذ إن الطلب ربما يخرج إلى أغراض بلاغية أخرى.
وأقسام الإنشاء التي وردت في الفواتح خمسة، هي:
القسم والأمر والنداء والشرط والاستفهام، وتفاصيلها كالتالي:
1. القسم: ورد في سبع عشرة سورة (17) سورة ويدخل فيه مفتتح سورتي القيامة والبلد؛ لأن النفي توكيد للقسم عند أكثر المفسرين، وعند بعضهم تُعد (لا) زائدة.
وقد أقسم المولى -عز وجل- ببعض مخلوقاته تعظيماً لها وتبياناً لنعمه وقدرته، كما أقسم بنبيه (ص) تكريماً له في ثنايا سورة الحجر آية 72 (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون).
الصافات: )وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) ( وهي الملائكة
الذاريات: )وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) ( وهي الرياح
الطور: )وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) ( الجبل الذي كلم الله عنده موسى عليه السلام
النجم: )وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) (
القيامة: )لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) (
المرسلات: )وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا (1) ( وهي الرياح أيضاً
النازعات: )وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) ( وهي الملائكة تقبض أرواح الخلائق
البروح: )وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) ( وهو يوم القيامة
الطارق: )وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) (
الفجر: )وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) ( وهي ليالي ذي الحجة أفضل ليالي السنة
البلد: )لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) ( البلد الحرام مكة المكرمة
آدم وذريته أو كل من اتصف بهذه الصفة من الخلائق
الشمس: )وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) ( أقسم بثمانية مظاهر كونية وختمها بالنفس
الليل: )وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى (3) ( تكرار للقسم بما خلق الله تعالى
الضحى )وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) ( قسم من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه لم يودعه ولم يتركه، وفي هذا القسم ما فيه من استئناس لنبيه وبيان قدره عند ربه، ودفع شائعات المرجفين عنه
التين: )وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ (3) (
العاديات: )وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا(1) ( الخيل المغيرة في الصباح ومكانة الخيل عند العرب وبعد الإسلام معروفة في الجهاد
العصر: )وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) (
أما القضايا التي يقسم المولى عز وجل عليها فكثيرة، منها:
أصول الإيمان التي يجب على الخلق معرفتها؛ فتارة يقسم على التوحيد، وتارة على أن القرآن حق، وتارة على الجزاء والوعد والوعيد، وتارة يقسم على حال الإنسان.
واقتران الأقسام بالأهداف القرآنية واضح جداً؛ فمثلاً في سورة الصافات يقسم المولى عز وجل بطوائف الملائكة على وحدانية الله، وكان العرب في الجاهلية يزعمون أن الملائكة بنات الله وأنهم نتاج صلة وتزاوج بينه وبين الجن، فبين لهم منزلة الجن أولاً، وتعرض المردة الشياطين منهم للرجم بالشهب الثاقبة كي لا يقربوا من الملأ الأعلى ولا يتسمعوا ما فيه، ولو كان صحيحاً ما يزعمه لهم الجاهلون لما طوردوا هذه المطاردة، ثم يشبه شجرة الزقوم طعام أهل النار الظالمين بأنها كرؤوس الشياطين تقبيحاً وتفظيعاً؛ ثم يسفه أحلامهم ورأيهم في حملة مباشرة على هذه الأسطورة المتهافتة "فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون"؟.
ويأتي القسم في مواضع كثيرة تالياً للحروف المقطعة التي يكون مقسماً بها أيضاً، وفيها إشارة إلى الإعجاز في الخلق، فقدرة البشر على إخراج هذه الأصوات معجزة خارقة ما يملك البشر أن يصنعوا مثل هذه الحنجرة التي تصدر الأصوات، ويلمس في مواضع أخرى العلاقة بين القرآن كتاب الله المقروء المتلو والكون كتاب الله المفتوح للناظرين كلاهما قائم على الحق والتدبير: "حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون" (الأحقاف).
أما التكرار فيلامس فطرة القلب البشري الذي ينسى إذا طال عليه الأمد، فيحتاج إلى التكرار لتثبيت أي حقيقة فيه.
2. الأمر: سبع سور (7) بدأت بالأمر الصريح:
الجن: )قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) (
الأعلى: )سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) (
العلق: )اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) (
الكافرون: )قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) (
الإخلاص: )قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) (
الفلق: )قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) (
الناس: )قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) (
3.الاستفهام: ست سور (6) بدأت بالاستفهام:
ويأتي الاستفهام لغرض بلاغي كالتقرير أو الإنكار.
الدهر: )هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) (
النبأ: )عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) (
الغاشية: )هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) (
الشرح: )أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) (
الفيل: )أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) (
الماعون: )أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) (
4.الشرط: سبع سور (7) بدأت بالشرط:
الواقعة: )إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) ( جوابه )لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) ( أو هو محذوف
المنافقون: )إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ( جوابه )قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ(
التكوير: )إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) ( جوابه )عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) (
الانفطار: )إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) ( جوابه )عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) (
الانشقاق: )إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) ( جوابه )يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ (6) ( أو هو محذوف
الزلزلة: )إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)( جوابه )يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) (
النصر )إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) ( جوابه )فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3) (
5. داء: عشر سور (10) بدأت بالنداء في اثنتين منها نداء لعموم الناس، وفي ثلاث لخصوص المؤمنين وفي خمس للنبي صلى الله عليه وسلم:
النساء: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ ( وبعده أمر: )اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ(
الحج: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ ( وبعده أمر: )اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) (
المائدة: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ( وبعده أمر: )أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) (
الحجرات: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ( وبعده نهي: )لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) (
الممتحنة: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا( وبعده نهي: )لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ(
الأحزاب: )يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ( وبعده أمر: )اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) (
الطلاق: )يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ( وبعده شرط: )إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ(
التحريم: )يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ( وبعده استفهام إنكاري: )لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) (
المزمل: )يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ( بعدها أمر: )قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) (
المدثر: )يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ( وبعده أمر: )قُمْ فَأَنْذِرْ (2) (
**************************
ثالثاً: تسع وعشرون سورة (29) افتتحت بالحروف المقطعة
تعددت الأقوال في هذه الأحرف وما المراد منها، وتكلم فيها علماء ومفسرون. يقول القاضي أبو بكر بن العربي: "ومن الباطل علم الحروف المقطعة في أوائل السور، وقد تحصل لي فيها عشرون قولاً وأزيد، ولا أعرف واحداً يحكم عليها بعلم، ولا يصل فيها إلى فهم، والذي أقوله إنه لولا أن العرب كانوا يعرفون أن لها مدلولاً متداولاً بينهم لكانوا أول من أنكر على النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل تلا عليهم: حم فصلت، وص وغيرها، فلم ينكروا ذلك بل صرحوا بالتسليم له في البلاغة والفصاحة، مع تشوفهم إلى عثرة، وحرصهم على زلة، فدل على أنه كان أمراً معروفاً عندهم لا إنكار فيه".
وجمع الطبري رحمه الله فيها أقولاً كثيرة عن ابن عباس، منها أنها إشارات إلى أسماء الله الحسنى، ونقل عن العرب الاكتفاء بحرف عن الكلمة كقول الشاعر:
قلت لها قفي فقالت قاف (أي وقفت) وقوله: بالخير خيراً وإن شراً فا
ومن أحسن ما ورد في الحكمة منها، أنها للدلالة على أن هذا القرآن الذي أعجزكم فلم تقدروا على سورة من مثله هو بلسانكم، الذي طالما تفاخرتم به بينكم، وتمايز بعضكم على بعض، فها هو بالحروف التي تعرفونها وتتكلمونها. فكان تقريعاً منه عز وجل للعرب الذين لم يؤمنوا به.
ويقوي هذا القول ورود ذكر الكتاب بعد هذه الأحرف، وأنه لا ريب فيه، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه تنزيل من رب العالمين الحكيم العزيز، ولا يستثني من ذلك سوى ثلاث سور هي: العنكبوت والروم والقلم.
وجاء في البرهان أن افتتاح السور بالأحرف المقطعة واختصاص كل واحدة بما بدئت به دلالة على وجود تناسب بين السورة وهذه الأحرف، فلا يمكن أن تتصدر البقرة مثلا ب "ن" ولا غيرها من السور بغير ما جعل الله لها من أحرف مناسبة، وحاول فيه ذكر كل سورة وملاءمة الأحرف التي تصدرتها مما يدخل في باب الاجتهاد، دون الجزم بأن ذلك مراد الله تعالى، ومن أمثلة ما ذكره سورة "ق" قيل إنها لِما تكرر فيها من كلمات احتوت حرف القاف من ذكر القرآن والخلق، وتكرير القول والقرب من ابن آدم، وقول العتيد والرقيب والسابق والإلقاء في جهنم والتقدم بالوعد وغيرها، وأما في سورة يونس فزيدت مثلا الراء لتكرارها في أكثر من مئتي كلمة فيها، وص مثلا لاشتمالها على خصومات متعددة، فأولها خصومة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع الكفار، ثم اختصام الخصمين مع سيدنا داود عليه السلام، ثم تخاصم أهل النار ثم اختصام الملأ الأعلى وما إلى ذلك من خصومات.
1. ثلاث سور (3) بدأت بحرف واحد
• ص: )ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) (
• ق: )ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) (
• القلم : )ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) (
ولا يكون الحرف إلا جزءاً من آية.
2. تسع سور (9) بدأت بحرفين:
• طه: )طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) (
• النمل: )طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) (
• يس: )يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) (
• غافر: )حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) (
• فصلت : )حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) (
• الزخرف : )حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) (
• الدخان: )حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) (
• الجاثية: )حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) (
• الأحقاف: )حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) (
كل حرفين آية. ودخلت حم في سورة الشورى.
3. ثلاث عشرة سورة (13) بدأت بثلاثة حروف:
أ. ألم وهي آية تامة في ست سور (6) هي:
• البقرة : )الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) (
• آل عمران : )الم (1) اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) (
• العنكبوت : )الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ (2) (
• الروم : )الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) (
• لقمان : )الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) (
• السجدة: )الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) (
ب. ألر: جزء آية في خمس سور (5) هي:
• يونس: )الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) (
• هود: )الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) (
• يوسف: )الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) (
• إبراهيم : )الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) (
• الحجر : )الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) (
ج. طسم وهي آية كاملة في سورتين، هما:
• الشعراء: )طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) (
• القصص: )طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) (
د. سورتان بدأتا بأربعة حروف:
ألمر:
• الرعد: )المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (1)(
ألمص:
• الأعراف: )المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) (
هـ. سورتان بدأتا بخمسة حروف:
كهيعص:
• مريم: )كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) (
حم عسق:
• الشورى : )حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) (
ويحسن أخيراً ملاحظة ما بعد الأحرف، وهو لا يخرج عما ورد في القسمين الأولين:
• البقرة: )الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) ( خبر
• آل عمران: )الم (1) اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) ( خبر
• الأعراف: )المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) ( خبر
• يونس: )الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) ( خبر
• هود: )الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) خبر
• يوسف: )الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) ( خبر
• الرعد: )المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (1) ( خبر
• إبراهيم: )الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) ( خبر
• الحجر: )الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) ( خبر
• مريم: )كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) ( خبر (لم يذكر فيه القرآن)
• طه: )طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) ( خبر
• الشعراء: )طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) ( خبر
• النمل: )طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) ( خبر
• القصص: )طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) ( خبر
• العنكبوت: )الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ (2) ( استفهام إنكاري (لم يذكر فيه القرآن)
• الروم: )الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) ( خبر (لم يذكر فيه القرآن)
• لقمان: )الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) ( خبر
• السجدة: )الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) ( خبر
• يس: )يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) ( قسم
• ص: )ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) ( قسم
• غافر: )حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) ( خبر
• فصلت: )حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) ( خر
• الشورى: )حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ( خبر
• الزخرف: )حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) ( قسم
• الدخان: )حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) ( قسم
• الجاثية: )حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ( خبر
• الأحقاف: )حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ( خبر
• ق: )ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) ( قسم
• القلم: )ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) ( قسم
****************************
الخاتمة
وختاماً، فإن فواتح سور القرآن الكريم مثل مجمل آياته، هي موضع تحدٍ وإعجاز، وفيها مجال واسع للتأمل والتدبر اللذين أمر الله سبحانه بهما عباده المؤمنين، وذلك ما حاوله علماء الأمة من السلف والخلف، ويبقى الباب مفتوحاً للمتدبرين من كل عصر وزمان، مستبصرين بآيات الكتاب العزيز، مستنبطين العبر والمعاني التي تؤثر في النفوس، وتجذب القلوب، وتجعلها عالقة بتلك الآيات.
وأكثر ما يثير الانتباه في فواتح السور تلك الحروف المتقطعة في أوائل بعض السور، وحام حولها المفسرون كثيراً، يعتمد أكثرهم على الأحاديث الصحيحة والآثار المروية عن الصحابة الكرام، وشطح بعضهم فأتى بتأويلات كثيرة، خارجة عن حدود ما تدل عليه الآيات، وفيها اعتماد على الإسرائيليات، أو حساب الجمل، وقد نقل السيوطي في الإتقان عن القاضي ابن العربي أنه تحصل له فيها أكثر من عشرين قولاً؛ لكنه لا يعرف أحداً يحكم عليها بعلم، ولا يصل فيها إلى فهم، لذلك رجع واقتصر على الوجه الذي أوردناه في هذا البحث من أنها ضرب من تحدي العرب بصياغة هذا القرآن المؤلف من جنس كلامهم؛ ولولا أن لها مدلولاً متعارفاً عليه في كلامهم لكانوا أول من أنكرها عليه، لحرصهم على إيجاد مثلبة في رسول الله، ولضراوتهم في معاداته فيما يأتي به من ربه.
ولا يخفى أن ربط هذه الحروف بالإعجاز القرآني في أوجهه المختلفة مثل ما فعل سيد قطب في حديثه عن (ص) و(ق) أنفع وأجدى، وأقرب للعقل والوجدان من ذكر تأويلات بعيدة لا تقوم على دعام قوي ولا أساس متين، ورحم الله البصيري حين يقول في البردة:
لم يمتحنا بها تعيا العقول به حرصاً علينا فلم نرتب ولم نَهِمِ
وقال شوقي واصفاً آيات القرآن الكريم:
جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم
آياته كل ما طال المدى جدد يزينهن جمال العتق والقدم
والحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله ومن والاه.
********************
المصادر والمراجع
1. القرآن الكريم.
2. ابن كثير، "تفسير القرآن العظيم"، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1987، ط ثانية.
3. ابن منظور المصري، "لسان العرب"، دار المعارف، مصر، بلا تاريخ، وبدون رقم طبعة.
4. جلال الدين السيوطي، "الإتقان في علوم القرآن"، دار الندوة الجديدة، بيروت، لبنان، بلا تاريخ، وبدون رقم طبعة.
5. الخطيب القزويني، "الإيضاح في علوم البلاغة"، دار الجيل، بيروت، لبنان، بلا تاريخ.
6. سيد قطب، "في ظلال القرآن الكريم"، دار الشروق، بيروت، 1987، الطبعة الثانية عشرة.
7. محمد بن جرير الطبري، تفسير الطبري، "جامع البيان"، تحقيق محمود محمد شاكر، دار المعارف، مصر،، بلا تاريخ، الطبعة الثانية.
*********************
المصدر:
موقع مقاتل من الصحراء.
http://www.moqatel.com/openshare/Behoth/Quran20/Fawateh/sec01.doc_cvt.htm