القصص في القرآن الكريم
******************
إعداد
إسلام محمود دربالة
عفا الله عنه
ISLAMDERBALAH@HOTMAIL.COM
*********************************
تمهيـــــــــــــــــد
الحادثة المرتبطة بالأسباب والنتائج يهفو إليها السامع .
فإذا تخللتها مواطن العبرة في أخبار الماضين كان حب الاستطلاع لمعرفتها من أقوى العوامل على رسوخ عبرتها في النفس ، والموعظة الخطابية تسرد سردًا لا يجمع العقل أطرافها ولا يعي جميع ما يلقي فيها ، ولكنها حين تأخذ صورة من واقع الحياة في أحداثها تتضح أهدافها ، ويرتاح المرء لسماعها ، ويصغي إليها بشوق ولهفة ، ويتأثر بما فيها من عبر وعظات ، والقصص الصادق يمثل هذا الدور في الأسلوب العربي أقوى تمثيل ، ويصوره في أبلغ صوره: قصص القرآن الكريم .
معنى القصص:
القص: تتبع الأثر .
يقال: قصصتُ أثره : أي تتبعته ، والقصص مصدر ، قال تعالى: "فارتدا على أثارهما قصصاً" [الكهف: 64] أي رجعا يقصان الأثر الذي جاءا به .
وقال على لسان أم موسى: "وقالت لأخته قصيه" [القصص: 11] أي تتبعي أثره حتى تنظري من يأخذه.
والقصص كذلك: الأخبار المتتبعة قال تعالى: "إن هذا لهو القصص الحق" [آل عمران: 62]، وقال : "لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب" [يوسف: 111] والقصة: الأمر ، والخبر ، والشأن ، والحال وقصص القرآن: أخباره عن أحوال الأمم الماضية ، والنبوات السابقة ، والحوادث الواقعة وقد اشتمل القرآن على كثير من وقائع الماضي ، وتاريخ الأمم ، وذكر البلاد والديار .
وتتبع آثار كل قوم ، وحكى عنهم صورة ناطقة لما كانوا عليه .
قال الشيخ محمد بن عثيمين: القصص والقص لغة : تتبع الأثر
وفي الاصطلاح: الإخبار عن قضية ذات مراحل يتبع بعضها بعضًا .
وقصص القرآن أصدق القصص لقوله تعالى : "ومن أصدق من الله حديثًا" وذلك لتمام مطابقتها للواقع .
وأحسن القصص لقوله تعالى : "نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن" وذلك لاشتمالها على أعلى درجات الكمال في البلاغة وجلال المعنى .
وأنفع القصص لقوله تعالى : "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب" وذلك لقوة تأثيرها في إصلاح القلوب والأعمال والأخلاق.
* * *
أنواع القصص في القرآن:
والقصص في القرآن ثلاثة أنواع:
النوع الأول:
قصص الأنبياء ، وقد تضمن دعوتهم إلى قومهم ، والمعجزات التي أيدهم الله بها ، وموقف المعاندين منهم ، ومراحل الدعوة وتطورها وعاقبة المؤمنين والمكذبين .
كقصة نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وهارون ، وعيسى ، ومحمد ، وغيرهم من الأنبياء والمرسلين ، عليهم جميعًا أفضل الصلاة والسلام .
النوع الثاني:
قصص قرآني يتعلق بحوادث غابرة ، وأشخاص لم تثبت ثبوتهم ، كقصة الذين أخرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت .
وطالوت وجالوت ، وابني آدم ، وأهل الكهف ، وذي القرنين ، وقارون ، وأصحاب السبت ، ومريم ، وأصحاب الأخدود ، وأصحاب الفيل ونحوهم.
النوع الثالث:
قصص يتعلق بالحوادث التي وقعت في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كغزوة بدر واُحد في سورة آل عمران ، وغزوة حنين وتبوك في التوبة ، وغزوة الأحزاب في سورة الأحزاب ، والهجرة ، والإسراء ، ونحو ذلك .
* * *
فوائد قصص القرآن:
وللقصص القرآني فوائد نجمل أهمها فيما يأتي:
1- إيضاح أسس الدعوة إلى الله ، وبيان أصول الشرائع التي يبعث بها كل نبي : "وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون" [الأنبياء : 25].
2- تثبيت قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقلوب الأمة المحمدية على دين الله وتقوية ثقة المؤمنين بنصرة الحق وجندة ، وخذلان البطل وأهله: "وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ، وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين" [هود: 12] .
3- تصديق الأنبياء السابقين وإحياء ذكراهم وتخليد آثارهم .
4- إظهار صدق محمد -صلى الله عليه وسلم- في دعوته بما أخبر به عن أحوال الماضين عبر القرون والأجيال .
5- مقارعته أهل الكتاب بالحجة فيما كتموه من البينات والهدى ، وتحديه لهم بما كان في كتبهم قبل التحريف والتبديل ، كقوله تعالى : "كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسة من قبل أن تنزل التوراة ، قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين" [آل عمران: 93].
6- والقصص ضرب من ضروب الأدب ، يصغى إليها السامع ، وترسخ عبره في النفس : "لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب" [يوسف: 111].
7-بيان حكم الله تعالى فيما تضمنته هذه القصص لقوله تعالى : "ولقد جاءهم من الأنبياء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغني النذر".
8- بيان عدله تعالى بعقوبة المكذبين لقوله تعالى عن المكذبين : "وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك" .
9- بيان فضله تعالى بمثوبة المؤمنين لقوله تعالى : "إلا آل لوط نجيناهم بسحر نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر" .
10- تسلية النبي -صلى الله عليه وسلم- عما أصابه من المكذبين له لقوله تعالى : "وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير" .
11- ترغيب المؤمنين في الإيمان بالثبات عليه والازدياد منه إذ علموا نجاة المؤمنين السابقين وانتصار من أمروا بالجهاد لقوله تعالى : "فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين" .
12- تحذير الكافرين من الاستمرار في كفرهم لقوله تعالى : "أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها".
13- إثبات رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن أخبار الأمم السابقة لا يعلمها إلا الله عز وجل لقوله تعالى : "تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا" وقوله: "ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله".
تكرار القصص وحكمته :
يشتمل القرآن الكريم على كثير من القصص الذي تكرر في غير موضع ، فالقصة الواحدة قد يتعدد ذكرها في القرآن.
ومن القصص القرآنية مالا يأتي إلا مرة واحدة مثل قصة لقمان وأصحاب الكهف ومنها ما يأتي متكررًا حسب ما تدعو إليه الحاجة وتقتضيه المصلحة ولا يكون هذا المتكرر على وجه واحد بل يختلف في الطول والقصر واللين والشدة وذكر بعض جوانب القصة في موضع دون آخر .
ومن حكمة هذا:
1- بيان بلاغة القرآن في أعلى مراتبها ، فمن خصائص البلاغة إبراز المعنى الواحد في صور مختلفة ، والقصة المتكررة ترد في كل موضع بأسلوب يتمايز عن الآخر ، وتصاغ في قالب غير القالب ، ولا يمل الإنسان من تكرارها ، بل تتجدد في نفسه معان لا تحصل له بقراءتها في المواضع الأخرى.
2- قوة الإعجاز - فإيراد المعنى الواحد في صور متعددة مع عجز العرب عن الإتيان بصورة منها أبلغ في التحدي .
3- الاهتمام بشأن القصة لتمكين عبرها في النفس ، فإن التكرار من طرق التأكيد وأمارات الاهتمام ، كما هو الحال في قصة موسى مع فرعون ، لأنها تمثل الصراع بين الحق والباطل أتم تمثيل - مع أن القصة لا تكرر في السورة الواحدة مهما كثر تكرارها .
4- اختلاف الغاية التي تساق من أجلها القصة - فتذكر بعض معانيها الوافية بالغرض في مقام ، وتبرز معان أخرى في سائر المقامات حسب اختلاف مقتضيات الأحوال .
5- بيان أهمية تلك القصة لأن تكرارها يدل على العناية بها .
6- مراعاة الزمن وحال المخاطبين بها ولهذا تجد الإيجاز والشدة غالبًا فيما أتى من القصص في السور المكية والعكس فيما أتى في السور المدنية .
7- ظهور صدق القرآن وأنه من عند الله حيث تأتي هذه القصص متنوعة بدون تناقض .
* * *
قصص القرآن بين الإيمان والإلحاد:
وقد تعرض كتاب الله عز وجل لعدد من الشبهات التي يذيعها الملاحدة والمستشرقين والمغرضين، وأذيالهم ممن ينتسبون إلى المسلمين ويتسمَّون بأسمائهم، ومن ذلك ما هذى به طه حسين حول قصة إبراهيم عليه السلام وبنائه الكعبة إلا أن علماء الإسلام تصدَّوا له وردوا عليه وبيَّنوا المحجة بأوضح حجة.
ومن ذلك أن أحد الطلاب الجامعيين في مصر قدم رسالة لنيل درجة ( الدكتوراه ) كان موضوعها: ( الفن القصصي في القرآن ) أثارت جدلاً طويلاً سنة 1367 هجرية ، وكتب عنها أحد أعضاء اللجنة الذين اشتركوا في مناقشة الرسالة - وهو الأستاذ أحمد أمين - تقريرًا بعث به إلى عميد كلية الآداب ، ونشر في مجة ( الرسالة ) وقد تضمن التقرير نقدًا لاذعًا لما كتبه الطالب الجامعي ، وإن كان أستاذه المشرف قد دافع عنه .
وصدَّر الأستاذ (أحمد أمين) بالعبارة الاتية:
(وقد وجدتها رسالة ليست عادية، بل هي رسالة خطيرة ، أساسها أن القصص في القرآن عمل فني خاضع لما يخضع له الفن من خلق وابتكار من غير التزام لصدق التاريخ .
(والواقع أن محمدًا فنان بهذا المعنى)، ثم قال: (وعلى هذا الأساس كتب كل الرسالة من أولها إلى آخرها، وإني أرى من الواجب أن أسوق بعض أمثلة، توضح مرامي كاتب هذه الرسالة وكيفة بنائها)، ثم أورد الاستاذ (أحمد أمين) أمثلة منتزعة من الرسالة تشهد بما وصفها به من هذه العبارة المجملة.
كإدعاء صاحب الرسالة أن القصة في القرآن لا تلتزم الصدق التاريخي، وإنما تتجه كما يتجه الأديب في تصوير الحادث تصويرًا فنيًا، وزعمه أن القرآن يختلق بعض القصص وأن الأقدمين أخطأوا في عد القصص القرآني تاريخًا يعتمد عليه.. والمسلم الحق هو الذي يؤمن بأن القرآن كلام الله، وأنه منزه عن ذلك التصوير الفني الذي لا يعنى فيه بالواقع التاريخي، وليس قصص القرآن إلا الحقائق التاريخية تصاغ في صور بديعة من الألفاظ المنتقاه، والأساليب الرائعة.
ولعل صاحب الرسالة درس فن القصة في الأدب، وأدرك من عناصرها الأساسية الخيال الذي يعتمد على التصوير، وأنه كلما ارتقى خيالها ونأى عن الواقع كثر الشوق إليها، ورغبت النفس فيها، واستمتعت بقرائتها، ثم قاس القصص القرآني على القصة الأدبية.
وليس القرآن كذلك فإنه تنزيل من عليم حكيم، ولا يرد في أخباره إلا ما يكون موافقًا للواقع، وإذا كان الفضلاء من الناس يتورعون من أن يقولوا زورًا ويعدونه من أقبح الرذائل المزرية بالإنسانية، فكيف يسوغ العاقل أن يلصق الزور بكلام ذي العزة والجلال؟ والله تعالى هو الحق: "ذلك بأن الله هو الحق وأنما يدعون من دونه هو الباطل" [الحج: 62].
وأرسل رسوله بالحق: "إنا أرسلناك بالحق بشيرًا ونذيرًا" [فاطر: 24].
"والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق" [فاطر: 31].
"يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم" [النساء: 17].
"وأنزلنا إليك الكتاب بالحق" [المائدة: 48].
"والذي أنزل إليك من ربك الحق" [الرعد: 1].
وما قصهُ اللهُ تعالى في القرآن هو الحق: "نحن نقص عليك نبأهم بالحق" [الكهف: 13].
"نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق" [القصص: 3].