تفسير سورة الرعد (13)
بسم الله الرحمن الرحيم
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
{ شرح الكلمات } :
{ المر } : هذه الحروف المقطعة تكتب المر ألف لام ميم را . والله اعلم بمراده بها .
{ بغير عمد ترونها } : العمد جمع عمود اي مرئية لكم اذ الجملة نعت .
{ ثم استوى علىلعرش } : استواء يليق به عزوجل .
{ وسخر الشمس والقمر } : أي ذللها بمواصلة دروانها لبقاء الحياة الى اجلها .
{ هو الذي مد الأرض } : أي بسطها للحياة فوقها .
{ رواسى } : أي جبال ثوابت .
{ زوجين اثنين } : أي نوعين وضربين كالحلو والحامض والأصفر والأسود مثلا .
{ لآيات } : أي دلالات على وحدانية الله تعالى .
{ قطع متجاورات } : اي بقاع متلاصقات .
{ ونخيل صنوان } : أي عدة نخلات في أصل واحد يجمعها ، والصنو الواحد والجمع صنوان .
{ في الأكل } : أي في الطعم هذا حلو وهذا مر وهذا حامض ، وهذا لذيذ وهذا خلافه .
{ معنى الايات } :
قوله تعالى { المر } الله اعلم بمراده . وقوله { تلك آيات الكتاب } الإشارة الى ما جاء في قصص سورة يوسف ، فالمراد بالكتاب التوراة والانجيل فمن جملة آياتها ما قص الله تعالى على رسوله . وقوله { والذي انزل اليك من ربك } وهو القرآن العظيم { الحق } اي هناك الحق الثابت ، وقوله { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } اي مع ان الذي انزل اليك من ربك هو الحق فان اكثر الناس من قومك وغيرهم لا يؤمنون بانه وحي الله وتنزيله فيعلموا به فيكملوا ويسعدوا ، وقوله تعالى : { الله الذي رفع السموات والأرض بغير عمد ترونها } : اي ان الهكم الحق الذي يجب ان تؤمنوا به وتعبدوه وتوحدوه الله الذي رفع السموات على الارض بغير عمد مرئية لكم ولكن رفعها بقدرته وبما شاء من سنن . وقوله : { ثم استوى على العرش } اي خلق السموات والارض ثم استوى علىعرشه استواء يليق بذاته وجلاله يدبر أمر الملكوت وقوله : { وسخر الشمس والقمر } اي ذللهما بعد خلقهما يسيران في فلكهما سيراً منتظماً الى نهاية الحياة ، وقوله { كل يجري } اي في فلكه فالشمس تقطع فلكها في سنة كاملة والقمر في شهر كامل وهما يجريان هكذا الى نهاية الحياة الدنيا فيخسف القمر وتنكدر الشمس وقوله : { يدبر الأمر } اي يقضي ما يشاء في السموات والأرض ويدبر أمر مخلوقاته بالاماتة والاحياء والمنع والاعطاء كيف يشاء وحده لا شريك له في ذلك . وقوله { يفصل الايات } اي القرآنية بذكر القصص وضرب الامثال وبيان الحلال والحرام كل ذلك ليهيئكم ويعدكم للايمان بلقاء ربكم فتؤمنوا به وتعبدوا الله وتوحدوه في عبادته فتكملوا في أرواحكم واخلاقكم وتسعدوا في دنياكم واخرتكم . وقوله تعالى : { وهو الذي مد الأرض } اي بسطه { وجعل فيها رواسي } اي جبالاً ثوابت { وانهاراً } اي واجرى فيها انهاراً { ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين } اي نوعين وضربين فالرمان منه الحلو ومنه الحامض والزيتون منه الاصفر والاسود ، والتين منه الابيض والاحمر وقوله : { يغشى الليل النهار } اي يغطي سبحانه وتعالى النهار بالليل لفائدتكم لتناموا وتستريح ابدانكم من عناء النهار .
وقوله { ان في ذلك } اي المذكور في هذه الآية الكريمة من مد الارض وجعل الرواسي فيها واجراء الانهار ، وخلق أنواع الثمار واغشاء الليل النهار ، في كل هذا المذكور { لآيات } اي علامات ودلائل واضحات على وجود الله تعالى وعلمه وقدرته وحكمته وعلى وجوب عبادته وتوحيده وعلى الايمان بوعده ووعيده ، ولقائه وما اعد من نعيم لأوليائه وعذاب لأعدائه ، وقوله تعالى : { في الارض قطع متجاورات } أي بقاع من الارض بعضها الى جنب بعض متلاحقات هذه تربتها طيبة خبيثة ملح سبخة وفي الارض أيضاً اي بساتين من أعناب وفيها زرع ونخيل { صنوان } النخلتان والثلاث في أصل واحد ، { غير صنوان } كل نخلة قائمة على اصلها ، وقوله : { تسقى } اي تلك الاعناب والزروع والنخيل { بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الاكل } وهو ما يؤكل منها فهذا حلو وهذا حامض وهذا لذيذ وهذا سمج ، وقوله : { ان في ذلك } اي المذكور من القطع المتجاورات مع اختلاف الطيب وعدمه وجنات الاعناب والنخيل وسقيها بماء واحد واختلاف طعومها وروائحها وفؤائدها { لآيات } علامات ودلائل باهرات على وجوب الايمان بالله وتوحيده ولقائه ، ولكن { لقوم يعقلون } اما الذين فقدوا عقولهم لاستيلاء المادة عليها واستحكام الشهوة فيما فإنهم لا يدركون ولا يفهمون شيئاً فكيف اذا يرون دلائل وجود الله وعلمه وقدرته وحكمته فيؤمنون به ويعبدون ويتقربون اليه .
{ هداية الآيات }
{ من هداية الآيات } :
1- تقرير عقيدة الوحي الالهي ونبوة محمد ( ص ) .
2- تقرير عقيدة التوحيد وانا لا اله الا الله .
3- تقرير عقيدة البعث الآخر والجزاء على الكسب في الدنيا .
4- فضيلة التفكر في الآيات الكونية .
5- فضيلة العقل للاهتداء به الى معرفة الحق واتباعه للاسعاد ولإكمال .
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)
{ شرح الكلمات } :
{ وان تعجب } : اي ياخذك العجب من انكارهم نبوتك والتوحيد .
{ فعجب } : اي فاعجب منه انكارهم للبعث والحياة الثانية مع وضوح الادلة وقوة الحجج .
{ لفي خلق جديد } : اي نرجع كما كنا بشراً احياء .
{ الاغلال في اعناقهم } : اي موانع من الايمان والاهتداء واغلال تشد بها أيديهم الى اعناقهم في الاخرة .
{ بالسيئة } : اي العذاب .
{ قبل الحسنة } : اي الرحمة وما يحسن بهم من العاقبة والرخاء والخصب .
{ المثلاث } : اي العقوبات واحدها مقله التي قد اصابت والمكذبين في الأمم الماضية .
{ لولا انزل هليه } : أي هلا أنزل ، ولولا أداة تحضيض كهلاً .
{ آية من ربه } : اي معجزة كعصا موسى موسى وناقة صالح مثلا .
{ ولكل قوم هاد } : اي نبي يدعوهم الى ربهم ليعبدوه وحده ولا يشركون به غيره .
{ ما تحمل كل أنثى } : اي من ذكر أو انثى واحداُ أو اكثر ابيض أو اسمر .
{ وما تغيض الأرحام } : اي تنقص من دم الحيض ، وما تزداد منه .
{ معنى الآيات } :
ما زال السياق الكريم في دعوة المشركين الى الايمان بالتوحيد والنبوة المحمدية والبعث يوم القيامة للسحاب والجزاء ، فقوله تعالى في الآية الأولى ( 5 ) { وان تعجب } يا نبينا من عدم إيمانهم برسالتك وتوحيد ربك فعجب اكبر هو عدم ايمانهم بالبعث الآخر ، اذ قالوا في انكار وتعجب : { أئذا متنا ومنا تراباً أئنا لفي خلق جديد } أي يحصل لنا بعد الفناء والبلى ، قال تعالى مشيراً اليهم مسجلاً الكفر عليهم ولازمه وهو الهداية كالتقليد الأعمى والكبر والمجاحدة والعناد ، وفي الآخرة اغلال توضع في اعناقهم من حديد تشد بها أيديهم الى اعناقهم ، { وأولئك أصحاب النار } اي أهلها { هم فيها خالدون } اي ماكثون ابداً لا يخرجون منها بحال من الأحوال .
وقوله تعالى في الآية الثانية ( 6 ) { ويستعجلونك بالسيئة الحسنة } يخبر تعالى رسوله مقرراً ما قال أولئك الكافرون بربهم ولقائه ونبي الله وما جاء به ، ما قالوه استخفافاً واستعجالاً وهو طلبهم العذاب الدنيوي ، اذا كان الرسول ( ص ) يخوفهم من عذاب الدنيا وعذب الاخرة ، فهم يطالبون به كقول بعضهم : { فأمطر علينا حجارة من السماء أو أئتنا بعذاب اليم } قبل طلبهم الحسنة وهذا لجهلهلم وكفرهم ، والا لطالبوا بالحسنة التي هي العافية والرخاء والخصب قبل السيئة التي هي الدمار والعذاب .
وقوله تعالى : { وقد خلت من قبلهم المثلات } أي والحال ان العقوبات قد مضت في الأمم من قبلهم كعقوبة الله لعاد وثمود وأصحاب الأيكة والمؤتفكات فما لهم يطالبون بها استبعاداً لها واستخفافاً بها اين ذهبت عقولهم ؟ وقوله تعالى : { وان ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } وهو ظاهر مشاهد اذ لو كان يؤاخذ بالظلم لمجرد وقوعه فلم يغفر لأصحابه لما ترك على الارض من دابة ، { وان ربك لشديد العقاب } اي على من عصاه بعد ان انذره وبين له من يتقي فلم يتق ما يوجب العذاب من الشرك والمعاصي .
وقوله تعالى في الآية ( 7 ) { ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه أية من ربه } ! يخبر تعالى رسوله والمؤمنين عن قيل الكافرين بالتوحيد والبعث والنبوة : { لولا } اي هلا انزل على محمد ( ص ) آية من ربه كعصا موسى وناقة صالح ، حتى نؤمن بنبوته ونصدق برسالته ، فيرد تعالى عليهم بقوله : { إنما أنت منذر } والمنذر المخوف من العذاب وليس لازماً ان تنزل معه الآيات ، وعليه فلا تلتفت الى ما يطالبون به من الايات ، واستمر على دعوتك فإن لكل قوم هادياً وأنت هادي هذه الأمة ، وداعيها الى ربها فادع واصبر .
وقوله تعالى في الآية الرابعة ( 8 ) { الله يعلم ما تحمل كل اثنى } اي من ذكر وانثى واحداً او اثنين أبيض أو اسمر سعيداً او شقياُ ، وقوله : { وما تغيض الارحام وما تزداد } اي ويعلم ما تغيض الأرحام من دماء الحيض وما تزداد منها اذ غيضها ينقص من مجة الحمل وازديادها يزيد في مدة الحمل فقد بلغ السنة أو اكثر ، وقوله : { وكل شيء عنده بمقدار } اي وكل شيء في حكمه وقضائه وتدبيره بمقدار معين لا يزيد ولا ينقص في ذات ولا صفة ولا حال ، ولا زمان ولا مكان ، وقوله : { عالم الغيب والشهادة } اي كل ما غاب عن الخلق ، وما لم يغب مما يشاهدونه اي العليم بكل شيء وقوله : { الكبير المعتال } اي الذي لا اكبر منه وكل كبير أمامه صغير المعتال على خلقه المنزه عن الشريك والشبيه والصاحبة والولد هذا هو الله وهذه صفاته فهل يليق بعاقل ان ينكر استحقاقه للعبادة دون سواه ؟ فهل يليق بعاقل ان ينكر عليه ان يوحي بما شاء على من يشاء من عباده ؟ فهل يليق بعاقل ان ينكر عليه أن ان يوحي بما شاء على من يشاء من عباده ؟ فهل يليق بعاقل ان ينكر على هذه قدرته وعمله ان يحي العباد بعد ان يميتهم ليسألهم عن كسبهم ويحاسبهم عليه ويجزيهم به ؟ اللهم لا اذا فالمنكرون على الله ما دعاهم الى الايمان به لا يعتبرون عقلاء وان طاروا في السماء وغاصوا في الماء .
{ هداية الآيات }
{ من هدية الآيات } :
1- تقرير أصول العقيدة الثلاثة : التوحيد والنبوة البعث والجزاء الآخر .
2- صوارف الإيمان والتي هي كالأغلال هي التقليد الأعمى ، والكبر والعناد .
3- عظيم قدرة الله تعالى وسعة علمه .
4- تقرير عقيدة القضاء والقدر .
سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
{ شرح الكلمات } :
{ وسارب بالنهار } : أي ظاهر في سربه اي طريقه .
{ له معقبات } : أي ملائكة تتعقبه بالليل والنهار .
{ من أمر الله } : اي بامر الله تعالى وعن اذنه وأمره .
{ لا يغير ما بقوم } : أي من عافية ونعمة الى بلاء وعذاب .
{ ما بإنفسهم } : من طهر وصفاء الإيمان والطاعات الى الذنوب والآثام .
{ وما لهم من دونه من وال } : اي وليس لهم من دون الله من يلبي أمرهم فيدفع عنهم العذاب .
{ من خفيته } : أي من الخوف منه وهيبته وجلاله .
{ وهو شديد المحال } : اي القوة والمماحلة .
{ معنى الآيات } :
ما زال السياق في ذكر جلال الله وعظيم قدرته وسعة علمه ، قال تعالى في هذه الآية : { سواء منكم من أسر القول ومن جهر به } فالله يعلم السر والجهر وأخفى { ومن هو مستخف بالليل } يمشي في ظلامه ومن هو { سارب بالنهار } أي يمشي في سربه وطريقه مكشوفاً معلوماً لله تعالى ، وقوله تعالى : { له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظومه من أمر الله } جائز ان يعود الضمير في « له » على من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ، فيكون المراد من المعقبات الحرس والجلاوزة الذين يحرسون السلطان من أمر الله تعالى في نظرهم ، ولكن اذا اراده الله بسوء فلا مرد له ماله من دون الله من وال يتولى حمايته والدفاع عنه ، وجائز ان يعود على الله تعالى ويكون المراد من المعقبات الملائكة الحفظة والكتبة للحسنات والسئيات ويكون معنى من أمر الله اي بأمره تعالى وإذنه ، والمعنى صحيح في التوجيهين للآية والى الاول ذهب ابن جرير والى الثاني ذهب جمهور المفسرين ، وقوله تعالى : { ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } يخبر تعالى عن سنة من سننه في خلقه ماضية فيهم وهي انه تعالى لا يزيل نعمة انعم بها على قوم من عافية وأمن ورخاء بسبب إيمانهم وصالح اعمالهم حتى يغيروا ما بأنفسهم من طهارة وصفاء بسبب ارتكابهم للذنوب وغشيانهم للمعاصي نتيجة الإعراض عن كتاب الله وإهمال شرعه وتعطيل حدوده والانغماس في الشهوات والضرب في سبيل الضلالات ، وقوله تعالى : { وإذا اراد الله بقوم فلا مرد له ومالهم من دونه من وال } هذا اخبار منه تعالى بانه اذا اراد بقوم أو فرد او جماعة سوءاً ما أي يسوءهم من بلاء وعذاب فلا مرد له بحال من الأحوال بل لا بد وان يمسهم ، ولا يجدون من دون الله من وال يتولى صرف العذاب عنهم ، اما من الله تعالى فإنهم اذا أنابوا اليه واستغفروه وتابوا اليه فإنه تعالى يكشف عنهم السوء ، ويصرف عنهم العذاب ، وقوله تعالى : { هو الذي يريكم البرق خوفاً } من الصواعق من جهة وطمعاً في المطر من جهة اخرى { وينشئ السحاب الثقال } اي وهو الذي ينشئ اي يبدء السحاب الثقال الذي يحمل الأمطار ( ويسبح الرعد بحمده ) اي وهو الذي يسبح الرعد بحمده وهو ملك موكل بالسحاب يقول : سبحان الله وبحمده ، وقوله : { والملائكة من خيفته } اي خيفة الله وهيبته وجلاله فهي لذلك تسبحه اي تتزهه عن الشريك والشبيه والولد بألفاظ يعلمها الله تعالى ، وقوله تعالى : { ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهو يجادلون في الله } اي في وجوده وصفاته وتوحيده وطاعته { وهو شديد المحال } هذه الآية نزلت فعلاً في رجل بعث اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من يدعوه الى الاسلام فقال الرجل الكافر لمن جاء من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم : من رسول الله ؟ وما الله امن ذهب هو او فضة او من نحاس ؟ فنزلت عليه صاعقة أثتاء كلامه فذهبت بقحف رأسه ، ومعنى شديد المحال اي القوة والاخذ والبطش .
{ هداية الآيات }
{ من هداية الآيات } :
1- سعة علم الله تعالى .
2- الحرس والجلاوزة لمن يستخدمهم لحفظه من امر الله تعالى لن يغتنموا عنه من امر الله شيئاً .
3- تقرير عقيدة ان لكل فرد ملائكة يتعاقبون عليه بالليل والنهار منهم الكرام الكاتبون ، ومنهم الحفظة للإنسان من الشياطين والجان .
4- بيان سنة ان النعم لا تزول الا بالمعاصي .
5- استجاب قول سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته عند سماع الرعد لورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ مختلفة .
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
{ شرح الكلمات } :
{ له دعوة الحق } : اي لله تعالى الدعوة الحق اي فهو الاله الحق الذي لا اله الا هو .
{ ليبلغ فاه } : اي الماء فمه .
{ الا في ضلال } : اي في ضياع لا حصول منه على طائل .
{ بالغدو والآصال } : أي بالبكر جمع بكرة ، والعشايا جمع عشية .
{ معنى الآيات } :
ما زال السياق في تقرير عقيدة التوحيد بالادلة والبراهين ، وقال تعالى : { له دعوة الحق } اي لله سبحان وتعالى الدعوة الحق وهي انه الاله الحق الذي لا اله الا هو ، اما غيره فإطلاق لفظ الاله اطلاق باطل ، فالاصنام والاوثان وكل ما عبد من دون الله اطلاق لفظ اله عليه باطل ، والدعوة الى عبادته باطلة ، اما الدعوة الحق فانها لله وحده .
وقوله تعالى : { والذين يدعون من دونه } اي من دون الله من سائر المعبودات { لا يستجيبون لهم بشيء } اي لا يجيبونهم بإعطائهم شيئاً مما يطلبون منهم { الا كباسط كفيه الى الماء } اي كاستجابة من بسط يديه أي فتحهما ومدهما الى الماء والماء في قعر البئر فلا كفاه تصل الى الماء ولا الماء يصل الى كفيه وهو عطشان ويظل كذلك حتى يهلك عطشاً ، هذا مثل من يعبد غير الله تعالى بدعاء او ذبح او نذر او خوف او رجاء فهو محروم الاستجابة خائب في مسعاه ولن تكون له عاقبته الا النار والخسران وهو معنى قوله تعالى { وما دعاء الكافرين الا في ضلال } اي بطلان وخسران ، وقوله تعالى : { ولله يسجد من في السماوات } أي الملائكة { والأرض } أي من مؤمن يسجد طوعاً ، ومنافق اي يسجد كرها ، { وظلالهم } أيضاً { بالغدو } اوائل النهار ، { والآصال } اواخر النهار ، ومعنى الاية الكريمة : اذا لم يسجد الكافرون ان لم ينقادوا لعبادة الله وحده تعالى فإن لله يسجد من في السماوات من الملائكة ، ومن في الأرض من الجن والأنس المؤمنون يسجدون طائعين والكافرون يسجدون اذا اكرهوا على السجود والمنافقون يسجدون مكرهين ، وظلالهم تسجد في البكر والعشايا كما انهم منقادون لقضاء الله تعالى وحكمه فيهم لا يستطيعون الخروج عنه بحال فهو الذي خلقهم وصورهم كما شاء ورزقهم ما شاء ويميتهم متى شاء فأي سجود وخضوع وركوع أظهر من هذا ؟ وقوله تعالى : { قل من رب السماوات والأرض } اي من خالقهما ومالكهما ومدبر الأمر فيهما ؟ وأمر رسوله ان يسبقهم الى الجواب { قل الله } اذ لا جواب لهم الا هو ، وبعد ان ان أقروا بان الرب الحق هو الله ، امر رسوله صلى الله عليه وسلم ان يقول لهم موبخاً مقرعاً { أفاتخذتم من دونه اولياء } اي شركاء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فضلاً عن ان يملكوا لكم نفعاً او يدفعون عنكم ضراً فأين يذهب بعقولكم ايها المشركون ، ومبالغة في البيان وإقامة للحجة والبرهان على وجوب التوحيد وبطلان الشرك والتنديد امر رسوله ان يقول لهم : { هل يستوي الأعمى والبصير ، أم هل تستوي الظلمات والنور } ؟ والجواب قطعاً لا اذ فكيف يستوى المؤمن والكافر ، وكيف يستوي الهدى والضلال ، فالمؤمن يعبد الله على بصيرة على علم انه خالقه ورازقه يعلم سره ونجواه اذا دعاه أرسل اليه رسوله وانزل عليه كتابه ، والكافر المشرك يعبد مخلوقاً من مخلوقات الله لا تملك لنفسها فضلاً عن عابديها نفعاً ولا ضراً لا تسع نداءً ولا تجيب دعاء ، المؤمن يعبد الله بما شرع له من عبادات وبما طلبت منه من طاعات وقربات ، والكافر المشرك يعبد الباطل بهواه ، ويسلك الغيّ في الحياة .
وقوله : { أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم } اي بل جعلوا لله شركاء فخلقت تلك الشركاء خلقوا كخلق الله فتشابه الخلق على المشركين فعبدوها ظناً منهم انها خلقت كخلق الله ؟ والجواب لا فإنها لم تخلق ولا تستطيع خلق ذبابة فضلاً عن غيرها اذا فكيف تصح عبادتها وهي لم تخلق شيئاً ، وقوله تعالى : { قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار } اي قل أيها الرسول للمشركين عند اعترافهم بان آلهتهم لم تخلق شيئاً قل لهم : الله خالق كل شيء وهو الواحد الذي لا شريك له ولا ند ولا مثل ، القهار لكل جبار والمذل لكل معاند كفار ، هو المستحق للعبادة الواجب له الطاعة ، الإيمان به هدى والكفر به ضلال .
{ هداية الآيات }
{ من هداية الآيات } :
1- دعوة الحق لله وحده فهو المعبود بحق ل اله غيره ولا رب سواه .
2- حرمان المشركين من دعائهم وسائر عباداتهم .
3- الخلق كلهم يسجدون لله طوعاً او كرهاً اذ الكل خاضع خاضع لحكم الله وتدبيره فيه .
4- مشروعية السجود للقارئ والمستمع اذا بلغ هذه الآية ( وظلالهم بالغدو والآصال ) ويستحب ان يكون ظاهراً مستقبلاً القلبة ، ويكبر عند الخفض والرفع ولا يسلم .
5- بطلان الشرك اذ لا دليل عليه من عقل ولا نقل .
6- وجوب العبادة لله تعالى .
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
{ شرح الكلمات } :
{ فسألت أودية بقدرها } : أي بمقدار مائها الذي يجري فيها .
{ زبداً رابياً } : اي غثاء اذ الزبد هو وضر غليان الماء او جريانه في الانهار .
{ ومما يوقدون عليه في النار } : أي كالذهب والفضة والنحاس .
{ ابتغاء حيلة او متاع } : اي طلباً لحيلة من ذهب او فضة او متاع من الأواني .
{ زبد مثله } : أي مثل زبد السيل .
{ فأما الزبد } : أي زبد السيل او زبد ما اوقد عليه النار .
{ فيذهب جفاء : اي باطلاً مرمياً بعيداً إذ هو غثاء ووضر لا خير فيه .
{ فيمكث في الأرض } : اي يبقى في الأرض زمناً ينتفع به الناس .
{ للذين استجابوا لربهم الحسنى } : أي للذين آمنوا وعملوا الصالحات الجنة .
{ لم يستجيبوا } : أي لم يؤمنوا به ولم يطيعوه .
{ لافتدوا به } : وهي المؤاخذة بكل ذنب عملوه لا يغفر لهم منه شيء .
{ وبئس المهاد } : أي الفراش الذي اعدوه لأنفسهم وهو جهنم .
{ معنى الايات }
ما زال السياق في تقرير التوحيد والتنديد بالكفر والشرك ففي هذه الآية الكريمة ضرب الله تعالى مثلاً للحق والباطل ، للحق في بقائه ، والباطل في اضمحلاله وتلاشيه فقال : { أنزل } اي الله { من السماء ماءً فسالت اودية بقدرها } أي بحسب كبرها وصغرها لأن الوادي قد يكون كبيراً وقد يكون صغيراً ، فاحتمل السيل اي حمل سيل الماء في الوادي زبداً رابياً اي غثاء ووضراً على سطح الماء ، هذا مثل مائي ، ومثل ناري قال فيه عز وجل : { ومما يوقدون عليه في النار } اي ومما يوقد عليه الصاغة والحدادون ( ابتغاء حلية ) اي طلباً للحلية ، { او متاع } اي طلباً لمتاع يتمتع به الأواني اذ الضائغ او الحداد يضع الذهب او الفضة او النحاس في البوتقة وينفخ عليها بالكير فيعلو ما كان فاسداً غير صالح على الصورة الزبد وما كان صالحاً يبقى في البوتقة وهو الذي يصنع منه الحيلة والمتاع ، وقوله تعالى : { كذلك } أي المذكور من الأمور الأربعة مثلي الحق وهما الماء والجوهر ومثلي الباطل وهما زبد الماء وزبد الجوهر { فأما الزبد فيذهب جفاء } اي باطلاً مرمياً به يرميه السيل الى ساحل الوادي فيعلق بالاشجار والاحجار ويرميه الصائغ عن بوتقته ، وأما ما ينفع الناس من الماء للسقي والري فيمكث في الأرض ، وكذا ما ينفع من الحلي والمتاع يبقى في بوتقة الصائغ والحداد وقوله تعالى : { كذلك يضرب الله الأمثال } أي مثل هذا المثل الذي ضربه للحق في بقائه والباطل في ذهابه وتلاشيه وان علا وطغا في بعض الأوقات ، { يضرب } أي بين الامثال ، ليعلموا فيؤمنوا ويهتدوا فيكملوا ويسعدوا .
هذا ما تضمنته الآية الأولى ( 17 ) واما الآية الثانية ( 18 ) فق اخبر تعالى بوعد له ووعيد اما وعده فلأهل طاعته بان لهم الحسنى الجنة وأما وعيده فلأهل معصيته وهو أسوأ وعيد وأشده ، فقال تعالى في وعده : { للذين استجابوا لربهم الحسنى } وقال في وعيده : ( والذين لم يستجيبوا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ) اي من مال ومتاع { ومثله معه } أيضاً لافتدوا به من العذاب الذي الذي تضمنه هذا الوعيد الشديد ، ويعلن عن الوعيد فيقول { أولئك } اي الأشقياء { لهم سوء الحساب } وهو أن يحاسبوا على صغيرة وكبيرة في أعمالهم ولا يغفر لهم منها شيء { ومأواهم جهنم } اي مقرهم ومكان إيوائهم { ويئس المهاد } أي الفراش جهنم لهم .
{ هداية الآيات }
{ من هداية الآيات } :
1- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني الى الاذهان .
2- ثبات الحق ، واضمحلال الباطل سنة من سنن الله تعالى .
3- بيان وعد الله للمستجيبين له بالايمان والطاعة وهي الجنة .
4- بيان وعيد الله لمن لم يستجب له بالايمان والطاعة .
يتبع إن شاء الله...