رياض الصالحين
للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد القهار ، العزيز الغفار ، مكور الليل علي النهار ، تذكرة لأولي القلوب والأبصار ، وتبصرة لذوى الألباب والأعتبار ، الذي أيقظ من من خلقه من اصطفاه فزهدهم في هذه الدار ، وشغلهم بمرافقته وإدامة الأفكار ، وملازمة الأتعاظ والأذكار ، ووفقهم للدأب في طاعته ، والتأهب لدار القرار ، والحذر مما يسخطه ويوجب دار البوار ، والمحافظة علي ذلك مع تغاير الأحوال والأطوار .
أحمده أبلغ حمد وأزكاه ، وأشمله وأنماه .
واشهد أن لا إله إلا الله البرالكريم ، الرؤوف الرحيم ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وحبيبه وخليله ، الهادى إلي صراط مستقيم ، والداعى إلي دين قويم . صلوات الله وسلامه عليه ، وعلي سائر النبيين وآل كل ، وسائر الصالحين .
أما بعد: فقد قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذريات: 56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) (الذريات: 57) .
وهذا تصريح بأنهم خلقوا للعبادة ، فحق عليهم الأعتناء بما خلقوا له ، والإعراض عن حظوظ الدنيا بالزهادة ، فإنها دار نفاد لا محل إخلاد ، ومركب عبور لا منزل حبور ، ومشرع انفصام لا موطن دوام .
فلهذا كان الإيقاظ من أهلها هم العباد ، وأعقل الناس فيها هم الزهاد ، قال الله تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (يونس: 24) .
والآيات في هذا المعني كثيرة .
ولقد أحسن القائل:
إن لله عباداً فطنا (1)
طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها لما علموا
أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا
صالح الأعمال فيها سفنا
فاذا كان حالها ما وصفته ، وحالنا وما خلقنا له ما قدمته ، فحق علي المكلف أن يذهب بنفسه مذهب الأخيار ، ويسلك مسلك أولي النهي والأبصار ، ويتاهب لما أشرت إليه ، ويهتم بما نبهت عليه ، وأصوب طريق له في ذلك ، وأرشد ما يسلكه من المسالك: التأدب بما صح عن نبينا سيد الأولين والآخرين ، وأكرم السابقين واللاحقين .
صلولت الله وسلامه عليه وعلي سائر النبيين .
وقد قال الله تعالي: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة: من الآية 2) .
وقد صح عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال: (( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه )) وأنه قال : (( من دل علي خير فله مثل أجر فاعله )) وأنه قال: (( من دعا إلي هدي كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً )) وأنه قال لعلي رضي الله عنه: (( فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم )) .
فرأيت أن أجمع مختصراً من الأحاديث الصحيحة ، مشتملاً علي ما يكون طريقا لصاحبه إلي الآخرة ، ومحصلاً لآدابه الباطنة والظاهرة ، جامعاً للترغيب والترهيب وسائر أنواع آداب السالكين: من أحاديث الزهد ، ورياضات النفوس ، وتهذيب الأخلاق ، وطهارات القلوب وعلاجها ، وصيانة الجوارح وإزالة اعوجاجها ، وغير ذلك من مقاصد العارفين .
ـــــــــــــــ
( 1 ) جمع فطن ، وهو من له عقل . ونظر في العواقب .
ـــــــــــــــ
والتزم فيه أن لا أذكر إلا حديثاً صحيحاً من الواضحات ، مضافاً إلي الكتب الصحيحة المشهورات ، وأصدر الأبواب من القرآن العزيز بآيات كريمات ، وأوضح ما يحتاج إلي ضبط أو شرح معني خفي بنفائس من التنبيهات . وإذا قلت في آخر حديث : متفق عليه ، فمعناه : رواه البخارى ومسلم .
وأرجو إن تم هذا الكتاب أن يكون سائقاً للمعتني به ، حاجزا له عن أتواع القبائح والمهلكات .
وأنا سائل أخاً انتفع بشئ منه أن يدعو لي ، ولوالدى ، ومشايخى ، وسائر أحبابنا ، والمسلمين أجمعين ، وعلي الله الكريم اعتمادى ، وإليه تفويضى واستنادى ، وحسبى الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم .