كتاب: الزهر الفاتح في ذكر مَنْ تنزَّه عن الذنوب والقبائح
المؤلف: ابن الجزري
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
رب يسر ولا تعسر، بسم الله أبتدئ، وبكتابه أقتدي، وبسنّة نبيَه أهتدي.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أمَّا بعد..
فإن حقوق الله تعالى أعظم من أن يقوم العبد بها، وأن نِعَمَهُ أكثر من أن تُحصى وتُعَدُّ، ولكن عباد الله أصبحوا نادمين، وأمسوا تائبين.
فإن الله سبحانه وتعالى له علينا حُقوق، وشرط علينا شروطاً كثيرة، فينبغي لنا أن نؤديها.
فلا تكن يا أخي غافلاً عنها فأنت تُحاسب بها يوم القيامة، وإذا أردت أمراً من أمور الدنيا فعليك بالتردُّد فيه، فإن رأيته موافقاً لآخرتك فخذه..
وإلا فقف عنه حتى تنظر مَنْ أخذه؟
كيف عمل فيه؟
وكيف نجا منه؟
ونسأل الله السلامة.
وإذا أردت أمراً من أمور الآخرة فشمّر إليه وأسرع من قبل أن يَحُولَ بينك وبينه الشيطان.
وإيَّاك أن تخون مؤمناً، فمَنْ خان مؤمناً فقد خان الله ورسوله.
وعليك بتقوى الله والعمل بما علّمك الله، والمُراقبة لله تعالى حيث لا يراك أحَدٌ إلا الله.
وإيَّاك والحرام، فإنه لا يدخل الجنة لحمٌ نبت من حرام.
وإيَّاك والطمع، فإن الطمع هلاك الدِّين وإيَّاك أن تُضَلّل نفسك.
واحذر يا أخي أن يراك اللهُ مُشتغلاً بغيره فتسقط من عينه، ولا تكن غافلاً عنه فإنه ليس بغافل عنك.
وعليك بتقوى الله العظيم وأن لا يفارق ذكر الموت قلبك، وأن يكون ذكر الله عز وجل لازماً لسانك وقلبك، وأن تُديم النظر في كونه مُطلعاً عليك.
فعليك بالاستغفار لِمَا قد سلف عن ذنوبك، واسأل الله السلامة لِمَا بقي من عُمرك.
وإيَّاك أن تخرج من الدنيا على غير توبة.
واعلم يا أخي أنك مَيّتٌ، ومُبعثٌ، ومُحاسب بعملك، ثم الوقوف بين يدي الله وأنت خاضع وذليل، قد نُشِرَ ديوانك وظهر كتابك، والجنة عن يمينك والنار عن يسارك والصراط بين يديك والله عز وجل مُطّلعٌ عليك، يقول لك: إقرأ كتابك..
وأنت مُشفقٌ مِمَّا فيه حَذِراً من فضائحه ودواهيه.
فإن كنت سعيداً فإلى جنةٍ عاليةٍ، وإن كنت شقياً فإلى نار حاميةٍ.
فتزوَّد يا أخي لنفسك..
ومثل الآخرة عليك بقلبك..
واجعل الموت بين عينيك..
ولا تنس وقوفك بين يدي الله عز وجل..
وكُنْ من الله على وجل..
وأدّ فرائض الله..
وكُفَّ عن محارم الله وخالف هواك..
واذكر الله عز وجل في كل وقت..
واحمد الله على كل حال..
واجعل شوقك إلى الجنة..
واستعذ بالله تعالى من النار..
وإيَّاك ومخالفة الله تعالى فيما أمرك به ودعاك إليه..
واعلم أن بين يديك أهوالاً ومواقف..
فإن استطعت يا أخي أن تُعِدَّ لك كل يوم زادٍ لِمَا بين يديك فافعل، فإن الأمر أعجل من ذلك..
فتزوَّد يا أخي لنفسك وخذ في جهازك، وكن وصي نفسك..
واعلم يا أخي أن الليل والنهار لا يرجعان، والعمل لا يعود والطالب حثيث، والليل والنهار يسرعان في هدم نفسك وفناء عمرك وانقضاء أجلك.
فلا تطمئن يا أخي حتى تعلم أين مسكنك ومصيرك ومُستقرُّك ومنزلك.
فانظر لنفسك، واَقض ما فاتك، وأقض ما أنت قاض من أمرك.
وكأني بالأمر يأتيك على بغتة.
وإنني لا أقول ولا اًعلم أحداً أشد تضييقاً مني لذلك، فكأنك بالقيامة وقد قامت، وبالنفس الأمَّارة وقد لامت، وانفجعت عين طال ما نامت، ونحرت قلوب العُصاةُ وقد هامت.
وقيل في المعنى شعر:
غدا توفي النفوس ما كسبت... ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم... وإن أساؤوا فبئس ما صنعوا
فالله ذو رحمة وذو كرم... وإن جهلنا فحمله يسع
يا رب اكتبنا اليوم في ملاْ... تمسكوا بالكتاب فانتفعوا
وأغننا واعف عن جريمتنا... وافن بأمن نتضرع
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يُحشرُ الناس يوم القيامة حُفاة عُراةً عطاشى سُكارى حيارى من أهوال يوم القيامة، لا يعلمُ الرجلُ بالمرأة، ولا تعلمُ المرأةُ بالرجل".
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ثم يُوَكِّلُ اللهُ بكل رجل وامرأة ملكين يسوقانه إلى المحشر" وذلك قوله تعالى: "وجاءت كُلُّ نفس معها سائقٌ وشهيدٌ".
قال أيضاً: "ثم تقف الخلائق يومئذ مائة وعشرين صفاً،ُ أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم معزولون، وهم ثمانون صفاً، ينظرون إلى السماء، وكل أحد منهم مشغول بنفسه، نادم على أفعاله".
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ثم يقفون ثلاثمائة سنة من سنين الدنيا، مائة سنة في العرق يلجمون، ومائة سنة في الظلمة يتحيَّرون، ومائة سنة بعضهم في بعض يموجون..
قد شَخُصَتْ منهم يومئذ الأحداق، وتطاولت الأعناق، وكثر العطش، وقَلَّ الإلتفات، وانقطعت الأصوات وضاقت المذاهب، واشتد القلق، وعظُمَتْ الأمُور، وطاشت العقول، وكثر البُكاء، وفنيت الدموع، وبرزت الخفيَّات، وظهرت الخطيئات، وبانت الفضائح، وظهرت القبائح، ووُضِعَتْ الموازين، ونًشِرَتْ الأعلام، وبرزت الجحيم، وزفرت النار، ويئس الكُفَّار، وشاب الصغير، وسكت الكبير، وسُعِّرَتْ النيران، وتغيَّرت الألوان، وعظُمَتْ الأهوال، وطال القيام، وانقطع الكلام، فلا تسمعُ إلا همساً"..
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "ثم يأمر اللهُ ملكاً أن ينصب الصراط على متن جهنم، وهو أرق من الشعرة، وأحَدّ من السَّيف..
طوله ألف عام، عليه كلاليب وخطاطيف، وله سبعة جسور..
فأول ما يُحاسب العبد على الإيمان، فإن سلم وإلا هوى في النار..
والثاني يُحاسب على الصلاة، فإن سلم وإلا هوى في النار..
والثالث يُحاسب على الزكاة، فإن سلم وإلا هوى في النار..
والرابع يُحاسب على الصيام، فإن سلم وإلا هوى في النار..
والخامس يُحاسب على الحج، فإن سلم وإلا هوى في النار..
والسادس يُحاسب على الوضوء، فإن سلم وإلا هوى في النار..
والسابع يُحاسب على بر الوالدين، فإن سلم وإلا هوى في النار..
ثم يُنادي مُنادٍ..
يا محمد: قدِّم أمَّتك على الحساب، والجواز على الصراط، فمنهم مَنْ يجوز على الصراط كالبرق الخاطف، ومنهم مَنْ يجوز عليه كالريح العاصف، ومنهم مَنْ يجوز كالفرس الجواد، ومنهم مَنْ يجوز يحبو على ركبتيه، ومنهم مَنْ يجوز يزحف على وجهه، ومنهم مَنْ يجوز على وجهه ثم ينجو، ومنهم مَنْ يسقط على وجهه في النار.
أعاذنا الله وإيَّاكم منها.