الباب الرابع: المسألة الفلسطينية
المســـألة الفلســطينية The Palestinian Question
«المسألة الفلسطينية» مصطلح قمنا بسكه لنشير إلى تلك المشكلة التي نجمت عن وصول كتلة بشرية من المستوطنين الصهاينة لتستولي على الأرض الفلسطينية باعتبارها أرضاً بلا شعب. وكان المفروض أن تحل هذه الكتلة محل السكان الأصليين، الذين يكون مصيرهم عادةً في إطار الاستعمار الاستيطاني الإحلالي، هو الإبادة أو الطرد. ورغم أن الاستعمار الاستيطاني الإحلالي الصهيوني لم يقم بإبادة الفلسطينيين (بسبب ظروف التجربة الاستيطانية الصهيونية) إلا أنه طرد غالبيتهم الساحقة عام 1948. وعندما احتل الضفة الغربية وغزة عام 1967 استمر في عملية الطرد إلا أنه لم يوفَّق في محاولته هذه المرة. وقد رفض الفلسطينيون عملية الاغتصاب وقاوموا كتلة المستوطنين الوافدة بأشكال مختلفة.
ومن الملاحَظ أن الصهاينة منذ البداية إما التزموا الصمت حيال المسألة الفلسطينية (ولجأوا إلى ما نسميه مقولة "العربي الغائب")، أو طرحوا "حلولاً" مثل طرد الفلسطينيين، هي ليست حلولاً وإنما برنامج إرهابي. ونحن نذهب إلى أن الدولة الصهيونية لم تجد حلاًّ بَعْد للمسألة الفلسطينية. ولذا، فمشروع السوق الشرق أوسطية محاولة أخيرة لفرض حل صهيوني للمسألة الفلسطينية عن طريق تفتيت المنطقة ونزع الصبغة العربية الإسلامية عنها بحيث يمكن تفكيك الإنسان العربي (الفلسطيني وغير الفلسطيني) وتحويله إلى إنسان اقتصادي أو إنسان جسماني أو أي إنسان آخر، طالما أنه ليس إنساناً عربياً مسلماً. والمسألة الفلسطينية تثير، وبحدة، مشكلة شرعية الوجود.
الشرعيتان:
الشرعية الصهيونية وشرعية الوجـود
Two Types of Legitimacy:
Zionist Legitimacy and Legitimacy of Existence
«الشرعية» هي حالة الصلاحية والقبول التي يتمتع بها أفراد النخبة الحاكمة والمنظمات والحركات والنظم السياسية والتي تخوِّل لهؤلاء السلطة. ومن ثم، فإن الشرعية الصهيونية هي حالة الصلاحية والقبول التي تدعيها لنفسها الحركة الصهيونية. وتجابه النظم السياسية كافة مشـكلة الشـرعية تجـاه جماهير التشـكيل السياسي الذي تحكمه هذه النظم، أما النظم الاستيطانية فهي تجابه مشكلة الشرعية على مستويين: مستوى العنصر السكاني الوافد، ومستوى السكان الأصليين.
والوضع في حالة الدولة الوظيفية الصهيونية أكثر تركيباً إذ أن هذه الدولة تستمد شرعيتها كدولة صهيونية من مصادر ثلاثة:
1 ـ الإمبريالية الغربية: باعتبارها القوة التي أسَّست الدولة الصهيونية كي تكون دولة تضطلع بوظيفة الدفاع عن مصالح العالم الغربي في المنطقة.
2 ـ أعضاء الجماعات اليهودية في العالم: باعتبارهم القوة التي تدعم المُستوطَن الصهيوني وتمارس الضغط من أجله، على أن تضطلع الدولة الصهيونية بوظيفة حماية هويتهم وتنميتها على شرط ألا تتدخل في شئونهم وألا تتسبب في وضع ولائهم لأوطانهم موضع الشك.
3 ـ المستوطنون الصهاينة: باعتبارهم مواطني الدولة الصهيونية الذين يطلبون من دولتهم أن تضطلع بوظيفة توفير الأمن والخدمات لهم كما هو الحال مع كل الدول. ولكن إذا كانت الدولة الصهيونية تستمد شرعيتها الصهيونية من هذه القطاعات الثلاثة وتحافظ عليها بمقدار أدائها لوظائفها، فإن ثمة مستوى آخر مختلفاً تماماً يقع خارج نطاق هذه الشرعية هو شرعية الوجود. فالدولة الصهيونية قد أُسِّست على أرض الفلسطينيين، وهي لا تلتزم تجاههم بأي شيء، فكل همها أن تغيِّبهم تماماً حتى لا يهتز أساس وجودها نفسه.
وقد اهتزت الشرعية الصهيونية تجاه المستوطنين، وأعضاء الجماعات اليهودية في العالم وفي الولايات المتحدة، وذلك بسبب الفساد في إسرائيل وأزمة النظام السياسي وأزمة الهوية اليهودية والأزمة السكانية والاستيطان وفشل إسرائيل في تطبيع الشخصية اليهودية وفي إخماد الانتفاضة. أما شرعية الوجود، فقد أخذت في الاهتزاز التدريجي مع بداية الهجمات الفدائية ولكنها وصلت إلى الذروة مع الهزيمة في لبنان واندلاع الانتفاضة. ومن الملاحَظ أن الشرعيتين مرتبطتان تمام الارتباط، فالدولة الصهيونية دولة وظيفية تكتسب قيمتها أمام الراعي الإمبريالي من أدائها لمهمتها الأساسية القتالية التي تستند إلى مدى كفاءة المادة البشرية الاستيطانية القتالية. ولذا، فإن فشل الدولة الصهيونية في تطبيع الشخصية اليهودية يؤدي إلى تَخثُّر المادة القتالية، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى تراجع مقدرتها القتالية وسوء أدائها العسكري، فيقل عائدها ومن ثم قيمتها وتفقد شرعيتها الصهيونية. ولكن تراجع مقدرتها القتالية هو نفسه تهديد لوجودها. كما أن فشل الدولة الصهيونية في تحقيق الاستيطان وخلق كثافة بشرية يهودية في الأراضي المحتلة هو أيضاً فشل على مستوى الشرعية الصهيونية باعتبار أنه فشل في تحقيق هدف أساسي من أهداف الصهيونية، ولكنه فشل على مستوى شرعية الوجود لأن ضم الأراضي دون إفراغها من سكانها الأصليين وملئها بمادة بشرية يهودية قتالية استيطانية يهدد وجود الدولة نفسه.
شـــــــرعية الوجــــود Legitimacy of Existence
«شرعية الوجود» مصطلح قمنا بسكه لنصف مشكلة الشرعية التي تواجهها الجيوب الاستيطانية الإحلالية في مواجهة السكان الأصليين، على عكس الشرعية السياسية العادية التي تواجهها هذه الجيوب تجاه السكان البيض أو المجتمع الدولي. والتجمع الصهيوني، باعتباره جيباً استيطانياً، يواجه مشكلة الشرعيتين أيضاً: فتُطرَح قضية الشرعية السياسية على مستوى العلاقة مع الراعي الإمبريالي (الولايات المتحدة) ويهود العالم والمستوطنين الصهاينة، وتطرح قضية شرعية الوجود في مواجهة الفلسطينيين والعرب. وقد أشار الكاتب الإسرائيلي عاموس إيلون إلى ما سماه «عُقدة الشرعية»، ونحن نتصور أنه يشير إلى شرعية الوجود، فالشرعية هنا هي شرعية الوجود في فلسطين والاستيلاء على أرضها وطرد سكانها. وقد حلت الصهيونية مشكلة شرعية الوجود من خلال الخطاب الصهيوني المراوغ على مستوى القول، ومن خلال أقصى درجات العنف على مستوى الفعل. ولذا، فقد طرحت الشعار المراوغ "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" وقامت بمساندته بترسانة عسكرية هائلة وجيوش مدربة وأجهزة إعلام عالمية. ولكن العربي الذي يُغيِّبه الشعار لم يقبل عملية التغييب هذه وظلت حركته تؤكد وجوده وتتحدى شرعية الوجود الصهيوني نفسها: فوجود العربي وحركته تأكيد لكون ما يُسمَّى «إسرائيل» هي في واقع الأمر «فلسطين»، وأن العمل العبري هو الإحلال العبري، وأن اقتحام الإنتاج هو طرد العرب منه، وأن استعادة السـيادة السياسـية اليهـودية سلبها من العرب، وأن شعار "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" يعني في واقع الأمر "أرض يُطرَد شعبها منها بلا رحمة استناداً إلى القوة الإمبريالية الغاشمة ليحل مجموعة من المستوطنين الغرباء محلهم".
وكان لابد أن تُطلَق السحابة الكثيفة من الأقوال عن الشرعية الصهيونية وعن الإنجاز الصهيوني والتقدم والكفاءة حتى لا يواجه المستوطنون مشكلة الشرعية الأعمق.
وقد عاد الفلسطيني على المستويات الممكنة كافة؛ السكانية والثقافية والنضالية، وهو ليس كائناً اقتصادياً لا ملامح له وإنما هو رجل يعمل ويقاتل، وطفل يمسك بحجر، وامرأة فلسطينية نفوض "تلد الجند والشهداء والأغاني" بشكل يثير حفيظة المستعمرين.
ويبدو أن الفلسطينيين، منذ بداية الغزوة الصهيونية، يدركون، ربما بشكل فطري (غير واع)، أنها غزوة سكانية استيطانية إحلالية، ولذا تصل معدلات الإنجاب بينهم إلى أعلى معدلات في العالم. ويبلغ عدد سكان فلسطين المحتلة عام 1948 (أي داخل ما يُسمَّى «الخط الأخضر») نحو 5.3 ملايين نسمة عام 1996 بنسبة 81.4% يهود و18.6% عرب. وحسب احصاء عام 1998 بلغ العدد 953.497، أى حوالى مليون. ويبلغ عدد الفلسطينيين فى غزة 1.40.498، أما فى الضفة الغربية فعددهم هو 1.556.554 (يبلغ عدد الفلسطينيين الكلى 7.788.186. يوجد معظمهم فى البلاد العربية، خاصة الأردن وسوريا ولبنان. وتوجد قلة منهم فى الأمريكتين وأوربا)، وإن كانت هذه الإحصاءات الإسرائيلية تشمل سكان القدس العربية وهضبة الجولان اللتين ضمتا إلى إسرائيل ويبلغ عدد سكانها حوالي 172 ألف نسمة تقريباً. وتشير بعض التقديرات العربية إلى أن عدد العرب يصل إلى مليون نسمة بدون سكان القدس والجولان.
ويُلاحَظ أن نسبة السكان العرب من مجموع السكان بقيت ثابتة تقريباً، وذلك رغم الهجرة اليهودية الكبيرة، ويعود ذلك إلى نسبة المواليد لدى اليهود، ففي عام 1993 كانت نسبة المواليد لدى العرب 34 لكل ألف، ولدى اليهود 18.5 لكل ألف. ويعود نمو السكان العرب (معدل النمو = التكاثر الطبيعي + ميزان الهجرة) إلى ارتفاع معدل التكاثر الطبيعي نتيجة ارتفاع معدل المواليد، بينما يتفاوت معدل نمو اليهود من فترة إلى أخرى، وذلك لأن معدل النمو يعتمد أساساً على ميزان الهجرة. فبفضل الهجرة التي تمت في الخمسينيات وصل معدل النمو إلى 9.2%، ولكنه تدنى في الثمانينيات إلى حوالي 1.5 فقط، ولكنه ارتفع بسبب هجرة اليهود السوفييت في الفترة من 1990 ـ 1993 إلى نحو 3.9% فقط، ويبدو أنه أخذ يعود إلى الانخفاض بسبب الانخفاض الكبير في حجم الهجرة إلى إسرائيل في الفترة الأخيرة.
أما معدل نمو السكان العرب فهو ثابت تقريباً ويتراوح بين 3.5% ـ 4.5% . وقد زاد اليهود بمعدل 2% في العقد الماضي بينما زاد العرب بمعدل 4%. وإذا استمرت معدلات الزيادة على ما هي عليه، وهو أمر متوقع، فسيكون عدد العرب عام 2000 نحو 22% من مجموع السكان (بالمقارنة بـ 18.6% في الوقت الحالي). وتضم الأراضي التي احتُلت بعد عام 1967 نحو مليوني عربي مقابل ما بين 120 ـ 150 ألف إسرائيلي على أحسن تقدير. فإذا حسبت الأراضي المحتلة، فإن نسبة العرب ستزيد إلى 36.4%، الأمر الذي يعني أنه، مع استمرار المعدل الحالي في الزيادة، سيكون عدد اليهود وعدد العرب متساوياً عام 2015. ولنحاول أن نرى ردود أفعال هذا التمدد العربي. فقد ورد في إعلان المؤتمر اليهودي الأمريكي (21 سبتمبر 1987) أن الطفل اليهودي الذي يولد اليوم في إسرائيل يمكنه أن يتوقع أن يدخل المدرسة العليا (الثانوية) في أرض يكون فيها السكان العرب مساوين تقريباً للسكان اليهود، وذلك قريباً جداً ـ أي أن خروج صهيون (وهو المصطلح الذي يُستخدَم للإشارة إلى نزوح المستوطنين عن فلسطين) يقابله دخول ابن البلد وتكاثره.
والمادة البشرية الفلسطينية ليست بدائية أو متخلفة كما كان الصهاينة يروجون وإنما هي متقدمة وقادرة على اكتساب المهارات اللازمة للاستمرار في العصر الحديث (وتحت ظروف القمع والقهر). كما أن عدد الطلبة الفلسطينيين من خريجي الجامعات يتزايد بشكل لا يدخل الطمأنينة أبداً على قلب الصهاينة (تُعَدُّ نسبة خريجي الجامعات من الفلسطينيين من أعلى النسب في الشرق الأوسط إن لم تكن أعلاها على الإطلاق)، وهو ما حدا بالأستاذ أرنون سافير أستاذ الجغرافيا الإسرائيلي على القول بأن السيادة على أرض إسرائيل لن تحسم بالبندقية أو القنبلة اليدوية، "فالسيادة ستُحسَم من خلال ساحتين: غرفة النوم والجامعات. وسوف يتفوق الفلسطينيون علينا في هاتين الساحتين خلال فترة غير طويلة". وليقارن القارئ هذا القول بالقول الصهيوني في بداياته حينما كانوا يتحدثون عن طرد العرب البدائيين الذين يشبهون الهنود الحمر. والصهاينة يعلمون أن ازدهار التعليم يعني مزيداً من المقاومة والسخط. كما أنهم يعرفون تماماً أن ضحية العدوان يتعلَّم من المعتدي وأن المستعمَر يتعلم من المستعمر كيف يستخدم السلاح والقوة. بل بدأ العرب مؤخراً في استخدام الوسائل الديموقراطية المتاحة داخل النظام السياسي الإسرائيلي مثل الاشتراك في العملية السياسية الإسرائيلية. وقد حذر رعنان كوهين، رئيس شعبة الانتخابات في حزب العمل، من أن القوة البرلمانية للعرب ستصل إلى عشرين مقعداً في الكنيست عام 2000، وأنه لن يكون بالإمكان إقامة حكومة دون أخذ هذه الحقيقة في الحسبان.
لكن هذا التمدد العربي لم يكن أفقياً وحسب، أي تمدد في المكان والأرض، وإنما كان تمدداً رأسياً أيضاً: في الزمان والتاريخ. وقد أخذ التمدد الرأسي شكل تماسُك وتضامُن غير عادي. ولابد هنا أن نشير إلى الدور الثوري المبدع حقاً لمنظمة التحرير الفلسطينية. فالفلسطينيون مُوزَّعون في كل مكان داخل حدود الدول العربية التي تتفاوت صداقتها وعداوتها للفلسطينيين بين يوم وآخر (حسب درجة حرارة النخب الحاكمة وما تمليه عليها مصالحها المباشرة الضيقة). إن هناك أعداداً كبيرة منهم في العالم العربي، ومع هذا نجحوا، على اختلاف انتماءاتهم السـياسية والدينيـة، في أن يظلوا داخل إطار الوحـدة والانتماء الفلسطيني، أي داخل إطار الهوية، فتحوَّل كل فعل فلسطيني عادي إلى فعل ثوري، ابتداءً من تلك العجوز التي تجلس داخل المخيمات تنسج المنسوجات الملونة التي تباع في أقاصي الأرض باسم فلسطين، مروراً بالمثقف الفلسطيني الذي يثري الفكر العربي والإنساني، وانتهاءً بذلك المقاتل الذي يحمل البندقية وينتصر ويُستشهد. ومن داخل هذه الهوية، ظهرت ثورة الحجارة؛ ظهرت الانتفاضة.
إن عودة الفلسطيني بكل هذه القوة لابد أنه يزيد أزمة الشرعية الحقيقية للمجتمع الصهيوني، أي أزمة الوجود، ولابد أن ذلك يفضح الأكذوبة الأساسية التي تزعم أنه لا يوجد عرب. وقد كان هذا الإدراك الصهيوني المتحيز إدراكاً يسانده العنف والقوة. وحيث إن المؤسسة العسكرية الصهيونية نجحت طوال هذه الأعوام في قمع العرب، فإن عملية التغييب استمرت حيث كانت المؤسسة العسكرية تُصدر التصريحات المختلفة عن عدم وجود ما يُسمَّى «الفلسطينيين»، أو أن الفلسطينيين لهم دولة بالفعل هي المملكة الأردنية الهاشمية. ومن المفارقات أنه، مع نجاح عملية التغييب، كان بوسع العدو إظهار شيء من المرونة والاعتدال نحو العرب. وعلى هذا، فإن الاعتدال الصهيوني ليس تعبيراً عن التسامح أو حب الآخر وإنما هو تعبير عن الاطمئنان الصهيوني بشأن غيابه، فهو اعتدال يتم داخل إطار الشرعية الصهيونية التي يقبل بها العربي المغيب ويخضع لها، فيُكافأ على ذلك مكافأة تتناسب طردياً مع مقدار غيبته ومدى قبوله لها. ولكن، إذا ظهر العربي الغائب وأكَّد نفسه، وطرح مشكلة الشرعية الحقيقية والأعمق، أي قضية الوجود الصهيوني نفسه، فإن الاعتدال الصهيوني المزعوم سوف يختفي وتظهر بدلاً منه سياسة القبضة الحديدية.
وهذا ما حدث مع الانتفاضة. إذ أن العربي الغائب ظهر وفي يده حجر يلقي به على الصهيوني وعلى أوهامه، فيشج رأسه ويزلزل الأسطورة، ويتنبه هذا الصهيوني فجأة إلى أن أرض فلسطين أرض لها شعب. وقد قال نسيم زفيلي (أحد رؤساء قسم الاستيطان بالوكالة اليهودية) إن هناك حالة فزع وهلع بين المستوطنين في الضفة الغربية (وهذه هي الحالة التي تنتاب الإنسان حينما يفقد الوهم فيصبح عارياً أمام الحقيقة). وقد رفض يسرائيل هاريل هذا الوصف، وأعطى تحليلاً أعمق وأشمل إذ قال: "إن اليقين القديم [أي الأسطورة التي تدور في إطار الشرعية الصهيونية] الذي شدَّ أزر جوش إيمونيم قد اهتز لأول مرة. فهناك قلق بشأن الاحتمالات السياسية. وهو قلق لا ينصرف إلى المستوطنات نفسها وحسب، وإنما ينصرف إلى [ما هو أعمق]: إرادة الأمة وجذورها وطبيعة رؤاها". ثم أضاف: "لقد دخلنا مرحلة جديدة في النضال من أجل إرتس يسرائيل، فالعرب لا يريدون الضفة الغربية وحسب بل عكا ويافا أيضاً. والحكومة تعطي العرب إشارات إلى أن مكاننا هنا في الضفة الغربية مؤقت". فكأن الانتفاضة قد همشت المستوطنين ثم غيبتهم وطرحت قضية الوجود الصهيوني نفسه. وقد عبَّر الفيلسوف الإسرائيلي ديفيد هارتمان عن القضية إذ قال: "إن ثورة الحجارة تقول للصهاينة: نحن لا نخاف منكم، وهي طريقة أخرى يقولون: أنتم لستم هنا".
لم تَعُد القضية، إذن، قضية هوية يهودية أو تطبيع شخصية يهودية أو صورة جيش الدفاع أو تمدُّد المستوطنين أو الحدود، وهي جميعاً قضايا تفترض الوجود الصهيوني وتنطلق منه، وإنما أصبحت القضية قضية الوجود نفسه مقابل الغياب. وقد عبَّر أوري أفنيري عن هذه الأفكار نفسها بشكل ينم عن الذكاء (دون أن يستخدم مصطلح الشرعية)، ففي مقال له بعنوان "الحرب السابعة" يُحذِّر أفنيري من الادعاء بأن ما يحدث هو مجرد اضطرابات أو مخالفات نظام وأن الثوار هم مجرد محرضين أو جمهور محرض غاضب، فمثل هذه الأقوال تزوِّر الصورة الحقيقية. فكل الأقوال السابقة تفترض أن الثورة تدور داخل إطار الدولة الصهيونية والشرعية الصهيونية، لكن ما يحدث قد تخطَّى هذا النطاق. إنه يدور في إطار مختلف: فهذه الأحداث ـ على حد قول أفنيري ـ حرب بكل معنى الكلمة، إنها مثل حرب فيتنام وحرب الجزائر. فالعدو هو الشعب الفلسطيني، إذ يقف الجمهور الفلسطيني في المناطق المحتلة وراء هؤلاء الأولاد الصغار. ويقف وراء هذا الجمهور سائر أبناء الشعب الفلسطيني. ولذا، فهو يُسمِّي هذه الحرب «الحرب السابعة». ولكن أفنيري، وهنا مربط الفرس، يجد أن حروب 56 ثم 67 ثم حرب الاستنزاف، ثم حرب لبنان، حروب خاضتها الجيوش العربية نتيجة الصراع العربي الإسرائيلي، على مستواه العام لا على مستواه الإسرائيلي الفلسطيني المباشر. أما الحرب الأولى، التي تُدعَى حرب الاستقلال (أي حرب الاستيلاء على فلسطين)، فقد كانت أساساً حرباً على هذا المستوى المباشر. وسواء أخذنا برؤيته للحروب العربية الإسرائىلية أم لم نأخذ، فإن النتيجة التي يخلُص لها بالغة الأهمية، فهو يقول: "إن الحرب السابعة هي نتيجة حالة من المواجهة المباشرة بين المستوطنين والفلسطينيين، وكأننا في حلقة مفرغة، عدنا من خلالها إلى بداية حرب الاستقلال"، أي أن ما يوضع موضع التساؤل الآن هو الوجود الصهيوني نفسه لا مدى النجاح أو الفشل الصهيوني، فالأسئلة تطرح من خارج نسق الأيديولوجيا الصهيونية لا من داخلها.
وإذا عدنا إلى قضية التشدد والاعتدال، فإننا نلاحظ أن عودة العربي قد أدَّت إلى التشدد الصهيوني، والتشدُّد دائماً علامة من علامات الأزمة، فالتصريحات تتوالى عن ضرورة الضرب بيد من حديد، وأفلام التلفزيون تُشهد العالم أجمع على أن تحطيم العظام ودفن الأحياء هي أحداث يومية في الدولة التي تدَّعي أنها «يهودية». وهذا التشدد مفهوم تماماً إذا كان ما يوضع موضع التساؤل هو وجود المرء نفسه لا شكل سياساته أو مضمونها.
ويمكن أن نتناول في إطار شرعية الوجود أثر المقاومة الفلسطينية في يهود العالم وعلاقتهم بإسرائيل. إن من أهم حلقات الوصل بين يهود العالم والدولة الصهيونية أن الدولة الصهيونية تشكل مركزاً ثقافياً حضارياً ليهود العالم وأنهم يستمدون هويتهم منها. فالدولة الصهيونية المنتصرة تحسِّن صورتهم أمام العالم بأسره، إذ أنها تضع نهاية للصورة النمطية الإدراكية الخاصة باليهودي كمراب جبان. ولكن، مع الانتفاضة، تدهورت الصورة الإعلامية للدولة الصهيونية وأصبح من مصلحة يهود العالم الاحتفاظ بمسافة بينهم وبينها، وهذا يعني تزايد محاولات التملص من الصهيونية وتصاعد إمكانيات رفضها.
بل إن العقـيدة اليهودية نفسـها لم تَسْلم من أثر المقاومة الفلسطينية. ففي الحوار بين المسيحيين واليهود، كان الجانب اليهودي يصر دائماً على أن يكون الاعتراف بالدولة اليهودية أساساً للحوار العقائدي (وكأن الدولة اليهودية جزء من العقيدة اليهودية)، كياناً مطلقاً مقدَّساً. وبعد الانتفاضة، طُلب من أحد الوفود اليهودية في إحدى مؤتمرات الحوار اليهودي المسيحي أن تتدخل لدى الدولة الصهيونية المقدَّسة لوقف كسر عظام الأطفال، فتراجعت الوفود عن موقفها السابق وأعلنت أن الدولة اليهودية لا علاقة لها بالعقيدة. وقد أدَّى ذلك إلى نَزْع القداسة عن الدولة. وهنا، يجب أن نؤكد أن شرعية الوجود مرتبطة تمام الارتباط بالشرعية الصهيونية، فعودة العربي تعني أن الطاقة العسكرية للكيان الصهيوني اللازمة (لاضطلاعه بوظيفته القتالية) سوف تُستنفَد في قمع الانتفاضة، وربما يعني هذا أن الراعي الإمبريالي قد يُعيد النظر في قيمته وأمره. وقد جاءت حرب الخليج لتدعم من هذه الرؤية، إذ أثبت التجمُّع الصهيوني أنه يشكل عبئاً ثقيلاً على الولايات المتحدة. ورغم أن اتفاقية أوسلو هي محاولة للالتفاف حول كل هذا وتحطيمه وتثبيت شرعية الوجود الصهيوني، فإن الجهاد الفلسطيني لا يزال مستمراً لحسم قضية لا تريد أن تموت، مادامت النساء تنجب الأطفال، وما دامت الأرض تزودهم بالحجارة، وما دامت أحلام النُبل والكرامة مكوِّناً أساسياً في إنسانيتنا المشتركة.
الســـــلام الشــــامل الـــــدائم Comprehensive Permanent Peace
«السلام الشامل الدائم» عكس «السلام الجزئي» الذي يمكن وصفه بأنه سلام غير دائم مبني على الظلم لا يحاول تحقيق العدل من خلال إعادة صياغة بنية العـلاقات، وإنما هـو مجرد ترجمـة لموازين القـوى القائمة في أرض المعركة. ولذا فإن أحد الطرفين يقبله إذعاناً وليس اقتناعاً ويظل يتحين الفرص لإعادة تعديل موازين القوى لصالحه (الأستاذ هيكل) كما حدث في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى ومعاهدة فرساي. والسلام الجزئي هو سلام مبني على الحرب ولذا فهو في واقع الأمر حالة من اللاحرب واللاسلم قد يختلف عن "وقف إطلاق النار" الذي عادةً ما يستند إلى اتفاقية مؤقتة تتيح للأطراف المتحاربة فرصة لالتقاط الأنفاس وإنجاز أمور إنسانية أساسية مثل قضاء عيد أو السماح بمرور معدات طبية أو مرور بعض الأطفال، ولكنها لا تختلف كثيراً عن "الهدنة" التي تستند إلى اتفاقية لا ترقى إلى مستوى حالة السلام، ولكنها فترة يرى فيها كلا الطرفين (أو أحدهما) أن بإمكانهما الإبقاء على حالة الحرب إلى أن تسنح لهما فرصة لتحقيق انتصار عسكري. أما السلام الشامل الدائم فهو سلام دائم لأنه شامل، يتوجه لجميع القضايا ويهدف إلى تغيير حقيقي في بنية العلاقات بين طرفين لإزالة أسباب التوتر بينهما فيسود العدل ويرى الطرفان أن لهما مصلحة فيه. والسلام الشامل الدائم في الشرق الأوسط لابد أن يتسم بنفس السمات، ولذا فلابد أن يتوجه لكل من المسألة الإسرائيلية والمسألة الفلسطينية ولابد أن يجد حلولاً لهما. نذهب إلى أن مثل هذه الحلول غير ممكنة داخل الإطار الصهيوني، الاستيطاني/الإحلالي، فهو إطار يُولِّد الصراع بطبيعته لأنه من ناحية، ينكر حقوق الفلسطينيين الذين طردوا من بلادهم، ومن ناحية أخرى يؤكد حق "يهود العالم" في الأرض الفلسطينية. والحل الوحيد الممكن يقع خارج هذا الإطار، حين يقوم أعضاء التجمُّع الاستيطاني الصهيوني بنزع الصبغة الصهيونية الاستيطانية/الإحلالية عن الدولة الصهيونية.
وحل المسألة الإسرائيلية يمكن أن يأخذ شكلين متناقضين، ففى حالة ممالك الفرنجة (الممالك الصليبية فى المصطلح الغربى) فى فلسطين وحولها، تم تصفية هذه الممالك بالقوة العسكرية ورحل أهلها إلى بلادهم (بعد أن مكثوا حوالى قرنين من الزمان). ولكن هناك أيضا الحل السلمى، ففى الجزائر، بعد ثورة الميلون شهيد، ظهرت حكومة قومية من سكان البلد الأصيلين وأعطت المستوطنين الفرنسين حق البقاء والمواطنة والإسهام فى بناء الوطن الجديد (ولكنهم آثروا العودة إلى بلدهم الأصلى، أى فرنسا). وهناك كذلك الحل الذى تطرحه جنوب أفريقيا، إذ تم تصفية الجيب الاستيطانى العنصرى دون تصفية جسدية للعناصر البيضاء ذات الأصول الغربية التى كانت تهيمن على النظام القديم وتحافظ على بنية الاستغلال العنصرية وتستفيد منها. ثم عُرض على أعضاء هذه الكتلة البشرية البيضاء أن يندمجوا فى النظام العادل الجديد، المبنى على المساواة بين الأجناس، وأن يتعاونوا معه حتى يمكن الاستفادة منهم ومن خبراتهم. وهذا ما فعله معظمهم. وليس هناك ما يمنع من تطبيق نموذج جنوب أفريقيا فى الانتقال السلمى من حالة الحرب والظلم إلى حاله السلم والعدل فى فلسطين المحتلة، فهو حل لا يستبعد أحدًا ويعطى كل ذى حق حقه. وقرارات هيئة الأمم المتحدة المختلفة ( الخاصة بحق الفلسطينين فى العودة إلى وطنهم ورفض ضـم الأراضى بالقوة) تصلح كإطار دولى قانونى أخـلاقى لحـل المشكلة، وهو إطار تقبل به الجماعة الدولية والمعايير الأخلاقية الإنسانية.
نزع الصبغة الصهيونية عن الدولة الصهيونية Dezionization of the Zionist State
ينطلق مفهوم «نزع الصبغة الصهيونية عن الدولة الصهيونية» من إدراك أن الصراع القائم في الشرق الأوسط الآن ليس نتاج "كُره عميق وأزلي" بين العرب واليهود أو بين اليهود والأغيار، وأنه ليس نتيجة العُقد التاريخية والنفسية (كما يدَّعي الصهاينة)، وإنما هو وضع بنيوي يُولِّد الصراع نشأ عن تطور تاريخي وسياسي وبشري محدد. وطالما ظل هذا الوضع قائماً يظل الصراع قائماً. وأنه لا سبيل لإنهاء الصراع إلا من خلال فك بنية الصراع ذاتها. وقد يقول البعـض إن هذه مقولات قد عفى عليها الزمن وأن هناك "إسرائيل جديدة" أو "إسرائيل أخرى" غير صهيونية وغير متلهفة على التوسع الصهيوني... إلخ. وردنا على هذا هو أن إسرائيل القديمة لم تكن دولة مثل أية دولة أخرى ولم تكن مجرد شعارات لفظية رنانة، وإنما هي دولة وظيفية استيطانية إحلالية، ثم تحولت إلى دولة استيطانية مبنية على التفرقة اللونية، زُرعت زرعاً في المنطقة العربية لتضطلع بوظيفة محددة (حماية المصالح الغربية) مقابل الدعم الغربي لها وضمان بقائها واستمرارها. فوظيفيتها هي ذاتها استيطانيتها وعنصريتها. وقد عبَّرت إسرائيل القديمة عن نفسها من خلال بنية متكاملة من القوانين العنصرية (قوانين العودة والجنسية) والمفاهيم العدوانية (نظرية الأمن - مفهوم السلام - مفهوم الحكم الذاتي) والمؤسسات الاقتصادية الاستبعادية (الكيبوتس - الصندوق القومي اليهودي) ومؤسسات القمع التي تتمتع بكفاءة عالية (المؤسسة العسكرية الإسرائيلية - الموساد - الشين بيت... إلخ).
ولا يمكن توقع أي سلام في إطار بنية القمع والظلم والعدوان هذه، أي في إطار الدولة الوظيفية الصهيونية الاستيطانية، بينما يمكن أن نتحرك نحو قدر معقول من السلام من خلال نزع الصبغة الصهيونية الاستيطانية عنها. ونزع الصبغة الصهيونية سيؤدي بلا شك إلى فك الجيب الاستيطاني الصهيوني، ومثل هذا الأمر ليس مخيفاً أو فريداً، فجميع الجيوب الاستيطانية الأخرى بلا استثناء قد تم فكها، وانتهت الظاهرة الاستيطانية البغيضة إما برحيل المستوطنين الغزاة الوافدين أو استيعابهم (هم وأبنائهم) في السكان من أصحاب الأرض الأصليين. ونزع الصبغة الصهيونية الذي نقترحه لا يعني إبادة الإسرائيليين أو القضاء على هويتهم الإسرائيلية أو اليهودية (كما يحلو للبعض أن يصور الأمر)، وإنما يعني خلق الإطار القانوني والسياسي، الإنساني والأخلاقي، الذي يزيل أسباب التوتر والصدام. ولعل ما حدث في جنوب أفريقيا (فك الجيب الاستيطاني بطريقة سلمية بعد أربعة قرون من الظلم والاستغلال والعنصرية والاستعمار الاستيطاني الشرس) يمكن أن يكون نموذجاً يُحتذى، ومؤشراً على ما يمكن أن يحدث في الجيب الاستيطاني الصهيوني. ولعل جوهر نزع الصبغة الصهيونية هو فصل المسألة الإسرائيلية عن المسألة اليهودية، بحيث يرى الإسرائيليون أنفسهم باعتبارهم جزءاً لا يتجزأ من المنطقة (وليس كما يقول أبا إيبان: في المنطقة ولكن ليسوا منها).
وعملية نزع الصبغة الصهيونية لا تتم بالضرورة دفعة واحدة وإنما يمكن أن تبدأ بإعلان النوايا واتخاذ خطوات قد تكون رمزية ولكنها ذات دلالة عميقة مثل أن تلغي الدولة الصهيونية قانون العودة و"دستور" الصندوق القومي اليهودي وتوقف بناء المستوطنات وتعلن عن استعدادها للتمسك بالقوانين والمواثيق الدولية وعن "نيتها" تنفيذ قرارات هيئة الأمم المتحدة الخاصة بإعادة الفلسطينيين إلى ديارهم والانسحاب من الضفة الغربية. كما يمكن تجاوز الهاجس الأمني وعقلية الحصار عن طريق الإعلان عن نبذ العنف كآلية لحسم الصراع. ويتبع ذلك خطوات أكثر عملية مثل إلغاء الصندوق القومي اليهودي نفسه وفك المستوطنات وتعريف الحدود الدولية للدولة الجديدة وتشكيل لجان للتحقيق في المذابح التي ارتكبت ضد الفلسطينيين لتعويضهم مادياً ومعنوياً. ثم يمكن بعد ذلك أن تبدأ الدولة الجديدة في السماح للفلسطينيين بالعودة إليها والسكنى فيها في إطار مقدرتها الاستيعابية، وهي ولا شك عالية، فإسرائيل الصهيونية الاستيطانية، قد نجحت في استيعاب أكثر من نصف مليون مهاجر يهودي سوفيتي في العشر سنين الأخيرة، رغم أنهم ليسوا من أبناء المنطقة، كما أن مؤهلات بعضهم كانت عالية لدرجة كبيرة لم يكن التجمُّع الصهيوني في حاجة إليها. على عكس الفلسطينيين فهم أبناء المنطقة يعرفونها أرضاً وجواً وبحراً، وأعداد كبيرة منهم تعمل بالفعل داخل الاقتصاد الإسرائيلي وعندهم من المؤهلات والكفاءات ما يسهل عملية استيعابهم. وستكون القدس عن حق هي العاصمة الموحدة والأبدية للدولة الجديدة، وهي دولة متعددة الأديان ولذا فهناك مجال للهوية الدينية اليهودية أن تعبِّر عن نفسها في إطارها. ويتوج كل هذا باندماج الدولة الجديدة في نظام إقليمي نابع من مصالح سكان المنطقة أنفسهم ومن منظوماتهم الحضارية والأخلاقية. وعلى الجانب الفلسطيني لابد من إعلان أن الإسرائيليين ممن وُلدوا ونشأوا في فلسطين بل ومن استوطنوا فيها ويودون أن تكون فلسطين وطناً لهم، لهم حق المواطنة الكاملة في هذه الدولة الجديدة التي تلتزم بالمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الشعوب والأفراد والتي تضم الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي. وبهذا يمكن أن يحل إجماع إنساني جديد (إجماع يفسح مجالاً لكل من الفلسطينيين والإسرائيليين) محل الإجماع الصهيوني البغيض، الاستبعادي العنصري.
وقد يقول قائل إن الإسرائيليين "انتصروا" في كل الحروب مع العرب، ومن ثم على العرب التحلي "بالواقعية" وقبول الشروط الصهيونية، بدلاً من تقديم اقتراحات مستحيلة هي من قبيل الحلم المثالي من شأنها هدم الدولة الصهيونية من أساسها! ساعتها سنقول لهم بالفعل إن اقتراحاتنا تهدف إلى هدم إسرائيل الاستيطانية العنصرية وإفساح المجال أمام الجميع. أما بخصوص هزيمة العرب، فالمقاومة والحمد لله لم تنته وباب الاجتهاد بخصوص الحوار المسلح والجهاد لا يزال مفتوحاً، ولا يوجد أي مبرر لقبول الأمر الواقع باعتباره مطلقاً ونهائياً. والحرب ضد العنصرية هي واجب إنساني لابد أن نشارك فيه كعرب وكمسلمين، ولا يمكن أن نكف عن مقاومة الظلم والظالم إلا بعد أن يكف عن استبعادنا واستعبادنا، والتعالي علينا، واستغلالنا واحتلال أرضنا وهدم منازلنا وضرب آبائنا وأبنائنا.
والحل الذي نطرحه قد يكون بالفعل جذرياً ومثالياً، ولكنه مع هذا قابل للتنفيذ وهو أفضل بكثير من الأمر الواقع والوضع القائم، نتاج حالة الحرب الدائمة أو الراقدة والهدنة المؤقتة، والذي يستند إلى موازين القوى الداروينية، وكل أنواع الأسلحة من السلاح النووي والأبيض إلى الحجارة والعصيان المدني. وهو وضع لم يأت لأحد بالسلام أو الطمأنينة. ولعل تعود الإنسان الحديث على منظر الدماء وإدمانه لصوت المتفجرات وتقبله للعنف والقوة كسبيل وحيد لحسم الصراعات هو السبب الكامن وراء الاستخفاف الذي تُقابل به الحلول الإنسانية الحذرية، ووراء الهرولة نحو محاولات السلام التي تهدف إلى ترجمة الوضع القائم المبني على الحرب إلى وضع سلام دائم، وهو أمر مسـتحيل فهو ضد طبيعة الأشياء، فمثل هذا السلام تقوضه بنية الظلم التي تولِّد التوتر والصراع الدائم.
حـــــق العــــودة الفلســطيني The Palestinian Right of Return
عودة الفلسطينيين جزء لا يتجزأ من عملية نزع الصبغة الصهيونية عن الدولة الصهيونية الاستيطانية. وهو حق أساسي من حقوق الإنسان. وفي الميثاق العالمي لتلك الحقوق مادة تنص على حق كل مواطن في العيش في بلاده أو تركها أو العودة إليها. وهو مرتبط بحق الملكية والانتفاع بها والعيش في الأرض المملوكة. وحق الملكية لا يزول بالاحتلال. وهو مرتبط أيضاً بحق تقرير المصير الذي اعترفت به الأمم المتحدة كمبدأ منذ عام 1946. لقد اعتبر السماح بعودة اللاجئين أحد الشروط التي وضعت لقبول إسرائيل عضواً بالأمم المتحدة عام 1948. وثمة إعلان صريح وشهير أصدرته الجمعية العامة تحت رقم 194 لسنة 1948، قررت فيه "أن اللاجئين الراغبين في العودة إلي أوطانهم، والعيش بسلام مع جيرانهم، يجب أن يُسمَح لهم بذلك، في أول فرصة عملية ممكنة، وأنه يجب تعويض الذين لا يرغبون في العودة عن ممتلكاتهم، ودفع تعويض عن الخسائر والأضرار التي أصابت الممتلكات لإصلاحها وإرجاعها من قبَل الحكومات والسلطات المسئولة، بناءً على القانون الدولي والعدالة. إن مقولة نسيان الماضي والتطلع إلى المستقبل تزدري العقل الإنساني وتهينه، لأننا لا نعرف إنساناً يمكن أن يَنْسى وطنه لمجرد أن هناك من يدعوه إلى شطبه من ذاكرته. ويبلغ ذلك الإزدراء ذروته إذا صدرت الدعوة من الطرف الإسرائيلي الذي يستمد كل شرعيته من الماضي، ويعتبر قادته أن التوراة كتاب لتسجيل المدن ورسم الخرائط على حد تعبير إسحق رابين.
أما حكاية أن الفلسطينيين لم يعودوا راغبين في العودة، فهي مسألة ينبغي ألا يفترضها أو يفرضها أحد على أحد، وإنما يقررها كل فلسـطيني بنفسـه. ثم إنها أكذوبة أخرى تعـمد إلى التزييف والتضليل، وساكنو المخيمات منذ الأربعينيات شاهد عملي على ذلك. وإذا علمنا أن الذين طردوا وشردوا عام 1948 كانوا آنذاك 805 ألف شخص، فإن عددهم الآن ونحن على مشارف العام الخمسين للنكبة قد تجاوز أربعة ملايين و600 ألف شخص. كل من امتلك منهم شيئاً في فلسطين لا يزال يحتفظ بأوراقه الثبوتية حتى هذه اللحظة، ومنهم من لا يزال يحتفظ بمفاتيح داره وخزائن ثيابه، ويعتبرها مقدَّسات محرَّزة في مكان أمين، بحسبانها حبلاً سُرياً يصلهم بالوطن المنهوب.
لقد أنشأ قرار الأمم المتحدة رقم 194 لسنة 1948 القاضي بعودة اللاجئين كياناً خاصاً لترتيب أمور العودة، عُرف باسم «هيئة التوفيق في فلسطين»، أُنيطت بذلك الكيان أيضاً عملية اقتراح تسوية نهائية للقضية. وبعد ذلك بقليل أنشأت الأمم المتحدة وكالة غوث اللاجئين (الأونروا)، التي لا نظير لها إلى الآن، للعناية بأمر اللاجئين الفلسطينين في مخيماتهم. ولا تزال هيئة التوفيق قائمة من الناحية القانونية، ومكاتبها موجودة في الأمم المتحدة، لكن كل أنشطتها مجمدة، حتى لم يَعُد أحد يأتي لها على ذكر. وكانت هيئة التوفيق هذه قد سعت منذ بداية الخمسينيات إلى أداء المهمة الموكولة إليها، فعرضت مرة، بناءً على طلب العرب، العودة الفورية لـ 200 ألف لاجئ على الأقل، إلى الأراضي التي احتلتها إسرائيل زيادة على مشروع التقسيم لعام 1947. لكن قادة الصهاينة رفضوا الفكرة. وفي وقت لاحق، وبضغط أمريكي، وافقت إسرائيل من حيث المبدأ على إرجاع 100 ألف لاجئ في إطار معاهدة سلام شاملة مع العرب، وحينما أبدى العرب استعداداً لذلك، ردت إسرائيل قائلة إن العدد انخفض إلى 65 ألفاً، وزعمت أن 35 ألفاً "تســللوا" إلى ديــارهم، ووضعت تحفظات عدة على العـدد البـاقي، وهـو ما أفــرغ الاقـتراح من مضمونه، وأجهض الفكرة.
لم يكن مستغرباً أن تسعى إسرائيل بكل وسيلة وحيلة للتهرب من التزامها بإعادة اللاجئين والاستجابة للقرارات الدولية في هذا الصدد، فالمشروع الصهيوني هو في الأساس مشروع طرد ونفي الشعب الفلسطيني. ولأن الحق مقدَّس، لا يمكن التنازل عنه أو تعويضه بأيِّ مقابل، فلا مجال للتساؤل عما إذا كان يتعيَّن عودة اللاجئين أم لا، حيث الأصل هو وجوب العودة، ولا يجوز بأيِّ معيار أن يُفـتَح باب مناقشـة السؤال «هل؟»، وأسخف منه وأقبح السؤال «لماذا؟» وإنما السؤال المشروع هو «كيف؟».
الدكتور سلمان أبو سنة الخبير الفلسطيني البارز عكف على دراسة الموضوع طيلة السنوات العشر الماضية، وخرج بنتيجة خلاصتها أن عودة جميع اللاجئين المنفيين إلى أوطانهم ليست حقاً قانونياً وشرعياً فقط لكنها ممكنة أيضاً.
وهو يشرح النتيجة التي انتهى إليها. فهو يشير إلى أن إسرائيل مُقسَّمة إلى 36 إقليماً طبيعياً، وطبقاً لإحصاء عام 1994 فإن عدد السكان اليهود في إسرائيل 4 ملايين و420 ألفاً، بينما عدد العرب الفلسطينيين مليون و39 ألفاً.
عند مراجعة بيانات توزيع السكان، من واقع الأرقام الرسمية الإسرائيلية، تبيَّن أن 80% من اليهود يعيشون في عشرة أقاليم فقط من بين الـ 36 إقليماً في البــلاد، أي أن هؤلاء يقيمون على 12% فقط من مساحة إسرائيل الراهنة، التي تعادل 458.2 كيلو متراً مربعاً.
والملاحظة المثيرة هنا أن هذه المساحة تزيد بمقدار 841 كيلو متراً مربعاً فقط عن مساحة الأراضي التي كان اليهود يمتلكونها أيام الانتداب البريطاني!
هذه المقارنة تكشف أمرين: الأول أن نمط معيشة أعضاء الجماعات اليهودية في الجيتو والالتصاق والتجمُّع لم يتغيَّر، رغم توافر مساحة كبيرة من الأراضي المحتلة. أما الأمر الثاني فهو أن أعضاء الجماعات اليهودية بعد أن أقاموا دولة ظلوا يعملون في المهن التقليدية التي يضطلع بها أعضاء الجماعات اليهودية مثل المال والتجارة والصناعة الدقيقة، وقلة منهم غيَّرت نمط حياتها وأقبلت على الزراعة في مجتمع ريفي.
على العكس من ذلك فإن الفلسطينيين يعيشون في 26 إقليماً من الـ 36، وتتفاوت نسبتهم من مكان إلى آخر، حتى تصل إلى 30% من سكان 17 إقليماً. وقد ساعد على انتشارهم طبيعتهم الزراعية بالدرجة الأولى، فضلاً عن أن الحكم العسكري الذي طُبِّق عليهم في الفترة بين عامي 48 و1967، منعهم من الانتقال إلى المناطق المكتظة بالمستوطنين الصهاينة.
ما دام 80% من المستوطنين الصهاينة يعيشون في 12% من مساحة إسرائيل، فأين يعيش الـ 20% الآخرون؟ ـ تشير البيانات الإحصائية إلى أن معظمهم يعيش في المدن، ولكنها مدن ريفية غير متلاصقة. فهناك 586 ألف مستوطن يقطنون حوالي عشر مدن ريفية. ويبقى 298.600 يهوديّ يعيشون في الريف. وهؤلاء هم الذين ينتفعون بالأرض الفلسطينية.
الأمر المثير الذي تدل عليه هذه الأرقام أن 298 ألفاً و600 مستوطن فقط يفلحون 17 مليوناً و445 ألف دونم من الأرض. وهذه المساحة هي وطن 4 ملايين و646 ألف لاجئ فلسطيني، وأرضهم وإرثهم التاريخي!
إن إسرائيل تعاني من انخفاض الكثافة السكانية اليهودية في الأقاليم الستة الجنوبية، وتكاد تلك الكثافة تكون معدومة في الجنوب.
وقد فشـلت المحـاولات الإسرائيلية المكـثفة لنـقل المهاجرين إلى تلك المناطق. وعندما أُجبروا لدى وصولهم على السكن في الشمال والجنوب، فإنهم نزحوا إلى الوسط بعد فترة التأقلم. واستبدلوا بهم مهاجرون جدد لا يعرفون البلاد، ولم يتمكنوا من تحديد أفضليتهم.
إن مناطق الكفاف السكاني في إسرائيل التي تتمدد بين الشمال والجنوب تستـوعب كل العـرب الموجــودين في إسـرائيل، إضافة إلى العشـرين في المائـة من اليهـود الذين يعيشون خــارج منطقة الوســط، كما أنها تســتوعب أيضاً كل اللاجئين العائدين إلى وطنهم.
وعدد هؤلاء جميعاً 6 ملايين ونصف مليون نسمة، نرشح لإقامتهم مساحة قدرها 18 ألفاً و350 كيلو متراً مربعاً، بكثافة 358 شخصاً لكل كيلو متر مربع، وهي كثافة معقولة جداً، أقل من الكثافة السكانية الكلية في 22 إقليماً من أصل 36.
ولن تُشكِّل عودة اللاجئين إلى ديارهم أي نزوح إسرائيلي كبير، رغم أن تصحيح آثار الجريمة التاريخية حق وواجب إنساني. والسبب أن الإسرائيليين فشلوا في أن يجعلوا الزراعة جزءاً مهماً من حياتهم على عكس الفلسطينيين. فالفلاحون اليهود لا يتجاوز عددهم 298 ألف نسمة فقط في مساحة تساوي 85% من مساحة إسرائيل. وهم في تناقُص مستمر، لأن الهجرة العكسية من الأطراف إلى الوسط مستمرة بإطراد، حتى أصبحت الزراعة تشكِّل 3.5% من الناتج القومي في إسرائيل عام 1994، بدلاً من 11% من هذا الناتج عام 1950.
النقد الأساسي الذي يمكن أن يُوجَّه إلى فكرة العودة من وجهة النظر الإسرائيلية، أن ذلك سيؤثر على هوية الدولة اليهودية، وسيخل "بنقاء" المجتمع اليهودي في إسرائيل، وهو نقد غير قانوني وغير أخلاقي، ويعني أن إسرائيل تتمسك بطابع الدولة العنصرية، وعند الاختيار الحقيقي ترفض أن تكون دولة ديموقراطية لكل سكانها.
والله اعلم.