علاقة الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة بالأمريكيين السود
Relationship between the Jewish Community in the U.S.A. and Afro-Americans
حينما استوطن اليهود في الولايات المتحدة وفي غيرها من بلاد العالم الجديد، فإنهم جاءوا باعتبارهم مستوطنين غربيين بيضاً هاجروا إليها في إطارالتشكيل الاستعماري الاستيطاني الغربي (الأنجلو ساكسوني على وجه التحديد)، وهو تشكيل غربي أبيض يحاول غزو العالم وإخضاع سكانه من غير البيض. ولكن كان هناك علاقة خاصة بين أعضاء الجماعة اليهودية والسود تتحدد في أن كثيراً من تجار الرقيق كانوا من اليهود الذين قاموا بالاشتراك في عملية نقل السود من أفريقيا وتوطينهم في الولايات المتحدة.
وقد نشأ في الجنوب الأمريكي نظام المزارع (بالإنجليزية: «بلانتيشنز plantations»). وهو نظام زراعي تجاري شبه إقطاعي شبه عبودي يهدف إلى إنتاج السلع الزراعية بهدف الربح من خلال استخدام العمالة السوداء المكثفة التي كانت تُستجلَب من أفريقيا. وكان أعضاء الجماعة اليهودية جزءاً لا يتجزأ من التشكيل الاستيطاني الأبيض في الجنـوب الأمريكي، وخصوصاً أن أسـاس التصنيف فيه كان اللون وحسب، على عكس الشمال حيث كان التصنيف فيه يتم على أساس كلٍّ من اللون والدين. وقد امتلك أعضاء الجماعة العبيد وتاجروا فيهم، شأنهم في هذا شأن مختلف أعضاء المجتمع. وحينما اندلعت الحرب الأهلية الأمريكية أو حرب تحرير العبيد، كانت مشاركة القيادات اليهودية في الدعاية ضد الرقيق باهتة خافتة للغاية. ففي الجنوب، أيدت المؤسسة اليهودية (الدينية والاجتماعية) موقف الجنوب المطالب بالاستمرار في الحفاظ على مؤسسة الرق. وفي الشمال، لم تظهر شخصيات يهودية كثيرة معارضة لنظام الرقيق، باستثناء حالات فردية، وهو ما أثار حنق الأوساط الليبرالية ضدهم. ويُلاحَظ أن أهم شخصية يهودية آنذاك، وهو الحاخام إسحق وايز، لزم الصمت تماماً تجاه هذه القضية. ويبدو أنه، بعد إلغاء نظام الرق بشكل رسمي، وُضع السود (بعد تحريرهم) في أماكن دنيا من المجتمع الأمريكي بحيث أصبحوا بروليتاريا رخيصة لا يحق لها التعبير عن ثقافتها أو وجودها الحضاري، ومن ثم لم يكن هناك صراع مباشر أو خاص بين أعضاء الجماعة اليهودية البيض والأمريكيين السود.
ورغم وجود أسباب قوية للصراع بين الفريقين (لأسباب سنوضحها فيما بعد)، فإنه حينما بدأت حركة الحقوق المدنية في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، للدفاع عن حقوق الأمريكيين السود، كان هناك وجود يهودي ملحوظ فيها على مستوى القيادات والكوادر. ولعل هذا يعود إلى أن الجماعة اليهودية، شأنها في هذا شأن معظم الأقليات المهاجرة التي تعيش في المدن، تدين بالولاء للحزب الديموقراطي وتنحو منحىً ليبرالياً. كما أن أبناء الجيل الثالث من الأسر اليهودية المهاجرة كانت ولا شك قد تمت أمركتها وعلمنتها، ومن ثم فإنها بدأت تشعر بأزمة المعنى وتحاول العثور على حلٍّ لها، ولكنها لم تجده داخل الإطار اليهودي الذي كان قد تَبنَّى القيم البورجوازية الأمريكية، فانخرط الشباب اليهودي في صفوف اليسار وحركات حقوق الإنسان. ولكن، مع أواخر الستينيات، بدأ التوتر يظهر بين أعضاء الجماعة وبين قيادات حركة السود الشابة، مثل اليهود السود والمسلمين السود والقوة السوداء، وأخذت الأمور في التدهور بحيث يمكن القول بأن العلاقة بين المؤسسة السوداء والمؤسسة اليهودية علاقة لا يمكن وصفها بأنها ودية.
وثمة أسباب عديدة بنيوية لهذا التوتر وهذا العداء:
1 ـ من المعروف أن كلاًّ من الأمريكيين السود وأعضاء الجماعة اليهودية يتركزون في المدن الكبرى (الساحلية) جنباً إلى جنب، وهو ما يعني قدراً كبيراً من الاحتكاك ومن ثم التوتر.
2 ـ وهناك نمط أساسي للحراك الاجتماعي في الولايات المتحدة وهو أن قطاعات كبيرة من الجماعات المهاجرة تقطن أحياء فقيرة في المدن السـاحليـة بعض الوقـت، إلى أن تثبت أقدامها وتحقق الحراك الاجتماعي، فتترك الجيتو وقاع المدينة المظلم وتنتقل إلى أحياء الطبقة الوسطى في الضواحي المنيرة. وهذا ما حدث للمهاجرين اليهود (سواء من أصل ألماني أم من أصل يديشي) وهو أيضاً ما حدث للإيطاليين وغيرهم. وقد أدَّى استقرار أعضاء الجماعة اليهودية في الضواحي إلى إضعاف علاقتهم ببقية أعضاء الأقليات وتقوية علاقتهم بالنخبة الحاكمة، وقد فَقَدت الجماعة اليهودية ليبراليتها التقليدية وتضامنها مع الأقليات المضطهدة. ولا شك في أن الحراك الذي حققه أعضاء الجماعة اليهودية ولَّد كثيراً من المرارة في نفـوس السـود لأنهـم حضروا قبـل المهاجرين اليهود. ومع هـذا، فبينما ساعدت المؤسسات الأمريكية البيضاء اليهود على الحراك، باعتبارهم بيضاً، فإنها بذلت أقصى جهدها للتمييز ضد السود حتى أصبح السود جماعة وظيفية بلا وظيفة، طبقة بلا دور ولا هوية، وذلك باعتبار أن الهوية الأمريكية البيضاء موصدة دونهم.
3 ـ ومما يجدر ذكره أن أعضاء الجماعة اليهودية ليسوا الهدف الأول للعنصرية الأمريكية حيث توجِّه هذه العنصرية طاقاتها وسمَّها نحو السود (وربما العرب المسلمين) وهي لا تتوجه نحو اليهود إلا في بعض الأوساط العنصرية الهامشية المتطرفة. ومع هذا، لاحَظ الزعماء الأمريكيون السود أن أعضاء الجماعة اليهودية عندهم حساسية بالغة تجاه أية ملاحظات قد تُشتم منها معاداة اليهود. إنَّ هذا الاتجاه عند بعض أعضاء الجماعات اليهودية نحو احتكار دور الضحية الأزلية، وإنكار هذا الدور على أعضاء الأقليات الأخرى، ساهم ولا شك في تصعيد التوتر. فالإعلام الأمريكي، الذي يتسم بوجود يهودي ملحوظ فيه، يركز على الإبادة النازية ليهود أوربا وكأنها عملية اضطهاد وإبادة تمت بالأمس أو منذ دقائق، دون أي اكتراث بما تم بعد ذلك من مذابح واستغلال وإهانة لأعضاء الأقليات الأخرى، ودون أي اهتمام بالأمريكيين السود الذين يعيشون داخل المجتمع الأمريكي، وعلى بُعد خطوات من استوديوهات التليفزيون التي تتجاهلهم.كما يشير الزعماء الأمريكيون السود إلى أن السينما الأمريكية التي لعب بعض أعضاء الجماعة اليهودية دوراً ملحوظاً في تأسيسها ثم الهيمنة عليها، ساهمت في ترويج الصور الإدراكية السلبية عن السود باعتبارهم كسالى ومحبين للهو.
4 ـ وحينما حقق أعضاء الجماعة اليهودية الحراك الاجتماعي، تركوا حياً مثل هارلم، فشغله الأمريكيون السود، حتى أصبح السكان من السود بينما ظل أصحاب العقارات وصغار الملاك وأصحاب محلات الرهونات في الأحياء السوداء من أعضاء الجماعة اليهودية، أي أن اليهودي أصبح الممثِّل الأساسي للمؤسسة البيضاء في أحياء السود، وهذا يؤدي بطبيعة الحال إلى درجة غير عادية من الاحتكاك يلعب فيها اليهود دور المستغل المباشر وهو ما يُولِّد الكثير من التوتر.
5 ـ ظهرت جماعات المسلمين السود والقوة السوداء ممن يرون أن أعضاء الجماعة اليهودية يشكلون قطاعاً مهماً في المؤسسة الحاكمة المستغلة. بل إنهم يذهبون إلى أن اليهود يشكلون جسماً استغلالياً غريباً أبيض يقوم بامتصاص دم الجيتو الأسود وتصدير فائض القيمة خارجه، ومن ثم يعوقون ظهور رأسمالية أمريكية سوداء. والواقع أن رؤية هذه الجماعات السوداء لليهود لا تختلف كثيراً عن رؤية العرب لإسرائيل.
6 ـ وجدت القيادات السوداء أن أعضاء الجماعة اليهودية يحاولون الحفاظ على مواقعهم المتقدمة التي شغلوها في المجتمع، وعبَّروا عن مخاوفهم من أن واقع تحسين أحوال السود سيكون على حسابهم. وقد تجلَّى ذلك في مدارس نيويورك حينما تقرر أن يُفتَح الباب لتجنيد أعداد أكبر من المدرسين السود، فنظم اتحاد المدرسين الذي كان يضم أغلبية يهودية ساحقة إضراباً للاحتجاج على هذه الخطوة. ويمكن القول بأن القطيعة أخذت شكلها النهائي عام 1966 حين صوت 55% من يهود نيويورك ضد تشكيل لجنة تحقيق بشأن نشاط رجال الشرطة وسلوكهم بينما أيدت ذلك أغلبية السود. واستمر هذا النمط وهيمن وازداد حدة، فنجد أن قيادة الجماعة اليهودية تعارض نظام النصاب في التعليم، أي تخصيص نسبة معيَّنة للأقليات التي أضيرت من التمييز ضدها في الماضي، كما ترفض نظام المعاملة الأفضل لأعضاء الأقليات في التعيين في الوظائف، وهو ما يُسمَّى «العمل الإيجابي» (بالإنجليزية: الأفيرماتيف آكشن affirmative action)، وذلك بحجة أن نظام النصاب والمعاملة الأفضل هو شكل من أشكال التمييز العنصري لصالح السود وضد اليهود.
7 ـ في أعقاب أحداث لوس أنجلوس، أشار بنيامين هوكس، مدير الجمعية الوطنية للارتقاء بالملونين، إلى التحول الذي طرأ على النظام الرأسمالي الذي انتقل في تصوُّره من التركيز على الصناعة والإنتاج إلى رأسمالية المضاربات بما تؤدي إليه من بطالة. وقال: مهما كان الرأسماليون قساة في الماضي، فإنهم كانوا على الأقل يشيدون السكك الحديدية ويصنعون البواخر ويقطعون الغابات ويصنعون شيئاً.. أما الآن فليس لدينا سوى حفنة من فناني النصب في وول ستريت ممن يتاجرون بالنقـود جيئة وذهاباً ويكسـبون بلايين الدولارات على حساب صغار النـاس.
وقد يبدو هذا الحديث وكأنه حديث عام عن تحوُّل الرأسمالية الأمريكية، من رأسمالية صناعية إلى رأسمالية مالية، وهو بالفعل كذلك، ولكن يجب فك شفرة هذا الخطاب من داخل النسق الأمريكي نفسه. فرأسمالية المضاربات هذه يتركز فيها أعضاء الجماعات اليهودية بشكل واضح. ولعل بنيامين هوكس قد أحجم عن ذكر ذلك مباشرةً حتى لا يُتَهم بمعاداة اليهود، السيف المصلت، ولكن كل من يقرأ هذه الكلمات ويدرك المعاني بين السطور يعرف تماماً معناها الحقيقي.
8 ـ تزامن ذلك مع تزايد الهيمنة الصهيونية التي تطرح كل شيء من منظور يهودي ضيق، والتي تؤكد اقتران مصالح اليهود بمصالح إسرائيل وبالتالي تُبعد أعضاء الجماعة اليهودية عن القضايا التي تمس الطوائف الأخرى، كما تبعدهم عن أية تحالفات ذات طابع ثوري قد تتعارض مع مصلحة إسرائيل. ومعظم التحالفات ذات التوجه الاجتماعي الثوري، أو شبه الثوري، عادةً ما تكون ضد سياسة الحرب الباردة وضد تصعيد التسلح، كما أنها تقف ضد محاولة فرض السلام الأمريكي على العالم لأن مثل هذه السياسة تعني توجيه معظم الاعتمادات للتسلح وللمعونات الأجنبية للحكومات «الصديقة» (أي التي تساعد على تنفيذ سياسة الولايات المتحدة الخارجية) وتقليص الاعتمادات اللازمة لتنفيذ برامج الرفاه الاجتماعي. ومن ثم، فإن هذه التحالفات تتبنَّى سياسات خارجية تتناقض موضوعياً مع مصلحة إسرائيل التي تستمد وجودها من الحرب الباردة، ومن كون الولايات المتحدة قوة إمبريالية عظمى تسعى إلى أن تلعب دوراً نشيطاً مهيمناً في كل أنحاء العالم.
9 ـ بدأت الأقلية السوداء في الولايات المتحدة ترى هويتها في سياق أفريقي ينحاز إلى العالم الثالث. ولذا، أصبح منظورها السياسي مختلفاً تماماً عن المنظور الصهيوني الذي يتبناه أعضاء الجماعة اليهودية، وخصوصاً أن الدولة الصهيونية من أكثر الدول تعاوناً مع جنوب أفريقيا. كما أن تَزايُد التعاطف في صفوف الأمريكيين السود مع الفلسطينيين، وخصوصاً بعد الانتفاضة، يزيد حدة التوتر. وقد تَفجَّر هذا التوتر حين صرح الزعيم الأفريقي مانديلا بأنه يساند حق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة.
10 ـ تزايد نفوذ الأقلية السوداء، حيث أصبحت تطالب بنصيب في السلطة يتناسب مع قوتها العددية، الأمر الذي يهدد مكانة أعضاء الجماعة اليهودية.
11 ـ كانت حركة الحقوق المدنية، من الناحية الأساسية، حركة سوداء يقودها اليهود مع بعض السود. ومع نضج أعضاء الجماعة السوداء في الولايات المتحدة، حاولت الحركة أن تتولى قيادة نفسها بنفسها وهو ما كان يعني تنحية اليهود عن قيادتهم، وخصوصاً بعد ظهور قيادات شابة جديدة (مثل جيسي جاكسون وفراخان) غير متعاطفة مع القيادات القديمة التي كانت تؤيد المؤسسة الليبرالية البيضاء وإسرائيل دون مناقشة (مثل بايارد راستين). وربما كان أندرو يونج نموذجاً جيِّداً لهذه القيادات الشابة، فقد أخذ بزمام المبادرة حين كان رئيساً للوفد الأمريكي في هيئة الأمم المتحدة، وقام بترتيب مقابلة مع مندوب منظمة التحرير الفلسطينية، ولكنه فقد منصبه في أعقاب ذلك بضغط من الجماعة اليهودية، الأمر الذي أثار حفيظة الجماعة السوداء.
12 ـ تزامن ذلك مع ظهور الجمعيات الأصولية المسيحية (الرجعية البيضاء) التي تجعل إسرائيل (الشعب والدولة) محور رؤيتها للخلاص، وترى قيام الدولة الصهيونية إحدى العلامات على اقترابه. وتفسر هذه الجمعيات الكتاب المقدَّس تفسيراً حرفياً ضيقاً، ومستخلصةً من ذلك برنامجاً سياسياً صهيونياً مؤيداً لإسرائيل وإن كان داخله كره عميق لليهود ورفض لهم. وإذا أضفنا إلى ذلك سياسة إسرائيل المؤيدة لأمريكا في عصر نيكسون وريجان، واشتراكها بنشاط في الحرب الباردة (باعتبار أن أي انفراج دولي قد يؤثر في أهميتها الإستراتيجية للغرب ويزيد أهمية العرب ويخلق رقعة مشتركة بين العرب والولايات المتحدة)، فيمكن فهم أسباب ابتعاد الجماعة اليهودية تدريجياً عن الأقليات الأخرى وعن القيم الليبرالية واكتساب سمات رجعية ومحافظة حتى فَقَد اليهود ليبراليتهم التقليدية. وأصبحت مجلة كومنتاري التي تصدرها اللجنة الأمريكية اليهودية (وهي مجلة ذات تراث ليبرالي) منبراً للمدافعين عن الحرب الباردة وسياسة التشدُّد مع الاتحاد السوفيتي. وليس من المتوقع أن يزول الصراع بين الجماعتين، فقد تخف حدته، وقد تُعقَد اجتماعات تنتهي بإصدار بيانات ودية، ولكن إزالة أسباب هذا الصراع مسألة غير ممكنة فهو يشكل جزءاً من بنية المجتمع الأمريكي. وقد وقعت عدة حوادث في المدن الأمريكية التي تضم أعداداً كبيرة من الأمريكيين اليهود والسود تبيَّن أن الاتجاه العام يميل إلى تَصاعُد التوتر بل الصدام.
تنظيمــــــات وجمعيـــــات الجماعــــــة اليهوديـــة
Organizations and Societies of the Jewish Community
كما هو الحال مع مختلف الأقليات والجماعات الإثنية والدينية، هناك تنظيمات وجمعيات في الولايات المتحدة أسستها الجماعة اليهودية لرعاية مصالحها ولتمثيلها لدى الجهاز الحاكم. ولا يزال الإطار التنظيمي ليهود الولايات المتحدة تهيمن عليه العنـاصر العلمانية الإثنية، ولا تلعب فيه المؤسسة الدينية سـوى دور ثانوي. كما أنه لا يزال يتسم بالفيدرالية القديمة، فهو مُقسَّم إلى جماعات وتنظيمات وفروع مختلفة تحتفظ كل واحدة منها باستقلالها على أن يتم التنسيق فيما بينها من خلال سلطة مركزية. وإن كان يُلاحَظ أن الجهود الصهيونية الرامية إلى تحويل الأمريكيين اليهود إلى مجموعة ضغـط قوية قد خلقـت إطاراً قوياً للتنسـيق بين التنظيمات والتجمعات كافة.
والمهام التنظيمية المعلنة للمؤسسات اليهودية هي الدفاع عن الحقوق المدنية والسياسية لأعضاء الجماعة اليهودية، والقيام بالأنشطة الخيرية المختلفة... إلخ، وهي ولا شك تقوم بهذه الوظائف والمهام. ولكن المنظمة الصهيونية نجحت في «غزو الجماعات اليهودية»، وهو مصطلح صهيوني ورد لأول مرة في المؤتمر الصهيوني الثاني (1898) والاستيلاء عليها. ولذا، سنجد أن معظم المؤسسات التنظيمية للجماعة اليهودية تُوظَّف لخدمة الصهيونية، فتتحول هذه المؤسسات إلى جماعات ضغط سياسي تخدم آليات الجباية الصهيونية والإسرائيلية، وتأخذ الأعمال الخيرية التي تقوم بها هذه المؤسسات شكل إرسال معونات لإسرائيل. ولذا، تداخلت المؤسسات التنظيمية للجماعة اليهودية مع الجمعيات والمنظمات الصهيونية حتى أصبح من الصعب الفصل بينهما.
ولا توجد منظمة أو جهة مركزية واحدة تقوم بتمثيل وإدارة شئون الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة، بل يوجد العديد من المنظمات والجمعيات التي تقوم بهذا الدور على المستويات المحلية وتندرج معظمها تحت مظلة منظمات أوسع، تلعب دور منسق ومنظم لأنشطتها على المستوى القومي والدولي أيضاً. ويعكس هذا الوضع التركيبة الفيدرالية للولايات المتحدة وتَوزُّع السكان اليهود على مدن كثيرة من الولايات المتحدة. وبالإضافة إلى ذلك، توجد بعض المنظمات التي تقوم بأنشطة محدَّدة على المستوى القومي.
وأهم المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة هي:
ـ المجلس الاستشاري القومي لعلاقات الجماعة اليهودية National Jewish Community Relations Advisory Council واختصارها NJCRAC.
تأسس عام 1944 كجهة استشارية ومنسِّقة لمجالس العلاقات Community Relations Councils وللـ 11 منظمة يهودية أمريكية على المستوى القومي والـ 108 مجالس على المستويات المحلية. وكانت هذه المجالس قد تشكَّلت في الثلاثينيات للدفاع عن حقوق أعضاء الجماعة وفض النزاعات بينهم ومحاربة التيارات المعادية لليهود ودعم التعليم اليهودي على المستويات المحلية. ويقوم المجلس بدور المنسق للاتجاهات داخل الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة تجاه القضايا السياسية المحلية والخارجية وتجاه إسرائيل وتجاه الجماعات الدينية والإثنية الأخرى. كما يعمل كجماعة ضغط داخل مراكز القوة في الولايات المتحدة، مثل الكونجرس الأمريكي والمحاكم الفدرالية، ويهتم بالقضايا الخاصـة بمعـاداة اليهـود والحقوق المدنية وفصـل الدين عن الدولة.
ـ مجلس الاتحادات اليهودية وصناديق خدمات الرفاه الاجتماعي Council of Jewish Federations and Welfare Funds واختصارها CJFWF.
تأسَّس عام 1932 لتنسيق نشاط 200 اتحاد يهودي يخدم 800 تجمُّع يهودي في الولايات المتحدة وكندا. وكانت هذه الاتحادات قد بدأت تتأسس منذ عام 1895 لتنظيم الأنشطة الخيرية والخدمة الاجتماعية للجماعة اليهودية على المستويات المحلية وجمع التبرعات لهذه الأغراض، وأصبحت قيادات هذه الاتحادات تمثل القيادة الفعلية للجماعة اليهودية على المستوى المحلي. ويقوم المجلس بدور تنظيمي وتنسيقي في مجالات الخدمة الاجتماعية وتدبير الموارد المالية. ويغطي نشاطه 95% من أعضاء الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة. ويعتبر مجلس الاتحادات مركز التنسيق الفعلي بين أعضاء الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة حيث توفر الجمعية العمومية للمجلس منبراً سنوياً ومركز تجمُّع للأفراد والجماعات المختلفة داخل الجماعة اليهودية للتشاور والتنسيق واتخاذ القرارات.
ـ مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية الكبرى Conference of Presidents of Major American Jewish Organizations واختصارها «Presidents' Conference»، أي «مؤتمر الرؤساء».
تأسس عام 1955، ويضم 34 منظمة يهودية، ويعمل على عرض وتقديم موقف الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة تجاه إسرائيل وتجاه القضايا الخـارجية الخـاصة بالجمـاعات اليهودية إلى الحكومة الأمريكية.
ـ المجلس اليهودي الوطني لخدمات الرفاه الاجتماعي National Jewish Welfare Board واختصارها JWB.
تأسس عام 1917، ويعمل على تنسيق أنشطة المراكز الاجتماعية اليهودية المنتشرة في أنحاء الولايات المتحدة. ومن مهامه خدمة احتياجات أعضاء الجماعة اليهودية العاملين في القوات المسلحة الأمريكية.
ـ اللجنة اليهودية الأمريكية American Jewish Committee،
وهي من أقدم المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة. قام اليهود المنحدرون من أصل ألماني بتأسيسها عام 1906، واهتمت منذ تأسيسها بالدفاع عن الحقوق المدنية والدينية للجماعات اليهودية في الولايات المتحدة والعالم. وتنشط اللجنة من خلال أقسامها المختلفة في نواح عديدة من شئون الجماعة اليهودية، وتهتم بصفة خاصة بقضايا التعددية والأسرة اليهودية والعلاقات بين الجماعات الدينية. وتعتبر اللجنة نفسها بوتقة لصهر أفكار الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة وتقوم برعاية سلسلة من الدراسات والمؤتمرات، كما أن لها إصدارات مهمة من ضمنها دوريتان مهمتان هما: كومنتري Commentary (أي التعليق)، و برزنت تنس Present Tense (أي الفعل المضارع أي الزمن الحاضر). وتُصدر اللجنة كتاباً سنوياً يُسمَّى الكتاب السنوي American Jewish Year Book ، كما تمتلك مكتبة للتاريخ الشفهي.
ـ المؤتمر اليهودي الأمريكي American Jewish Congress.
تأسَّس عام 1918 بهدف خلق إطار لعرض مصالح الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة في مؤتمر السلام عقب الحرب العالمية الأولى. وقد جاءت قيادة المؤتمر وأعضاؤه من بين صفوف المهاجرين اليهود من شرق أوربا الذين كانت تتعارض توجهاتهم الصهيونية والعمالية مع توجهات اللجنة اليهودية الأمريكية وقيادتها البورجوازية ذات الأصول الألمانية. وقد ظل المؤتمر ذا توجُّه صهيوني قوي، ومؤيداً لإسرائيل بشكل نشيط. كما يلعب دوراً نشيطاً في القضايا الخاصة بمعاداة اليهود والتفرقة العنصرية والحقوق المدنية وفصل الدين عن الدولة.
ـ منظمة أبناء العهد (بناي بريت B'nai B'rith).
منظمة للخدمة اليهودية الدولية تأسَّست عام 1943 في نيويورك ومقرها الأمريكي والدولي الآن في واشنطون. وهي أكبر المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة من ناحية حجم العضوية حيث تضم حوالي 400.000 عضو. وقد نُظِّمت على هيئة جمعية ماسونية تستهدف توحيد جهود الجماعة اليهودية والعمل على تحسين أحوالهم. وقد نمت المنظمة نمواً كبيراً حتى أصبح لها الآن فروع فيما يزيد على 30 دولة من بينها إسرائيل، حيث تنشط المنظمة في غوثهم من الكوارث وتنظيم النساء والشباب بقصد تعليمهم وتأهيلهم مهنياً وتقديم مختلف التسهيلات والخدمات لهم. وقد أسست هذه المنظمة عام 1913 عصبة مناهضة الافتراء Anti Defamation League بهدف محاربة معاداة اليهود وممارسة التمييز العنصري ضدهم وكذلك الدفاع عن الحقوق المدنية لأعضاء الجماعة اليهودية. وتُصدر المنظمة كتباً ومنشورات بهذا الهدف. وقد أصبحت هذه العصبة الأداة الأساسية لمنظمة أبناء العهد (بناي بريت) التي تعمل من خلالها على خنق مختلف الاتجاهات المعادية للصهيونية وإسرائيل عن طريق اتهامها بأنها معادية لليهود.
ـ وتتم عملية جمع التبرعات وتدبير الموارد المالية داخل الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة من خلال النداء اليهودي الموحَّد United Jewish Appeal واختصارها UJA. وهي منظمة تأسَّست عام 1929. وتذهب 80% من حصيلة التبرعات إلى إسرائيل من خلال النداء الإسرائيلي الموحَّد United Israel Appeal واختصارها UIA،
أما الحصيلة المتبقية (20%) فتخصص لمشاريع محلية وخارجية يتم توزيعها من خلال لجنة التوزيع المشتركة Joint Distribution Committee واختصارها JDC.
ـ وهناك عدد من المنظمات الصهيونية المنظمة تمثل تنظيماً فضفاضاً ضمن الاتحاد الصهيوني الأمريكي American Zionist Federation.
إلا أن قـوة الحركـات الصهيونية في الولايات المتحـدة قد تضاءلت منذ عام 1948. والآن، فإن كثيراً من النشاطات والمهام التي كانت تضطلع بها تقوم بها المنظمات اليهودية الأمريكية وعلى رأسها: مؤتمر الرؤساء، والمجلس الاستشاري القومي لعلاقات الجماعة اليهودية، واللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشئون العامة American Israeli Public Affairs Committee واختصارها AIPAC «ايباك»، وهذه المنظمات يهودية اسماً صهيونية فعلاً.
ـ حركات الشبيبة: وتنظم المعابد اليهودية والمنظمات الصهيونية حركات للشباب من أهمها:
مجلس الشباب اليهودي في أمريكا الشمالية North American Jewish Youth Council
مؤسسة الشباب الصهيوني الأمريكي American Zionist Youth Foundation.
شبكة الطلاب اليهود لأمريكا الشمالية The North American Jewish Students Network. وتُعتبر هذه المنظمة الجهة الممثلة للطلبة الأمريكيين اليهود لدى الاتحاد العالمي للطلبة اليهود World Union of Jewish Students.
المجلس القومي لشباب السيناجوج National Council of Synagogue Youth، تحت رعاية الحركة الإصلاحية.
أتيد Atid. تحت رعاية الحركة المحافظة.
منظمة أبناء العهد (بناي بريت) للشباب. وترعى منظمة أبناء العهد (بناي بريت) الطلبة اليهود من خلال مؤسسة هليل Hillel Foundation التي لها فروع في كل الجامعات الأمريكية يدرس فيها طلبة أمريكيون يهود. والجماعة اليهودية في الولايات المتحدة مُمثَّلة لدى المؤتمر اليهودي العالمي من خلال القسم الأمريكي للمؤتمر American Section الذي يمثل 32 منظمة يهودية.
ـ كما توجد منظمات خاصة بضحايا الإبادة النازية:
التجمع الأمريكي واتحاد الناجين من الهولوكوست The American Gathering and Federation of Jewish Holocaust Survivors.
تأسَّست عام 1983، وتعمل كمظلة لعدد من المنظمات المختصة بضحايا الهولوكوست.
الشبكة الدولية لأبناء اليهود الناجين من الهولوكوست The International Network of Children of Jewish Holocaust Survivors.
تأسَّست عام 1981، وتعمل على استمرار ذكرى الهولوكوست بين أبناء الجيل الثاني من اليهود في العالم، وعلى تشجيعهم للعمل بشكل نشيط على إبقاء هذه الذكرى حية والمشاركة في شئون وقضايا الجماعات اليهودية.
وقد شهدت هذه الفترة تطوراً جديداً تماماً على الساحة الأمريكية، فبعد أن أُحكمت الهيمنة الصهيونية على أعضاء الجماعة اليهودية، وبعد إحكام الحصار على الجيوب التقليدية المعادية للصهيونية (المجلس الأمريكي لليهودية وناطوري كارتا)، ظهرت جماعات يهودية صهيونية اسماً تطرح تصورات للعلاقة بين الأمريكيين اليهود وإسرائيل، وبين إسرائيل والفلسطينيين، تتناقض بشكل أساسي مع التصورات الصهيونية. وأولى هذه الجماعات هي بريرا التي قُضي عليها في أواخر السبعينيات، ثم ظهرت بعد ذلك الأجندة اليهودية الجديدة. ويُلاحَظ كذلك ظهور شخصيات أمريكية يهودية قومية تقف ضد الصهيونية من أهمها: آي. إف. ستون، ونعوم تشومسكي. وبعض هؤلاء يرفض الصهيونية من منظور إنساني يهودي.
ومن المفارقات التي يجدر تسجيلها أن معظم التبرعات التي يتم جمعها تذهب إلى إسرائيل، فمن نحو 500 مليون دولار سنوياً (في الثمانينيات) يذهب إلى إسرائيل نحو 300 مليون دولار، أي أكثر من 50%، وهو ما يترك مؤسسات الرعاية اليهودية في الولايات المتحدة دون اعتمادات كافية، الأمر الذي ازداد حدة في عصر ريجان بعد أن تقلصت ميزانيات الرفاه الاجتماعي. وعلى سبيل المثال، يوجد كثير من بيوت العجزة اليهود المهددة بالغلق لعدم وجود الميزانيات الكافية، كما أن مصاريف مدارس الأحد العبرية آخذة في الازدياد بحيث أصبحت باهظة التكاليف على أولياء الأمور، ولم يتمكن معهد البحوث اليديشية (ييفو) من الاستمرار في بحوثه إلا بدعم من الحكومة الأمريكية.
ويُلاحَظ كذلك أن كثيراً من مراكز الدراسات اليهودية في الجامعات آخذة في التقلص للسبب نفسه، وإن كان لا يمكن استبعاد أن معدلات الاندماج المتزايد من الأسباب الأساسية. وتتجلى هذه الظاهرة، أي تزايد معدلات الاندماج، في اختفاء التعليم اليديشي تماماً، وكذلك مختلف النشرات اليديشية، ما عدا جريدة يومية تعيش على المعونات. ولوحظ مؤخراً انصراف يهود أمريكا عن المساهمة في النداء اليهودي الموحَّد. فقد لوحظ أن 1% من كبار المتبرعين يدفعون 25% من جملة التبرعات وأن 10% من المتبرعين يدفعون 80% منها، أي أن صغار المساهمين من الجماهير اليهودية لم يعودوا تقريباً يتبرعون للدولة الصهيونية. والله أعلم.