ماهي شروط الآمر بالمعروف والناهي ( المُحتَسِب ) عن المنكر؟
1- الإسلام:
كما قلنا في مطلع الدرس الماضي أن الكافر ارتكب أعظم المنكرات جميعاً ألا وهو الكفر فلا يُقال لمن ارتكب الكفر أنكر! فماذا يُنكر إذا؟! كل ما يأتي بعد ذلك يعتبر الكفر بالنسبة له سماح، ولأن الحسبة من التكاليف الخاصة من الولايات ولا يتولى كافر على مسلم، كما قال تعالى: ﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ﴾.
2- التكليف:
لابد أن يكون مكلفًا، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: " رُفع القلم عن ثلاث، عن الصغير حتى يحتلم " إذًا لا تكليف والحسبة طبعًا نوع من أنواع التكليف وهذا الصبي لم يكلف ، إذًا ليس عليه وجوب الحسبة في درجاتها المعروفة.
3- الاستطاعة:
وهذه سنتكلم عنها إن شاء الله عندما نتكلم عن درجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الثلاث شروط متفق عليها بين أهل العلم.
يبقى شرطان:
4- الأول من المختلف فيه: العدالة.
5- الثاني من المختلف فيه: إذن الإمام.
ما هي العدالة؟
العدالة: هي الدين، أن يكون رجلا متدينًا، العدالة هي هيئة راسخة في النفس، تحمل صاحبها على ملازمة أمر الدين والورع مع البراءة من أسباب الفسق و خوارم المروءة، رجل متدين محترم.
قالوا:
لا ينكر إلا عدل لأنه هناك تصور أن يكون هناك رجلاً متلبسًا بمنكر وينكر على واحد يعمل منكر الأولى أن ينهى نفسه ، ولهم حجج في ذلك، حجة قوله تعالى: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ (البقرة: 44)، قال فذمهم، وقال الله -عز وجل-: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ ( الصف: 2،3)، فهذا نهي من الله- عز وجل- أن يفعل المرء شيئا وينكر على غيره أن يفعل نفس الشيء وهو يفعله.
والعلماء ردوا على هذه المسألة:
قالوا: هل قول الله عز وجل: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ ذمهم على ماذا؟ نحن عندنا شيئين، أتأمرون، وتنسون: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ﴾، ذمهم على ماذا؟ على الأمر أم النسيان؟ النسيان، والنسيان أي المخالفة، إذًا ما ذمهم على أنهم أمروا بالبر، إنما ذمهم على أنهم نسوا أنفسهم، وطبعًا الإنسان مأمورٌ في حدود نفسه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ومأمورٌ أن يأمر غيره بالمعروف وينهى عن المنكر فلا يُتصور إذا فرط في حق نفسه أن يفرط في حق الآخرين، أي إذا قصر في جهة لا يقصر في الاثنين، لا، لا يكون ارتكب مخالفتين.
مثال:
فرد يدخن، والذي عليه المحققون أن التدخين حرام، رأى واحد آخر يدخن، هل ينكر عليه أم لا؟ هو يقول لنفسه أنا أنكر عليه وأنا أدخن؟ فلا يُنكر، فهذا ماذا فعل؟ أولًا: ارتكب المعية بالتدخين، وارتكب المعصية بأنه لم ينه هذا المدخن إذن ارتكب بذلك معصيتين، في حين أنه لو قال له: اتق الله ولا تدخن، يكون ارتكب معصية واحدة، وهي معصية أنه فعل التدخين، إذًا هؤلاء ذُموا ليس لأنهم أمروا بالمعروف.
أي عندما تأتي لتنصحني لا تأتي على رؤوس الأشهاد هكذا وتقول لي:
ما هذا وهذا الذي تفعله علنًا أمام الناس ، طبعًا أنا سأغضب لأنك بذلك تقلل من قيمتي أمام الناس، وكما قلنا أمس كلمة سليمان بن طرخان التيمي، الإمام المبارك قال: ما أغضبت رجلا فقبل منك، لا تهيج قلبه حتى يقبل منك، قال:
تعمدني بنصحك في إنفراد
ولا تُلقي النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناسِ نوعٌ
من التوبيخ لا أرض إتباعه
فإن خالفتني وعصيت قولي
فلا تجزع إذا لم تُعطَ طاعة
وأكره من تجارته المعاصي
ولو كنا سواءًا في البضاعةأنا أرتكب معصية معينة، وهذا يرتكب نفس المعصية أنا أكرهه وإن كنت أنا أرتكب نفس المعصية، لأن هذه متعلقة بحياة القلب، مسألة إنكار المنكر هذه متعلقة بحياة القلب تعلقًا مباشرًا.
والرجل الذي لا ينكر أي منكر هذا مات قلبه:
كما قال ﷺ في حديث ابن سعيد: " فلينكر بقلبه قال: وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل "، طالما أن قلبه استمرأ المنكر بالرغم من أنه إذا أنكر بقلبه لا يناله أذى ، فكيف لم ينكر؟ ولذلك قلنا أن مسالة إنكار المنكر هذه تتعلق تعلقا مباشرًا بحياة القلب.
إذًا ذمهم رب العالمين -تبارك وتعالى- لأنهم نسوا أنفسهم، ولم يدخلوها في جملة الأمر لا أنهم أمروا بالبر لأن هذا لا يُنكر، وكذلك احتجوا بحديث أسامة بن زيد وهو في الصحيحين: " يُجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه من دبره فيدور حولها كما يدور الحمار في الرحى، فيقولون يا فلان: ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ يقول: بلى، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه "، والكلام عن هذا هو نفس الجواب عما ذكرناه في تفسير الآيتين، وكذلك أيضا سينتظم الجواب على الحديث الذي رواه الإمام أحمد.
حديث أنس رضي الله عنه: " أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى ليلة أُسري به رجال تُقرض شفاههم بالمقاريض فسأل عنهم ، فقالوا: هؤلاء خطباء أمتك الذين كانوا يأمرون بالبر وينسون أنفسهم ).
اشتراط العدالة في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر اشتراط فاسد:
ومن ثم لو كان من شرط الآمر الناهي أن يكون عدلًا، بمعنى لا يرتكب عصيانًا لانسد باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن كل واحد منا يشتمل على معصية، فلو كان من شرط الآمر الناهي أن لا يعصي ربه، لانغلق هذا الباب، وهذا إذا تبنيناه كان فيه من الفساد مالا يعلمه إلا الله، لأننا نقطع جميعًا فيما لا يدع مجالًا للشك أن كل الناس فيما عدا الأنبياء ليسوا بمعصومين، وأنه تصدر منهم الخطايا، وتصدر منهم الذنوب وطبعًا واضح في قوله -صلى الله عليه وسلم-: " لو لم تذنبوا لخسف الله بكم الأرض ثم جاء بأقوام يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم "، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:" كل بني آدم خطاء ".
إذًا الذنب يلازم الإنسان لا ينفك عنه مطلقًا، ولكن يجب عليه أن يتوب:
إذا فعل الذنب، إذن مسألة اشتراط العدالة بمعنى ألا يقع منه ذنب ، هذا اشتراط فاسد والصواب عدم اشتراط العدالة في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ، يبقى إذن الإمام
هل لابد أن يأذن الإمام أو الوالي لك حتى تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟
الذي عليه جماهير العلماء:
أنه لا يشترط، إذن الإمام، إلا في استخدام السلاح، وهذا شرط ما بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد، أحد الفُروقات ما بين الجهاد وما بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجوز لآحاد الرعية أن يستقبل السلاح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ".
إذًا هناك ثلاث درجات و (من) عند العلماء علماء الأصول من صيغ العموم لأنها تعم كل المخاطبين من هذه الأمة.
يشترط إذن الإمام في الجهاد ولا يُشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
نخرج نجاهد وتعقد الراية وهذا الكلام، نشترط إذن الإمام فيها، إنما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا، قصاراها أن تستخدم يدك إذا كنت ترى أن المصلحة في ذلك تكون صاحب سلطان.
ما مدي صحة هذه المقولة؟
هناك جماعة قالوا: من رأى منكم منكرا فليغيره باليد قال: هذه للحاكم، فإن لم يستطع فبلسانه، قال: هذه للعلماء، فإن لم يستطع فبقلبه: قال هذه للعوام، وهذا الكلام فاسد لا يصح ولا يجوز، إنما يستخدم يده إذا كان له ولاية، أيا كان هذا الإنسان.
مثال:
أنا مثلا لي ولاية على أولادي إذن أستخدم يدي، فعندما أضرب ابني أنا لي الحق في ذلك، إذن هذه لمن له ولاية، أو كان الضرب باليد يحقق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، دون حصول مفسدة راجحة تكون أكثر من المنكر الذي أنكرناه، كما سيأتي بالتفصيل إن شاء الله عندما سنتكلم عن درجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ما يدل من السنة علي عدم اشتراط إذن الإمام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
أدلة كثيرة جداً من السنة تدل على عدم اشتراط إذن الإمام للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، منها: الحديث الذي ذكرناه أمس، وهو: " أن رجلاً أعرابيًا دخل المسجد فبال في الناحية من المسجد، فهمَّ الصحابة به، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تذرموه ولكن أريقوا على بوله ذنوبا من الماء ".
الشاهد من الحديث:
فالصحابة عندما أحبوا أن ينكروا هل استأذنوا؟ بل هذا إنكارٌ في حضرة الإمام، ومع ذلك لم يقل لهم لا يجوز لكم أن تُنكروا والصحابة أنكروا بدون أن يرجعوا وينظروا للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما استقر في نفوسهم من نجاسة البول، هذه مسألة مستقرة عند الناس، كون الأعرابي مع ما للمسجد من مكانة وهذا الكلام، كونه لا يعلم: نعم جاهل يُعلم لكن الصحابة أنكروا عليه.
فيه دليل على جواز الإنكار قبل التعليم:
لأن فيه بعض المناقشة لبعض الناس يفهم من كلامي أمس عندما قلت: علمه الأول وبعد ذلك تنكر عليه، أخشى إن بعض الناس يتصور أن هذا لابد! لا، فيه شيء معين أنكره وبعد ذلك أعلمه، لكنه يحتمل أولا أعلمه ومن ثم أنهاه، خلاص إذا كان لا يحتمل.
مثال:
رجل ينشد الضالة في المسجد، النبي -صلى الله عليه وسلم- علمنا أننا إذا رأينا رجلًا ينشد الله في المسجد أن نقول له: لا وجدت، النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما رأى رجلًا ينشد الجمل الأحمر في المسجد، قال: لا وجدت، لم يقل له تعالى: أنت لماذا تفعل ذلك؟ لأن الموقف يقتضي ذلك، وهنا سندخل في فقه النفس ومعرفة الواجب في الواقع.
أيهُما يُقدم الإنكار على التعليم، أم التعليم على الإنكار؟
وهذه تريد علم أيضًا ، إذًا ليس بشرط عندما أقول الأمر بالمعروف والنهي مقدم عن المنكر أن تعلمه الأول على حسب الحاجة، إذا رأيت أن هذا أنجع في إيصال الخير وفي النهي عن المنكر افعل، إذا رأيت أن تقديم النهي الأول قبل التعليم افعل، بشرط أن تتحقق المصلحة في ذلك، بل إن الحديث الذي ورد في درجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه ما يدل على عدم اشتراط إذن الإمام.
ومما يدل علي عدم اشتراط إذن الإمام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
حديث أبي سعيد ألخدري، قال أبو سعيد ألخدري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة والخلفاء كانوا يبدءون يوم العيد بالصلاة ثم الخطبة، حتى كان أيام مروان بن الحكم فأبو سعيد ألخدري خرج للمصلى وإذا كثير بن السلط، قد بني منبرًا من طين لمروان بن الحكم، وأبو سعيد يسير مع مروان بن الحكم وأيديهم في يد بعض، فأبو سعيد يقول: ( جعلت أجره ليصلي، وجعل يجرني إلى المنبر ) طيب هذا طالع المنبر لماذا الآن؟ الأصل يصلي وبعد ذلك يخطب، فالمهم لازال يشد أبو سعيد ألخدري طالع المنبر وأبو سعيد يجذبه من ملابسه، فانتزع ملابسه منه، فأبو سعيد يذكره يقول له: كيف تفعل ذلك؟ وأنت تعلم أن الصلاة قبل الخطبة ،" قال يا أبا سعيد ذهب ما تعلم ، قال: والله لا تأتون بخير مما أعلم،" وفي رواية خارج الصحيح " قال: ورب المشارق والمغارب لا تأتون بأفضل مما أعلم ."
فقام رجل في رواية صالح بن شهاب قام رجل فأنكر وقال: "يا مروان الصلاة قبل الخطبة، فأبى "، لماذا؟ قال: الناس بعد الصلاة يمشون فنحن نريد أن نكلمهم كلمتين، فلكي أضمن أنه سوف يسمع رغمًا عنه، فيجب أن أخطب الأول، لأنه لن يذهب قبل أن يصلي، فقال: إذن نقلب هذه المسألة، فأبو سعيد ألخدري لما رأى هذا الرجل، وهو رجل آخر غير أبو سعيد في حديث طارق بن شهاب: الرجل الذي أنكر على مروان غير أبو سعيد ألخدري، يحتمل أن يكون أبو سعيد أنكر أولًاً بينه وبين مروان لأنهم كانوا يسيرون بجوار بعضهم البعض.
فيسأله: أين أنت ذاهب؟ فقال له: أنا قلبت، يقول له: صلي الأول وهكذا ومن ثم جذب ملابسه وصعد على المنبر، فكأنه لما صعد على المنبر، الرجل الذي كان جالسًا أنكر على مروان "، فقال له: الصلاة قبل الخطبة، قال: ذهب ما تعلم، قال أبو سعيد: أما هذا فأدى ما عليه ".
الشاهد من الكلام:
الذي أنكر هذا، وهذا أنكر على من؟ أنكر على الإمام، هل أخذ إذن الإمام، لا، لم يأخذ إذن الإمام، إذًا مسألة اشتراط إذن الإمام سيغلق هذا الباب، ليس ممكنًا وأنا أسير في الطريق الآن، ووجدت منكر أستطيع أن أزيله، بدون ما يترتب عليه منكر أكبر منه، أقول له: اثبت مكانك إلى أن أأتي، وأذهب لكي أستصدر الأمر أن أنكر عليه، ممكن هذا الأمر لا أعرف أن سيصدره إلا بعد ستة شهور أو في آخر اليوم يكون خلاص انتهى الموضوع.
هكذا، لو اشترطنا هذا الإذن، أغلقنا هذا الباب بالكلية، وهنا عندنا الحديث الذي هو نص في المسألة أنه أنكر على الوالي قال: أما هذا فأدى ما عليه، لكن ليس معنى ذلك أنه لا يسمع الكلام أقوم أقف له وأنتزعه وأقوم بعمل معركة لا، وكما قلنا هذه المسألة كلها مربوطة بمسألة المصالح ومربوط بمسألة المفاسد.
عندنا أيضًا الحديث في صحيح مسلم، حديث الحسن البصري:
أن عائد بن عمر -رضي الله عنه- دخل عليه عُبيد الله بن زياد، وعائد بن عمر من الصحابة الفضلاء الذي كان وكأنه يموت، قال: " لو كنت أعلم أن حياتي ستطول ما قلت لك " ولكن أنا أعلم أني سأموت ولن تستطيع أن تعمل معي شيئاً لأني سأكون مت خلاص – فعبيد بن زياد عندما دخل عليه ليعوده ، فيوصيه وينكر عليه، قال:" إني سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول شر الرِّعاء الحُطّمة فلا تكن منهم "، عُبيد بن زياد كان غشومًا فيقول له: ترفق بالرعية فإن شر الرعاء الحطمة.
الحُطَمة:
هو رجل راعي غنم وأنت تعلم الغنم كل غنمة لها رأس، رعايتها صعبة تلتفت كل واحدة حسب الجهة التي تريدها وتترك القطيع، ولذلك راعي الغنم لابد أن يكون صبورًا، فيصبر على حركة هذه وتلك، فيقول له: " شر الرِّعاء الحطمة "، أي أنه كلما تمل من أحد الرعية كما لو أمللتك الغنم فحملتها وألقيتها على الأرض فستعود آخر اليوم بدون غنم، فلا بد أن تكون رفيقًا، يريد أن يقول له: أرفق بالرعية ليس كل من يُخطيء تعاقبه، فنحن نعرف أن معك السلطان، ونحن نعرف أنك تستطيع أن توقع به العقوبة، فعلى أي شيء تستعجل بتعجيل العقوبة؟ لا تتعجل ولكن خذهم بحلمك، والناس يكسر أعناقٌهم الحلم والعقل والصفح.
لكن العقوبة تُقَّسِّي القلب وتورث الضغائن، فيريد أن يوصيه بهذه المسألة فيقول له:
"أثبت فإنك من نخالة أصحاب محمد"، فما الذي يجعلك تتكلم هو أنت لك قيمة؟ وأنت طبعًا تعلم النخالة تكون آخر شيء في الدقيق، ليس هو حر الدقيق، يريد أن يقول له أنت من الجماعة الذين ليس لهم قيمة، فقال له: "أوكان فيهم نخالة؟"، هذا الجيل كان فيه نخالة؟ هل تستطيع أن تقول: هذا ممتاز وهذا نصف ممتاز، "أكان فيهم نخالة ؟ إنما كانت النخالة فيمن بعدهم وفيمن في غيرهم"، لكن هم لا، مسألة النخالة لا، لم يكن فيهم أبدًا.
ودخل بن كثير -رحمه الله- وطبعًا عُبيد بن زياد كان أمير فينكر عليه، فلم يقل له بعد إذنك أنكر عليك إنما أنكر عليه ووعظه ونصحه، ونقل بن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ (الحج: 41)، قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- : أما إنها ليست في الوالي ، ولكنها للوالي والمولَّى عليه: ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾.
الخلاصة:
إذًا ليس للوالي فقط ولكن أيضًا لآحاد الرعية إذًا مسألة اشتراط إذن الإمام لا يكون إلا في الجهاد، ولا يكون حتى بالنسبة لآحاد الرعية إذا أراد أن يستخدم السلاح فيها، لكن لا يكون إلا بإذن الوالي وإلا فلا يجوز له ذلك، هذه هي صفات الآمر الناهي وشروط الآمر الناهي.
أركان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثلاثة:
1- الآمر الناهي أو المُحتَسِب: الذي تحدثنا عنه وأنهينا الكلام عنه على سبيل الإيجاز.
2- المُحتَسَبُ عليه: الذي ستنكر عليه، قال: يشترط أن يكون مكلفاً، لأن الصغير أو غير المكلف لا يُنكر عليه إلا من باب التعليم فقط.
مثال:
وجدت ولد صغير في السن، يلبس خاتم ذهب، والذهب هذا حرام على الرجال، وهذا ولد صغير، تنكر عليه أم لا؟
قال العلماء:
يُنكر عليه تأديبًا وتهذيبًا، لو يلبس حرير، لو بيعمل أي منكر من المناكير هكذا دخل في باب التعليم كذلك البهائم، ولهم بحث لطيف جدا في البهائم.
هل يُنكر علي البهائم؟
قال: لو أنت تربط البهيمة في الغيط، حرنت، ومن ثم خلعت الوتد ودخلت على زرع غير صاحبها ومظنة وجود البهائم في الزرع يفسده، هل يتعين عليك أن تأخذ هذه البهائم ثانية وأن تربطها وتلف ورائهم وتجري ورائهم؟ لأنها ستفسد زرع رجل مسلم آخر هل يتعين عليك ذلك أم لا؟
الجواب:
لا يتعين، لا يدخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن يدخل في باب الحرص على مصلحة المسلم، ومحبة الخير له، إذا كان عندك وقت تجري وراء هذه البهائم وتخرجها كان بها، ليس عندك وقت ومشغول، خلاص، وإذا كنت سوف تقوم بعمل هذه المسألة وتدخلك في مشاكل دينيه أو مشاكل دنيويه أو يحط من حشمتك أو ما شابه ذلك، إذن ليس عليك ذلك، إنما إن استطعت ماشي الحال، وإلا لو أحدنا سيمشي في هذا الطريق ممكن لا يعرف يذهب ولا يأتي لأنه طول النهار يعمل للناس، عمال يربط في هذه ويفك هذه، وكل ذلك لا يجب عليه وجوبًا ولكن هذه تدخل في مسألة التصرف.
يُراعى مُقتضي حال المحتسب عليه، فإنكارك على الغني بخلاف إنكارك على الفقير.
مثال:
رجل غني طول عمره متعود أنه صاحب ترف، ويصرف ويتوسع في المأكولات والمشروبات وهذا الكلام، طول ما هو لم يرتكب حرامًا، وداخل في باب الكراهة أنت تًقدِّر في هذه الحالة، المسألة، أنكر عليه أم لا؟
أنا ممكن أعادي واحد مثلًا يحب أن يدخل محل فخم، مع أنه يوجد محل في مكان آخر أقل منه فخامة, يقدم نفس المأكول، فالمحلات في الأماكن الراقية تبيع لك سمعة المحِل ونفس موقع المحِل، لا يبيع الطعام فقط، لا، لما تكون في مكان راقي مثلًا، أدخل لكي أأكل سمك، أكلة سمك في هذا المكان بـخمسمائة جنيه، فبماذا سيأتي لي؟ بسمك لم يحدث من قبل؟! نفس السمك هو هو سواء مشوي أو مقلي، فيه محل مثله ولكن في مكان شعبي ولكن أيضًا على نفس الجودة ، ولكن الـخمسمائة جنيه لأجل المكان الفلاني ويبيع لك سمعة المحِل ومكان المحِل وهذا الكلام.
فهو لا يحب أن يأكل إلا هنا، وأنا أريد أن أنهاه أقول له:
بدلًا من أن تصرف كل هذا المبلغ في أكلة سمك والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: " يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت "، هو الجسم ماذا سيأكل، أنت أكلت مثلا اثنين كيلو سمك الجسم يريد نصف كيلو فقط، والكيلو والنصف الباقية أين ستذهب؟ إلى حيث تعلم، فهكذا كأنك رميت ثلاثمائة جنيه على الأرض، لا هذا الرجل الغني لا يعرف أن يحسب هذه الحسبة هو عنده مُعطيات أخرى تعود طوال عمره عليها، خلاص، لا، إذًا نترقى مع هذا الإنسان، في الإنكار أو في التوجيه لأن نفسه لا تتحمل.
مثال على ذلك قصة قارون:
قارون هذا كان مفاتيح الخزائن يحملها الرجال وهم لا يستطيعوا أن يقفوا على أقدامهم من ثقلها، فأنا جلست أحسب في مجلة من المجلات أغنياء العالم، رقم ثمانية وعشرين من أغنياء العالم رأس ماله اثني عشر مليار دولار أي اثني عشر ألف مليون دولار، أول واحد عنده مائة وتسعة وأربعون مليار دولار، جلست أحسب من واحد إلى ثمانية وعشرين أنا قَدرت بما قرأته من ثروة قارون، أن هذا كان عبارة عن كيسة في خزائن قارون، أي أن أغنياء العالم جميعًا كل الأموال التي كانت عندهم ولا تساوي شيء، وهي عبارة عن كيسة ملقاة في المخزن الخاص بقارون فالجماعة عندما رأوا قارون الغني ويريدون أن يحدوه على أن يتق الله وأن يعمل هذا المال في طاعة الله ماذا قالوا له؟.
هذا من فقه النفس لو قالوا له: ارمي كل الذي وراءك والذي أمامك واتبعنا فإن هذا من الدنيا والدنيا دار فناء وما إلى ذلك ، لا يسمع كلامهم ولكن قالوا له: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾ لا يوجد مانعًا ، أنت رجل طول عمرك غني تمتع ولكن الأول أي شيء تنفقه أنفقه لله لكي لا يذهب هدر.
مثال:
لو جاءني الآن واحد سوف أتصدق عليه، أنا الصدقة خرجت خلاص طيب أنوى أن أعملها لله لكي تذهب في رصيدي بدل أن تذهب هدر على الأرض، والمسألة كلها عقد نية، ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾ (القصص: 77)، تمتع طالما أن المسألة مباحة تمتع، فيه واحد مثلًا يقول لك أنا لا أستطيع ، أنا أريد أن أقسم البيت، ورجل طول عمره في الترف وما إلى ذلك، يقول لك: هذا الأنتريه أو هذا الصالون بـمائة ألف جنيه، ويقول لك لا، أنا لا أعرف أن أجلس إلا عليه، لماذا؟ لأن الجماعة الذين يعزمهم في البيت عارفين قيمة العفش فيحدث له نوع من الرضا.
مثال آخر:
واحد يرتدي حذاء بـخمسمائة جنيه في هذه الحالات لا تفرق معه الـخمسمائة من العشرة جنيهات ولا يمكن أعرف أن هذا بـخمسمائة، ولكن عند الجماعة الذين يجلس معهم كلهم يعرف سعر هذا الحذاء، فهو يريد أن يظهر بنفسه، وغني ولا يستطيع إلا كذلك، أنا لا أنكر عليه، طالما أنه أتى بالمال الحلال ومباح وصرف هذا الكلام ، خلاص ماشي لأني لا أعرف أن أفهمه بدلا من أن يصرف الـخمسمائة جنيه في الحذاء، هات حذاء بـخمسين جنيه وتصدق بالآخر، لكي تلبس أناس ليس عندهم أحذية ، يمشون بلا أحذية.
الشاهد أن هذا الرجل لا يتحمل هذا، ارتق به شيئًا فشيئًا.
فهذه هي وصية قوم قارون لقارون:
﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا وأحسن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾، يرققون قلبه مثلما أحسن الله إليك أنت أيضًا أحسن إلى الناس بما أعطاك الله من المال، فالحقيقة وصية هؤلاء القوم لقارون نريد أن نخصص لها محاضرة مستقلة، لكي نعلم الآمر الناهي فقه النفس وكيف يترقى بالناس.
الفرق بين تزهيد العالم للناس في الدنيا وبين تزهيد الزاهد للناس في الدنيا:
بن القيم -رحمه الله-: وهو يتكلم عن الفرق زهد العالم، وبين تزهيد العالم للناس في الدنيا وبين تزهيد الزاهد للناس في الدنيا، يقول: (عندما يتواجد واحد زاهد في الدنيا يقول للناس: طلقوا الدنيا، الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، والناس إنما فُطموا على الدنيا وإلى الآن مازالوا يرتضعون منها بحب الدنيا، فعندما يقول له: أترك أمك وتعالي لا يعرف أن يتركها، إنما العالم إذا أردا أن يزهد الناس في الدنيا يحببهم في الله فيسهل عليهم ترك الدنيا ).
إذًا تفرق عندما تقول لواحد: أترك ما معك وتعالي، غير لما واحد تحببه في الله وفي الدار الآخرة يقوم يستعلي بها فتهون عليه الدنيا، هذا هو الفرق.
ما الذي جعل الفارق بين هذا وهذا بهذا الحجم؟
العلم، فالذي يزهد عالم، والذي يزهد في المرة الأولى رجل زاهد فقط ، لذلك ينظر فيمن تُنكر عليهم، إذا كان بعيداً عن المحرمات والمسألة فيها إباحة إذن لا مانع أن تراعي حاله غني، فقير، رجل أمير أو رجل عادي، الأمراء والولاة لا يحتملون أن تصدعهم بالأمر والنهي، تدخل عليه مرة واحدة وتقول له اتق الله وهذا الكلام! لا سيما وأنت تعرف أن هذا الأمير ليس كمثل عمر بن الخطاب ولا مثل عمر بن عبد العزيز مثل أن تقول له: اتق الله يبكي، لا الدنيا اختلفت فالمعروف عندما أنهى هذا أأمره بماذا، غير لما أنهى هذا أو آمره.
لابد من مراعاة حال المُحتَسب عليه هل سأنكر عليه وكيف أنكر عليه؟
قد يكون هذا الإنسان يرتكب شيئًا محرمًا، لكن لو أنكرت عليه يصيبني من الأذى أضعاف أضعاف ما أردته من المصلحة، في هذه الحالة أنزل لا استطيع استعمال يدي طبعًا معه، ولو استخدمت لساني سأؤذى أشد الأذى، إذًا بقي قلبي إذن أنا لي الحرية أن أنزل من درجة إلى درجة على حسب المصلحة غدًا إن شاء الله سنتكلم عن الركن الثالث من هذه الأركان مع الكلام عن درجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.