الْمَجْلِس الثاني مِن سِلْسِلَة الحِسْبَة
آدَابِهَا وَضَوَابِطُهَا
الدين كله مبنيٌ علي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
فمن المسائل المهمة مسألة الأمر بالمعروفِ والنهي عن المنكر، وأنها واسطة العقد كما يقول بعض العلماء ، لأن الدين كله مبنيٌ على هذه المسألة العظيمة ، وكما صحَّ من قول بن عباس -رضي الله عنهما- قال: " كان بين أدمَ ونوحٍ عشرةُ قرون كلُها على التوحيد ، وإنما بدأ الشركُ في قوم نوح -عليه السلام- فلما جاء نوحٍ -عليه السلام- لينكر على قومه عبادة الأوثان بدأت الملاحاة بينه وبين قومه".
لذلك كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أساس دعوة الأنبياء جميعًا:
إذ لا يتم توحيد الله -عز وجل- إلا بعد إنكار الآلهة التي استحدثها الناسُ في الأرض ، لأجل هذا قال الله -عز وجل-: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثقي﴾ (البقرة: 256)، فلابد أن يكفر بالطاغوت أولًا ليتم له الإيمانُ بالله -تبارك وتعالي- ولهذا علمنا النُكتةَ في تقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على عبادة الله -عز وجل-: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ (البقرة:110).
الكافر غير منوط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
لذلك مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يستتبعها من وسائل الولاء والبراء ,كانت في غاية الأهمية ونعلم أن الدعوةَ الآن القائمة على الأمر بالمعروف وإنكار النهي عن المنكر القصد منها هو إزالة حكم الله -عز وجل- في الأرض ، لأجل هذا العلماء لما تكلموا عن شروط الآمر جعلوا أول شروطَ الآمر هو الإسلام ،لأن الكافر لا يُناط به هذا الأمر العظيم إذ هو كافر ، وإنما كانت هذه المسألة الكبيرة لتحقيق توحيد الله -عز جل- ، فكيف يُطلب من الكافر أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهو أساسًا مُتلبسٌ بأعظم المناكيرِ جميعًا ألا وهو الكفر بالله -عز وجل-.
بعض الحيوانات أكثر غيرة من الدياييث من الكافرين:
بل إن من الحيوانات ما هو مقدمٌ على هذا الكافر فإننا نعرفُ الدِياثة في الكافرين، وأنهم لا يغارون على أعراضِهم وهذا أمر متوافرٌ لا نحتاج إلى إقامة الأدلة عليه، فحينئذٍ فخبر عمر بن ميمون الذي أخرجه البخاري في صحيحه قاضٍ بأن بعض الحيوانات أكثر غيرةً من هؤلاء الدياييث من الكافرين وأنتم لعلكم تذكرون خبر عمر بن ميمون الذي أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار من صحيحه، وأخرجه بلفظٍ أوسع أبو بكر الإسماعيلي- رحمه الله- في كتاب المستخرجِ على صحيح البخاري.
خلاصة قصة عمر بن ميمون:
أن عمر بن ميمون كان يرعى غنماً له في جبل من الجبال وإذا به يرى هذا المنظر يرى قردة شابة يتوسدها قردٌ عجوز فأتى قرد شاب فغمز لها فاستلت نفسها من يد هذا القرد العجوز استلالًا رفيقًا وذهب حيث وقع عليها، ثم رجعت فجعلت تضع رأسها برفق وخفة على يد هذا القرد العجوز فانتبه فزِعًا وشمها ثم جعل يصرخ ويصيح فاجتمعت القِرَدَة وهو يشير إلى هذه القِردَةَ بيده فاجتمعوا عليها وأتوا بهذا القرد، يقول عمر بن ميمون وأنا أعرفه هذا القرد الذي ارتكب هذه الفاحشة، فأتوا به يسوقونه حتى حفروا له حفرةً فرجموهما جميعًا.
إنكار الإمام بن عبد البر هذه القصة من واقع أن مسألة الحدود لا تُقام على غير المكلفين:
ولكن لا نزعم أن هذا كان إقامة حد، وإنما هذا كان فيه شبهًا بإقامة الحد في الآدميين لا أنه حدٌ على الحقيقة لأننا نُسلِّم جميعًا لا تكليف على الحيوانات، فهذا قرد والقرد يكون عند بن آدم مسارًا للسخرية ومع ذلك فهو من أكثر الحيوانات فِطنةً وذكاءً وهو يُحاكي الإنسان في كثير من الأفعال.
فهذا النوع من الحيوانات عنده من الغيرة ما ليس عند هؤلاء الدياييث، فلا يُتصور أساسًا من كافرٍ أن يقوم بهذه المسألة العظيمة لأنه فاقد لأهم شرط منها ألا وهو شرط الإسلام، ولأن هذه المسألة عظيمة جسيمة كبيرة ويتعلق بها كثيرٌ من الأحكام فإننا سننظر في هذه المرة في أركان هذه المسألة العظيمة، فإن لها أركانًا وشروطًا ودرجات.
أما أركانها فثلاثة:
أركان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
الركن الأول:
المُنكِرُ، أو المُحتَسِب، أو الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر.
الركن الثاني:
المُنكَرُ عليه، أو المُحتَسَبُ علي.
الركن الثالث:
القضية نفسها، الدعوة.
الركن الأول وهو أهم هذه الأركان والذي سنقف عنده وقفة أطول من الركنيين الآخرين لأهميته البالغة، ألا وهو المُنكِرُ أو المحتسب ونظرًا لأن المُنكِر أو المحتسب هو الفاعل في القضية كلِها، فإن إهمال النظر في صفاته وشروطه أدى إلى حدوث شرٍ كثيرٍ في بلاد المسلمين بسبب جهله أحيانًا، بسبب غيرته وقلة صبره أحيانًا أخرى، ولذلك سنقف عند هذا الركن بعض الوقت.
صفات الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر:
أولها: الإخلاص.
ثانيها: العلم.
ثالثها: الرفق والحلم.
رابعها: الصبر.
الصفات التي اشترطها سفيان الثوري في الآمر:
ولذلك يقول سفيان الثوري -رحمه الله- فيما رواه أبو بكر الخلاَّن في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال: (لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه ثلاثُ خِلال، أن يكون رفيقًا فيما يأمر، رفيقًا فيما ينهى وأن يكون عدلًا فيما يأمر، عدلًا فيما ينهى، وأن يكون عليمًا بما يأمر عليمًا بما ينهى".
فتكون الصفات الثلاثة التي ذكرها سفيان الثوري واشترطها في الآمر: (الرفق والعدل والعلم)، فالعلمُ قبل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والرفقُ أثناء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبرُ بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتكون صفة قبل الموضوع نفسه، وصفة معه وصفة بعده، يتقدم هذه الصفات الثلاثة الإخلاص، إذ أن الإخلاصَ إما أن يكون ركنًا أو شرطًا على حسب ما يتكلم به أهل العلم في هذه المسألة.
المراد بالركن:
الركن جزء من الشيء، يسقط الشيء بعدمه.
مثال ذلك: تكبيرة الإحرام جزء من الصلاة، الركوع والسجود جزء من الصلاة، فلو أنه لم يكبرّ تكبيرة الإحرام بطلت صلاته، لو أنه ترك ركوعًا أو ترك سجدةً وبطلت الركعة.
إذًا الركن:
هو جزء من ماهية الشيء، يسقط هذا الشيء بعدمه، أي بعدم وجود هذا الركن.
الشرط:
هو جزء خارج عن ماهية الشيء ويسقط الشيء بعدمه أيضًا.
مثال ذلك: عندنا مثلًا في النكاح، هو عبارة عن إيجاب وقبول وشاهدان، الإيجاب والقبول ركنٌ إذ هو جزءٌ من النكاح، والشاهد شرط لأنه خارج عن النكاح، لأن النكاح عبارة عن إيجاب وقبول، زوجني ابنتك فلانة الفلانية، أو موكلتك فلانة الفلانية على كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى الصداق المسمى بيننا، قال: قبلت تم الزواج.
فالإيجاب والقبول ركن النكاح، ووجود الشاهدين شرط، لأن الشاهدين خارجان عن معنى الإيجاب والقبول، الإيجاب والقبول يكون بين ولي الزوجة وبين المتزوج عملية النكاح كلها إنما هي متوقفةٌ على مسألة الإيجاب والقبول، أما الشاهدان فهما خارجان عن مسألة الإيجاب والقبول، لكن لا يتم النكاح إلا بوجود الشاهدين، فيكون الشاهدان شرط في صحة النكاح.
مثال آخر: الوضوء بالنسبة للصلاة، هل الوضوء جزء من الصلاة، ليس جزءًا من الصلاة ولكن لا صلاة إلا بوضوء، فالركن والشرط يتفقان في شيء ويختلفان في آخر يتفقان في سقوط العمل وحُبوطه وعدم صحته إلا بهما، عملٌ بلا ركنٍ باطل وعملٌ بلا شرطٍ باطل.
ويختلفان في شيء وهو: أن الركن جزء من الشيء، والشرط جزء خارج عن الشيء.
ما يدل علي أهمية الإخلاص من الكتاب والسنة وأقوال السف:
فالإخلاص حينئذٍ يكون جزءًا من الشيء أم هو خارج عنه؟ فمَن اعتقد أو مَن اعتبر أن الإخلاص جزءٌ من العمل لا يتجزأ منه، فهذا عنده ركن، ومَن قال أنه خارج عن العمل فهذا يكون عنده شرط، فسواء كان العمل ركنًا أو كان شرطًا فالعمل ساقطٌ بدون الإخلاص.
من الكتاب:
قال الله -عز وجل-: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ (البينة: 5) وقال الله -عز وجل-: ﴿قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي﴾ (الزمر: 14) وقال الله -عز وجل-: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ (الكهف: 7).
من أقوال السف:
قال الفُضيل بن عِياض: أخلصه وأصوبه، قالوا ماذا تعني يا أبا علي؟ وهو يفسر قوله: ﴿لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾، قال: (إن العمل إذا كان صوابًا ولم يكن العبد فيه مخلصًا لم يُقبل، وإذا كان مخلصًا فيه ولم يكن صوابًا لم يُقبل، فلا يُقبل إلا إذا كان خالصًا وصوابًا).
خالصًا: أي لوجه الله -عز وجل-.
وصوابًا: أي متابعًا فيه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
من السُّنَّة:
حديث أبي هريرة الحديث الإلهي، يقول الله –عز وجل-: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك من أشرك بي شيئًا وكلتُه وشريكه" وحديث سعد بن أبي فَضالة الذي رواه الترمذي وحسنه في نسخة من سننه وقال علي بن ألمديني سنده صالح، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا جمع الله -عز وجل- الناس يوم القيامةِ ليومٍ لا ريب فيه نادي منادٍ: مَن كان يعبد شيئًا فليلتمس ثوابه منه فإن الله أغنى الشركاءِ عن الشرك". والأحاديث والآيات في أهمية الإخلاص كثيرةٌ جدًا فالإنسان إذا انطلق إلى أمرٍ بمعروف أو نهيٍ عن منكر، فينبغي أن يكون مخلصًا لله -عز وجل- مريدًا لوجهه متابعًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-
الركن الثاني: العلــــــم:
هذا بكل أسف هو الذي أوقع المسلمين في حرجٍ بالغ بسبب أن الجهلة كانوا يتصدرون لهذه المسألة، المفترض الإنسان الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يعرف من الذي يأمره وينهاه أولًا، ثم يعرف هل القضية التي يُنكر فيها أو يأمر بها مشروعة أم لا، ولعلي ذكرت لكم قبل ذلك قديمًا لما كان بعض الشباب يريد أن ينهى عن تسكع البنات مع الولدان في الجامعة، وهذا الكلام كان في حدود سنة تسعة وسبعون، ثمانين، فكنت أرى في بعض محافظات الصعيد على وجه الخصوص شباب معهم جنازير، ويضعون جنزير الدراجة العادية يجمع الجنزير ويضعه في جيبه، ويطلع على كوبري الجامعة، يستوقفهم ويقول له: مَن هذه، يقول له: أختي، يقول له: اثبت أي أنت تخرج البطاقة وهي تخرج البطاقة، وإذا قال: هذه امرأتي يقول له: هات قسيمة الزواج، ومَن الذي سيخرج مع امرأته في نزهة أو ليشتري أي شيء ويحمل قسيمة الزواج في جيبه، إذا لم يستطع هذا المسكين أن يُثبت أنها أخته أو أنها امرأته، فيكون هذا نذير شؤم، فيخرج الجنزير من جيبه ويضربه العلقة المتينة حتى يُكسر عظمه فلما نقول أن هذا لا يجوز، وأن هذا مخالف أبسط قواعد الرحمة، وإذا كان الشرع أسقط عنا أن نسأل عن أشياء قد توقعنا في الحرج، حتى الماء مثلًا، بئر ماء في صحراء ممكن ترده الكلاب وترده السباع، ومع ذلك لا يُشرع لنا أن نسأل أهذا البئر تردهُ السباع أم لا؟ نوع من التخفيف علينا.
هل كل الأموال الموجودة في الأسواق حلال؟ قطعًا لا ، فيها حرام ، وفيها مال مغصوب وفيها أموال إنما جاءت بالبيوع المحرَّمة كالغرر وهذا الكلام ، فيه ناس سرقوا أموال ويتاجرون بها في السوق، فيه محلات كثيرة تعتمد على قُروض البنوك هل يُشرَع لك إذا دخلت أي محل أن تسأل صاحب المحل أمالُك حلالٌ أم حرام؟ لا إطلاقًا، ولا أن تُحقق في المسألة، ولا أن تبحث، ما غُيَّب عنك أنت غير مطالبٌ بأن تبحث فيه.
الشروط الواجب توافرها في الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أولاً لابد أن يكون عالمًا، وليس من شرط العلم أن يكون عالمًا في كل شيء ، بل نحن نوجب عليه أن يكون عالماً بالمسألة التي سينكر فيها أو يأمر بها والعلم يتجزأ، المرء يُمكن أن يكون عليمًا في علم من العلوم ، وعاميًا في علمٍ أخر لا يُعاب عليه أن يكون عاميًا في علم آخر، و إنما يُعاب عليه أن يتكلم بلا علم، فيه مثلًا بعض المحدثين ما كانوا يعرفون شيئًا في الفقه.
لكن متى يُعاب عليه؟ إذا تكلم في الفقه، مادام يعمل في الحديث، ولا يفتي إلا في الحديث لا إشكال، بن عبد البر -رحمه الله- عندما نقل كلام بن معين في الشافعي وبن معين نقلوا عنه أنه قال في الشافعي أنه ليس بشيء، مع أن بن معين لم يقل هذا في الشافعي، إنما قال في رجل يُقال له عبد العزيز الأعمى وكان يُلَّقب بالشافعي.
فسُئل بن معين عن عبد العزيز هذا، ولكن لقبُه غلب عليه، قِيل له: ما تقول في الشافعي الذي هو عبد العزيز ؟ قال: ليس بشيء ، فظن المستمعُ أنه يقصد الشافعي الإمام محمد بن إدريس صاحب المذهب المشهور ، فنقل كلام بن معين في الشافعي الإمام ، برغم أن بن معين ما قصد إلا عبد العزيز الأعمى، فابن عبد البر عندما وقف علي المسألة هذه وأن بن معين تكلم في الشافعي ، نكت علي ابن معين وعيرَّه أنه لا يعرف الفقه وأتي بمسألة أن امرأة سألت بن معين عن دجاجة سقطت في بئر ماء وماتت، ما حال هذا الماء أيتنجس الماء بالموت؟ أنتم تعرفون الموت منجس إلا لبني آدم، الموت ينجس لو دابة ماتت تنجس بالموت، هل الماء تأثر بنجاسة هذه الدابة الفروجة لما ماتت أم لا؟ فبما أجاب بن معين؟ قال لها: ويحك لما لم تغطي البئر؟ هي لم تسأل عن مسألة البئر أغطيه أم لا أغطي البئر هذا ليس موضوعنا، بن معين حاد عن الجواب أم أجاب؟ حاد عن الجواب، يُلام؟ لا يُلام، أنت تعرف متى يُلام؟ يوم ما يقول: لا، الماء طاهر أو الماء نجس، يوم ما سيعطي حكم للماء، فتقول له: هل هذا عملك؟، هل أنت فقيه؟ لو أخطأ، هل أنت فقيه؟ نعم تلومه، لماذا؟ لأنه تكلم في الفقه وليس من أربابه، لكن كونه يجهل الفقه كل الجهل، ولكنه لا يتحرك إلا بمشورة فقيه هذا لا يُلام، بل هذا يُمدح أنه لم يدخل في ما لا يعنيه.
إذًا الجهل بأي علم من العلوم لا يُلام صاحبه عليه إلا إذا دخل فيما لا يعنيه:
فممكن يكون في محدِّث صِرف مثل بن علي ، الدار قطني ، أبو حاتم ، أبو زُرعه، فقيهٌ صِرف مثلًا مثل أبي حنيفة ، وبعد ذلك هناك ضربٌ يجمع بين الأمرين معًا يجمع بين الحديث والفقه مثل مالك ، مثل الشافعي ، مثل سفيان الثوري ، بن خزيمة ، بن المنذر وهؤلاء العلماء يجمع بين الحديث ويجمع بين الفقه.
إذًا العلم يتجزأ:
لكننا نوجب علي المتلبس بمسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون عالمًا بالمسألة التي يأمر بها وينهي عنها، هذا علمٌ جزئي، والعلم ضروري لاحتمال أن ينهي عن شيء من السنة.
مثال لجهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
مثل القَبط قرأت في مذكرات بعض العلماء أنه دخل بلداً من بلاد المغرب، وأنتم تعرفون أن المغرب يفشوا فيهم إرسال اليد في الصلاة يترك يده لا يقبض بدعوي أنه مالكي، مع أن المحققين من علماء المذهب المالكي ينكرون هذا الأمر، ويجعلون عُمدتهم ما رواه مالك في موطئه وكان مالك -رحمه الله- يقبض، والقبض سُنَّة وقد ورد فيه أحاديث كثيرة، لكن اشتهرت رواية الإرسال بالأخص في المتأخرين، فهذا العالم ذهب في بعض بلاد المغرب وبعد ذلك قبض في الصلاة، وإذا بواحد دخل عليه كالأسد الهصور وفك يديه وهو يصلي، فهذا العالم لا يعرف ليس عنده فكرة عن الموضوع فأيضًا قبض مرة أخري، فجاء هذا الرجل مرة أخري بأشد من الأولي وفك يديه، ومسك يده أيضًا لكي لا يرفع يده، لماذا ؟ لأن هذا منكر، هذا الرجل ينهي عن القبض وهو السنة، ويأمر بالإرسال وليس فيه سنة، ليس في الإرسال حديث صحيح ولا ضعيف.
أصل إرسال اليد عند مالك:
إنما هو كما يُحكي أن الإمام مالك -رحمه الله- عندما جُلِد خُلِعَ كتفه، فما كان يستطيع أن يرفع يده ليقبض فرآه بعض علماء المغاربة يفعل ذلك فاعتبروا أن هذا هو فعل الإمام، ونُقِلَ هذا الكلام إلي المغرب، وفشي في المتأخرين مسألة إرسال اليد، فهذا الرجل الذي ينهي في هذه المسألة، هذا ليس بعالم فينبغي أن يكون عالمًا، لذلك قال العلماء: العلم يكون قبل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يكون قبله متقدمًا عليه.
ومن المسائل الفاشية في المساجد الإنكار علي مَن صلي قبل المغرب:
يُنكرون علي مَن يصلي قبل المغرب، ويوردون في ذلك بعض الأحاديث الباطلة، بل التي لا أصل لها وهو مثلاً: "المغرب جوهرة فالتقطوها" ماذا يعني جوهرة؟ هل الجوهرة لا يعني أن أنا أصلي، لاسيما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، ثم قال: لمن شاء".
وعندنا الحديث العام: "بين كل أذانين صلاة"، الآذان الأول هو الإعلام، والآذان الثاني هو إقامة الصلاة، فهذا الحديث بعمومه يشمل جميع الصلوات ,فإذًا الإنسان إذا لم يكن عالمًا قد يتورط في إنكار ما هو من الدين بسبب الجهل بذلك.
ثم ينبغي أن يكون رفيقًا رحيمًا لأن المخالف قد يكون جاهلًا لاسيما، إذا كان البلد لا يوجد فيها من أهل العلم مَن يبلِّغ سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويحمل الناس عليها، وهذا هو الغالب علي بلاد المسلمين اليوم مع كثرة المسلمين في بلادهم نحن لو أحببنا في أي بلد من البلدان أن نعُد الأطباء، ونعُد المهندسين، ونعُد الصيادلة ونعُد التجار وهكذا من الصناعات التي يحتاج إليها الناس، ونعُد أهل العلم في مقابلهم.
نحن عندنا مثلًا في بلدنا، بلدنا تعدادها أربعة مليون كل واحد من الجلوس يستطيع أن يعد عشرة من العلماء أو ممن يجعلهم حجة بينه وبين الله، أنا لا أعرف أن أعد العشرة هؤلاء، وأنا رجل مشتغل بالدعوة والمفترض أكون عارفاً زملائي الذين يعملون في نفس الحقل، مثل الأطباء تجد الطبيب يعرف كل الأطباء في المحافظة الذين يعملون في نفس تخصصه، حتى يعرفهم بالأسماء، ليس من الضروري أن يعرفهم معرفة شخصية.
فتصور مثلًا أن الأربعة مليون هؤلاء يخدمهم ألف طبيب فقط، هل هذا العدد كافي لأربعة مليون؟ هذا ليس بكافي، نحن لو قلنا: هل لو لدينا مائة عالم في أربعة مليون هذا العدد قليل، لو مائتان، ثلاثمائة، أربعمائة قليل، لابد أن يكون في ليس أقل من ألف ألفين عالم، لكي يواصلوا الليل بالنهار ليبلغونا كلمة الله -عز وجل- وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلي الناس، حينئذ يفشوا العلم، ويندر الجهل فالمسائل التي كانت مستقرة عند السلف تكون أيضًا مستقرة بين الجماهير لكننا نجد الآن بسبب قلة العلماء أن كثيرًا من المسلمين لا يعلمون بعض أصول الإسلام.
أنا وجدت رجلًا زاد عُمُرهُ علي الستين وكان رجلًا مصليًا، وهذا الرجل ما كان يستنجي من البول قط، كان يتصور إن الاستنجاء إذا دخل الغائط فقط، إنما يتبول هذا ليس من الضروري فيه الاستنجاء، هذا رجل عمره ستين سنة، ومع ذلك يجهل مثل هذه المسألة، فلأجل هذا ينبغي علي الآمر أن يُقدِّر أن المخالف جاهل، والجاهل يحتاج أن يُعَلم أولًا، ما اسم الموضوع؟ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقدم الأمر علي النهي، هذا معناه: علِّم الأول قبل أن تُنكر، هذا معني الموضوع.
يتبع إن شاء الله...