أحبتي في الله... أقول لكم كما قال الحسن البصري – رحمه الله –:
السنة والذي لا إله إلا هو بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا علي سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا، فهؤلاء هم أهل السنة والجماعة والطائفة المنصورة إلى أن تقوم الساعة.
فقد جاء في الصحيحين عن ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك"
فنسأل الله –عز وجل- أن يجعلنا منهم، وأن يحشرنا في زمرتهم بمنِّه وكرمه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وأخيراً... أحبتي في الله...
إن محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- تتمثل في اتباع سنته، واقتفاء أثره، والاهتداء بهديه، وعدم الابتداع في دينه.
فليست المحبة هي الاحتفال بيوم مولده، وبما يخالف هديه من اختلاط وأغانى وإسراف ورفع أعلام وصياح ومواكب ومدائح، فأين المحبة في هذا؟!.
إن محبة النبي تتمثل في:-
o الثناء عليه وكثرة ذكره والصلاة عليه:
امتثالاً لقوله –عز وجل-: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب: 56).
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ:
المقصود من هذه الآية، أن الله تعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى، بأنه يثني عليه في الملأ الأعلى عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه، ثم أمر -سبحانه وتعالى- العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه؛ ليجتمع عليه الثناء من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعاً.
ويقول ابن القيم كما في كتابه ( جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام): ومعنى الآية: أنه إذا كان الله وملائكته يصلون على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فصلوا أنتم أيضاً عليه، فأنتم أحق بأن تصلوا عليه وتسلموا تسليماً، لما نالكم ببركة رسالته، ويُمن سفارته من خير وشرف الدنيا والآخرة. أهـ
وحسبك أنك إذا صليت على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإن الله –عز وجل- يصلي عليك (أي يثني عليك في الملأ الأعلى) فقد أخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
" من صلى عليّ صلاة واحدة، صلى الله عليه بها عشراً"
والصلاة على النبي فيها ما فيها من الثواب الجزيل والأجر الوفير، فهي سبب لشفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة، وتكفي المؤمن همّ الدنيا والآخرة، وسبب لرفع الدرجات وحط الخطيئات، والأدلة على ذلك كثيرة.
o تقديم محبة النبي فوق كل المحاب:
فقد أخرج البخاري ومسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" بل تُقَدّم محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- على محبة النفس.
فقد ثبت في صحيح البخاري عن عبد الله بن هشام قال:
كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب ، فقال له عمر: يا رسول الله،
لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا. والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنه الآن، والله لأنت أحب إليّ من نفسي،
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: الآن يا عمر". والنبي -صلى الله عليه وسلم- يبشر كل من قدّم محبة الله ومحبته على أي محبة كانت، يبشره بحلاوة الإيمان.
فقد أخرج البخاري ومسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقْذف في النار" وأبشر أيها المحب... بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- الثابت في صحيح البخاري ومسلم: "أنت مع من أحببت"
o عدم مخالفته:
قال الهروي في "ذم الكلام" (3/54/1): عن الزبير بن بكار قال: حدثني سفيان بن عيينة قال: سمعت مالك بن أنس وأتاه رجل فقال:
يا أبا عبد الله، من أين أحرم؟، قال: من ذي الحلَيفة، من حيث أحرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر، قال: لا تفعل؛ فإني أخشى عليك الفتنة، فقال: وأي فتنة في هذه؟! إنما هي أميال أزيدها!! قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصَّرَ عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (النور:63)
o طاعته فيما أمر:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } (النساء :59)
{وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (آل عمران: 132)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } (محمد: 33)
{ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } (الأحزاب: 71)
{وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (النساء: 13)
فطاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- هي السبيل لدخول الجنة.
فقد أخرج البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى" ( صحيح الجامع:4513)
o الـذب عـنـه:
لا عذر لنا عند الله غداً إن لم نذب عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو نذب عن سنته، وأستشهد بحديث واحد لعدم الإطالة.
أخرج الحاكم عن زيد ابن ثابت -رضي الله عنه- قال:
بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد لطلب سعد بن الربيع -رضي الله عنه- وقال لي: إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كيف تجدك؟ قال زيد: فجعلت أطوف بين القتلى فأصبته وهو في آخر رمق، وبه سبعون ضربة، ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقلت له: يا سعد. إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ عليك السلام، ويقول لك: خبرني كيف تجدك؟ قال: على رسول الله السلام وعليك السلام، قل له: أجدني أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفيكم شُفر يطرف، قال: وفاضت عيناه"
ـ شُفر: بالضم، وقد يفتح، وهو حرف جفن العين الذي ينبت عليه الشعر.
o نشر سنته:
لقوله -صلى الله عليه وسلم- في صحيح البخاري: " فليبلغ الشاهد الغائب " ولقوله -صلى الله عليه وسلم- أيضاً: "بلِّغوا عني ولو آية" (البخاري).
وبعد هذا العرض والتحليل، هل يُتَصَوّر من عاقل أن يشارك في مثل هذه الاحتفالات البدعية؟ فمن رجع عنها وتاب، وإلى ربه أناب، فقد سلك طريق الحق، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومن أصرّ على إقامتها أو المشاركة فيها، فلا نجد له إلا قول رب العالمين، حيث يقول في كتابه الكريم:
{فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (القصص: 50).
شبهات مَن أجاز الاحتفال بالمولد النبوي و الرد عليها
خالف بعض المتأخرين من العلماء؛ فأجازوا الاحتفال بليلة المولد النبوي تبركاً وقربةً, إذا لم يشتمل على منكرات , حتى ادَّعى بعضهم وجوب القيام بذلك.
ولهؤلاء جملة من الشُّبَهِ والتعليلات يستندون عليها في استحسان بدعتهم وإثبات شرعية فعلهم هذا, وسأذكر أبرز هذه الشُّبَه مع مناقشتها و الرد عليها:ـ الشُّبْهَةُ الأولى:
أن عمل المولد النبوي من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها.
الــرد عـلـيـها: يجاب على هذه الشبهة بما يأتي:
1 - إن السنة الحسنة هي التي تكون لها أصل في الشرع، وقد سنها النبي -صلى الله عليه وسلم- كالصدقة التي هي سبب الحديث الشريف.
2 - أن هذا الفعل بذاته من البدع المحدثة المذمومة , حتى لو سلم من المنكرات والمفاسد , فكيف إذا قام عليها أيضاً, مع أنه لا يخلو منها غالباً.
3 – أن البدع في الدين كلها مذمومة بنص حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
" إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة "
فلا توجد بدعة حسنة في الدين على الصحيح؛ فلفظ "كل" من ألفاظ العموم, وقد جزم أهل اللغة بأن فائدة هذا اللفظ هو رفع احتمال التخصيص إذا جاء مضافاً إلى نكرة, أو جاء للتأكيد, وكذلك إذا أضيفت لنكرة تدل على العموم المستغرق لسائر الجزئيات, وتكون نصاً في كل فرد دلت عليه تلك النكرة, مفردا كان أو تثنية أو جمعاً ويكون الاستغراق للجزيئات بمعنى أن الحكم ثابت لكل جزء من جزئيات النكرة وقد يكون مع ذلك الحكم على المجموع لازما له وعند تطبيق هذا الحكم اللغوي الأصولي على الحديث النبوي: " وكل بدعة ضلالة" نجد أن "كل" أضيفت إلى نكرة؛ وهي لفظ
" بدعة" فيُطَبَّق عليها المعنى الذي ذكره أهل الأصول واللغة، وعليه فلا يمكن أن تخرج أي بدعة عن وصف الضلال.
4 – أن القاعدة في هذه المسألة كما قال شيخ الإسلام بن تيمية – رحمه الله – :
كل ما لم يسنه ولا استحبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أحد من هؤلاء الذين يقتدي بهم المسلمون في دينهم، فإنه يكون من البدع المنكرات، ولا يقول أحد في مثل هذا: "إنه بدعة حسنة"........إلخ
وهذا ينطبق تماماً على بدعة المولد النبوي كما سلف بيانه وتفصيله.
قال الشيخ/ عبد الرحمن الوكيل ـ حفظه الله ـ:
عجباً لهذه الأمة الهازلة!! من ذا الذي زعم لهم أن الاحتفال بمولد الرسول سنة حسنة ؟!
إني لأسال هؤلاء العُبَّاد بالبدعة وللبدعة: إما أن يكون الاحتفال بالمولد بدعة أو غير بدعة ؟!
أو بمعنى آخر: من الدين أو ليس من الدين، هم لا يقولون بأنه بدعة، ولا أنه ليس من الدين فلم يبق إلا قولهم: أن الاحتفال بمولد الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أيَّة صُوَرِهِ من الدين أو ليس بدعة. ونحن لو قلنا هذا رمينا أصحاب محمد بالقصور والتقصير؛ بالقصور عن إدراك معاني الدين وعن سبيل تكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- وتمجيد رسالته، وبالتقصير في حق الدين وحق محمد -صلى الله عليه وسلم-، أو بمعنى أصرح: نتهمهم بأنهم كانوا قاصري الفكر والدين، ونقول: إننا أحكم وأزكى عقيدة، وأبعد نظراً في الدين، وأسلم بصيرة في التدين، وأشد حباً لمحمد -صلى الله عليه وسلم- من أبي بكر وأصحابه، وما يقول بكل ذلك إلا وثني أو مَن في عقله دَخَلٌ.
من ذا الذي أحب الرسول -صلى الله عليه وسلم- حب أبي بكر وأصحابه ؟ لا أحد. أفيستطيع قائل القول: إننا نكرم بهذا المولد محمد -صلى الله عليه وسلم- أكثر مما كرمه أصحابه ؟! أفندرك نحن اليوم ما يجب له وما ينبغي لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أكثر من أولئك الأمجاد الأحبة الذين باعوا أنفسهم وأموالهم لله وقاتلوا وقُتِلُوا ابتغاء رضوان الله ؟! أين نحن من هؤلاء القوم الأعزة المؤمنين الموحدين؟! أنقول أن أبا بكر قَصَّر في حق صاحبه، فلم يصنع له مولداً ولا احتفل بذكرى مولده ؟!
أنقول قَصَّر عمر فلم يجئ بمنشد ماجن متكسر متخلع سِكِّير عربيد يتلو له قصة محمد , ويتغزل في "بطن ووجنات وحواجب وعيون" محمد -صلى الله عليه وسلم-؟، أنقول قَصَّر عثمان ذو النورين، وعلي الرَضِي فلم يصنعا عرائس المولد أو أحصنة ولم يقيما احتفالاً حكومياً بمولد محمد -صلى الله عليه وسلم-؟!. لو قلنا:إن الاحتفال بمولد الرسول -صلى الله عليه وسلم- دين أو سنة حسنة، رمينا القرآن بالقصور فهو لم يبين لنا ذلك فالله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} (المائدة: 3). ورمينا الرسول -صلى الله عليه وسلم- إما بالقصور، وإما بإخفاء ما أُمِرَ بإبلاغه؛ لأن السنة لم تأمرنا بالاحتفال بمولده، بل حذرت من ذلك كل التحذير، أفيجرؤ إنسان عنده أَثَارِةٌ من إسلام على القول بما ذكرنا. (مجلة التوحيد ـ العدد الثالث للسنة الثلاثين)
الشُّبْهَة الثـانية:
يستدلون بما أخرجه البخاري بسنده عن عبد الرحمن بن عبد القاري أن قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبيّ بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: " نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون"، يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله" (صحيح البخاري، باب فضل من قام رمضان). فيستدل المخالف بقول عمر -رضي الله عنه-: " نعم البدعة هذه" على ما يستحدثه المبتدعة.
الــرد عـلـيـها:
إن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال هذه الكلمة، حين جمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح، وصلاة التراويح وفعلُها جماعة ليست بدعة في الشريعة؛ بل هي سنة بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفعله لها في الجماعة، فقد صلاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الجماعة في أول شهر رمضان ليلتين، بل ثلاثاً.
فقد أخرج النسائي والترمذي عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال:
" صمنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان، فلم يقم بنا حتى بقي سبع من الشهر، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، ثم لم يقم بنا في السادسة، فقام بنا في الخامسة حتى ذهب شطر الليل، فقلت: يا رسول الله !
لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه، قال:" إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف، كتب الله له قيام ليلة"،
ثم لم يصلِ بنا ولم يقم، حتى بقي ثلاث من الشهر، فقام بنا في الثالثة، وجمع أهله ونساءه، حتى تخوفنا أن يفوتنا الفلاح، قلت: وما الفلاح؟، قال: السحور" (صححه الألباني).
وبهذا الحديث احتج أحمد وغيره على أن فعلها في الجماعة أفضل من فعلها في حال الانفراد.
وفي قوله: هذا ترغيب لقيام رمضان خلف الإمام، وذلك أوكد من أن يكون سنة مطلقة، وكان الناس يصلونها جماعات في المسجد على عهده -صلى الله عليه وسلم- وهو يقرهم، وإقراره سنة منه -صلى الله عليه وسلم-.
وفي قوله في رواية البخاري المذكورة أعلاه: " ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط"
ما يدل على أن من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ من كانوا يصلون التراويح جماعة في عهد عمر -رضي الله عنه-، قبل أن يجمعهم كلهم على إمام واحد.
إذا عُلِم ما تقدم، فمفهوم البدعة الشرعية لا ينطبق على فعل عمر -رضي الله عنه-، وإنما أراد -رضي الله عنه- بقوله المذكور: البدعة اللغوية، فالبدعة في الشرع لا تُسْتخدم إلا في موضع الذم، بخلاف اللغة فإن كل ما أحدث على غير مثال سابق بدعة، سواء أكان محموداً أو مذموماً. وعلى هذا حمل العلماء قول عمر -رضي الله عنه-.
فقد قال الإمام ابن كثير- رحمه الله - عند تفسير الآية (17) من سورة البقرة ما نصه: والبدعة على قسمين:
تارة تكون بدعة شرعية؛ كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"، وتارة تكون بدعة لغوية، كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم: " نعمت البدعة هذه" ....
وقال ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ:
" فإذا كان نص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد دل على استحباب فعل أو إيجابه بعد موته، أو دل عليه مطلقاً، ولم يُعمل به إلا بعد موته، ككتاب الصدقة الذي أخرجه أبو بكر -رضي الله عنه-، فإذا عمل هذا العمل بعد موته، صح أن يسمى بدعة في اللغة؛ لأنه عمل مبتدأ، كما أن نفس الدين الذي جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- يسمى بدعة، ويسمى محدثاً في اللغة، كما قالت رسل قريش للنجاشي عن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- المهاجرين إلى الحبشة: "إن هؤلاء خرجوا من دين آبائهم، ولم يدخلوا في دين الملك، وجاءوا بدين محدث لا يعرف"
ثم ذلك العمل الذي يدل عليه الكتاب والسنة، ليس بدعة في الشريعة، وإن سمي بدعة في اللغة، فلفظ البدعة في اللغة أعم من لفظ البدعة في الشريعة، وقد علم أن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كل بدعة ضلالة"،
لم يرد به كل عمل مبتدأ، فإن دين الإسلام، بل كل دين جاءت به الرسل فهو عمل مبتدأ، وإنما أراد: ما ابتُدأ من الأعمال التي لم يشرعها هو -صلى الله عليه وسلم-.
وإذا كان كذلك، فالصحابة كانوا يصلون قيام رمضان على عهده -صلى الله عليه وسلم- جماعة وفرادى، وقد قال لهم في الليلة الثالثة، أو الرابعة، لما اجتمعوا: " إنه لم يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهة أن تفرض عليكم، فصلوا في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة"،
فعلل -صلى الله عليه وسلم- عدم الخروج بخشية الافتراض، فعلم بذلك أن المقتضي للخروج قائم، وأنه لولا خوف الافتراض لخرج إليهم.
فلما كان في عهد عمر -رضي الله عنه- جمعهم على قارئ واحد، وأسرج المسجد، فصارت هذه الهيئة ـ وهي اجتماعهم في المسجد على إمام واحد مع الإسراج ـ عملاً لم يكونوا يعملونه من قبل؛ فسمي بدعة؛ لأنه في اللغة يسمى بذلك، ولم يكن بدعة شرعية؛ لأن السنة اقتضت أنه عمل صالح، لولا خوف الافتراض، وخوف الافتراض قد زال بموته -صلى الله عليه وسلم- فانتفى المعارض" أهـ
( اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم:2/592ـ593)
الشُّبْهَة الثـالثة:
يقولون: إن الصحابة والتابعين وتابعي التابعين لم يحتفلوا بمولد النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لقرب عهدهم بالنبي، وهم ليسوا في حاجة إلى الاحتفال لهذا السبب.
الــرد عـلـيـها:
نقول: إن بُعد المسافة الزمنية بيننا وبين نبينا -صلى الله عليه وسلم- لا يبرر إحداث بدع في دين الله تعالى، خاصة وأن نبينا -صلى الله عليه وسلم- قد حذرنا من الابتداع في الدين، وما دام أصحاب القرون الثلاثة الفاضلة لم يحتفلوا بمولد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإنه ينبغي علينا أن نسير على نهجهم؛ لننال المحبة الحقيقية لنبينا -صلى الله عليه وسلم-.
الشُّبْهَة الرابعة:
ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عن صيام يوم الاثنين فقال: "ذاك يوم وُلِدْتُ فيه ويوم بعثت – أو أُنْزِلَ عليّ - فيه" فهذا الحديث يدل على تشريف يوم الولادة، ويفيد شرعية الاحتفال بالمولد.
الــرد عـلـيـها: يُرَدُّ على هذه الشبهة من عدة وجوه:
أحدها: إذا كان المراد من إقامة المولد هو شكر الله تعالى على نعمة ميلاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيه؛ فإن المعقول والمنقول يُحَتِّم أن يكون الشكر من نوع ما شكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ربه بِه، وهو: صيام يوم الاثنين، وعليه فلنصم كما صام، وإذا سُئِلْنَا قلنا: إنه يوم ولد فيه نبينا -صلى الله عليه وسلم-، فنحن نصومه شكرا لله تعالى، وتَأَسِّياً برسوله -صلى الله عليه وسلم- وهذا هو المشروع.
أم أن صوم يوم الاثنين صعب، وليس فيه مظهر الاحتفال والتجمع والإنشاد وما يتبع ذلك من الأكل والشرب والتسلية، حتى أصبحت هذه الظاهرة ظاهرة اجتماعية أكثر من كونها دينية؟!
الوجه الثاني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يخص يوم ولادته ـ وهو اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول على المشهور أو غيره ـ بالصيام ولا بشيء من الأعمال دون سائر الأيام، وهذا يدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يفضله على غيره، وإنما صام يوم الاثنين ـ الذي يتكرر كل أسبوع ـ وقد قال الله –عز وجل-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ } (الأحزاب:21)
الوجه الثالث: هل النبي -صلى الله عليه وسلم- لما صام يوم الاثنين شكراً لله تعالى على نعمة إيجاده، وعلى ما مَنَّ عليه به من نعمة النبوة والرسالة أضاف إلى الصيام احتفالاً؛ كاحتفال أرباب الموالد من تجمعات، ومدائح، وأنغام، وطعام، وشراب؟! والجواب: بالنفي قطعاً؛ وإنما اكتفي -صلى الله عليه وسلم- بالصيام فقط؛ إذاً ألا يكفي الأمة ما كفي نبيها، ويسعها ما وسعه؟!
أضف إلى ذلك أن قياس ما هو مشروع وهو الصيام على ما لم يشرعه النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الاحتفال بيوم مولده قياس مع الفارق، وهو قياس باطل.
الشُّبْهَة الخامسة:
حث الرسول -صلى الله عليه وسلم- على صوم يوم عاشوراء؛ شكراً لله تعالى على نجاة موسى -عليه السلام- ومن معه؛ فيُستفاد من هذا شرعية الاحتفال بيوم مولد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأنواع العبادة؛ شكراً لله تعالى على ما من به من إيجاد نبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم-.
الــرد عـلـيـها: يُرد على هذه الشبهة من وجوه:
الوجه الأول: أن الأمة الإسلامية جمعاء تدرك مشروعية صيام يوم عاشوراء على سبيل الاستحباب؛ امتثالاً لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشكراً لله تعالى على تأييد الحق وإزهاق الباطل، ولكن ليس في علماء المسلمين ممن يُعتد بعلمهم. من يعتبر في هذا التوجيه النبوي الكريم تأصيلاً لقاعدة إقامة الموالد، وإحداث مراسم دينيه لترتبط هذه الأزمنة بالأحداث كما يزعمون؛ فتتعد الأعياد وتكثر المناسبات؛ وعليه فإن أمره -صلى الله عليه وسلم- بصيام يوم عاشوراء لا يعني اتخاذه عيداً من الأعياد، ولا الاستدلال به على إقامة الموالد؛ وإنما يعني القيام بشكر الله تعالى بصيام هذا اليوم، وفقاً لما شرعه الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
الوجه الثاني: أننا حينما نفرح بميلاده -صلى الله عليه وسلم-، فإن بعثته بالرسالة أولى بالفرح والابتهاج، وعلى أي حال فميلاده -صلى الله عليه وسلم- وبعثته، وهجرته، وسائر مواقفه المشرفة في ميادين الجهاد والتعليم والدعوة، كل هذه أمور نفرح بها، ونستلهم منها العبر والعظات، لكن ذلك كله لا يكون في ليلة واحدة من السنة؛ وإنما يُشرع كل وقت، وفي كل مكان؛ كالمساجد، والمدارس، والمجالس العامة والخاصة.
الوجه الثالث: أن تخريج بدعة المولد على صيام عاشوراء، إنما هو من التكلف المردود؛ لأن العبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الرأي والاستحسان والابتداع.
الوجه الرابع: أن صيام يوم عاشوراء قد فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- ورغب فيه، بخلاف الاحتفال بمولده، واتخاذه عيداً؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعله ولم يُرغب فيه، ولو كان في ذلك شيء من الفضل لبين ذلك لأمته؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لا خير إلا وقد دلهم عليه ورغبهم فيه، ولا شر إلا وقد نهاهم عنه وحذرهم منه، والبدع من الشر الذي نهاهم عنه وحذرهم منه.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"
الشُّبْهَة السادسة:
إن إقامة المولد النبوي مُشعرٌ بمحبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمه.
الــرد عـلـيـها: يُرد على هذه الشبهة من وجهين:
أحدهما: أن محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمه لا يكون بارتكاب البدع التي حذر منها، وأخبر أنها شر وضلالة؛ وإنما كمال محبته وتعظيمه ـ عليه الصلاة والسلام ـ يكون على الوجه المشروع؛ وذلك بالإيمان به وطاعته، واتباع هديه، والتمسك بسنته، ونشر ما دعا إليه، والجهاد على ذلك بالقلب واللسان، وتقديم محبته على النفس والأهل، والمال والولد، والناس أجمعين.
الوجه الثاني: أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا أشد محبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وتعظيماً له منا، وكانوا أعلم الناس بما يصلح له -صلى الله عليه وسلم- وكانوا أحرص على الخير ممن جاء بعدهم، ومع هذا فإنهم لم يكونوا يحتفلون بالمولد ويتخذونه عيداً، ولو كان في ذلك أدني شيء من الفضل، والمحبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- والتعظيم له، لكان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أحرص وأسبق عليه من غيرهم؛ وإنما الذي أُثر عنهم هو ما عرفوه من الحق من محبته وتعظيمه، وعلى هذا مضي السلف الصالح ـ رحمهم الله ـ.
الشُّبْهَة السابعة:
إن الاحتفال بالمولد النبوي يتضمن أفعال البر النافعة المشروعة؛ كالاجتماع على تلاوة القرآن والذكر، أو الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- أو سماع شمائله الشريفة وقراءة سيرته العطرة، أو إطعام الطعام والتوسعة على الفقراء.
الــرد عـلـيـها: يُرد علي هذه الشبهة بما يأتي:
1. أن هذه المحاسن وأفعال البر المذكورة مشروعة بلا شك، ومن أعظم القرب، وفيها البركة العظيمة؛ ولكن إذا فُعلت على الوجه الشرعي ـ لا بنية المولد ـ حيث لا بدعة حينئذٍ.
2. إنما البدعة هنا جعل هذا الاجتماع المخصوص، بالهيئة المخصوصة، والوقت المخصوص من قبيل شعائر الإسلام التي لا تثبت إلا بنص الشارع؛ بحيث يظن العوام والجاهلون بالسنن أن ذلك من أعمال القرب المطلوبة شرعاً، بينما هو بهذه القيود بدعة سيئة ـ ولو خلا من وجود القبائح والمنكرات، ودرء مفاسد البدع مقدم على جلب مصالحها ـ إن وُجِدَتْ.
3. أن النظر في سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر محبوب ومطلوب؛ لأخذ الدروس والعبر، لكن ذلك لا يكون في ليلة واحدة؛ بل ينبغي أن يكون ذلك كل وقت وفي كل مكان.
4. أن الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- مشروعة في كل وقت، وتتأكد في مواطن عديدة، ليس منها ليلة مولده -صلى الله عليه وسلم-.
يتبع إن شاء الله...