وهنا أيضاً يطالعنا الكثير من شرائع التوراة والشرائع والقوانين المستمدة من خارج التوراة، جنباً إلى جنب:
1 ـ شبات (السبت):
يتناول هذا السفر قوانين السبت والقواعد اللازمة لمراعاة عطلة يوم الراحة، كما يتحدث بالتفصيل عن الأعمال المحظورة في ذلك النهار. وفي مواضع أخرى من التلمود، نجد الحاخامات يضعون السبت مقابل جميع الأحكام الأخرى الواردة في التوراة من حيث الأهمية وقد وضع الحاخامات قائمة مفصلة تتضمن تسعة وثلاثين عملاً من الأعمال الأساسية وأضافوا إليها سلسلة أخرى من الأعمال الفرعية وغيرها.
2 ـ عيروبين (المقادير):
لفظة «عيروب» تكون بمعنى «الخليط» أو «المزيج»، ومن هنا فإن صيغة الجمع «عيروبين» تكون بمعنى كمية من الأطعمة المحددة التي تُودَع في مكان معيَّن لكي تكون بمنزلة الزاد للمسافرين أثناء عطلة السبت دون أن تبتعد تلك الأمكنة عن بعضها البعض الآخر فيصبح الانتقال خرقاً لقانون السبت. والعيروبين هي المقادير المثالية التي يصح الجمع بينها فيما يتعلق بالأمكنة والأطعمة والمسافات بحيث يؤدي ذلك إلى توسيع حدود السبت. لذا، نجد هذا السفر يتناول القوانين والأنظمة التي تتيح لليهودي حرية الحركة خارج نطاق الحدود الموصوفة وأثناء السبت والأعياد.
3 ـ فصاحيم (خراف الفصح):
ويتناول هذا السفر قوانين إتلاف الخمائر أثناء عيد الفصح اليهودي، وتقديم الخراف والذبائح قرباناً، ومواسم الرب المقدَّسة. وفي الفصل العاشر والأخير من هذا السفر، ترد التفاصيل المتعلقة بوليمة عشية الفصح والصلوات التي تصاحبها.
4 ـ شقاليم (الشواقل):
من «شيقل»،أي «شيكل» وهو «المثقال من الفضة». ويحوي هذا السفر أحكام الضرائب والرسوم التي تتم جبايتها لصيانة الهيكل وتأمين نفقاته وتقديم الذبائح بصورة منتظمة. كما يتحدث بالتفصيل عن الأشياء التي تُنفَق من أجلها الشواقل، ويتضمن القوائم التي تسرد أسماء كبار العاملين الرسميين في الهيكل.
5 ـ يوما (اليوم):
يُعرف هذا السفر أيضاً باسم سفر «يوم الغفران» لأنه يتناول أنظمة هذا العيد وفرائضه داخل الهيكل، كما يَبسُط قوانين الصوم وأحكامه ويصف الاحتفالات والطقوس التي كان يترأسها الكاهن الأعظم في ذلك اليوم.
6 ـ سوكاه (المظلة):
يحوي هذا السفر قوانين عيد المظال، وكيفية إقامة المظلة أو الخيمة، والإقامة تحتها سبعة أيام. كما يتحدث عن شعائر هذا العيد وصلواته، وعن النباتات الأربعة التي تؤخذ أغصانها لصنع المظلة.
7 ـ بيصة (بيضة العيد):
ويُعرف أيضاً باسم «العيد» أو «يوم طوف»، إذ يرسم الحدود التي تتحكم في إعداد الأطعمة أثناء الأعياد. كما يسرد مختلف أنواع الأعمال التي يُحظَر إتيانها أو يُسمَح بها خلال أيام العيد.
8 ـ روش هشاناه (رأس السنة):
يتناول المسـائل المتعلقـة بالتقـويم العـبري ورؤية الأهلة للسنة الجديدة، مثلما يحوي القوانين التي تجب مراعاتها في مطلع الشهر السابع (تشري)، أي رأس السنة المدنية عند اليهود.
9 ـ تعنيت (الصوم):
ويتناول أحكام الصوم للأيام الرسمية أو المناسبات الطارئة على الصعيدين الشخصي والجماعي، وترتيب الصلوات التي تُتلى في ذلك اليوم.
10- مجيلاه (لفافة التوراة):
ويتناول هذا السفر كتاب إستير (بالدرجة الأولى) لأنه يتناول أحكام قراءة قصة إستير في عيد النصيب. كما ترد فيه أحكام أخرى تتعلق بقراءة التوراة أثناء العبادات العامة.
11 ـ موعيد قاطان (العيد الصغير):
ويُعرف هذا السفر أيضاً باسم «مشكين»، نسبة إلى الكلمات الأولى في السفر. ويتناول أحكام العمل أثناء الأيام الفاصلة بين أوائل عيد الفصح وأواخره وبين عيد المظال. كما يتحدث عن الفرائض المتعلقة بالحزن والحداد.
12 ـ حجيجاه (قرابين الأعياد):
يتناول القوانين والأحكام المتصلة بالقرابين التي تُقدَّم في الأعياد، ويقارن بين شعائر الأعياد الثلاثة الكبرى، بالإضافة إلى الحديث عن فريضة الحج إلى القدس، وأنواع القرابين التي ينبغي تقديمها في مثل تلك المناسبات. ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا السفر يتضمن ذلك الاستطراد الشهير عن التعليم الباطني للتوراة، حيث تكثر التخريجات والشطحات الخيالية التي وجدت تربتها الخصبة في كتاب الزوهار، وكان لها أبعد الأثر في تعاليم القبَّالاه أو التصوف اليهودي.
جـ) السدر الثالث: سدر ناشيم (النساء).
تشتمل أسفار هذا القسم من التلمود على قوانين الزواج والطلاق، وغير ذلك من الأحكام التي تحدد العلاقات بين الزوجين، وبين الجنسين بصورة عامة. وهي تبلغ السبعة عدداً، موزعة على أربعة مجلدات في طبعة سونسينو.
1 ـ يباموت:
وهذه الكلمة صيغة جمع مؤنث في اللغة العبرية مفردها «يَبَماه»، واليبماه هي امرأة الأخ المتوفي التي يجب على أخيه الباقي على قيد الحياة الزواج منها. وهذا السفر يبدأ بالحديث عن الشرع التوراتي القائل بوجوب زواج الأخ من امرأة أخيه الذي تُوفي دون أن ينجب. كما يتناول الزيجات المحظورة بشكل عام، وحق الفتاة القاصر في إبطال عقد زواجها، بالإضافة إلى التقليد اليهودي المعروف باسم «خلع النعل». و«خلع النعل» يتم عند امتناع الرجل عن أخذ امرأة أخيه عملاً بقوانين زواج الأرملة.
2 ـ كتوبوت (شئون الزواج والعقود):
يتناول هذا السفر أحكام الاتفاق حول العروس والغرامة المتوجبة عن الإغواء، بالإضافة إلى واجبات الزوجين وحقوق الأرملة والأولاد المنحدرين من زيجات سابقة.
3 ـ نزاريم (النذور):
يصف هذا السفر مختلف أشكال النذور، والأنواع غير الصحيحة منها، وكيفية إلغائها والتراجع عنها. كما يتحدث عن قوة إلغاء النذور التي نذرتها المرأة أو الابنة وألزمت نفسها بها.
4 ـ نازير (النذير أو الناذر):
ويتحدث هذا السفر عن النذر الذي يُلزم الناذر به نفسه وكيفية التخلي عنه، والأمور المحظورة على الناذر والقيمة التي تُعطَى لنذر النساء والعبيد.
5 ـ سوطه (المرأة المشبوهة):
الموضوع الأساسي في هذا السفر هو المحنة التي تتعرض لها المرأة التي يشكك زوجها في إخلاصها، ويتهمها بارتكاب الزنى، والإجراءات التي ترافق ذلك. وهناك موضوعات أخرى تتعلق بالمعادلات والصياغات الدينية، ما يجوز منها بلغات أخرى، وما لا يصح إلا بالعبرية وحدها. كما يتحدث هذا السفر عن الأنواع السبعة من الفريسيين، وعن الإصلاحات التي أوجدها هيركانوس إلى جانب الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين أريسطوبولس وهيركانوس حينذاك.
6 ـ جيطين (كتب أو ثائق الطلاق):
ويعرض بالتفصيل للظروف المختلفة التي تؤدي بالرجل إلى مناولة المرأة وثيقة طلاقها عندما يفسخ الزواج. وفي الشرع اليهودي، هناك أسباب معينة (كما هو الحال في الشرائع الدينية الأخرى) تخوِّل الزوج حق إرغام زوجته على قبول الطلاق، والعكس بالعكس. وصيغة المفرد من كلمة «جيطين» هي «جيط» ومعناها «كتاب الطلاق» أو «وثيقة الطلاق».
7 ـ قدوشيم (التكريس):
يتناول هذا السفر الشعائر والفرائض المتصلة بالخطوبة والزواج، كما يتحدث عن كيفية اقتناء العبيد والأقنان بصورة شرعية، وتملُّك العقارات، إلى جانب مبادئ الأخلاق وغير ذلك من المسائل المتعلقة بعقود الزواج والقران... إلخ.
د) السدر الرابع: سدر نزيقين (الأضرار).
وتُقسَّم الأسفار العشرة في هذا الجزء من التلمود إلى قسمين أساسيين:
القسم الأول يضم الأسفار، أو الأبواب الثلاثة الأولى (الباب الأول والأوسط والأخير) وموضوعها العام هو القانون المدني. وفي التلمود الفلسطيني تندرج هذه الأسفار الثلاثة تحت واحد وشامل: قضايا المال. أما القسم الثاني، فيضم مقالتي «سنهدرين»، و«ماكوت» في القانون الجنائي، وتأتي الأسفار الخمسة الباقية كملاحق لهما.
1 ـ بابا قاما (الباب الأول):
التسمية آرامية الأصل، والمُسمَّى يتناول أحكام الأضرار اللاحقة بالأملاك، والأذى المرتكب ضد الأشخاص بدافع إجرامي، أو على صعيد الجنحة. كما يعالج قضايا التعويض عن السرقة والسلب واقتراف العنف. ومن أحكامه الشـائعة في شـتى المصنفات والمقتبسـات عن التلمود، ما يلي: إذا نطح ثور الإسرائيلي ثوراً يملكه رجل كنعاني، فإن صاحب الثور اليهودي لا يلتزم بشيء. أما إذا كان الثور الكنعاني هو البادئ بالنطح، فعلى صاحبه أن يتكفل بالتعويض الكامل عن كل عطل وضرر.
2 ـ بابا متسيعا (الباب الأوسط):
ويتناول الأحكام المتعلقة بالأشياء المفقودة التي يتم العثور عليها،والبيع والمبادلة والربا والغش والاحتيال واستئجار العمال والبهائم،بالإضافة إلى الإيجار والتأجير والملكية المشتركة للبيوت والحقول.
3 ـ بابا باترا (الباب الأخير):
يعالج هذا السفر القوانين المتعلقة بتقسيم أملاك الشراكة والعقارات، وقوانين التجارة، بالإضافة إلى القيود المفروضة على الأملاك الخاصة والعامة وحقوق الملكية والوراثة. كما يتناول مسألة التملك والتمليك، وإعداد مسودات الوثائق.
4 ـ سنهدرين (المحاكم القضائية):
ويتناول تأليف مختلف المحاكم القضائية،وإجراءات المحاكمة،وعقوبات الموت والإعدام عن الجرائم الكبرى.فهو مليء بالقوانين المتعلقة بالمحاكمات والتحكيم والإجراءات القضائية في القضايا المالية وفي الجرائم الكبرى.كما يتضمن مواصفات كيفية تنفيذ أحكام الإعدام وعقوبات الموت،إلى جانب العقائد المتصلة بالديانة اليهودية.ويحوي السفر الشيء الكثير مما له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بمحاكمة السيد المسيح والعقوبة التي يجب إنزالها بالخارج على دينه.
5 ـ مكوت (الجلدات):
يتحدث هذا السفر عن اليمين الكاذبة والحنـث باليـمين وشـهادة الزور، وعن «مدن اللجوء». بالإضافة إلى الآثام التي عقوبتها الجلد بالسياط، والأحكام المتعلقة بكيفية تنفيذ الجلد (39 جلدة).
6 ـ شبوعوت (القَسَم أو اليمين):
يتناول هذا السفر مختلف أنواع اليمين، أي ما يحلفه الشخص بمفرده أمام المحكمة. ويمين المحكمة يصدق على الشهود والمتقاضين، مثلما يصدق على المراقبين والأوصياء.
7 ـ عيديوت (الشهادات):
ويتضمن هذا السفر مجموعة من القوانين والأحكام المختلفة.
8 ـ عفوده زاراه (عبادة الأصنام):
ويتحدث هذا السفر عن عبدة الأصنام والأوثان: شعائرهم وطقوسهم وأعيادهم. كما يتضمن مواصفات الأحكام التي ينبغي إنزالها بعبدة الأصنام، والذين يشاركونهم، أو يختلطون معهم عن طريق التعامل أو الاتصال الاجتماعي. ويتضمن السفر كثيراً من الأحكام والأقوال ذات الطابع الانتقامي التعويضي.
9 ـ آفوت (سفر الآباء):
ويتضمن التعاليم والأقوال المأثورة عن آباء التراث اليهودي منذ السنهدرين الأكبر فصاعداً. وهو مليء بالتعاليم الأخلاقية والأقوال الحكمية المنسوبة في معظمها إلى معلمي المشناه (تنائيم).
10 ـ هورايوت (الأحكام أو القرارات):
ويتناول هذا السفر الأحكام الخاطئة التي تَصدُر عن السلطات الدينية في المسائل المتعلقة بالشعائر والطقوس. كما يتحدث عما يجب تقديمه من تضحيات وذبائح، إذا تَصرَّف الجمهور وفقاً لهذه التعاليم والأحكام الخاطئة.
هـ) السدر الخامس: سدر قداشيم (المقدَّسات).
يدور الموضوع الأساسي في هذا القسم من التلمود حول الطقس القرباني والتضحيات المتعلقة بالهيكل. وكانت معظم الفرائض والأحكام الواردة في أسفاره مرتبطة أشد الارتباط بوجود الهيكل. لكن الحاخامات، في فلسطين وبابل، تابعوا اهتمامهم بالطقوس القربانية والعبادات رغم هدم الهيكل وانقطاع الصلة بين الممارسة الفعلية والغرض الأساسي من وراء تلك الشعائر. ويحاول الحاخام الذي كتب مقدمة هذا الجزء في طبعة سونسينو إرجاع الاهتمام لدى المدارس الدينية المتأخرة بموضوع الطقوس القربانية إلى اعتبارات تاريخية أكاديمية وأخرى عملية على حدٍّ سواء. فمن جهة، كان هناك الأمل اليهودي في تطلُّعه الدائم إلى إعادة بناء الهيكل عاجلاً أم آجلاً واستعادة العبادة القربانية. لذا، فقد رأوا أن من واجبهم الإلمام بقوانين تلك الطقوس التي سوف تؤذن بالرجوع إلى سابق العهد. ومن جهة ثانية، نما اعتقاد الحاخامات بأن دراسة الشرائع والفرائض القربانية يمكنها أن تحل محل طقس الهيكل، وهي بالتالي لا تقل قيمة عن تقديم القرابين والتضحيات في حد ذاتها.
ويقسَّم هذا السدر إلى أحد عشر سفراً كما يلي:
1 ـ زباحيم (الذبائح):
يحتوي هذا السفر على الأحكام المتعلقة بتقديم الذبائح الحيوانية على اختلاف أنواعها وعلى اختلاف المراحل التي تمر بها. كما يضع الشروط التي تجعل القرابين مقبولة أو غير مقبولة. ويسهب السفر في شرح الشعائر المتصلة برش الدماء، وإحراق القطع الدهنية أو الذبيحة الحيوانية كلها، إلى آخر تلك التفاصيل المتعلقة بهذه الممارسات.
2 ـ مناحوت (قرابين اللحوم والشراب):
ويصف قواعد إعداد قرابين الطعام والشراب وكيفية القيام بها: من سكب الزيت على القرابين إلى الدقيق الملتوت، ومن حزمة أول الحصيد إلى الرغيفين المخبوزين «خميراً باكورة للرب»، إلى الفطائر الاثني عشر التي تُخبَز من الدقيق أيضاً.
3 ـ حولين (الدنيويات):
ويتضمن هذا السفر مواصفات ذبح الحيوانات والطيور للاستهلاك العادي، بالإضافة إلى تعداد مختلف الأمراض التي تجعل أكل تلك الذبائح محرَّماً. وهناك معالجة عامة لجميع قوانين الأطعمة والأحكام التي ينبغي التقيد بها في إعداد الطعام.
4 ـ بكوروت (البواكير):
ويتناول القوانين المتعلقة بالمواليد البكر من الحيوان والإنسان.
5 ـ عراخين (التقديرات):
ويتضمن هذا السفر قواعد تحديد الكمية التي ينبغي تقديمها وفاءً لنذر ما للهـيكل، بحـيث يجري تقييم الشخص أو الشيء المنذور. ويختلف التقييم باختلاف السن والجنس (الذكر والأنثى)، كما أن تجنيس البهيمة وتقييمها عائد إلى كاهن الهيكل. وعلاوة على التقييـمات المذكورة، يتناول السـفر القـوانين التابعة لسنة اليوبيل.
6 ـ تموره (الإبدال أو البدل):
ويتناول قواعد إبدال القرابين وتغييرها: الجيد بالرديء والرديء بالجيد، أي أن الموضوع يتعلق بتبديل بهيمة نجسة بأخرى سَبَق تقديمها على مذبح الهيكل.
7 ـ كريتوت (الرسوم الجزائية):
ويعالج الآثام والأخطاء التي تخضع لعقاب القطع (كريتاه) أو الفصل فيما لو جرى اقترافها بمحض الإرادة. أما إذا جرى ارتكاب الخطيئة عن غير قصد، فلابد أيضاً من تقديم القرابين تكفيراً عنها. ويبحث هذا السفر كذلك الحالات التي يتوجب فيها تقديم القرابين بصورة غير مشروطة أو يتوجب فيها تعليق القرابين.
8 ـ معيله (الإثم والخطيئة):
ويتناول هذا السفر مسألة انتهاك الحرمات والمقدَّسات وتدنيس الأشياء التابعة للهيكل أو المذبح.
9 ـ تاميد (التضحية اليومية أو المستمرة):
ويصف خدمات الهيكل من حيث اتصالها بتقديم القرابين اليومية في الصباح والمساء، وخصوصاً الخراف التي ينبغي تقديمها على المذبح صباحاً وعشية.
10 ـ متروت (المقاييس والأبعاد):
يحتوي هذا السفر على مقاييس الهيكل ومواصفاته، سواء فيما يتعلق بالساحات والأبواب والقاعات، أو فيما يتعلق بالمذبح. كما يتضمن وصفاً للخدمات التي يؤديها الكهنة أثناء وجودهم في الهيكل، وأثناء قيامهم بحراسته وتدبير شئونه.
11 ـ قنِّيم (الأعشاش):
ويسرد الأنظمة والأحكام المتعلقة بتقديم العصافير والطيور قرباناً للتكفير عن الخطايا والمعاصي التي يقترفها الفقراء. كما يتناول بعض الأحوال والشروط المتصلة بالنجاسة والقذارة. ويبحث حالة الخلط بين الطيور التي تخـص مختلف الأشـخاص أو التي تنتمـي إلى قـرابين مختلفة.
و) السدر السادس: سدر طُهاروت (التطهيرات).
والواقع أن الموضوع المشترك بين أسفار هذا الجزء السادس والجزء الأخير من التلمود يتصل بأحكام الطهارة والنجاسة (أو الرجاسة) لدي الأشياء والأشخاص. وتؤلف هذه الأحكام جزءاً من مجموعة قوانين تتعلق بالطهارة اللاوية. ومما يجدر التنبيه إليه أن قوانين النجاسة هذه لم تكن سارية المفعول خارج فلسطين، فقد بطل معظمها في فلسطين بعد هدم الهيكل وطويت في عالم النسيان، إلا ذلك القانون المتعلق بأحكام الحيض لدى النساء فما زال ساري المفعول حتى أيامنا هذه. وقد أصبح التشديد محصوراً بالدرجة الأولى في مسألة النجاسة اللاوية وتَعدَّى نطاق العلاقات الزوجية.
والمعروف أن أحكام الطهارة هذه تستند إلى عدد من الأوامر والنواهي الواردة في أماكن مختلفة من الأسفارالخمسة للتوراة، وبشكل خاص في الإصحاحات (11/15) من سفر اللاويين.
1 ـ كلائايم (الأواني والأوعية):
ويتحدث هذا السفر عن قواعد النجاسة في الأواني والأدوات التي تُستخدَم للمنفعة البشرية، فيحاول تبيان الظروف والشروط التي تتحكم في نجاسـتها أو تجـعلها عرضة للتنـجس. والأواني تشمل الأثاث والملابس، وغير ذلك من أدوات الاستعمال.
2 ـ أُهالوت (الخيام):
ويتناول الخيام والمساكن باعتبارها ناقلة للنجاسة والرجس، سواء عن طريق جثة الميت، أو بواسطة الأواني والأوعية التي توجد معها تحت سقف الخيمة أو المسكن، حيث تنتقل منها إلى الأشخاص والأدوات الأخرى.
3 ـ نجاعيم (البَرَص والطواعين والأوبئة):
يبسط القوانين المتعلقة بمعالجة البَرَص في البشر والألبسة والمساكن. كما يتضمن المواصفات الضرورية لتطهير الأبرص وطرد النجاسة من بدنه.
4 ـ باراه (العجلة الحمراء ـ البقرة الصغيرة):
ويتحدث هذا السفر عن الخصائص الواجب توافرها في العجلة الحمراء (باراه أدوما) وصولاً إلى إعداد رمادها للاستخدام في التطهير من النجاسة والرجاسة.
5 ـ طُهاروت (تطهيرات):
ويعالج أحكام النجاسة في الأطعمة والأشربة على اختلاف أنواعها ودرجاتها. كما يبين الشروط التي تتحكم في تنجيسها عن طريق الاحتكاك بمختلف مصادر النجاسة ودرجاتها.
6 ـ مقواؤوت (الآبار والخزانات):
ويتضمن هذا السفر مواصفات الآبار والصهاريج والخزانات فيما يتعلق بالمتطلبات التي تجعلها صالحة شعائرياً للتطهير والتغطيس. كما يتناول القواعد الحاكمة في جميع أنواع التغطيس الشعائري والطقسي.
7 ـ نيدّه (الحائض والحيض):
ويفصل القول في أحكام النجاسة الشرعية التي تنشأ لدى النساء بسبب الحيض والنفاس وبعد الولادة.
8 ـ مقشيرين (الاستعدادات):
ويتناول الظروف التي تصبح الأطعمة بموجبها قابلة للنجاسة أو عرضة للتنجس بعد احتكاكها بالسوائل، كما يعدِّد السوائل التي تجعل الأطعمة في تلك الحالة.
9 ـ زافيم (الزاب ـ السيلان):
ويتحدث هذا السفر عن نجاسة الرجال والنساء عند الإصابة بأمراض الزهري والسيلان المنوي وغير ذلك.
10 ـ طِّبول يوم (الغسل اليومي):
ويبحث في طبيعة النجاسة لدى الشخص الذي قام بالغسل الشعائري (المفروض أثناء النهار) لتطهير نفسه، فإن عليه الانتظار حتى غروب الشمس لكي يُعتبر طاهراً ونظيفاً.
11 ـ ياديم (اليدان وتطهيرهما):
ويتناول نجاسة اليدين قبل الغسل وكيفية تطهيرهما بطريقة شعائرية مستمدة من الشريعة الشفوية، والتطهير يتم بالماء. ويتضمن إلى جانب ذلك بحثاً عن بعض أسفار التوراة، كما يسجل شيئاً من المناظرات والخلافات التي دارت بين الصدوقيين والفريسيين.
12 ـ عقصين (سويقات الثمار وقشورها):
ويعرض للظروف والشروط التي تصبح بموجبها سويقات النبات والثمر قابلة لنقل النجاسة إلى الثمار والنباتات المتصلة بها والعكس بالعكس،أي كيف تتنجس هذه الأشياء لدى ملامستها الأشياء النجسة.
الموضوعات الأساسية الكامنة في التلمود Major Themes in the Talmud
منذ نهاية القرن السابع للميلاد، ومع مطلع القرن الثامن، صار التلمود العامل الجوهري في التجربة الدينية للجماعات اليهــودية، إذ أصبـح المعيـار السـائد المقـبول في كل ما يتعـلق بحيــاة اليهــود وأعمـالهم ونشـاطهم الفكــري. حتى أننـا حينـما نتحدث عن «اليهودية» بعد ذلك التاريخ، فإننا في واقع الأمر نتحدث عن «اليهودية الحاخـامية»، أي «التلمـودية». وقد اسـتُـخدم التلمود حتـى نهــاية القـرن التاسـع عشر أساساً للتربية بين أعضاء الجماعات اليهودية، فكان الدارسون في كثير من الجماعات اليهودية في الغرب يستذكرونه سبع ساعات يومياً طوال سبع سنوات.
والتلمود سجل المحاولات التي بذلها حاخامات اليهود لتفسير العهد القديم بما يتناسب مع وضع اليهود باعتبارهم جماعات منتشرة في العالم وليس باعتبارهم شعباً مستقراً في أرضه له عاصمته وهيكله وديانته المرتبطة بالأرض والعاصمة والهيكل. وهو أيضاً تعبير عن محاولة اليهودية الحاخامية (التلمودية) عزل جماهير اليهود عن بقية الشعوب، وخصوصاً بعد ظهور المسيحية التي اتخذت من العهد القديم كتاباً مقدَّساً، وأكملته وعدلته بالعهد الجديد. والآلية الكبرى لتعميق العزلة هي تغليب الطبقة الحلولية داخل التركيب الجيولوجي اليهودي على غيرها من الطبقات والنزعات بحيث يحل الإله في الشعب ويملؤه قداسةً تعزله عن العالم المدنَّس العادي حوله، وهذه الانعزالية مسألة عادية في معظم المجتمعات الوثنية وفي كثير من المجتمعات التقليدية التي كانت تشجع الفصل بين الطبقات والجماعات الدينية وتسهل عملية إدارة شئونها. بل تُعَدُّ مسألة حيوية وأساسية بالنسبة للجماعات الوظيفية المالية وهو الدور الذي اضطلعت به معظم الجماعات اليهودية في العالم حتى بدايات القرن التاسع عشر. فبدون الانعزالية، لم يكن بإمكان أعضاء الجماعات الوظيفية الاحتفاظ بحيادهم وتعاقديتهم وموضوعيتهم وهي أمور لازمة وأساسية للقيام بالأعمال المالية في المجتمعات التقليدية. ولكن هذه الانعزالية، في حالة الجماعات اليهودية، شأنها في هذا شأن أية جماعة وظيفية أو أقلية تُوجَد في الوضع نفسه، كانت تأخذ في الغالب شكل التعالي على الناس. وقد تعمقت الانعزالية حتى أصبح التعارض بين اليهود وغير اليهود (الأغيار) من المقولات الأساسية في التلمود وفي غيره من الكتابات الفقهية اليهودية.
والحلولية تيار مهم في العهد القديم، ولكنها تضخمت واتسعت في التلمود بحيث يمكننا اعتبار التصور التلمودي للإله يشكل نكسة للفكر التوحيدي وللرؤية التي طرحها الأنبياء في العهد القديم. فالتلمود يخلع العديد من الصفات الإنسانية واليهودية على الإله. والعصمة ليست من صفاته، فهو يكون مشغولاً خلال اثنتى عشرة ساعة يومياً: يقرأ التوراة في الساعات الثلاث الأولى، ويحكم العالم في الثلاث التالية، ويفكر في إفناء العالم، ثم يترك كرسي القضاء إلى كرسي الرحمة، ويجلس في الساعـات الثـلاث التالية يرزق العـالم كلـه من أكبر الحيوانات إلى أصغرها. وفي الثلاث الأخيرة، يلعب مع التنين أو الحوت. والإله، في التلمود، متعصب بشكل كامل لشعبه المختار، ولذا فهو يعبِّر عن ندمه على تركه اليهود في حالة تعاسة وشقاء حتى أنه يلطم ويبكي. ومنذ أن أمر بهدم الهيكل وهو في حالة حزن وندم، توقف عن اللعب مع التنين الذي كان يسليه، وأصبح يُمضي وقتاً طويلاً من الليل يزأر كالأسد. ولكنه في آخر الأيام، بعد إقامة المجتمع اليهودي الأمثل في العصر المشيحاني، في ظل الدولة المستعادة، يجلس على العرش يقهقه لانتصار شعبه، وعبثآً يتوافد الوثنيون طالبين قبولهم. ويتبدَّى التعصب الإلهي في أنه حينما يأتي الماشيَّح سيصبح كل الناس عبيداً لجماعة يسرائيل.
وتظهر الحلولية والانعزالية في تلك القداسة التي تحيط بالتلمود. وهو في الواقع ـ كما أسلفنا ـ مجرد تفسير للعهد القديم وضعه الحاخامات، إلا أنه، مثله مثل كل كتب التفسير اليهودية، يكتسب قداسة خاصة. وقد سيطرت أسطورة الشريعة الشفوية على الوجدان اليهودي سيطرة تامة بعد ظهور المسيحية، فكان يُنظر إلى التلمود في بداية الأمر باعتبار أنه يأتي في المرتبة الثانية بعد التوراة، ولكنه أصبح بعد حين يُلقَّب بالتوراة الشفوية، أي صار مساوياً لتوراة موسى في المرتبة، ولم يَعُد في وسع أي يهودي مخالفته. وأخذت درجة قداسته في الازدياد والاتساع حتى أصبح أكثر قداسة من التوراة نفسها. وقد قال أحد الحاخامات: «يا بني كن حريصاً على مراعاة أقوال الكتبة [أي الحاخامات واضعي التلمود] أكثر من حرصك على أقوال التوراة، لأن أحكام التوراة تحوي الأوامر والنواهي. أما شرائع الكتبة، فإن من ينتهك واحـدة منها يجلب على نفسه عقوبة الإله». وقـد جـاء أيضاً أنه: «لا خلاص لمن ترك التلمود واشتغل بالتوراة لأن أقوال علماء التلمود أفضل مما جاء في شريعة موسى، وهي أفضل من أقوال الأنبياء».
وفي معرض تقديس التلمود والإيمان المطلق بكل ما دوَّنه الحاخامات فيه، ورد في التلمود أن خلافاً ما قد وقع بين الإله وعلماء اليهود حول أمر ما. وبعد أن طال الجدل، تقرَّر إحالة الأمر موضع الخلاف إلى أحد الحاخامات الذي حكم بخطأ الإله الذي اضطر إلى الاعتراف بخطئه. وفي هذا المقام أيضاً، ردد بعض الحاخامات أن الإله يستشير الحاخامات على الأرض إذا صادفته مسألة معضلة يتعذر عليه حلها في السماء. وهكذا اختل التوازن الحلولي، كما هو الحال دائماً، لصالح المخلوقات من الحاخامات على حساب الإله. ويظهر ارتباط الانعزالية بالحلولية في فكرة الاختيار، فقد جاء في التلمود أن الإله اختار اليهود لأنهم اختاروه، وهي عبارة تفترض المساواة بين الإله والشعب. (كان يرددها بن جوريون برضا شديد، وهي تشكل أساس فلسفة بوبر الحوارية، ونقطة انطلاق لكثير من النزعات الحلولية المعاصرة في اليهودية ولصهيونية جوش إيمونيم الحلولية).
وتساءل كُتَّاب التلمود عن سبب تشبيه اليهود بشجرة الزيتون، وترد الإجابات التالية:
1 ـ لأن شجرة الزيتون لا تفقد أوراقها، كما أن كل اليهود لن يضيعوا في هذا العالم أو العالم الآتي.
2 ـ وكما أن الزيتون لا ينتج زيتاً إلا بعد العصر والضغط عليه، فإن أعضاء جماعة يسرائيل لن يعودوا كذلك إلى جادة الصواب إلا بعد الآلام والعذاب.
3 ـ شُبِّه اليهود بحبة الزيتون لأن زيت الزيتون لا يمكن خلطه مع المواد الأخرى. وكذلك جماعة يسرائيل، لا يمكن أن تختلط مع الشعوب الأخرى. ويدَّعي التلمود أن روح الإله من روح الشعب كما أن الابن جزء من أمه، ولذا فمن يعتدي على يهودي فهو كمن يعتدي على العزة الإلهية، ومن يعادي جماعة يسرائيل أو يكرهها فإنه يعادي الإله ويكرهه، وخصوصاً إذا عرفنا أن الإله كان يقطن بينهم حينما كانوا في أرض الميعاد، وأن الشخيناه (التعبير الأنثوي عن الإله) بقيت معهم حينما نُفوا خارجها إذ أن موسى طلب ذلك من الإله.
وكان الاختيار في بادئ الأمر تلقائياً نابعاً من رحمة الإله وإرادته الإلهية، ولكن اليهود ـ حسب الرؤية التلمودية الحلولية ـ بينوا أنهم جديرون بهذا الاختيار. ولذا، تحوَّل الاختيار من مجرد منحة من الإله إلى حق من حقوقهم مُلزم له وإلى دين عليه أن يؤديه حتى لو ضلوا الطريق. وقد جاء في التلمود على لسان الإله: «لن أعامل جماعة يسرائيل كالأمم الأخرى، حتى وإن لم تعمل حسنات إلا قليلاً تافهاً كروث الدجاج المتناثر في الحظيرة، فسأجمع هذه الحسنات ليكون لها حسنات كثيرة». وهكذا اختل التوازن الحلولي لصالح اليهود مرة أخرى، وإن كان هناك رأي تلمودي مغاير يرى أن الاختيار تكليف إلهي وعبء مُلقى على كاهل اليهود عليهم أن يضطلعوا به. والتوراة هي ميراث الشعب المختار وحده، ومن يدرسها من الأغيار يستحق الموت (ولكن ثمة رأياً تلمودياً مغايراً يرى أن الوثني الذي يدرس التوراة هو في منزلة الكاهن الأعظم).
هذه النزعة الانعزالية المتعالية توجد في معظم صفحات التلمود المليء بالأحكام الموجهة ضد غير اليهود (وخصوصاً سفر عفوده زاره أو عبادة الأوثان)، فلن يدخل الجنة سوى اليهود. وقد خلق الإله الأغيار على هيئة الإنسان لكي يكونوا لائقين بخدمة اليهود الذين خُـلقت الدنيا من أجلهم، إذ ليس من الملائم أن يقوم حيوان على خدمة الأمير، وهو على صورته الحيوانية. ولا يُعتدُّ بشهادة غير اليهودي أمام المحاكم إلا في حالات قليلة. وإذا وقع أذى بشخص، فمن المهم جداً تحديد هل هذا الشخص يهودي أم لا، بل إن هذا التمييز يسري أيضاً في المعاملات التجارية. وفي مسائل الطهارة، يعتبر الأغيار أنجاساً في حياتهم. ولكن مقابرهم، باعتبار أنها غير مقدَّسة، لا تنجس الكهنة. والعكس صحيح بالنسبة إلى اليهود، فهم طاهرون في حياتهم وقبورهم مصدر نجاسة أساسي للكهنة اليهود.
ويتناسى التلمود الفرق بين الأخيار والأشرار من الأغيار، رغم أنه تمييز أساسي في العقيدة اليهودية نفسها. بل إن التلمود يطلب أحياناً إلى اليهود أن يسـتخدموا مقياسـين أخلاقيين: أحدهما للتعامل مع اليهود، والآخر للتعامل مع غير اليهود (انظر: بابا متسيعا 95 أ، وبابا قما 113 أ). وقد جاء في التلمود أنه لا يصح أن يباع لليهودي الشيء الذي يحتمل فساده إن تُرك، ولكنه من الممكن أن يُباع لغير اليهودي، كما يُحرَّم على الطبيب اليهودي أن يعالج مريضاً غير يهودي (إلا لدرء أذى الأغيار).
ولأن التلمود يرى أن اليهود وحدهم يجسدون روح الإله، لذا نجده لا يرحب بالمتهوِّدين. وقد ورد فيه «إن المتهوِّدين مثل القذى في عين جماعة يسرائيل» وهو موقف لا يزال يسيطر على المؤسسة الأرثوذكسية وريثة التراث التلمودي في إسرائيل. وكان اليهودي يشكر إلهه على أن مكانه «بين أولئك الذين يجلسون في بيت الدراسة والمعبد [أي اليهود] ولم تجعل مكاني بين أولئك الذين يذهبون إلى المسارح والسيرك [أي غير اليهود]». وحتى حينما كان بعض المفسرين ينصحون اليهود بعدم الكذب على الأغيار، فإنهم يصرون على ضرورة عدم الاحتكاك بهم، أو الدخول معهم في علاقة. وقد قال أحد الشارحين في القرن السابع عشر في بولندا إن من الواضح أن التوراة تأمر اليهود بأن يحتفظـوا بالكراهـية بينهـم وبين الأغيـار حتى يبعدوا خطر الزواج المُختلَط. ولذا، فلا يمكن السماح بتلك الأفعال التي قد تقلل الكره بين اليهود والأغيار. وتصل النزعة المتعالية ذروتها في عبارة: «اقتل أفضل الأغيار، اسحق رأس أنبل الأفاعي». وقد اقتبس أحد كتيبات الحاخامية العسكرية الإسرائيلية هذه العبارة التلمودية التي أثارت ضجة داخل إسرائيل وتصدَّى لها بعض القادة الدينيين ووصفوها بأنها تشويه للعقيدة اليهودية.
فالحلولية إذن هي الإطار الفلسفي، والانعزالية والتعالي الإثنيين هما الترجمة العملية لها. ولكن التلمود كتاب جيولوجي ضخم يضم موضوعات شتى وتراكمت فيه رؤى وآراء مختلفة، فكل العقائد اليهودية المعروفة قد دُوِّنت وصُنِّفت فيه، بشكل واضح أحياناً، وبشكل غامض مشوش أحياناً أخرى. كما يضم التلمود أيضاً موضوعات وطرائف لا تنضوي بالضرورة داخل إطار فلسفي واضح، أو رؤية دينية محددة، فهو يتحول أحياناً إلى مجرد وثيقة اجتماعية لا توجه الواقع وإنما تعكسه وحسب. فصفحات التلمود تعكس وضع اليهود الاقتصادي كجماعة وظيفية تعمل بالتجارة. ولذلك، كان على اليهودي، حسب التقاليد التلمودية، أن يتلو ثلاث تسبيحات شكر كل يوم لأن الإله خلقه يهودياً، ولأنه لم يخلقه امرأة ولم يخلقه فلاحاً. وقد جاء أنه «لا يوجد عمل أكثر امتهاناً من فلاحة الأرض». ومع هذا، هناك أقسام طويلة في التلمود عن الزراعة وقوانينها وأفضالها. ومن أهم أنواع التجارة التي مارسها أعضاء الجماعات اليهودية تجارة الرقيق. ولذا، فإننا نجد أن التلمود نظم عملية امتلاك عبد من الأغيار. فهو يُمتلَك بالشراء أو بالصك أو بالخدمة الفعلية. ويوجد في التلمود صيغة لاستمارة يتم ملؤها للحصول على عبد تقول: «هذا العبد تم استعباده بصورة قانونية وليس له أي حق من حقوق الأجراء، وليست له مطالب يقدمها للملك أو الملكة. وليست به أية علامة إنسانية، وهو خال من أية عيوب جسدية ومن أية علامة في الجلد تدل على إصابته بالبرص سواء حديثاً أم في الماضي». وكانت طبقة العبيد مُحتَقرة كما كان يسود الاعتقاد بأنهم كسالى: «هناك عشرة مقاييس من النوم نزلت إلى العالم، فأخذ العبيد تسعة منها وأخذ بقية الناس الواحد المتبقي». ولا يتمتع العبد بثقة كاتبي التلمود، فهو لا يُعَدُّ إنساناً، ولذا فليس بإمكان اليهودي أن يصلي معه أو أن يصلي عليه أو يسير في جنازته.
ولا يقتصر التلمود على حياة اليهود العامة، وإنما يمتد ليشمل أخص خصوصياتهم. فهو يتناول، ضمن ما يتناول، كل دقائق إعداد الطعام وتناوله والعلاقات الخاصة بين الرجل وزوجته والطمث. وينبعث من صفحات التلمود احتقار عميق للمرأة، وقد كتب أحدهم يقول: «هناك أربع خصائص للنساء: فهن شرهات، ومتصنتات وكسولات وغيورات، وهن أيضاً كثيرات الشكوى وثرثارات». وقد أفاض التلمود بشأن الصفة الأخيرة: "نزلت إلى العالم عشرة مقاييس للكلام، أخذت النساء تسعة منها وأخذ الرجال واحداً".
والتلمود كتاب طبي أيضاً. ولذا، فإننا نجد فيه وصفات طبية عديدة، فهو ينصح بضرورة التعرض للماء البارد بعد حمام ساخن. كما نجد في التلمود شرحاً لأسباب الإمساك وطريقة معالجته. وينصح التلمود أيضاً بأن من: «يطيل البقاء في المرحاض، يطيل الرب أيامه وسنيه». وهناك صلاة شكر تُتلى بعد تلبية نداء الطبيعة.
وعلاوة على كل هذا، يمكن اعتبار التلمود كتاب فولكلور يعكس شتى الممارسات والآراء الخرافية التي كانت سائدة في مكان نشأته، سواء في بابل أو في الأماكن الأخرى التي عاش فيها الشارحون. ولأن كُتَّاب التلمود يدورون في نطاق حلولي، فإننا نجدهم يؤمنون بإمكانية التحكم الكامل والتوصل للحل السحري (الغنوصي) وبفاعلية العلاجات العجائبية والعقاقير الشيطانية والسحر والرقى والتعاويذ. والتلمود أيضا كتاب تنجيم وسحر وتفسير أحلام. ومما يُذكَر فيه أن قارئه الراغب في رؤية العفاريت رؤية العين يمكنه ذلك باتباع خطوات تم تحديدها بدقة متناهية، وإن أراد طرد العفاريت فصفحاته تضم تعاويذ تفي بذلك الغرض. وتصل الحلولية إلى ذروتها (أو هوتها) حين يؤكد التلمود أن الحاخامات كانوا قادرين على الخلق، فقد ذكر أن حاخاماً خلق مرة إنساناً بأن نطق اسم الإله الأعظم وأرسله إلى الحاخام زعيرا الذي تحدَّث إليه، ولكنه لم يستطع أن يجيب، فتعجب الحاخام قائلاً: «أنت مخلوق بفعل السحر، ارجع إلى التراب».
وقد أثر التلمود، بما احتوى من نظرة حلولية انعزالية، في كثير من أجزائه، في الفكر الصهيوني، حيث وجد المفكرون الصهاينة ما يدعم اتجاهاتهم. فقد جاء في سفر «عفوده زاره» على سبيل المثال لا الحصـر: «ينبغي ألا تُؤجَّر البيوت لغير اليهود في أرض يسرائيل، ناهيك عن الحقول». وهذه إحدى القواعد الأساسية للصندوق القومي اليهودي. كما أن الصهاينة يقتبسـون من التلمـود عبارات مثل: «من يقيم خارج أرض يسرائيل هو مثل إنسان بدون إله» (كتوبوت 110ب).
ولكن نظراً لخاصية التلمود الجيولوجية، فإننا نجد أنه يرد فيه عكس هذه الأفكار تماماً، فقد قال الحاخام يهودا: "من يصعد من بابل إلى أرض يسرائيل، فقد انتهك إحدى الوصايا الإلهية". ويستشهد بسفر إرميا (27/22)، ثم يقول: "مثلما أنه ممنوع مغادرة أرض يسرائيل إلى بابل، فمن الممنوع أيضاً مغادرة بابل إلى غيرها من البلدان"، ثم يستطرد قائلاً: "إن من يعيش في بابل كأنه مقيم في أرض يسرائيل" (كتوبوت 111أ). كما توجد في التلمود أيضاً أفكار متناقضة عن العصر المشيحاني، بعضها ذو نكهة صهيونية انعزالية والبعض الآخر معاد لها وله نزعة اندماجية عالمية.
وتجد التوسعية الصهيونية تبريراً لها في الصورة التي يرسمها التلمود لحدود الأرض في المستقبل، فهي سوف تمتد وتصعد في جميع الجهات، ومن المقدر لأبواب القدس أن تصل إلى دمشق، وسوف يأتي المنفيون لينصبوا خيامهم في الوسط. وقد جاء أيضاً: "إن فلسطين تُدعى أرض الظبي، فكما أن جلد الظبي يعجز عن استيعاب لحمه وجسمه، كذلك هي أرض يسرائيل: عندما تكون مأهولة تجد لنفسها متسعاً، لكنها تتقلص متى كانت غير مأهولة". فحدود هذه الأرض متغيرة، وتزداد بازدياد المستوطنين اليهود فيها. ولا يختلف هذا القول كثيراً عن موقف تيودور هرتزل من الحدود حين بيَّن أن ما سيقرر حدود الدولة هو مدى حاجة الصهاينة: "كلما ازداد عدد المهاجرين ازدادت حاجتنا إلى الأرض".
يتبع إن شاء الله...