الباب السادس عشر: التربية والتعليم عند الجماعات اليهودية في العصر الحديث
التربية والتعليـم عند الجماعـات اليهوديــة من القرن الثامن عشر إلى الحرب العالمية الأولى
Education of the Jewish Communities from the Eighteenth Century to the First World War
استمر التعليم التقليدي سائداً بين الجماعات اليهودية في أوربا إلى نهاية القرن الثامن عشر في غربها والتاسع عشر في شرقها. إلا أنه مع تزايد وتيرة التحديث والتصنيع ونشأة الدولة القومية العلمانية الحديثة بسلطاتها المركزية ونُظُم تعليمها العامة، بدأت المؤسسات التربوية اليهودية التقليدية تتساقط لتحل محلها المؤسسات التربوية الحديثة العامة التي أصبحت من أهم أدوات علمنة ودمج أعضاء الجماعات اليهودية.
وساعد في عملية تحديث وعلمنة تربية وتعليم الجماعات اليهودية ظهور شرائح من الجماعات اليهودية مثل يهود البلاط وأثرياء اليهود وبعض المثقفين المرتبطين بهم الذين تأثروا بحركة الاستنارة الغربية وأصبحوا من دعاة حركة التنوير اليهودية. ورأى دعاة التنوير من اليهود في التعليم الحديث وسيلة من أنجح الوسائل لتحديث ثقافة الجماعات اليهودية ودمجهم في المجتمعات التي يعيشون بينها. وقد اتخذت جهودهم في تحديث تعليم الجماعات اليهودية اتجاهين: اتجاه استهدف تحديث منهج التعليم اليهودي وطرق التدريس المتبعة فيه، واتجاه ثان قام على تشجيع أعضاء الجماعات اليهودية على الالتحاق بالتعليم الحكومي العلماني. ووجد دعاة التنوير سنداً وحليفاً في الملوك المطلقين المستنيرين وحكوماتهم التي رأت في التعليم العلماني وسيلة لدمج الأقليات المختلفة وتكوين الدولة القومية وتحديث المجتمع.
اختلف هذا التطور من تشكيل سياسي أوربي إلى آخر. وكذلك باختلاف معدلات التحديث والعلمنة داخل التشكيلات الأوربية المختلفة، وطبيعة النظم التربوية المحلية في كل مجتمع، بالإضافة إلى التراث والأوضاع التاريخية غير المتجانسة الخاصة بالجماعات اليهودية، انعكس على وضع المؤسسات التربوية اليهودية المختلفة وعلى تطورها وعلى مدى اضمحلالها وسقوطها أو استمرارها وازدهارها، وانعكس بالتالي على معدلات علمنة ودمج أعضاء الجماعات اليهودية في المجتمعات التي يعيشون في كنفها.
التربية والتعليم عند الجماعات اليهودية في العالم الغربي (ما عدا روسيا وبولندا) حتى الحرب العالمية الأولى
Education of the Jewish Communities in the Western World (Except Russia and Poland) to the First World War
1 ـ ألمانيا والنمسا (وجاليشيا):
شهدت الأراضي الألمانية تغيرات وتطورات أدَّت إلى ظهور طبقة من المموِّلين والتجار ويهود البلاط الذين يتطلب عملهم المعرفة باللغات الأوربية والثقافة الحديثة. ومن ثم، فقد قل اهتمامهم بدراسة التلمود والمواد اليهودية التقليدية ولم تتعد معرفتهم قراءة آلية لبعض أجزاء من أسفار موسى الخمسة. كما شهد النصف الثاني من القرن الثامن عشر ظهور كثير من التشريعات التي تعطي اليهود حقوقهم المدنية، حيث أصدر الإمبراطور جوزيف الثاني إمبراطور النمسا براءة التسامح (1782 ـ 1785 ) التي أتاحت لأعضاء الجماعات اليهودية كثيراً من فرص الحراك الاجتماعي، وطالبت في الوقت نفسه بإصلاح كثير من ممارساتهم وبالذات في مجال التربية والتعليم. وأدَّى هذا إلى انتشار فكر حركة التنوير اليهودية.
انطلق دعاة حركة التنوير من اليهود من مقولات الفكر العقلاني (المادي) وإيمانه بفاعلية التعليم العلماني اللامتناهية في تحسين أحوال البشر، ومن ثم أصبحت قضية التربية القضية الأساسية بالنسبة لهم. كما رأوا في التعليم اليهودي التقليدي سبباً من أسباب تخلف الجماعات اليهودية وانعزالها الثقافي، ولذا حاولوا إحداث تغييرات في مناهج التعليم اليهودي وطرق تدريسه.
كان موسى مندلسون ـ مؤسس حركة التنوير اليهودية ـ أول من حاول تحسين وتحديث نظام التعليم اليهودي كوسيلة لرفع مستوى اليهود الثقافي ودمجهم في المجتمع الألماني. فقام بترجمة العهد القديم إلى اللغة الألمانية كوسيلة لتشجيع اليهود على تعلمها، كما تم، بمبادرة منه، تأسيس المدرسة الحرة أو مدرسة الشباب في برلين للأطفال اليهود الفقراء عام 1778 وكانت مجانية، وتُعتبَر هذه المدرسة أولى المدارس اليهـودية التي جمـعت مناهجـها بين دراسـة العهد القديم والتلمود، واللغة الألمانية والفرنسية، والحساب والجغرافيا، والعلوم الطبيعية والفن. وقد أحدثت هذه المدرسة انقلاباً في نظام تعليم أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب. كما شكَّلت بداية انتقال مركز الثقل من المواد اليهودية التقليدية إلى المواد العلمانية. وحققت هذه المدرسة منذ بدايتها الأولى نجاحاً، فكان نصف تلاميذها السبعين فقط من الفقراء، أما النصف الآخر فكان من الميسورين الذين أدركوا أهمية التعليم العلماني الذي تقدمه هذه المدرسة.
ويأتي نفتالي هرتز فيسيلي (1725 ـ 1805) في الأهمية بعد مندلسون، كأحد دعاة حركة تحديث تعليم الجماعات اليهودية. ففي كتيب كلمات السلام والحق الذي يُعتبَر المنشور الأول لحركة التنوير اليهودية، يرحب فيسيلي ببراءة التسامح التي أصدرها الإمبراطور جوزيف الثاني إمبراطور النمسا، ويقترح برنامجاً لتعليم الطفل اليهودي يتكون من جزءين: جزء يُخصَّص للدراسات العلمانية، أطلق عليها دراسات تتصل بالإنسان، أما الجزء الثاني فكان يُخصَّص للدراسات الدينية.
كما يؤكد فيسيلي أهمية تعليم اللغة الألمانية والعبرية، بل يقترح أن يدرس الأطفال اليهود العهد القديم في ترجمته الألمانية. كذلك احتلت قضية التعليم موقعاً بارزاً ونوقشت بتوسع في جريدة هامآسيف المعبِّرة عن أفكار التنويريين اليهود، وفيها طالب المتحمسون من دعاة حركة التنوير بأن يبدأ الطفل اليهودي بتعلم اللغة الألمانية والحساب أولاً ثم يضاف فيما بعد تعلُّم اللغة العبرية قراءة وكتابة. بل طالب ديفيد فرايدلاندر بأن تقتصر الدراسة الدينية على بعض الفصول المنتقاة من العهد القديم ذات الطبيعة الأخلاقية وأن تُستخدَم اللغة الألمانية في تدريسها.
وبمبادرة من دعاة حركة التنوير، تم تأسيس عدد من المدارس في برلين ودساو وفرانكفورت جمعت مناهجها بين المواد العلمانية والمواد الدينية، والتي خُصِّصت لها ساعات قليلة وأهملت فيها دراسة التلمود. كذلك قام عـدد من المربين بكتابة كتـب مدرسـية باللغة العبرية لهذه المدارس. فألَّف بيتر بير كتاباً عن التاريخ اليهودي، كما ألَّف نفتالي هرتز هومبرج كتاب المطالعة الدينية والأخلاقية للشباب. وفي عام 1807، أُدخلت طقوس بلوغ سن التكليف الديني (برمتسفاه) بعض المدارس في ألمانيا، وذلك في محاكاة واضحة لطقوس تثبت التعميد بين المسيحيين.
كذلك تغلغل أثر حركة التنوير بين اليهود الأرثوذكس الذين كان عليهم أن يستجيبوا لمتطلبات العصر. فالحاخام حزقيال لانداو يرى أن التوراة أساس التعليم، إلا أنه يؤكد أن تعليم القراءة والكتابة أمر مهم أيضاً، لذا يجب على الفرد اليهودي أن يتعلم كلا الشيئين. كما وافق الحاخام ديفيد تفيلي أهمية تعليم الأطفال اليهود اللغة الألمانية لمدة ساعة أو ساعتين يومياً. كذلك قام اليهود الأرثوذكس بتأسيس مدرسة في هالبرستادت وأخرى في هامبورج جمعت مناهجها بين العلوم الدينية وغير الدينية. كذلك أدخلت حركة التنوير تغييرات مهمة على تعليم البنات، فبينما كانت بنات اليهود الأثرياء يتلقين تعليمهن على أيدي مدرسين خصوصيين، اهتم دعاة التنوير بتعليم الفقيرات وأُسِّس عدد من مدارس البنات (ابتداءً من عام 1790) في برسلاو وهامبورج وغيرهما من المدن، ضمت مناهجها تعليم الألمانية والعبرية وأساسيات الدين والأخلاق والحساب، كما وُجدت مدارس أيضاً قامت بتعليم اليديشية والأشغال الفنية والفن والغناء.
ويجب أن نشير أيضاً إلى أن حركة التنوير اليهودية اهتمت بالتعليم المهني، فقد رأى دعاة التنوير اليهودي أن إبعاد اليهود عن وظائفهم التقليدية (مثل الربا والتجارة) وتحويلهم إلى الاشتغال بالزراعة والحرف اليدوية المختلفة سيساهم في تغيير حياة أعضاء الجماعة اليهودية وسيؤدي إلى تخليهم عن أية خصوصية قد تتسبب في عزلتهم عن بقية أعضاء المجتمع، ولهذا أدخلوا تعليم الحرف في المدارس التي أسسوها. وكانت بعض هذه المدارس تسجل خريجيها عند حرفيين مسيحيين ليتتلمذوا على أيديهم. كما أُنشئت في بعض الولايات الألمانية جمعيات للعناية بالصبية تحت التدريب. وفي برلين، أُسِّست جمعية لنشر الحرف الصناعية بين أعضاء الجماعة اليهودية عام 1812 وكان هدفها إيقاظ الروح الخلاقة بين أعضاء الديانة اليهودية وتفنيد الاعتقاد السائد عن اتجاه اليهود إلى التجارة.
ويمكن تلخيص التغيرات التي أدخلتها حركة التنوير اليهودية على منهج التعليم اليهودي في ألمانيا على النحو التالي:
أ ) زادت أهمية الدراسات غير الدينية وبدأت مدة الدراسة فيها تطغي على الوقت المخصص للدراسات الدينية.
ب) قلَّت أهمية دراسة التلمود، وبالتدريج اختفت تماماً.
جـ) دُرِّست ترجمة مندلسون للعهد القديم.
د ) دُرِّست اللغة العبرية كمادة مستقلة عن العهد القديم وزاد الاهتمام بتدريس قواعدها.
5 ـ دُرِّس الدين كمادة مستقلة وبطريقة الوعظ الديني، وهي طريقة لم تكن معروفة عند اليهود من قبل.
6 ـ دُرِّست مادة الأخلاق كمادة مستقلة واستُخدمت طريقة لم يعرفها اليهود من قبل، فكانت بعض مقطوعات العهد القديم تُدرَّس ويُستخلَص منها الهدف الأخلاقي.
7 ـ أُدخلت دراسة ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» وهي مادة جديدة، لم يُدرَّس فيها إلا «التاريخ» الوارد في العهد القديم.
8 ـ دُرِّست مواد عامة كاللغة الألمانية قراءة وكتابة، كذلك اللغة الفرنسية وأحياناً الإنجليزية (لأهميتها التجارية) واللاتينية (في بعض المدارس) والحساب والخط ومادة الطبيعة والجغرافيا وتاريخ العالم والرسم والغناء ومسك الدفاتر والتدريب المهني والزراعة.
وانتشرت المدارس اليهودية المتكاملة التي جمعت مناهجها بين المواد العلمانية والدينية في بلدان أوربا الغربية والشرقية. ففي عام 1813، أسس يوسف بيرل مدرسة في تارينول في جاليشيا استُخدمت فيها الألمانية كلغة للتدريس، كما أُلحقت بها فصول مخصَّصة للبنات، وأُسِّست مدرسة مشابهة في لفوف عام 1845. وفي عام 1819، أسس يعقوب تجندهولد في وارسو ثلاث مدارس استُخدمت فيها البولندية كلغة للتدريس كما تم تأسيس مدرستين للبنات. ولم تُفتَح أية مدارس ثانوية خاصة لليهود إلا مدرسة فيلانثروبين (الابتدائية) في فرانكفورت التي افتُتح فيها قسم علمي عام 1813 مدة الدراسة فيه ست سنوات. كما أُنشئت معاهد خاصة تجارية.
وبتأسيس هذه المدارس، ظهرت مشكلة تدريب معلمين لها، ففُتح أول معهد لإعداد المعلمين في كاسل عام 1810، وتبعه معهد في أمستردام (1836) لإعداد المعلمين والحاخامات. وفي عام 1856، افتتح معهد لإعداد المعلمين وحسب في بودابست. وبلغ عدد المدارس التي أقامتها الجماعات اليهودية في مورافيا عام 1784 نحو 42 مدرسة، وفي بوهيميا وصل عددها 25 مدرسة عام 1787، وفي المجر بلغ عددها 30 مدرسة بنهاية عام 1780. أما في جاليشيا، فبلغ عدد المدارس 104 مدارس إلا أنها أُغْلقت عام 1806 خوفاً من الاتجاهات العلمانية التي اعتنقها مدرسوها اليهود، فتم استدعاء التربوي اليهودي نفتالي هرتز همبورج للإشراف عليها.
ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، فتحت المدارس الحكومية أبوابها للأطفال اليهود وتدفقت أعداد كبيرة منهم عليها. وأصبح التعليم الديني اليهودي مقتصراً إما على المدارس التكميلية التي كان الأطفال اليهود يتركونها عند سن الثالثة عشرة أو على بعض الفصول الدينية في المدارس الحكومية. وقد اختفت المدارس الأولية الدينية (حيدر) لتحلّ محلها المدارس اليهودية الحديثة، إلا أن عددها كان صغيراً وكان برنامج الدراسات اليهودية فيها ضئيلاً، فلم تتعد قراءة الصلوات وبعض أجزاء من أسفار موسى الخمسة.
ومع هذا، كانت هناك حركة مضادة لهذا الاتجاه في ألمانيا، حيث أسس سامسون روفائيل هيرش، مؤسِّس الأرثوذكسية الجديدة وزعيمها في ألمانيا، مدرسة في فرانكفورت عام 1855، قدمت برنامجاً مكثفاً للدراسات الدينية واليهودية، بالإضافة إلى برنامج من المواد العامة على نمط المدارس الألمانية. وهذه المدرسة كانت الأولى في سلسة المدارس الأرثوذكسية التي تأسست فيما بعد، كما تم تحديث مرحلة الدراسات العليا، فاختفت المدارس اللاهوتية التي تم تأسيسها عام 1854، وكان يترأسها زكريا فرانكل الذي أدارها بطريقة حديثة وشجع الدارسين فيها على اتخاذ موقف من اليهودية وتاريخها. وكان خريجو هذه الكلية يُعيَّنون حاخامات محافظين.
وفي عام 1872، افتُتحت في برلين المدرسة العليا للدراسات اليهودية التي كانت متأثرة في اتجاهاتها بآراء جايجر الإصلاحية. كما أُسِّست في برلين، عام 1883، كلية لاهوتية أرثوذكسية لتخريج الحاخامات الأرثوذكس. وفي الأجزاء الناطقة بالألمانية من الإمبراطورية النمساوية، اتخذ تعليم الجماعات اليهودية المسـار نفـسه الذي اتخذه في ألمانيا. ففي فيينا، رغم وجود جماعة يهودية كبيرة، تدهور التعليم اليهودي التقليدي وتزايد التحاق الأطفال بالمدارس الحكومية أو المدارس اليهودية الحديثة. كما أُسِّس معهد للدراسات الحاخامية عام 1893.
وفي المجر، كان يُوجَد اتجاهان:
اتجاه يحبذ الاندماج، وآخر يحبذ المحافظة على الهوية اليديشية. وقد أرسل أتباع الاتجاه الأخير أولادهم إلى المدارس التقليدية للحصول على تعليم تقليدي. كما وُجد عدد كبير من المدارس التلمودية العليا، وهو ما يشير إلى أن عملية التحديث والعلمنة لم تكن تسير بالسرعة نفـسها التي كانت تسير بها في ألمانيا والنمسا، كما لاقت عملية تحديث التربية اليهودية في جاليشيا النمساوية المجرية مقاومة كبيرة. وبعد أن فُتحت مدارس حكومية لأطفال اليهود، في نهاية القرن الثامن عشر والسنوات العشر الأولى من القرن التاسع عشر، فإنها عادت وأغلقت أبوابها من جديد. ومع هذا، نجحت عمليات الدمج بمرور الزمن، وزاد تسجيل الأطفال اليهود في المدارس الحكومية إلى أن بلغ 78 ألفاً عام 1900.
2 ـ فرنسا وإيطاليا:
وجد دعاة التنوير اليهودي حليفاً في الحكومة الفرنسية، حيث ركزت الثورة الفرنسية على التعليم ومؤسساته بهدف دمج أعضاء الجماعات اليهودية. ولم تواجه عملية دمج السفارد أية صعوبات ذات بال، لأن قيادات الجماعة اليهودية السفاردية كانوا من كبار المموِّلين الذين يحتاج المجتمع إلى خبراتهم واتصالاتهم الدولية، كما أن لغتهم (اللادينو) لغة لاتينية قريبة من الفرنسية وثقافتهم إسبانية قريبة من ثقافة فرنسا اللاتينية الكاثوليكية. وقد كانت مؤسساتهم التربوية منفتحة للغاية ولا تستبعد العلوم العلمانية (وهذا ما بينه المفكر السفاردي دي بنتو في خطابه لفولتير).
ولذا، يُلاحَظ أن كل أطفال اليهود الذين بلغوا السن القانونية في عام 1808 كانوا يذهبون إلى مدارس حكومية في جنوب ووسط فرنسا، هذا على عكس يهود الألزاس واللورين الذين كانوا من يهود اليديشية، وكانت ثقافتهم ألمانية سلافية تفصلهم عن محيطهم الفرنسي اللاتيني الكاثوليكي. كما أنهم كانوا فقراء متخلفين، ولذا قاوموا المحاولات الرامية لدمجهم، ولم تَزد نسبة الأطفال اليهود الذين سجلوا في مدارس حكومية عن 10%. غير أن الدولة الفرنسية اتبعت سياسة نشطة في عملية الدمج وفتحت المدارس أمام أعضاء الجماعة اليهودية، وفتحت أبواب الحراك الاجتماعي أمام المتعلمين منهم. ولذا، فإننا نجد، مع منتصف القرن التاسع عشر، أن أعضاء الجماعات اليهودية أخذوا في إرسال أولادهم إلى المدارس الحكومية العلمانية، واكتفوا بالمدارس التكميلية (بعد انتهاء اليوم المدرسي) لتعليم أولادهم الدين اليهودي وما يُسمَّى «التاريخ اليهودي». وقد تدهور التعليم التقليدي، وأغلقت معظم المعاهد التلمودية العليا أبوابها. وبديلاً عن ذلك افتُتحت في باريس عام 1859 كلية للدراسات الحاخامية تُسمَّى المدرسة الحاخامية.
ولم تختلف الأوضاع التعليمية في إيطاليا عنها في جنوب فرنسا كثيراً حيث كانت الجماعة اليهودية في إيطاليا تتسم بالانفتاح النسبي. وقد تدهور التعليم اليهودي التقليدي مع تزايد هجرة اليهود من البلدان الصغيرة إلى المدن الكبرى. وقد قام أعضاء الجماعة اليهودية المتيسرون بإرسال أولادهم إلى المدارس العامة ثم تبعهم في ذلك باقي أعضاء الجماعة.
وفي عصر الاستنارة والتنوير، نشب صراع بين المحافظين والتجديديين حول منهج التعليم. ولكن أياً من الفريقين لم يطالب بإلغاء المواد الدينية أو المواد العلمانية تماماً، وانصرف الخلاف إلى طريقة تحقيق التوازن بينهما. وبلغ عدد الطلبة المسجلين في المدارس اليهودية المعترف بها من الحكومة 1,600طالب عام 1901، ولم تزد المواد الدينية التقليدية في هذه المدارس عن ساعة واحدة يومياً، وشملت القراءة والصلوات وأجزاء من أسفار موسى الخمسة وكانت تُلقى المواعظ الدينية باللغة الإيطالية. كما تدهورت الأوضاع التعليمية في معهد الدراسات الحاخامية المعروف باسم «كوليجيو رابينكو» وقلَّ عدد طلابه.
3 ـ إنجلترا:
ظلت إنجلترا خالية من اليهود تقريباً حتى القرن السابع عشر حيث سُمح لهم بالاستقرار. وكان عدد أعضاء الجماعة اليهودية فيها صغيرا للغاية. ومع هذا، كان للجماعة اليهودية في إنجلترا شبكة واسعة من المدارس اليهودية، وذلك قبل تطبيق قانون التعليم الإجباري العام في إنجلترا عام 1870. وقد تأسس كثير من هذه المدارس خلال القرن التاسع عشر، خصوصاً شبكة المدارس الحرة (بالإنجليزية: «فري سكولز free schools») التي كان يَدرس بها عام 1850 نحو 2000 طفل يهودي من إجمالي تعداد أعضاء الجماعة البالغ في تلك الفترة 35000 شخص.
كما كانت توجد مدارس يهودية خاصة ذات مستوى أفضل من المدارس الحرة. ومما يُذكَر أن غالبية هذه المدارس، وخصوصاً المدارس الحرة، كان يقدم تعليماً علمانياً إلى جانب قدر ضئيل من الدراسات اليهودية، كما وُجدت فصول دينية مسائية ومدارس أحد لتعليم اللغة العبرية. كذلك أُسِّست مؤسسات يهودية للتعليم العالي في منتصف القرن التاسع عشر، من أهمها كلية اليهود Jews' College التي تأسَّست عام 1855.
ومع صدور قانون التعليم الإجباري عام 1870، توقَّف تأسيس مدارس حرة جديدة. كما شهدت المدارس اليهودية الخاصة تدهوراً حاداً. ولكن، مع بداية تدفق يهود اليديشية من شرق أوربا عام 1881، أثارت ضحالة برامج الدراسات الدينية في المدارس اليهودية استياء المهاجرين الجدد، ولذا فضلوا إقامة عدد من المدارس التقليدية وإرسال أولادهم إليهـا. فانتشرت المـدارس الابتدائية الدينية التقليـدية مثـل المـدارس الابتدائية الخاصة (حيدر) والخيرية (تلمـود تـورا) في جميع أنحاء البلاد. إلا أن مستوى هذه المدارس كان بدوره هابطاً للغاية ولا يُقــارَن بمـستوى مثيلتهـا في أوربا الشرقية، بل فشلت في تعميق ارتباط طلابها بالديانة والتقاليد اليهودية.
ورغم أن لندن كانت تضم في نهاية القرن واحدة من أكبر المدارس اليهودية في أوربا بل في العالم بأسره، إذ كانت تضم 3000 طالب، إلا أن الهدف الحقيقي من هذه المدرسة كان إضفاء الطابع الإنجليزي على هؤلاء المهاجرين الغرباء إلى إنجلترا وكسر حدة يهوديتهم الزائدة، وفقـاً لإسرائيل زانجويل، في كـتابه أطفال الجيتو (1892).
كما نجد أنه مع تحسُّن أوضاع المهاجرين الاقتصادية، وخروجهم من مناطق تمركزهم في لندن إلى الضواحي والمناطق السكنية الأرقى، بدأت تختفي أيضاً المدارس الدينية التقليدية لتحلّ محلها المدارس الملحقة بالمعبد حيث يتلقى الأطفال بضع ساعات من الدراسة الدينية خلال الأسبوع، وذلك في نظام مشابه لنظام مدارس الأحد اليهودية في الولايات المتحدة.
وبالتالي، أصبحت الصورة السائدة في العقد الأول من القرن العشرين هي التحاق الجزء الأكبر من الأطفال الإنجليز اليهود بالمدارس الابتدائية والثـانوية الحكومية وحصولهم على قدر ضئيل من المعرفة بالديانة اليهودية واللغة العبرية من خلال الدراسة التكميلية.
التربية والتعليم عند الجماعات اليهودية في أوربا الشرقية (روسيا وبولندا) حتى الحرب العالمية الأولى
Education of the Jewish Communities in Eastern Europe (except Russia and Poland) to the First World War
بعد تقسيم بولندا للمرة الثالثة، ضمت روسيا غالبية يهود اليديشية. وتزامنت هذه العملية مع تغيرات سياسية واقتصادية كان المجتمع الروسي يمر بها في مجرى انتقاله من مجتمع زراعي إقطاعي إلى مجتمع صناعي. فعلى الصعيد السياسي، قامت محاولة لفرض ضرب من الوحدة على مئات الأقليات والتشكيلات الحضارية حتى يتسنى للحكومة المركزية التعامل معهم. وعلى الصعيد الاقتصادي، بدأت تظهر في روسيا اتجاهات نحو التصنيع، وتحديث بنية المجتمع الاقتصادية. وكانت عملية التحديث هذه تتم تحت إشراف القياصرة المطلقين وطبقة النبلاء الإقطاعيين، ومن خلال بيروقراطية غير مستنيرة وغير مؤهلة عرقلت عملية تحديث المجتمع، فأدَّى ذلك إلى قيام الاضطرابات والثورات التي انتهت بالثورة البلشفية عام 1917.
وقد حدَّدت هذه الأوضاع علاقة الجماعات اليهودية بكل من المجتمع الروسي والدولة الروسية. فاتبعت الدولة معهم، مثلهم مثل غيرهم من الأقليات، سياسة الترويس بالقوة حتى يتم استيعابهم ودمجهم في الثقافة الروسية.
ومنذ بداية القرن التاسع عشر، ومع المحاولات الأولى للحكومة الروسية في مجال تحديث وترويس الجماعات اليهودية، أدرك المسئولون في الحكومة الدور الفعال الذي يمكن أن يلعبه التعليم الحديث في هذا المضمار، ومن ثم اتخذ المسئولون من التعليم وسيلة لتحديث تربية أعضاء الجماعات اليهودية ودمجهم في الإطار الثقافي العام للمجتمع. وساعد الحكومة القيصرية في جهودها رواد حركة التنوير.
بدأ التيار التنويري يدخل روسيا عن طريق أوربا الغربية وبالذات ألمانيا منذ بداية القرن التاسع عشر. وكانت ليتوانيا وأوكرانيا من المناطق الأولى التي دخلها الفكر التنويري، وقد حمله إليهما التجار والعلماء المتجولون والأطباء. كما ساعد اشتراك بعض اليهود من مدن ليتوانيا وبولندا في الدوريات التي أصدرها دعاة التنوير في ألمانيا في نشر الفكر التنويري بين بعض أعضاء الجماعات اليهودية في روسيا.
وكان من أوائل دعاة التنوير إسرائيل زاموسك ويهودا هرديتس ويهودا مرجوليوث وباروخ تشيك ومنديل ليفين. وقد ساهم هؤلاء التنويريون الأوائل في نشر الثقافة الحديثة عن طريق كتابة أو ترجمة بعض كتب العلوم الحديثة إلى العبرية، فقام باروخ تشيك بكتابة عدة كتب في الرياضيات والفلك، كما ترجم منديل ليفين كتباً في الطب والرحلات. وقام جونزبرج بترجمة كتاب اكتشاف أمريكا الذي ألَّفه كامب وكتاب تاريخ العالم لفولتير، كما ألَّف كتاباً عن تاريخ الحرب الفرنسية الروسية عام 1812. وكانت هذه هي المرة الأولى التي تستخدم فيها اللغة العبرية لنقل العلوم الحديثة.
كذلك قام أحد اليهود الأغنياء (يهوشاو زيتلين) بتأسيس مركز للمستنيرين في ضيعته. واعتمد هؤلاء المستنيرون الأوائل على علاقتهم بالسلطات الروسية كتجار وأطباء وموردي مواد غذائية، وقدموا مجموعة من المقترحات إلى الإدارة الروسية لتحسين وضع اليهود من أهمها إتاحة الفرصة لأعضاء الجماعات اليهودية للاشتغال بالحرف المختلفة والعمل بالزراعة وفتح مدارس حديثة لهم.
واهتم دعاة التنوير في روسيا منذ البداية، مثلهم مثل دعاة التنوير الألمان، بتأسيس مدارس تجمع مناهجها بين المواد العامة والمواد اليهودية كوسيلة لتحديث ثقافة الجماعات اليهودية. وكانت أولى المدارس التي تم تأسيسها على هذا النمط مدرسة أومان التي أسسها هايمان هورويتز. كما أسَّس بزاليل ستيرن مدرسة مماثلة في أوديسا عام 1826، وتلتها مجموعة من المدارس في كل من ريجا وكشينيف وفلنا. وخلال هذه الفترة، قام إسحق ليفنسون بتوضيح برنامج دعاة التنوير الروس لتحديث تربية أعضاء الجماعات اليهودية وتعليمهم. وقام هذا البرنامج أساساً على تأسيس شبكة من المدارس الابتدائية للبنين والبنات تجمع مناهجها بين المواد الدينية واليهودية والمواد العامة والتدريب على بعض الحرف.
كما تضمَّن البرنامج تأسيس مدرسة ثانوية للمتميِّزين من الطلبة، كما أكد ضرورة نشر الحرف المنتجة (وبالذات الزراعة) بين الجماهير اليهودية، وضرورة استخدام اللغة الألمانية أو الروسية في التعليم. وبطبيعة الحال، قاومت القيادات الحاخامية الفكر التنويري التربوي واتخذت إجراءات عنيفة ضد أيِّ شاب يُقلِّد « البرلينيين ».
ونظر دعاة التنوير إلى الحكومة الروسية كنصير لهم في محاولتهم تحديث تربية وتعليم الجماعات اليهودية وأعانوها في تأسيس شبكة من المدارس الحديثة المخصَّصة لليهود والتي أُطلق عليها اسم «مدارس التاج». وقد أشرف ماكس ليلينتال على تأسيس هذه الشبكة كما حاول إقناع الجماعات اليهودية في روسيا بإرسال أولادهم إليها.
واتجهت جهود الحكومة الروسية، في محاولتها تحديث ثقافة وتربية الجماعات اليهودية، اتجاهين: فتح أبواب التعليم الحكومي لأعضاء الجماعة اليهودية وإقامة مدارس يهودية مخصَّصة لهم تحت إشرافها من جهة، وتحديث نظام التعليم اليهودي القائم من جهة أخرى.
فتحت الحكومة أبواب المدارس والجامعات الروسية للأطفال والشباب اليهود بقرار صدر عام 1804 خلال حكم القيصر ألكسندر الأول (1801 ـ 1825)، إلا أن عدد الأطفال والشباب اليهود الذين انضموا إليها ظل منخفضاً جداً حتى عام 1840، فبلغ عدد التلاميذ اليهود في المرحلتين الابتدائية والثانوية 48 تلميذاً من المجموع الكلي للتلاميذ المسجلين في المدارس والبالغ عددهم 8017. ولم يختلف الوضع بالنسبة إلى الجامعات، فقد بلغ عدد الطلاب اليهود 15 طالباً من مجموع الطلاب البالغ عددهم 2866.
ويبدو أن سلطة القهال وقفت بشدة ضد هذا القرار ومارست سلطتها في منع الطلاب اليهود من الالتحاق بالمدارس والجامعات الروسية. ونظراً لفشل الحكومة في جذب أعضاء الجماعة اليهودية للتعليم في المدارس الحكومية، وضعت الحكومة خطة لتأسيس مدارس تُخصَّص لليهود تخضع لإشرافها دون النص على حرمان التلاميذ اليهود من الالتحاق بالمدارس الحكومية، وأصدرت قراراً عام 1844 بتأسيس شبكة من مدارس التاج.
وقد تكونت هذه الشبكة من المدارس التالية:
أ ) مدارس أولية من الدرجة الأولى في المدن.
ب) مدارس أولية من الدرجة الثانية في الأقاليم.
جـ) مدارس حاخامية لتدريب المدرسين والحاخامات.
وتقرر تمويل هذه المدارس عن طريق فرض ضريبة على الشموع التي يستخدمها اليهود في منازلهم يوم السبت. كذلك قررت الحكومة منح خريجي هذه المدارس الامتيازات نفسها التي ينالها خريجو المدارس الحكومية. وتضمن منهج هذه المدارس بعض المواد الدينية مثل العهد القديم وتاريخه والصلوات واللغة العبرية، علاوة على المواد غير الدينية مثل اللغة الروسية وقواعدها والحساب والجغرافيا وعلمي النبات والحيوان والخط والرسم.
وكلفت الحكومة الروسية ماكس ليلينتال، وهو تربوي يهودي من دعاة التنوير من ألمانيا، بتأسيس مدرسة يهودية حديثة في ريجا عام 1840، إلا أن محاولاته باءت بالفشل إذ قاومت الجماعات اليهودية هذه المدارس مقاومة شديدة، حتى أنها حينما فُتحت كانت شبه مهجـورة ولم يلتحـق بها سـوى أولاد الفقـراء من اليهود. وحتى عام 1857، لم يزد عدد الطلبـة اليهـود المسـجلين في هـذه المدارس عن 3293.
ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، ومع تزايد معدلات التحديث، وكنتيجة للسياسة الليبرالية التي انتهجها القيصر ألكسندر الثاني والتي فتحت أبواب الحراك الاجتماعي والاقتصادي أمام أعضاء الجماعات اليهودية، تزايدت نسبة الأطفال والشباب اليهود المسجلون في المدارس الابتدائية والثانوية. ففي عام 1853، بلغت نسبة الطلبة اليهود 1.25% من العدد الكلي للطلاب، ثم زادت النسبة إلى 3.2% عام 1863 حتى وصلت نسبة الطلاب اليهود المسجلين في المدارس الثانوية 13.2% من المجموع الكلي للطلاب عام 1873، وهي نسبة تتجاوز نسبتهم إلى عدد السكان. كذلك زاد عدد الطلاب اليهود المسجلين في الجامعات الروسية، ففي عام 1865 بلغت نسبتهم 3.2% من العدد الكلي للطلاب، ثم زادت النسبة إلى 8.8% عام 1881. ومع ازدياد تسجيل الطلاب اليهود في المدارس الحكومية، أصدرت الحكومة قراراً عام 1872 بإغلاق مدارس التاج التي أنشأتها الحكومة (إلا في الأماكن التي لا توجد فيها مدارس حكومية).
وقد نال دعاة التنوير دفعة قوية وانتشر فكرهم بين كثير من الشباب اليهودي خلال حكم القيصر ألكسندر الثاني (1850 ـ 1881)، حيث أدَّت السياسة الليبرالية إلى تشجيع كثير من اليهود على إرسال أولادهم إلى المدارس الروسية الحكومية. كذلك لعبت الصحافة اليهودية، التي كان معظـم مؤسـسيها وصحفييـها وناشـريها من أتبـاع حركة التنوير، دوراً مهماً في نشر الفكر التنويري داخل مدارس التاج، مثل: مدرسة ريجا، ومدرسة أوديسا، ومدرسة سانت بطرسبرج التي أسستها جمعية نشر التنوير.
كما قام بعض المستنيرين من اليهود بتأسيس مدارس لتعليم البنات، فأُنشئت مدرسة في كل من تشرينجوف (1861) وكيشينيف (1864)، ومدرستان في منسك. وجمعت هذه المدارس بين المواد الدينية والمواد غير الدينية، فدرست المواد الدينية علاوة على الروسية والعبرية والألمانية. وقام دعاة التنوير بتأسيس جماعة نشر الثقافة بين يهود روسيا عام 1863 لتشجيع الشباب اليهودي على الالتحاق بالتعليم الحديث وتبنِّي الثقافة واللغة الروسية. وعاونت هذه الجمعية كثيراً من الشباب على الالتحاق بالمدارس الحكومية الحديثة، كما نشرت كثيراً من المطبوعات بالروسية والعبرية واليديشية.
وكوسيلة لترويس وتحديث الجماعات اليهودية، حاولت الحكومة القيصرية تحديث النظام التعليمي اليهودي التقليدي، ففرضت إشرافها على المدارس الأولية الخاصة (حيدر) وعلى معلميها، كما حاولت تغيير مناهجـها وتحسـين طرق التدريس فيها وتحسين الأوضاع التعليمية داخلها، إلا أن هذه المدارس كان بمقدورها تجاهل قرارات الحكومة نظراً لأنها كانت مدارس خاصة بعيدة عن قبضتها. ومع هذا، فقد تحسنت تجهيزات بعض هذه المدارس وكذلك الأوضاع الصحية داخلها تحت تأثير حركة التنوير، كما زادت رواتب معلميها، إلا أن مناهجها وطرق التدريس فيها لم تتغيَّر كثيراً عما قبل.
ولكن أثر جهود كلٍّ من الحكومة وحركة التنوير في المدارس الأولية الخيرية (تلمود تورا) كان أكثر وضوحاً منه في المدارس الأولية الخاصة (حيدر) حيث إنها كانت مؤسسات تمولها الجماعة، فأدخلت بعض المواد غير الدينية على منهجها مثل اللغة الروسية (والترجمة منها إلى العبرية) والحساب، كما أدخلت التعليم المهني والحرف اليدوية في برامجها. وأُدخل في هذه المدارس نظام الامتحانات كطريقة للتقييم داخلها. كذلك حاولت الحكومة تحديث المدارس التلمودية العليا (يشيفا)، فأصدرت عدة قرارات شملت ضرورة تدريس اللغة الروسية والحساب والخط إلى جانب المواد الدينية، وتنظيم أوقات الدراسة داخلها. إلا أن قرارات الحكومة لم تؤثر كثيراً في هذه المدارس نظراً لكونها - كما أسلفنا - مؤسسات خاصة. ولعل أهم نتائج محاولات الحكومة الروسية تحديث ثقافة وتربية الجماعات اليهودية هو بروز فئة من المثقفين والرأسماليين اليهود لديهم ثقافة علمانية حديثة.
وباغتيال ألكسندر الثاني عام 1881، زادت الاتجاهات الرجعية في روسيا القيصرية، وصدرت عدة قوانين تحدُّ من الحريات ومن فرص الحراك الاجتماعي والاقتصادي للأقليات والجماعات غير الروسية. ولم تكن الجماعة اليهودية سوى إحدى الجماعات التي وقعت ضحية عملية القمع الرجعية، حيث صدرت قوانين مايو عام 1882 التي قلصت حقوقهم كثيراً. كما صدر قانون النسب (1887) الذي حدَّد نسبة قبول التلاميذ والطلبة اليهود في المدارس والجامعات الروسية، فحُدِّدت نسبة الطلبة اليهود المسجلين في التعليم العالي والجامعي بـ 11% في منطقة الاستيطان، و5% خارج منطقة الاستيطان، و3% في كل من مدينتي موسكو وبتروجراد، ثم خُفِّضت النسَب إلى 7% و 5% و 2%على التوالي. وأدَّت القوانين الرجعية التي صدرت خلال هذه الفترة إلى تسييس طبقة المثقفين والمتعلمين من اليهود وانضمامهم إلى الحركات الثورية الروسية أو اعتناقهم الأفكار القومية الصهيونية أو اليديشية. أما الجماهير اليهودية، فقد تعرقل حراكها وبطؤت عملية استيعابها ودمجها في المجتمع الروسي.
ورغم صدور قوانين عام 1887 التي حددت عدد الطلبة اليهود في التعليم العلماني الحديث، إلا أن الطلب على التعليم العلماني استمر بصورة عامة وإن تذبذب بين الارتفاع والانخفاض وفقاً لتطبيق أو عدم تطبيق سياسة النسب التي حددها القانون. وقد بلغت نسبة الطلبة اليهود المسجلين في الجامعات والمعاهد العليا الروسية 13,2% عام 1894، وهبطت إلى 7% عام 1902، ثم ارتفعت مرة أخرى إلى 12% عام 1907، وعاودت الانخفاض مرة أخرى عام 1913 حتى بلغت 7,3%.
فإذا ما أضيف أن عدد الطلاب اليهود المسجلين في جامعات أوربا الغربية، وكان يتراوح بين 1895 و2405 طالب عام 1902/1903، لاتضح أن عدد الطلاب اليهود المسجلين في التعليم العالي العلماني كان آنذاك آخذاً في الزيادة، ومن ثم استمرت حركة علمنة وتحديث ثقافة طبقة المثقفين والمهنيين اليهود. كذلك تزايد عدد المدارس اليهودية الخاصة المتأثرة بالفكر الاندماجي والتي استخدمت اللغة الروسية لغة للتدريس وجمع منهجها بين المواد الدينية وغير الدينية، وإن التحق بها أولاد الميسورين فقط من اليهود. فقد بلغ عدد التلاميذ المسجلين في هذه المدارس قبل الحرب العالمية الأولى نحو 30 ألف تلميذ (نحو 7,5% من مجموع التلاميذ اليهود ممن كانوا في سن التعليم). وظل التعليم في المدرسة الأولية الخاصة (الحيدر) يمثل تعليم المرحلة الأولى لأكثر من نصف الأطفال اليهود المسجلين حيث بلغت نسبتهم 53,8% من مجموع الأطفال اليهود.
ولم تنخفض هذه النسبة حتى عام 1910، الأمر الذي يشير إلى أن استيعاب الجماهير اليهودية في الثقافة الروسية كان يتم ببطء شديد. إلا أن التعليم اليهودي التقليدي في الفترة 1881 ـ 1917 شهد تغيرات أثرت في فلسفته ومحتواه، إذ انعكست عليه عملية التسييس التي حدثت على مستوى المثقفين اليهود، ومن ثم فإن هذا النوع من التعليم خضع للتيارات الأيديولوجية القومية السائدة بين هؤلاء المثقفين، حيث اتجه كل تيار إلى إقامة مدارس يهودية خاصة به تعكس فكره وأيديولوجيته، كما تكاثرت المدرسة الأولية اليهودية وظهرت أشكال عديدة منها.
وفي أواخر التسعينيات من القرن الماضي، بدأت المدرسة الأولية المطوَّرة (بالعبرية: حيدر متوكان) في الظهور. وخضع هذا النوع من المدارس لتأثير الحركة الصهيونية، فكانت المناهج فيها تجمع بين المواد الدينية والمواد غير الدينية، إلا أن المواد الدينية وُجِّهت وجهة صهيونية، فاحتوى منهج هذه المدارس على تعليم اللغة العبرية لا كلغة مقدَّسة، وإنما كلغة قومية تستخدم في شتى المجالات المختلفة للحياة. كما تمت دراسة ما يُسمَّى «تاريخ اليهود» وجغرافية إرتس يسرائيل، أي أرض فلسطين، وزاد الاهتمام بالعهد القديم باعتباره التعبير الحقيقي عن الجوهر اليهودي الأصلي والتعبير الأمثل عن اليهود المرتبطين بأرضهم، على عكس التلمود الذي كُتب بعد النفي (أي بعد انتشار اليهود) خارج فلسطين.
كذلك دُرِّست بعض المواد غير الدينية الأخرى مثل التاريخ العام والرياضيات واللغة الروسية حيث تمت دراستها بشكل موجز ومختصر. وقد اتبعت هذه المدارس تنظيماً حديثاً، فحدَّدت ساعات الدراسة وأدخلت نظام الامتحانات ومنحت شهادات لخريجيها. كذلك تم تحسين معداتها وطرق التدريس المتبعة فيها. وكان بعض هذه المدارس مختلطاً، ثم قامت جمعية أحباء صهيون بتأسيس مدارس مخصَّصة للبنات حيث بدأت إقامة هذه المدارس في جنوب روسيا في منطقة كييف وبساربيا وأوديسا، ثم انتشرت في منطقة الاستيطان وفي جاليشيا النمساوية، وكذلك في بعض أجزاء من رومانيا.
وارتبط انتشار المدرسة الأولية المطوَّرة بحركة إحياء اللغة العبرية، فنادى آحاد هعام بـ «أُسَر المدارس» كوسيلة لنشر الفكر الصهيوني واللغة العبرية، وكان من قادتها عدد من الصهاينة مثل وايزمان وديزنجورف والشاعر بياليك. وبعد اعتراف الحكومة الروسية بجمعية أحباء اللغة العبرية عام 1907، أشرفت هذه الجمعية على العديد من المدارس الأولية للبنين والبنات ودور الحضانة، كما أقامت فصولاً مسائية لتعليم اللغة.
وفي الوقت نفسه لعبت جماعة نشر الثقافة بين يهود روسيا دوراً مهماً في نشر هذه المدارس، وجُنِّد بعض خريجي المدارس التلمودية للتدريس في هذه المدارس. وطوِّر منهج جديد لهذه المدارس، وافتُتح فصل جديد لتدريس العبرية عن طريق المحادثة، كما عُقدت برامج صيفية لتدريب معلميها. وفي وارسو، فُتحت حضانة للأطفال اليهود عام 1909، وبدأت دورات تدريبية لمعلمي الحضانات على طريقة فروبل. ونظم معلمو هذه المدارس أنفسهم في نقابة في جاليشيا. ولعبت نقابة المعلمين دوراً في تحسين التدريب داخل هذه المدارس، فظهرت كتب مدرسية ومطبوعات للأطفال والشباب والكبار باللغة العبرية.
كما ظهرت مدارس أولية خاصة متأثرة بالفكر القومي اليديشي. ففي عام 1908، صرح مؤتمر شيرنوفتس الذي عقده أتباع هذا الاتجاه بأن اليديشية هي اللغة القومية للجماعات اليهودية في روسيا، ومن ثم كثفت الدوائر اليديشية جهودها لتأسيس شبكة من المدارس تستخدم اللغة اليديشية كلغة للتعليم. لكن نجاح هذه الحركة كان محدوداً نظراً لمعارضة كل من الحكومة الروسية والاندماجيين من اليهود والصهاينة لهذا التيار الفكري. ورغم هذا، فإن جماعة نشر الثقافة قامت عام 1909 بإعانة نحو 27 مدرسة منها 16 مدرسة للبنات و3 للبنين و 8 مدارس مختلفة احتوى منهجها على تعليم اليديشية. وخلال الحرب العالمية الأولى، حينما رفع الحظر عن هجرة يهود منطقة الاستيطان إلى داخل روسيا، كان هناك 42 مدرسة تستخدم اللغة اليديشية مقيَّد بها 6000 تلميذ و130 مُعلماً، كما منحت السلطات الروسية المدارس الخيرية الأولية (تلمود تورا) تصريحاً بتدريس بعض المواد باليديشية.
أما المدارس التلمودية العليا، فلم يحدث فيها كثير من التغير لا في مناهجها ولا في طرق تدريسها، بل أغلقت الحكومة الروسية عام 1892 مدرسة فولوجين التلمودية العليا لتجاهلها التنظيمات التي أصدرتها الحكومة الروسية. وقد ظهرت شبكة من المدارس التلمودية العليا في بعض المدن الروسية تحت تأثير حركة الموزار. كما ظهرت بعض المدارس التلمودية المطوَّرة مثل مدرسة ليدا العليا عام 1905، والتي كان من مهامها إعداد الحاخامات والمعلمين من خلال تعريفهم بالثقافة عامة وإعطاء الطلبة الذين سينخرطون في الأعمال التجارية ثقافة يهودية. وأُسِّست في العام نفسه مدرسة عليا للدراسات اليهودية.
ومع بداية الحرب العالمية الأولى، كان هناك ثلاثون مدرسة تلمودية عليا (يشيفا) مسجلاً فيها حوالي 10 آلاف طالب في روسيا، وقد غطت هذه المدارس معظم دول البلطيق ومعظم بولندا وبساربيا.
يتبع إن شاء الله...