الباب العاشر: روسـيا القيصرية حتى عام 1855
روسيا من القرن التاسـع حتى التقسيم الأول لبولنـدا
Russia, from the Ninth Century to the First Partition of Poland
يعود وجود الجماعات اليهودية في روسيا إلى القرن التاسع الميلادي حين توسعت مملكة الخزر اليهودية في وادي الفولجا ومناطق أخرى من روسيا. وقد اشترك يهود الخزر، حسبما ورد في الموروثات الشعبية الروسية، في المناظرة الدينية التي عقدت بين ممثلي الديانات التوحيدية الثلاث عام 986 أمام أمير كييف وقد اعتنق بعدها المسيحية وأصبحت الأرثوذكسية هي الدين الرسمي لروسيا. وبعد أن استقر اليهود في المدينة باعتبارها مركزاً تجارياً يربط بين منطقة البحر الأسود وآسيا وغرب أوربا وأصبح لهم جيتو خاص بهم، قوبلوا بعداوة شديدة من بلد اعتنق المسيحية لتوه ويضم طبقة تجار بدائية للغاية. وبعـد غزو التتار لروسـيا في القرن الثالث عشـر وتدهـور إمارة كييف، زاد النشاط التجاري لأعضاء الجماعة لأن الإمبراطورية التترية جمعت الجماعات اليهودية كافة داخل إطار سياسي واحد سهَّل عملية انتقالهم. كما يبدو أن التتار كانوا يعتبرون اليهود من ذوي القربى باعتبار أن الجميع من أصل تركي.
وفي القرن الخامس عشر، ظهرت فرقة متهودة بين الروس في مدينة نوفجورود. ورغم أنه تم القضاء عليها، فإنها عمقت مخاوف المؤسسة الدينية الأرثوذكسية من اليهود. و استمرت الحركة التجارية لأعضاء الجماعة اليهودية، مع هذا، من وإلى روسيا. وكان إيفان الرهيب (1533 ـ 1584) أول حاكم روسي يقرر طرد أعضاء الجماعة اليهودية من روسيا، ويعود هذا إلى رغبته في استبعاد أية عناصر تجارية أجنبية. وبعد الفترة التي تُعرف باسم «زمن المتاعب» في التاريخ الروسي (1598 ـ 1613) والتي شهدت اعتلاء أمير بولندي العرش الروسي، ونشوب حرب أهلية، زاد عمق الرفض الروسي لليهود حيث إن مغتصبي العرش من البولنديين أحضروا معهم كثيراً من صنائعهم اليهود. لكل هذا، مُنع أعضاء الجماعات اليهودية من دخول روسـيا إلا لأسـباب خاصة مثل حضـور سـوق تجاري أو غيره من الأسباب. وظل هذا الحظر أحد ثوابت السياسة الروسية حتى تقسيم بولندا في أواخر القرن الثامن عشر.
ولعل خوف روسيا القيصرية من أعضاء الجماعات اليهودية هو خوف العناصر الزراعية التقليدية من عنصر غريب له علاقات دولية واسعة في دولة جديدة لم تكن سلطتها قد تدعمت بعد (ولم تتدعم لمدة طويلة نظراً لترامي أطراف البلاد ونظراً لأنه عنصر تجاري له مصالحه المالية الخاصة التي لا تتفق بالضرورة مع مصالح الدولة). كما أن هناك قوى اجتماعية داخل روسيا لم يكن في صالحها البتة السماح لليهود بالاستقرار، من أهمها التجار الروس الذين كانوا يرزحون تحت عبء الضرائب والذين كان عليهم أن يدخلوا منافسة غير متكافئة مع بعض أعضاء طبقة النبلاء الذين اشتغلوا بالتجارة والذين كانوا يتمتعون بمزايا عديدة وبمساندة البيروقراطية الحكومية. بل كان هؤلاء التجار يجدون أنفسهم (أحياناً) في منافسة مع الفلاحين الذين كانوا يشتغلون بالتجارة والصناعات المنزلية، كل هذا داخل سوق محدودة مكبلة بالقوانين الإقطاعية الاستبدادية التي لا حصر لها. وإذا أضفنا إلى هذا كله أن الحجم المالي للتجار الروس كان صغيراً في معظم الأحوال، لأدركنا سبب وقوف التجار الروس ضد دخول العنصر اليهودي التجاري النشيط الذي لا تكبله القيم المسيحية أو القوانين الطبقية والذي يتحكم في رأسمال سائل لا بأس به. ووجد هذا الموقف صدى في نفس حكومة كانت تكتسب شيئاً من شرعيتها باعتناقها الأرثوذكسية. ورغم أن الفكر المركنتالي وجد طريقه إلى روسيا في مرحلة لاحقة، إلا أن التجار استمروا في معارضة نشاط اليهود التجاري وفي المطالبة بالحد منه حتى اندلاع الثورة البلشفية. ومن الثوابت الأخرى التي كانت عنصراً قوياً ومحدداً في السياسة الروسية القيصرية أن اليهود كانوا يشكلون عنصراً متحركاً غير مستقر على رقعة أرض مقصورة عليهم، كما هو الحال مع الشعوب والأقوام والأقليات والطوائف الأخرى داخل الإمبراطورية، الأمر الذي خلق لهم وضعاً خاصاً ومشاكل معينة.
وقد ضمت روسيا مقاطعة روسيا البيضاء في أول تقسيم لبولندا عام 1772، وضمت في التقسيم الثاني منطقة منسك في الشمال وفولينيا (في مقاطعة كييف) ومنطقة بودوليا في الجنوب، أي أنها ضمت بذلك أوكرانيا كلها. ثم ضمت في التقسيم الثالث ليتوانيا. وقد ضمت كل هذه المقاطعات (وضمن ذلك كورلاند وبيالستوك التي حصلت عليهما روسيا فيما بعد) إلى روسيا نفسها، بينما أصبحت بولندا المركزية (التي كانت تضم نحو ثلاثة أرباع دوقية وارسو النابليونية) تكوِّن ما يُسمَّى «بولندا المؤتمر» أو «بولندا الروسية» (وكان اسمها الرسمي «مملكة بولندا» حتى عام 1830 كما كان لها دستورها الخاص). وكانت هذه المقاطعات تضم أغلبية يهود شرق أوربا (يهود اليديشية) الذين انطلقوا من هذه المناطق بعد ضمها، واستوطنوا المناطق الجنوبية من روسيا وساحل البحر الأسود ومقاطعة بيساربيا، وهي مناطق كانت تابعة للدولة العثمانية، وقامت روسيا بضمها باسم «روسيا الجديدة» (كانت توجد جماعات يهودية أخرى فيها ولكنها كانت جماعات صغيرة للغاية ولم يكن لها مسألة يهودية فقد كانت مندمجة تماماً في محيطها الحضاري). ولذا فرغم وجود جماعات يهودية إلا أننا نتحدث في معظم الوقت عن «الجماعة اليهودية» وحسب، وتعني «يهود اليديشية» لأنهم كانوا الأغلبية الساحقة وكذلك كانوا أصحاب «المسألة اليهودية». كما تسللت مجموعات صغيرة من اليهود إلى وسط روسيا نفسها.
وكان وضع أعضاء الجماعة اليهودية في المناطق البولندية متميِّزاً تماماً من الناحية الثقافية والاجتماعية والوظيفية. إذ كانت أعداد كبيرة منهم تعمل بنظام الأرندا (استئجار عوائد القرى وضمنها الضرائب والمطاحن والغابات والحانات من النبلاء البولنديين الغائبين) كما كان بين اليهـود تجار وأصـحاب حـوانيت وباعـــة جائلون. وكان الباقون حرفيين يعملون للنبيل الإقطاعي والفلاح. وحســب التقديرات، كان التركيب الوظيفي لليهود على النحو التالي: 1% فقط كانوا يعملون في الزراعة، و3% في الأعمال الدينية، و30% يعملون في نظام الأرندا، و30% يعملون في التجارة والرهونات، و15% في الحرف المختلفة. وكان من أهم الوظائف التي يضطلع بها اليهود، والتي أصبحت جزءاً أساسياً من مشكلتهم، تقطير الخمور وبيعها في الحانات التي استأجروها من النبلاء في إطار نظام الأرندا. كما يُلاحَظ أن التجارة اليهودية كانت تجارة طفيلية، وكان التجار اليهود يشتغلون بتهريب البضائع ويتهربون من الضرائب نظراً لوجودهم في المنطقة الحدودية وبسبب استخدامهم اليديشية وسيلة للتفاهم، الأمر الذي يسَّر لهم عمليات التهريب والتهرب والتلاعب بالأسعار. ومع هذا، ظلت نسبة كبيرة من أعضاء الجماعة تعاني من الفاقة، فكان هناك 21% منهم بدون وظيفة محدَّدة.
ولكن لم يكـن التمـيز وظيفياً أو طبقياً وحسـب وإنما كان ثقافياً ولغوياً. وأعضاء الجماعة اليهودية كانوا يشكلون جماعة وظيفية وسيطة يدين أعضاؤها باليهودية ويتحدثون اليديشية ويمثلون المصالح المالية للنبيل البولندي الذي يتحدث البولندية ويدين بالكاثوليكية بين الفلاحين والأقنان الأوكرانيين الذين يتحدثون الأوكرانية ويدينون بالمسيحية الأرثوذكسية. وأعضاء الجماعة الوظيفية اليهودية هم عنصر ألماني يعيش في وسط سلافي، ويظهر تميزهم حتى في الطريقة التي كانوا يحلقون بها رؤوسهم (واللحية والسوالف) وفي أزيائهم المتميِّزة (كفتان) وفي أسمائهم. كما تظهر عزلتهم في نظامهم التعليمي المقصور عليهم، وفي الشتتلات التي أسسها لهم النبلاء الإقطاعيون البولنديون (وهي مدن صغيرة تضم التجار والوكلاء والحرفيين اليهود). وكان اليهود يكوِّنون أغلبية السكان في هذه المدن الصغيرة، وهو ما كان يعني عدم احتكاكهم بالسكان. كما كانت تعيش أعداد كبيرة منهم في بعض القرى. كانت هذه الكتلة البشرية اليديشية اليهودية على وشك الزيادة الهائلة إثر انفجار سكاني لم تعرف الجماعات اليهودية مثيلاً له في التاريخ.
وهي برغم عزلتها، لم تكن متماسكة، إذ كانت الصراعات الاجتماعية قد بدأت تترك أثرها في مؤسسة القهال، وهي منازعات أخذت شكل الصراع بين الحسيديين ومعارضيهم من أعضاء المؤسسة الحاخامية الذين أُطلق عليهم المتنجديم. وكانت المنطقة التي ضمتها روسيا تضم أهم مناطق تركز الحسيديين وأهم المدارس التلمودية العليا (يشيفا) الخاصة بالمتنجديم في ليتوانيا. وضمت روسيا، كما تَقدَّم، بودوليا التي كانت مركز الحركة الفرانكية والحسيدية. وحينما دخلتها القوات الروسية، أطلقت سراح فرانك، وكانت اليهودية الحاخامية قد دخلت أزمتها الكبرى. وفجأة، وجدت هذه الكتلة البشرية نفسها تابعة لتشكيل اقتصادي سياسي حضاري جديد (روسيا القيصرية)، تشكيل كان يرى دائماً ضرورة نبذهم والتخلص منهم، تسيِّره حكومة استبدادية متخلفة لا تسمح بالتعددية الدينية أو الفكرية أو المهنية، سياستها في جوهرها هي سياسة الملوك المطلقين المستبدين المستنيرين على نحو ما كان في وسط أوربا والنمسا وألمانيا (أي التحديث بالقوة ومن فوق). ولم تكن لدى هذه الحكومة أية خبرة باليهود أو مشاكلهم، كما أن روسيا نفسها كانت على عتبات انفجارات اجتماعية ضخمة نتيجة عملية التحديث والعلمنة التي كانت تخوضها (وهـي انفجـارات أدَّت في نهاية الأمر إلى قيـام الثـورة البلشفية). وتاريخ المسألة اليهودية في روسيا هو تاريخ الاحتكاك بين الكتلة البشرية اليهودية المنعزلة، بكل تَخلُّفها ومشاكلها وتَميُّزها من جهة، والبيروقراطية القيصرية المتخلفة بكل وحشيتها وتَعصُّبها وانعدام كفاءتها من الجهة الأخرى.
وظلت المشكلة قائمة دون حل. وكلما احتدمت الأزمة، كانت الحكومة الروسية تشكل لجنة لدراسة الموقف لترفع بدورها توصياتها للحكومة. وكانت هذه التوصيات تستند في معظم الأحيان إلى فلسفات شمولية مطلقة، وتنبع من جهل عميق بآليات الظواهر الاجتماعية ويتولى تنفيذها جهاز تنفيذي متعصب جاهل فاسد يتسم بعدم الكفاءة. وظل التناقض الأساسي في سياسة الحكومة القيصرية بين رغبتها في التحديث والتنمية الاقتصادية من جهة والشكل الاستبدادي السياسي الذي يُفشل كل المحاولات التي تستهدف حل المسألة اليهودية من جهة أخرى. وقد تعثر تماماً تحديث اليهود بل تحديث المجتمع ككل، في أواخر القرن التاسـع عشـر، واحتدم التناقـض بين الحقيقة الاجتماعية والشكل المتكلس، الأمر الذي نجمت عنه مجموعة من الاضطرابات والثورات انتهت بالثورة البلشفية التي حلت المسألة اليهودية والمسائل القومية الأخرى بطريقة نوعية مختلفة.
روسـيا مــن تقسـيم بولنــدا حـتى عـام 1855
Russia, from the Partition of Poland to1855
أدَّى تقسيم بولندا إلى ضم أجزاء كبيرة منها إلى روسيا، وبذلك ضمت روسيا أجزاء كبيرة من الكتلة البشرية اليهودية اليديشية. ولأن النبلاء البولنديين كان محرماً عليهم التجارة (حيث تفرغوا لأعمال السياسة والحرب)، وكان الأقنان ملتصقين بالأرض، كما كانت طبقة التجار ضعيفة للغاية، اضطلع اليهود بوظيفة طبقة التجار والحرفيين وأصبحوا جماعة وظيفية وسيطة. هذا على عكس روسيا إذ لم تكن التجارة هناك مهنة وضيعة، وكانت هناك طبقة من الحرفيين تزداد قوة. كما كانت الحكومة نفسها تقوم بالتجارة ويضطلع بعض النبلاء بالوظيفة نفسها. وكانت روسيا، من الناحية الاقتصادية، مستعمرة إنجليزية أو منطقة نفوذ للاقتصاد الإنجليزي. وبعد الحصار الذي فرضه نابليون على إنجلترا على نطاق القارة كلها، حدث تَقدم صناعي وتجاري نظراً لاضطرار روسيا إلى الاعتماد على نفسها. وعلى سبيل المثال، كانت روسـيا تملك عـام 1804 نحو 199 مصـنع قطـن زاد إلى 423 عام 1814، وزادت واردات القطن من الولايات المتحدة من 204 أطنان عام 1809 إلى 3787 طناً عام 1811.
ومن كل هذه الحقائق، يمكن القول بأن الاقتصاد الروسي لم يكن في حاجة إلى أعضاء الجماعة اليهودية. ومع هذا، تم ضمهم نتيجة توسُّع الدولة القيصرية. ولم تكن المسألة اليهودية المسألة الوحيدة التي جابهتها الحكومة القيصرية، فقد كان هناك مسألة إسلامية ومسألة تترية ومسألة بولندية ومسألة أوكرانية، إذ كانت الإمبراطورية القيصرية مترامية الأطراف تضم مئات الأقليات والتشكيلات الحضارية المختلفة التي كانت تحاول أن تفرض عليها ضرباً من الوحدة حتى تتمكن الحكومة المركزية من التعامل معها. وقسَّمت الحكومة القيصرية هذه الأقليات إلى قسمين أساسيين: الأقليات السلافية (أوكرانيا وبولندا وغيرهما)، والأقليات غير السلافية. وكان يُطلَق على الأقليات غير السلافية مصطلح «الإينورودتسي inorodtsy». وهذه كلمة روسية كانت تشير في بادئ الأمر إلى قبائل السكان الأصليين التي تقطن سيبيريا، ثم اتسع نطاق الكلمة الدلالي فأصبحت تشير إلى كل الشعوب غير السلافية. وكانت السياسة العامة تهدف إلى ترويسهم. وغني عن البيان أن إجراءات الترويس، بالنسبة للأقليات غير السلافية، كانت أكثر راديكالية وعنفاً، وخصوصاً إذا كانت تلك الأقليات لا تدين بالمسيحية (ومع هذا ينبغي الإشارة إلى أن اللون أو العرْق بدأ يكتسب دلالة محورية مع تصاعد معدلات العلمنة في الإمبراطورية الروسية وتعمُّق الرؤية العرْقية. وحيث إن يهود اليديشية كانوا من البيض، ومع تَزايُد معدلات ترويسهم، أُعيد تصنيفهم بحيث أصبحوا «روساً» ووُطنوا على هذا الأساس في روسيا الجديدة وفي الخانات التركية التي ضمتها روسيا وذلك باعتبارهم عنصراً روسياً استيطانياً). ومهما كان الأمر، فإن الإمبراطورية القيصرية كانت «سجناً للشعوب».
وقد بدأت الحكومة القيصرية علاقتها بأعضاء الجماعات اليهودية بالاعتراف بالقهال وبصلاحياته الدينية والقضائية، كما تم الاعتراف بالجماعة اليهودية (اليديشية) بوصفها جماعة مستقلة في المدن والقرى. وفي عام 1783، صُنِّف اليهود ضمن سكان المدن وأصبحت لهم حقوق غير اليهود نفسها (مثلاً: انتخاب مجالس المدن والبلديات وحق التمثيل فيها). واستقر بعض التجار اليهود في موسكو وسمولنسك، فدخلوا في منافسة مع التجار المسيحيين بطرق شرعية وغير شرعية. وحينما اشتكى تجار موسكو من هذا الوضع، صدر فرمان عام 1791 يحظر على اليهود الاتجار خارج روسيا البيضاء. ويُعَدُّ هذا الفرمان الأساس القانوني لمنطقة الاستيطان، وقد سُمح لمجالس القهال بأن تستمر في عملها بكل صلاحياتها.
وشهدت هذه المرحلة قيام روسيا بضم بعض الإمارات الإسلامية التابعة لتركيا على ساحل البحر الأسود، وسُمِّيت هي ومناطق أخرى باسـم «روسـيا الجديـدة». ولما كان أعضـاء الجماعات اليهودية يُنظَر إليهم، في التشكيل الحضاري الغربي، باعتبارهم عنصراً ريادياً حركياً وجماعة وظيفية استيطانية يمكن استخدامها في مثل هذه العملية، كما فعل شارلمان من قبل وكما فعلت القوات المسيحية في إسبانيا والنبـلاء البولنـديون في أوكرانيا والاسـتعمار الغربي في فلسـطين فيما بعد، قامت الحكومة القيصرية بتشجيعهم على الاستيطان في المناطق الجديدة، باللجوء إلى طريقة الطرد والجذب، فضوعفت الضريبة المفروضة على التجار اليهود في الإمبراطورية، بينما أُعفي المستوطنون في روسيا الجديدة من الضرائب كافة. واستثنى هذا المرسوم اليهود القرّائين، وكان هذا أيضاً أحد ثوابت السياسة القيصرية تجاه اليهود. وفي الوقت نفسه، تفاقمت مشكلة السُكْر بين الفلاحين، وساعدت المجاعة التي وقعت عام 1797 على تعميق المشكلة. ورغم أن اليهود كانوا السبب الواضح والمباشر أمام الجميع (إذ أن أغلبية صانعي الخمر وبائعيها كانوا من اليهود، كما أنهم هم الذين كانوا يديرون معظم الحانات)، إلا أنهم لم يكونوا في واقع الأمر السبب الحقيقي لإدمان الفلاحين الروسيين المشروبات الكحولية. وشُكِّلت لجنة لبحث المسألة اليهودية في روسيا برئاسة الشاعر الروسي السناتور جافريل ديرجافين (1743 - 1816) الذي رأى أن اليهود يستغلون الفلاحين الروس وأن عزلتهم الطبقية والحضارية هي سبب العداء ضدهم. وبناء على ذلك، طالب ديرجافين بضرورة ترويسهم بالقوة وتغيير بنائهم الاقتصادي والوظيفي حتى يتسنى استيعابهم كيهود نافعين في المجتمع الروسي. ووضع بذلك الإطار الأساسي لجميع المحاولات التي بذلتها الحكومة القيصرية لحل المسألة اليهودية.
وبعد أن اعتلى ألكسندر الأول العرش (1801 ـ 1825)، شُكِّلت لجنة تدعى مجلس الشئون اليهودية التي أصدرت قراراتها عام 1804، والتي سمىت «قانون اليهود الأساسي» أو «دستور اليهود». وجاء ضمن هذه القرارات أن اليهود يجب نقلهم خارج المناطق الزراعية بين عامي 1807 و 1808، كما أوصت القرارات بضرورة إبعادهم عن استئجار الحانات أو استئجار الأراضي الزراعية بهدف الربح (حتى يمكن تحويلهم إلى عنصر اقتصادي منتج). ولتنفيذ هذا المخطط، وُضع تحت تصرفهم بعض أراضي القيصر، وأُعفي المزارعون اليهود من الضرائب لمدة تتراوح بين خمسة وعشرة أعوام، كما أنهم لم يُصنَّفوا كأقنان مرتبطين بالأرض، بل احتفظوا بحقوقهم في حرية الحركة والسكنى. ووعدت الحكومة كذلك بتقديم العون للمصانع التي تقوم باستئجار العمال والحرفيين من أعضاء الجماعة اليهودية. وسُمح للعاملين بالصناعة من أعضاء الجماعة اليهودية أن يستقروا داخل روسيا، وضمن ذلك موسكو وسانت بطرسبرج. كما حدَّ القانون الأساسي من سلطة القهال، وأصبح تنظيم الأمور الدينية والعبادات من اختصاص الحاخامات الذين كان يتم اختيارهم دون الرجوع إلى القهال.
ولم تتجاوز صلاحيات القهال، في القانون الأساسي، تحديد الضرائب وجمعها وإحصاء عدد السكان اليهود. وتقرر ألا يوجد سوى قهال واحد في كل مدينة، كما سُمح لكل فرقة دينية بأن يكون لها معبدها اليهودي وحاخامها الخاص (الأمر الذي أدَّى إلى تحسين وضع الحسيديين) وفُتحت أبواب المدارس الحكومية العلمانية أمام أعضاء الجماعة اليهودية. وتقرر أنه ما لم يرسل اليهود أولادهم فإنه سيتم فتح مدارس يهودية علمانية خاصة على حسـاب أعضـاء الجماعـة اليهودية. وأصبح من شروط شـغل وظيفة حاخام، أو عضوية مجلس إدارة القهال أو البلدية، معرفة الألمانية أو الروسية أو البولندية. كما تقرر أن يكتب أعضاء الجماعة جميع وثائقهم وأوراقهم التجارية بإحدى اللغات الثلاث دون العبرية أو اليديشية. وأكد القانون حق اشتراك اليهود في الانتخابات الخاصة بالحكومات المحلية ومُنع ارتداء الأزياء اليهودية التقليدية وقص الشعر على الطريقة اليهودية وترك السوالف، وأصبح توجيه تهمة الدم جريمة يعاقب عليها القانون (1818). وكانت استجابة الجماعات اليهودية سلبية إلى أقصى درجة، وصاموا حداداً على صدور هذه القرارات بل اقترحت بعض القهالات تأجيل الإصلاحات إلى فترة تتراوح بين خمسة عشر وعشرين عاماً.
ولم تنجح الحكومة القيصرية في تنفيذ توصيات اللجنة بسبب ضعف البيروقراطية وفساد النظام الإداري (فكثيراً ما كان الموظفون يتقاضون الرشاوى ويتغاضون عن تعليمات الحكومة)، وبسبب عدم الثقة المتبادل بين الحكومة وأعضاء الجماعة اليهودية. كما أن القرارات الخاصة بنقل أعضاء الجماعة اليهودية من القرى لم تكن واقعية إذ أن وجودهم فيها لم يكن أمراً من اختيارهم وإنما كان واقعاً اجتماعياً فرضته عليهم ظروفهم والظروف الاقتصادية المحيطة بهم، فقد كان أعضاء الجماعة يقومون في واقع الأمر بوظيفة مهمة بالنسبة للريف الروسي حتى ولو كانت لهذا جوانب سلبية من الناحية الاجتماعية. وعلى كل حال، لم تُتَخذ خطوات تنفيذية لطرد اليهود من القرى إلا عام 1822، وخصوصاً في مقاطعة بيلوروسيا أي روسيا البيضاء. ولكن كثيراً ما كان يتم طرد اليهود دون تأمين الأرض الزراعية لهم، الأمر الذي كان يعني محاولة تغيير وضع اليهود الوظيفي فشلاً مؤكداً. بل كان يتم أحياناً تأمين الأرض ثم يصل المستوطنون ليكتشفوا أنه لا توجد تسهيلات للسكنى أو الري أو الصرف.
وتوقف كثير من الإصلاحات أثناء الحرب الروسية الفرنسية حين قام نابليون بغزو روسيا. وقد وقف أعضاء الجماعة اليهودية أثناء هذه الحرب، إلى جانب الحكومة الروسية، لأن المؤسسة الحاخامية كانت تعتبر نابليون عدو اليهودية اللدود، بل قام اليهود بالتجسس لحساب الحكومة القيصرية على القوات الفرنسية (وإن كان هذا لم يمنع وجود بعض حالات متفرقة قام فيها اليهود الروس بالتجسس على روسيا لحساب الفرنسيين). وفي أواخر حكم ألكسندر الأول، كانت هناك محاولة لتنصير اليهود عن طريق الوعد بإعتاقهم وإعطائهم حقوقهم السياسية. وكان العقل المدبر وراء هذه الفكرة هو لويس واي، رئيس جمعية الكتاب المقدَّس في إنجلترا الذي أسَّس جمعية المسيحيين الإسرائيليين عام 1817 تحت رعاية الإمبراطور. ثم صدر قرار بمنع اليهود من استئجار خدم مسيحيين ومن السكنى في منطقة طولها خمسون فرسخاً (نحو 33 ميلاً) على الحدود، ولم يستثن من ذلك سوى ملاك الأراضي.
وبدأت مرحلة جديدة في تاريخ الجماعة اليهودية باعتلاء نيقولا الثاني العرش (1825 - 1855)، وهذا بعد إخماد الثورة المعروفة باسم «ثورة الديسمبريين»، وهم مجموعة من النبلاء المتأثرين بالأفكار الغربية، وكان من بينهم صاحب الأفكار اليعقوبية بول بستل، وهو صاحب مشروع صهيوني لحل المسألة اليهودية. وقد صعَّد نيقولا سياسة الترويس والدمج القسرية، فصدر مرسوم عام 1827 بفرض الخدمة العسكرية على يهود روسيا، وكانوا قبل ذلك يدفعون ما يشبه البدل النقدي، وكانت فترة الخدمة في الجيش الروسي تستمر خمسة وعشرين عاماً، وأوكل للجماعة اليهودية نفسها أن تقوم باختيار الفتيان الذين يتم تجنيدهم، وكانت كل جماعة يهودية تعين خطافين ليمسكوا الفتيان (من أبناء الفقراء في العادة) لتسليمهم إلى الحكومة، وهو ما زاد حدة الصراعات الاجتماعية. ويُلاحَظ أن هذا القانون لم يُطبَّق على يهود بولندا وحسب وإنما كان يُطبَّق على الروس كافة من مسيحيين وغيرهم. وكان الاختلاف الوحيد في عدد المجندين، فبينما كانت النسبة 7 من ألف بين المسيحيين، كانت 10 من ألف بين غير المسيحيين. وأُعفي المثقفون والتجار والحرفيون من الخدمة العسكرية نظير ألف روبل، كما أعفي العاملون في القطاع الزراعي في مرحلة لاحقة. وكان الهـدف من الخـدمة العســكرية هو مزيد من الدمج والترويس القسريين. ومع هذا، كان نظام التجنيد قاسياً بل غير إنساني، وذلك لصغر سن المجندين على وجه الخصوص. ولكن لم يُجنَّد في نهاية الأمر سوى عدد صغير من أعضاء الجماعة اليهودية يتراوح بين 26 و60 ألفاً في فترة 28 سنة. فإذا أخذنا بالمتوسط وهو 45 ألفاً، فإن هذا يعني أن عدد المجندين لا يزيد على ألف وخمسمائة مجند في السـنة من مجـموع يهـود روسـيا البالغ عددهم آنذاك ثلاثة ملايين.
ثم صدر قرار عام 1835 لم يكن مختلفاً في جوهره عن قرار عام 1804، فأُعيد بمقتضاه تحديد منطقة الاستيطان. وحرَّم القانون استئجار الخدم المسيحيين، وحظر على أعضاء الجماعة اليهودية الزواج المبكر، وحدَّد الحد الأدنى لسن الزواج بثماني عشرة سنة للذكور وست عشرة سنة للإناث، كما حظر استخدام اليديشية أو العبرية في الأعمال التجارية وغيرها من النشاطات. وحُدِّدت المهن التي يُسمح لأعضاء الجماعة اليهودية أن يعملوا فيها، كما حُرِّم عليهم (عام 1825) دخول القرى.
وأبقى القانون على القهال ليقوم بجمع الضرائب وتطبيق القوانين الروسية، وليصبح مسئولاً عن الأمور الدينية والخيرية، وصـرح ببناء المعـابد شـــريطة أن تكون على مسافة معقولة من الكنائس، واعتُبر الحاخامات موظفين حكوميين لا تقتصر مهمتهم على الجوانب الدينية فأصبح من واجبهم الرقابة على الجوانب الأخلاقية العامة وعلى أداء أعضاء الجماعة اليهودية لواجباتهم المدنية للدولة والمجتمع. وفُتحت أمام أعضاء الجماعة اليهودية أبواب المدارس العامة، وفُرضت الرقابة على كتبهم (عام 1836).
ويبدو أن الحكومة القيصرية بدأت تشعر في هذه المرحلة بأن ما سـمته الروح التلموديـة (وليـس اليهودية نفسها) هو سـبب عزلة اليهود. ولذا، قامت الحكومة باستشارة أثرياء اليهود الروس باعتبارهم خبراء في الشئون اليهودية، كما طلبت العون من المفكرين اليهود دعاة التنوير ومن يهود الغرب الذين تم تحديثهم. وكانت نتيجة المشاورات والمداولات مؤيدة لموقف الحكومة. وكان أهم داعية لهذه السياسة وزير التعليم أوفاروف وكان كثير من دعاة التنوير اليهود يتفقون معه، من بينهم إسحق بير ليفينسون في كتابه التعليم في إسرائيل (عام 1828). وأُغلق كثير من المطابع العبرية بهدف الحرب ضد الخرافات الحسيدية والتعصب الناجم عن دراسة التلمود. ويُلاحَظ أن موقف الحكومة القيصرية من القرّائين كان متسامحاً للغاية لأنهم لا يؤمنون بالتلمود.
واتجهت الحكومة الروسية أيضاً نحو علمنة التعليم اليهودي، وحاولت تطبيق المشروع الذي طرحه ليفينسون في كتابه. ولتحقيق هذا الهدف، استدعت التربوي الألماني اليهودي ماكس ليلينتال (1815 ـ 1882) حتى يمكنه أن يقرب فكرة التعليم العلماني ليهود روسيا وليؤكد لهم حسن نية الحكومة. وكان ليلينتال يعمل مدرساً في إحدى المدارس التي أسسها دعاة التنوير اليهود في ريجا. فقام برحلة استطلاعية، ولكنه قوبل بعداوة شديدة من الجماهير اليهودية التي سمته «الحليق»، أي الذي حلق لحيته وسوالفه. وكان كثير من دعاة التنوير اليهود يرون أن تحديث الجماهير اليهودية لا يمكن أن يتم بالطرق الديموقراطية، وأنه لابد من استخدام نوع من القسر والإرهاب، وأيَّدهم في ذلك أعضاء البيروقراطية الروسية. وأوصى ليلينتال بإغلاق المدارس الدينية التقليدية ومنع المدرسين التقليديين من التدريس واستجلاب مدرسين من الخارج. وتم بالفعل تأسيس مدارس علمانية يهودية مُوِّلت من ضريبة الشموع (شموع السبت)، وقام بالتدريس في هذه المدارس مسيحيون ويهود من دعاة التنوير، وأُسِّست مجموعة من المدارس لتدريب حاخامات ومدرسين يهود، وكانت هذه المدارس الإطار الذي تم فيه تدريب وتعليم أعداد كبيرة من دعاة التنوير المتحدثين بالروسية والذين لعبوا دوراً مهماً في الحركات الاندماجية والثورية والعدمية.
وتبع ذلك إلغاء القهال (عام 1844) مع الإبقاء على إطار تنظيمي إداري عامّ. واستمر المسئولون عن التجنيد وكذلك جامعو الضرائب في أداء عملهم. وابتداءً من عام 1851، بدأت الحكومة الروسية تنهج النهج الألماني في تقسيم أعضاء الجماعات اليهودية إلى يهود نافعين ويهود غير نافعين. وكان الفريق الأول يضم كبار التجار والحرفيين والمزارعين الذين كانوا يتمتعون بمعظم حقوق المواطن الروسي. أما الفريق الثاني الذي كان يضم بقية اليهود من صغار التجار وأعضاء الطبقات الفقيرة، فكان الأمر بالنسبة إليهم مختلفاً إذ كان عليهم أداء الخدمة العسكرية حيث كان بوسعهم أن يتعلموا بعض المهن النافعة، فإن تعلموها صُنفوا ضمن النافعين وأُعفوا من الخدمة العسكرية. ونجحت السياسة بشكل محدد إذ أُقيمت أربع عشرة مستوطنة زراعية في خرسون، وعدد مساو في إيكاترينوسلاف، وخمس وأربعون مستوطنة في كييف، كما أُقيمت عـدة مسـتوطنات في بيسـاربيا بلغ عدد سكانها خمسة وستين ألف يهودي. وقام سير موسى مونتفيوري بزيارة روسيا في هذه الفترة في إطار محاولة الحكومة القيصرية أن تُوسِّط يهود الغرب المندمجين في إقناع يهود روسيا بتقبُّل عمليات الدمج والتحديث والترويس. ويمكن القول بأن هذه العمليات لم تحقق كثيراً من النجاح.
ألكسندر الأول (1801-1825)
Alexander I
أحد قياصرة روسيا. في عهده بدأت الحكومة القيصرية في محاولة إيجاد حل للمسألة اليهودية في روسيا بعد ضم أجزاء من بولندا. فشكلت لجنة لدراسة القضية والتوصية ببعض الحلول. وشهد عهده عدة محاولات لدمج اليهود وترويسهم.
نيقولا الأول (1825-1855)
Nicholas I
قيصر روسي حاول دمج اليهود في المجتمع الروسي عن طريق إصلاحات تُفرَض عليهم من الخارج، لكن سياسته لم تُحرز نجاحاً كبيراً.
منطقة الاستيطان اليهودية في روسيا
Pale of Settlement
«منطقة الاستيطان» ترجمة للعبارة الروسية «كرتا أوسدلوستي Cherta Osedlosti» حيث تُترجم كلمة «كرتا» إلى «نطاق» أو «حدود» أو ربمـا «حظيرة» وهي الترجمـة الدقيقـة. ولأن هذا النطاق كان يتسع ويضيق، فتضم إليه مناطق وتستبعد أخرى، فإننا نفضل استخدام كلمة «منطقة». ومنطقة الاستيطان هي منطقة داخل حدود روسيا القيصرية لم يكن يُسمَح لمعظم أعضاء الجماعة اليهودية بالسكنى أو الاستقرار خارج المدن الواقعة فيها. وكانت الحكومة القيصرية تقوم بفرض مثل هذه القيود وهو أمر كان يُعَد جزءاً أساسياً من سياستها العامة ومن موقفها من حرية الأفراد في التنقل، وهي سياسة لم تكن تُطبَّق على أعضاء الجماعة اليهودية وحسب وإنما كانت تُطبَّق على معظم سكان روسيا سواء أكانوا من الأقنان أم كانوا سكان مدن أو تجاراً. فكان على هذه القطاعات، التي تشكل أغلبية السكان، البقاء في مواطن استيطانها لا تغادرها إلا لسبب محدد وبإذن خاص. ويبدو أن هذه القوانين صدرت بسبب طبيعة روسيا كإمبراطورية مترامية الأطراف تُوجَد بها مناطق شاسعة غير مأهولة بالسكان، الأمر الذي جعل بوسع أي مواطن أن يترك محل إقامته ليستوطن إحدى المناطق غير المأهولة بعيداً عن سلطة الحكومة. ولما كانت الحكومة المركزية ضعيفة نظراً لرغبتها في تدعيم أسس الإمبراطورية وضمان شيء من الثبات، ظهرت فكرة ربط المجموعات البشرية بمواطن محددة كما حدث مع الفلاحين حينما تم تحويلهم إلى أقنان، ثم مع أعضاء الجماعة اليهودية حين تم ضم أعداد كبيرة منهم إلى الإمبراطورية بعد تقسيم بولندا.
ولكن، إلى جوار هذه الأسباب العامة المتعلقة بسياسة روسيا القيصرية تجاه رعاياها، هناك أسباب خاصة بيهود روسيا من أهمها الصراع الاجتماعي الناشب بين التجار اليهود الذين كانوا يشتغلون بتقطير الخمور وبيعها وبأعمال الرهونات والالتزام من جهة، والفلاحين السلاف الذين كانوا يتعاطون الخمر بشراهة (ربما بسبب تزايد بؤسهم) وضعف النظام الإقطاعي من جهة أخرى. وكانت البيروقراطية الروسية متخلفة غير مدركة لأبعاد المشكلة الاجتماعية في الريف الروسي أو البولندي. ولذا، أُلقي باللوم على أعضاء الجماعة اليهودية باعتبارهم مسئولين عن سُكْر الفلاحين وإفقارهم. كما كان تجار روسيا يجأرون بالشكوى دائماً من العناصر اليهودية التجارية التي تلجأ إلي الغش والتهريب لتحقيق الربح. لكل هذا، حُظر على أعضاء الجماعة اليهودية أن يتحركوا خارج تلك المناطق التي ضُمَّت من بولندا، ولكنهم مُنحوا حق الاستيطان في المناطق التي ضُمَّت من تركيا في أواخر القرن الثامن عشر باعتبارهم عنصراً استيطانياً نافعاً، وهي التي كانت تقع أساساً حول البحر الأسود وسُمِّيت «روسيا الجديدة». وقد ضمَّت منطقة الاستيطان منطقة كبيرة امتدت من ليتوانيا وبحر البلطيق في الشمال إلى البحر الأسود في الجنوب، ومن بولندا وبيساربيا في الغرب إلى روسيا البيضاء وأوكرانيا في الشرق، وتضم خمساً وعشرين مقاطعة تشكل مساحة قدرها مليون كيلو متر مربع، أي ما يساوي مساحة فرنسا تقريباً. وكان أعضاء الجماعة اليهودية يشكلون نحو 11.6% من سكان منطقة الاستيطان عام 1897، وبلغ عددهم 4.899.427من مجموع يهود روسيا البالغ عددهم 5.054.300، ويُلاحَظ أنه كان يوجد 161.500 فقط من يهود الجبال وجورجيا، وهم ليسوا من يهود اليديشية، أي أن منطقة الاستيطان كانت تضم أغلبية يهود روسيا الذين كان معظمهم يتحدث اليديشية.
يتبع إن شاء الله...