الباب الثالث: الإمبراطورية البيزنطية المسيحية وإسبانيا المسيحية
الإمبراطورية البيزنطيـة
The Byzantine Empire
«الإمبراطورية البيزنطية» هو الاسم الذي يُطلَق على القسم الشرقي من الإمبراطورية الرومانية بعد انقسامها عام 395 ثم سقوط الإمبراطورية الغربية عام 475. والقسطنطينية هي العاصمة القديمة لبيزنطة (إستنبول فيما بعد). وكانت تُوجَد جماعات يهودية في الإمبراطورية البيزنطية عبر تاريخها، من أهمها جماعة الرومانيوت (أو الجريجوس) في المدن التي كانت تتحدث اليونانية. وكانت الإمبراطورية البيزنطية تضم أعداداً كبيرة من السامريين ثم القرّائين، وكان لكل جماعة يهودية تنظيمها الإداري والقضائي المستقل وهو النظام الذي ورثته الدولة العثمانية واستمر العمل به.
ويرتبط تاريخ الجماعات اليهودية بتاريخ الإمبراطورية الذي يمكن تقسيمه إلى فترتين:
الفترة الأولى وتمتد من عهد قسطنطين الأول حتى فترة تحطيم الأيقونات (حوالى عام 720)، وكانت توجد في هذه الفترة جماعات يهودية كثيرة لا تتَّسم بأي تجانس حضاري في شرق حوض البحر الأبيض المتوسط (في شبه جزيرة البلقان وآسيا الصغرى وسوريا وفلسطين ومصر). وقد شجعت الإمبراطورية سكانها على تبنِّي المسيحية باعتبارها دين الدولة وأيديولوجيا الحكم فيها. ولذا، اعتُبر التهود جريمة يعاقب عليها القانون، ومُنع التجار اليهود من ختان عبيدهم. وحُرِّم الزواج المختلط بين اليهود والمسيحيين، كما مُنع الآباء اليهود من حرمان أولادهم الذين يتنصرون من الميراث. وقد حدث تمرُّد صغير في فلسطين في عهد الحاكم البيزنطي جالوس عام 351 ولكنه أُخمد بسهولة.
وشهدت هذه الفترة اختفاء مجموعات المزارعين اليهود المتحدثين بالآرامية في ريف فلسطين بشكل شبه تام، وتَحوُّل أعضاء الجماعات اليهودية إلى التجارة. كما أن عدد اليهود الكلي في فلسطين تَناقَص بشكل حاد، فيُقال إن عدد اليهود إبان التمرد اليهودي الثاني ضد الرومان (132 ـ 135)، كان يتراوح بين 750 ألفاً و800 ألف، ولكنه انخفض في أوائل القرن السابع، أي عند دخول الفرس إلى فلسطين، إلى نحو 150 ـ 200 ألف. كما شهدت هذه الفترة ثورات اليهود السامريين في عامي 484 و529 حيث تركزت معظم هذه الثورات في نيابوليس (نابلس).
ونجح الثوار السامريون في الاستيلاء على بعض المدن وفي إقامة ما يشبه الإدارة الحكومية، كما قاموا بجمع الضرائب بل عيَّنوا ملكاً من بينهم إلى أن جاءت قوات الإمبراطورية وأخمدت التمرد. ويُلاحَظ أن أعضاء الجماعة اليهودية من أتباع اليهودية الحاخامية لم يتعاونوا مع السامريين في التمرد، وقد ألغت الإمبراطورية منصب أمير اليهود (ناسي أو بطريرك) في فلسطين عام 425، وهو بذلك آخر تعبير رمزي عن مركزية فلسطين في حياة يهود العالم. وبإلغاء هذا المنصب، استقلت الجماعات اليهودية كافة وأصبح لكلٍّ مسارها وقيادتها وخطابه الحضاري.
ومن أهم الأحداث في هذه الفترة وقوع فلسطين لفترة وجيزة في يد الفرس (عام 614). ويبدو أن هجوم القوات الفارسية كان يمثل بارقة أمل للجماعات اليهودية في الإمبراطورية لتحسين أحوالهم، فتعاونوا مع القوات الغازية (التي كانت تضم جنوداً يهوداً) وانخرطوا في سلكها مقاتلين وجواسـيس، واشـتركوا معها في فتـح المدن الأخرى للإمبراطورية، مثل صور وقيصرية بمساعدة السكان اليهود داخل هذه المدن. ويبدو أن ارتباط الفرس في الوجدان اليهودي بالعودة من بابل واسترجاع العبادة القربانية في الهيكل الثاني (بمقتضى مرسوم قورش) أحييا الآمال المشيحانية في استرجاع قدر من استقلال اليهود الإداري في فلسطين.
ويبدو أن الفرس سايروا الجماعة اليهودية في ذلك لاستخدامها في عملية الغزو. وما إن تحققت الأهداف وظنوا أن حكمهم قد استقر حتى قرروا التخلي عن الجماعة اليهودية التي كانت تشكل أقلية منبتة الصلة بالجماهير المسيحية أو الريف. كما قرروا التعاون مع المسيحيين في فلسطين وقياداتهم والتضحية بالجماعة اليهودية (ولا يختلف هذا كثيراً عما حدث في شبه جزيرة أيبريا حينما تحالف أعضاء الجماعة اليهودية، كعناصر استيطانية وكمموِّلين، مع القوات المسيحية التي قضت على الحكم الإسلامي فيها. ولكن، بعد أن حقق الغزو المسيحي مآربه، طُرد أعضاء الجماعة اليهودية بعد ستة شهور).
ويبدو أن الإمبراطورية البيزنطية أدركت أهمية الجماعات اليهودية كجماعة وظيفية استيطانية ومالية، ولم تُطبِّق على اليهود النافعين وظيفياً ما طبقته على يهود فلسطين. ويُلاحَظ، على سبيل المثال، أن ضابطاً فارسياً احتل جزيرة بالقرب من خليج العقبة وطرد ممثلي الإمبراطورية البيزنطية وبدأ يجمع الضرائب لحسابه. ويبدو أنه كان هناك جماعة استيطانية يهودية شرقي خليج العقبة (في جزيرة جوباكابا) تعمل بالتجارة وتتمتع باستقلال إداري.
ولكن، حينما قامت قوات الدولة البيزنطية بطرد الضابط الفارسي عام 498، فإنها لم تتعرض للجماعة اليهودية التي ظلت تمارس نشاطها وتتمتع باستقلالها الإداري في هذه المنطقة الحدودية التي لم يستقر فيها حكم الإمبراطورية. ولكن الإمبراطورية البيزنطية اتجهت في فترة لاحقة نحو توسيع رقعة تجارتها الدولية، وحاولت السيطرة على مداخل البحر الأحمر الجنوبية (باب المندب)، وذلك حتى يتسنى لها الوصول إلى الهند بالالتفاف حول الدولة الفارسية التي كانت تسد الطريق البري.
واصطدم البيزنطيون بالنخبة اليهودية الحاكمة في حمير (في اليمن)، وتحالفت الإمبراطورية البيزنطية مع الأسرة الحاكمة القبطية في إثيوبيا. أما ذو النواس، ملك حمير اليهودي، فتحالف مع الفرس، كما أرسل رسله إلى المنذر، حاكم الحيرة العربي الذي كان يدور في فلك الفرس. ولكن الفرس لم يرسلوا قواتهم، وسقط ذو النواس عام 525 أمام هجمات الإثيوبيين، ومن ثم أصبح مضيق باب المندب ضمن النفوذ البيزنطي. وحتى تُحكم قبضتها على البحر الأحمر، قامت الإمبراطورية البيزنطية بتصفية الجيب الاستيطاني اليهودي في جزيرة جوباكابا في خليج العقبة إذ لم يَعُد له نفع كبير سواء كعنصر استيطاني أو كعنصر تجاري.
وتمتد الفترة الثانية من تاريخ الجماعات اليهودية في الدولة البيزنطية من فترة تحطيم الأيقونات (720) حتى الفتح العثماني للقسطنطينية (1453). وُجِّه الاتهام لدعاة تحطيم الأيقونات باعتبارهم يهوداً. ويبدو أن لهذا الاتهام أساساً من الصحة، إذ تشير المراجع إلى أن الإمبراطور ليو الخامس (الأرمني) وميخائيل الثاني (من فريجيا) كلاهما تَعلَّم على يد يهود، ولكن الأرجح أن المصدر الأكبر لهذه الحركة هو المد الإسلامي الذي لم يكن بُدٌ من أن يكون له صداه داخل الإمبراطورية. ويُقال إن أعداداً كبيرة من اليهود هربت في هذه الفترة إلى دولة الخزر اليهودية، وازداد اشتغال أعضاء الجماعة اليهودية بالتجارة وبعدد من الحرف مثل الصباغة وغزل الحرير. ومع الفتح الإسلامي للقسطنطينية، سقطت الإمبراطورية البيزنطية في يد المسلمين، ودخلت الجماعات اليهودية في فلك الدولة العثمانية.
إسبانيا المسيحية
Christian Spain
يعود وجود أعضاء الجماعة اليهودية في إسبانيا إلى القرن الأول الميلادي، واستمر وجودهم فيها، إلى ما بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، تحت حكم القوط. ويبدو أن وضعهم كان مستقراً هادئاً حتى عام 589 حينما تَحول القوط عن مذهبهم المسيحي الآريوسي واعتنقوا الكاثوليكية وأصبحت إسبانيا جزءاً من التشـكيل الكاثوليـكي في العصـر الوسيط. وتدهور وضع اليهود تماماً، ولم يحسِّن وضعهم إلا وصول العرب مع الفتح الإسلامي (711). وكان أعضاء الجماعات اليهودية قد تحولوا حينذاك إلى جماعة وظيفية وسيطة. ومع هذا، كانت هناك جماعة يهودية في جبال البرانس (في الشمال) سمح لهم شارلمان (771 ـ 814) بالإقامة ليكونوا حاجزاً ضد التوسع الإسلامي في المنطقة التي كانت تُسمَّى «ماركا هسبانيكا». كما سُمح لهم بامتلاك الأراضي في هذه المنطقة، ومُنحوا حقوقاً كثيرة لتشجيعهم على الاستيطان والبقاء في هذا الجيب المسيحي والمنطقة الحدودية، أي أنهم كانوا جماعة وظيفية قتالية تعمل بالزراعة.
وكان بعض أعضاء الجماعة اليهودية يشكلون جزءاً من عملية الغزو المسيحي لاستعادة إسبانيا، سواء كعنصر قتالي أو كعنصر زراعي أو إداري، كانت الجيوش المسيحية تضم في صفوفها أعداداً من اليهود. وحينما كانت المدن الإسلامية تقع في قبضة الجيوش الغازية، فإن حقوق سكانها من المسلمين واليهود كانت تُصان من الناحية النظرية سواء بسواء. أما من الناحية العملية، فكان أعضاء الجماعة اليهودية مُفضَّلين على أعضاء الجماعة الإسلامية، حيث كان يُسمَح لليهود بالاستمرار في سكنى منازلهم بينما كان المسلمون يضطرون إلى السكنى خارج المدينة كما حدث في توديللا عام 1115 وسرقسطة عام 1118. وكان يُسمَح لأعضاء الجماعة اليهودية ببناء معابدهم. وشَكَّل اليهود عنصراً استفاد منه الحكام المسيحيون الجدد في بناء المجتمع الجديد إذ استخدموهم دبلوماسيين ومترجمين للتراث العربي وغيره.
ولكن الاستفادة منهم كانت أساساً كجماعة وظيفية استيطانية يُوطَّن أعضاؤها في المناطق المفتوحة وموظفين لتنميتها كما حدث في مورشيا وبلنسية ولامنشا والأندلس وغيرها. وكانوا يُمنحون الأراضي ليزرعوها. فعلى سبيل المثال، كان اليهود في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين يملكون ثُلث الأراضي في مقاطعة برشلونة. كما كانوا يُعطَون حق فتح المحال التجارية شريطة أن يستوطنوا هم وأسرهم فيها، وكانت حقوقهم تزيد أحياناً على حقوق السكان العاديين من المسيحيين. وابتداءً من القرن الحادي عشر الميلادي بدأ أعضاء الجماعة اليهودية في الانتقال من إسـبانيا الإسـلامية إلى إسـبانيا المسـيحية بأعداد متزايدة.
ولعب أعضاء الجماعة اليهودية دوراً أساسياً في النظام المالي وفي تزويد الحكام الجدد بما يريدون من أموال إما بشكل مباشر أو غير مباشر (عن طريق الإشراف على جمع الضرائب). وعلى سبيل المثال، كانت مملكة قشطالة تحصل عام 1294 على 22% من دخلها من الضرائب المفروضة على اليهود. وكان لكل بلاط ملكي يهوديِّه الخاص الذي كان يشرف على هذه العمليات. ويمكن أن نسمِّي هؤلاء «يهود البلاط» مع أن المصطلح لم يظهر إلا في القرن السابع عشر الميلادي في ألمانيا. وأدَّى هذا الوضع إلى ارتباط اليهود بالمطالب الظالمة والأعباء المالية التي كان يفرضها التاج. ومن ثم حينما طُرد اليهود من إسبانيا، كان من الضروري البحث عن بديل لهم للقيام بمهمة ملتزمي الضرائب.
والواقع أن اختيارهم كيهود بلاط، وكعنصر استيطاني زراعي، يرجع إلى أنهم كانوا لا يطمحون للاستيلاء على السلطة السياسية، فهو أمر غير مطروح بالنسبة لهم نظراً لعدم إمكان التحالف بينهم وبين أية طبقات أخرى مثل الفلاحين أو النبلاء أو القساوسة بسبب العداوة بين أعضاء هذه الطبقات وأعضاء الجماعة. وعلاوة على هذا، لم يكن أعضاء الجماعة يملكون أية قوة عسكرية، الأمر الذي يعني إمكانية التخلص منهم بسهولة. كما أن تَوزُّعهم على هيئة وحدات بشرية صغيرة منعزلة كان يُيسِّر عملية التخلص منهم إن نشأت حاجة إلى ذلك.
أما قوتهم المالية، فلم يكن عائدها يفيدهم كثيراً حيث كان يَصبُّ في خزائن الملك الذي كان له مطلق الحرية في مصادرة أموالهم والاستيلاء على ثرواتهم. أما أوضاع أعضاء الجماعة المسلمة فكانت مختلفة تماماً حيث كان عددهم كبيراً كما كانوا يُعتبَرون جماهير بمعنى الكلمة. بل ويُقال إن الموريسكيين (المسلمين المتنصِّرين) كانوا يشكلون بعد استعادة إسبانيا نحو 60% من عدد السكان، كما كانوا آخذين في التكاثر بسبب عدم وجود مقاتلين بينهم (ولذا لم تكن أعدادهم تَنقُص أثناء الحروب) كما لم يكن بينهم رهبان أو راهبات.
وأثناء الغزو المسيحي، كان العنصر الإسلامي أو العربي المتنصِّر (الموريسكيون) مشكوكاً فيه، فالدويلات الإسلامية كانت تشكل مركزاً لولائهم العاطفي إن لم يكن الفعلي. وحتى بعد اكتمال الغزو وتنصُّر المسلمين، ظل الموريسكيون موضع شك السلطات المسيحية لأن الدول الإسلامية المحيطة كانت تشكل عمقاً إستراتيجياً بالنسبة إليهم، وكان من الممكن أن تزودهم هذه الدول بالمساعدات لاستعادة السلطة، وخصوصاً أن القوة العثمانية الصاعدة كانت تشكل أملاً إسلامياً جديداً. كان هذا الأمر محتمل الوقوع بل كاد يتحقق مع ثورة البشارات الثانية. وعلى أساس من كل هذا، يمكن فهم سبب تحوَّل أعضاء الجماعة اليهودية إلى جماعة وظيفية وسيطة على يد المسيحيين، كما يمكن فهم سبب استبعاد جماهير المسلمين أو الموريسكيين أو أعضاء النخبة بينهم.
تمتع أعضاء الجماعة اليهودية بقسط كبير من الإدارة الذاتية داخل تنظيم الجماعـة وتحـت قيادة رئيسـها الذي كان يُعرَف باسـم «المقدَّم»، وظل يُعرَف باسمه العربي كما هو الحال في كثير من المؤسسات الإسبانية المسيحية. وكان للجماعة استقلالها الإداري والقضائي، وكان يشرف عليها موظف ملكي هو حاخام البلاط (بالإسبانية: «راب دي لاكورتي rab de la corté»). وكان لأعضاء الجماعة مجالسهم المستقلة التي كان يتم انتخاب أعضائها.
وإلى جانب هذه المجالس المنتخبة، كانت تُوجَد مجالس أخرى مغلقة في بعض الدويلات لا تضم سوى الوجهاء والأثرياء. وبطبيعة الحال، كان الملك يساند هذه المجالس باعتبارها وسيلته للتحكم في أعضاء الجماعة الوسيطة. ولذا، فقد كان يمنحها سلطات كاملة. وكان يتبع هذه المجالس ما يُسمَّى بقضاة الذنوب (بوليس آداب وأخلاق عامة) تُوكَل إليهم مهمة القبض على أي يهودي يخرق الشريعة، كما كان يتبعها قضاة شرعيون (بالعبرية: ديانيم). وكان لبعض هذه المحاكم صلاحية الحكم بالإعدام على أي عضو من أعضاء الجماعة بل وصلاحية تنفيذ هذه الأحكام.
ولم يكن أعضاء الجماعة اليهودية (كجماعة وظيفية وسيطة) يُكوِّنون جزءاً عضوياً من المجتمع الإسباني المسيحي الإقطاعي، وإنما كانوا يتبعون الملك مباشرة حيث كانوا يدينون له وحده بالولاء ويؤدون له الضرائب، بل إنهم كانوا يُعدون ملكية خاصة له أي أقنان بلاط. وحينما كان حكم الإعدام ينفذ في يهودي، كانت الجماعة اليهودية تُلزَم بدفع ثمنه للملك.ويشكل هذا الوضع المتميز الهامشي أساس الصراع الذي لم يهدأ بين أعضاء الجماعة وبقية أعضاء المجتمع، وخصوصاً سكان المدن . فالجماعة كانت توجد بجوار البلدية المسيحية، ولكنها كانت غير خاضعة لنفوذها بسبب علاقتها الخاصة مع الملك. ولذا، لم يكن من الممكن إخضاعها للنظم أو للأعراف المعمول بها.
ويمكن التعرف على وضع اليهود الخاص بالرجوع إلى مرسوم ألفونس العاشر الصادر عام 1263 حيث حدَّد حقوق أعضاء الجماعة ومنحهم حريتهم الدينية الكاملة شريطة ألا يهاجموا المسيحيين، كما حرَّم تهمة الدم ومنع مضايقة اليهود في يوم السبت أو تعطيلهم عن أداء شعائره حتى لو وُجدت أسباب قانونية شرعية لذلك، وحرم كذلك استخدام القوة لتنصيرهم. وكانت غرامة قتل اليهودي تعادل الغرامة التي تُدفَع عن قتل فارس أو قس. ولقد حاول بعض سكان المدن أن يخفضوا الغرامة لتعادل الغرامة التي تدفع دية لفلاح عادي. وتتبدَّى المساواة بين اليهود والمسيحيين في قبول القَسَم اليهودي أمام المحاكم المسيحية.
ثم ظهرت، في مرحلة متأخرة، مجموعة مختلفة من القوانين تعبِّر عن تَحيُّز واضح ضد أعضاء الجماعة اليهودية الذين كانوا قد بدأوا يفقدون شيئاً من أهميتهم الوظيفية. وتعكس هذه القوانين بدايات التدهور حيث حُرِّم على اليهود مغادرة منازلهم في عيد القيامة، أو أن يكونوا في أي مركز يسمح لهم بالسيطرة على المسيحيين، كما حدد عدد المعابد اليهودية. ولكن، ورغم التدهور النسبي، ظل لأعضاء الجماعة وظائفهم المحدَّدة التي يضطلعون بها ودورهم المميز الذي يلعبونه. ولذا، حينما أصدرت المجامع اللاترانية (الثالث عام 1179 والرابع عام 1215) القوانين التي حدَّت من حرية اليهود، لم تُطبَّق هذه القوانين في إسبانيا تطبيقاً تاماً.
وقد طُبِّقت هذه القوانين، في بداية الأمر، بصورة مخففة جداً بسبب الضرورات الناجمة عن إعادة فتح الأندلس. ولكن، مع استكمال الغزو، لم تَعُد هناك ضرورة أو نفع لليهود، بل أصبح من الضروري التخلص منهم. وقد كانت حتى حياة اليهود الروحية آخذة في التحلل. بل كان رفض القيم اليهودية الدينية منتشراً بين عناصر القيادة اليهودية نتيجة انتشار فلسفة ابن رشد العقلانية التي كان لها أثر مدمر في الإيمان الديني للنخبة. وقد كان يهود البلاط يقومون بحماية بني ملتهم في معظم الأحيان، ولكنهم كانوا يقفون ضدهم في أحيان أخرى بسبب تَماثُل مصالحهم وثقافتهم مع مصالح البلاط وثقافته. كما كانوا يقلدون المسيحيين في ردائهم وحديثهم، وتَنصَّر كثير منهم في نهاية الأمر. وحيث إنهم كانوا يشكلون النخبة القائدة، فإن اندماجهم وانصهارهم كان يعني اهتزاز الهوية اليهودية.
وازداد اليهود هامشيةً وأصبحوا عديمي الجدوى بازدياد التغلغل المسيحي في شبه الجزيرة، وهي عملية كانت بطيئة جداً، ومع هذا بدأت آثارها تظهر واضحة مع القرن الثالث عشر الميلادي، وهي أيضاً المرحلة التي ظهرت فيها القبَّالاه إذ ظهر الزوهار بين عامي 1280 و1290. وبدأت الجماعة تتقوقع على نفسها وتحارب الفلسفة الإسلامية العقلانية وتقف ضد تغلغلها في صفوف المفكرين اليهود، فحُرِّمت كتابات موسى بن ميمون.
وبدأت الاضطرابات ضد أعضاء الجماعة اليهودية في إسبانيا المسيحية على نطاق واسع عام 1391، ثم انتشرت في كل أرجائها وتَنصَّر الألوف من اليهود، وهو ما سبب مشكلة للحكم إذ كان فصل المتنصرين عن بقية اليهود أمراً لا مفر منه، وكذلك التأكد من جدية وولاء المتنصرين حتى لا يتظاهر بعضهم بالمسيحية لتحقيق الحراك الاجتماعي وهم يبطنون اليهودية، وسُمِّي هؤلاء «المارانو». ومن ثم أقيمت محاكم التفتيش. وفي عام 1412، صدرت قوانين فالادوليد التي حرَّمت على اليهود الاشتغال بالطب أو الحرف أو الاتجار مع المسيحيين، كما ألغت محاكم اليهود الخاصة.
وتصاعدت عملية الغزو المسيحي لشبه جزيرة أيبريا بزواج فرديناند وإيزابيلا عام 1469. واستفاد الملكان من القروض التي دبرها لهم الصيرفي اليهودي دون إبراهام سنيور في حروبهما ضد المسلمين وفي فتح غرناطة. وقد أصبح سنيور جامعاً للضرائب وحاخاماً لليهود. وبعد أن بسطت السلطة المسيحية الجديدة هيمنتها على شبه جزيرة أيبريا بأسرها عام 1492، بدأ فرديناند وإيزابيلا في تأسيس ما يَعُدُّه بعض المؤرخين أول دولة قومية حديثة في أوربا تتمتع بسلطة مركزية. كان التأكد من ولاء السكان أمراً ضرورياً، فبعد أن تنصرت أعداد كبيرة من المسلمين واليهود كانت ثمة أعداد منهم لا تزال تمارس دينها سراً (وكان يُطلَق على المسلمين المتنصرين «الموريسكيين»، لكن هذا المصطلح كان يُطلَق أحياناً على كل المسلمين).
وكانت العناصر التي حافظت على عقيدتها تشكل عوامل جذب لهؤلاء، ولذا فقد صدر قرار بطرد اليهود والمسلمين على حدٍّ سواء. وبلغ عدد المطرودين من المسلمين حسب بعض الإحصاءات ثلاثة ملايين. أما اليهود، فقد طُردوا بعد سبعة شهور من قيامهم بتمويل حملة الدولة الإسبانية الكاثوليكية على الجيب الإسلامي المتبقي ونجاحها في تصفيته، وقُدِّر عدد المطرودين من اليهود بين مائة وخمسين ألفاً وربع المليون. وقد استقرت أعداد كبيرة من اليهود الذين كانوا يُعرَفون بالسفارد في الدولة العثمانية، ولكن العدد الأكبر منهم هاجر إلى وسط أوربا وهولندا وموانئ فرنسا. وقد ألحق قرار الطرد الضرر بإسبانيا من الناحية السكانية، إذ أدَّى ذلك إلى إفراغ مناطق بأكملها من سكانها في وقت لم يكن هناك مصدر آخر للطاقة البشرية.
ومن الناحية الرسمية، كانت شبه جزيرة أيبريا خالية من اليهود، أما من الناحية الفعلية فقد كان هناك يهود المارانو المتخفون الذين كانت تربطهم علاقة بجماعات يهود السفارد في الخارج. وقد كوَّن هؤلاء فيما بينهم شبكة تجارية مالية مهمة. كما كان بعض يهود السفارد يمثلون مصالح إسبانيا والبرتغال في الخارج وكانوا بمنزلة سفراء وملحقين تجاريين لها. وسُمح لبعض أعضاء الجماعة اليهودية بالهجرة إلى إسبانيا في القرن التاسع عشر الميلادي، كما سُمح لهم ببناء معابد خاصة. ثم أُلغي قرار طرد اليهود عام 1931. وتُوجَد هناك، في الوقت الحالي، جماعة يهودية صغيرة ليست لها أهمية تذكر، كما لا تزال تُوجَد بقايا يهود المارانو في البرتغال. وقد بدأت الدولة الصهيونية بتهجير البقية الباقية من يهود المارانو إليها.
إسبانيا
Spain
انظر: «إسبانيا المسيحية».
البرتغال
Portugal
انظر: «إسبانيا المسيحية».
فرديناند (1452-1516) وإيزابيلا (1451-1504)
Ferdinand and Isabella
ملك وملكة إسبانيا اللذان قاما بتوحيدها وكانا يُسمَّيان «الملكين الكاثوليكيين». وقد بدأت محاكم التفتيش نشاطها إبّان حكمهما، وفي هذه الفترة أيضاً اكتُشفت أمريكا. أما فرديناند، فهو فرديناند الخامس المعروف بالكاثوليكي ملك أراجون. كانت أمه حفيدة امرأة يهودية، وربما يفسر هذا قرب فرديناند من اليهود المتنصرين الذين شغلوا وظائف مهمة وحساسة في بلاطه. وكان عديد من أسرة لاكابالريا، وهم من اليهود المتنصرين، أعضاء في المجلس الملكي. وكان سكرتيره وكثير من كبار المسئولين عن الأمور المالية في مملكته، وكذا قائد أسطوله البحري بل كثير من أعضاء النخبة الدينية المسيحية، من اليهود المتنصرين.
ونجح فرديناند في مساعيه لخطب ود إيزابيلا من خلال أحد أعضاء أسرة لاكابالريا بالاشتراك مع يهوديين آخرين لم يتنصرا. ونجح لاكابالريا في الحصول على موافقة أسقف طليطلة على الزواج، وقام دون أبراهام سنيور، وهو يهودي، باستضافة فرديناند حينما كان يزور إيزابيلا سراً، إذ كان أبواها يفضلان أن تتزوج أحد أعضاء الأسرة المالكة في البرتغال أو فرنسا. وقام دون سنيور بتقديم هدية فرديناند إلى إيزابيلا وهي عقد ذهب اشتراه بنقود استدانها من صديقه العزيز ياييم رام وهو ابن حاخام. ومعنى هذا أن فرديناند كان دائماً محاطاً بيهود أو يهود تنصروا. وقد تزوج إيزابيلا في نهاية الأمر عام 1469.
وكانت إيزابيلا (ملكة قشطالة) محاطة هي الأخرى بيهود أو يهود متنصرين، فكان سكرتيرها يهودياً، وقام بكتابة سيرة حياتها يهودي آخر متنصر. وكان كثير من مستشاريها من اليهود، بل إن القس الذي كانت تعترف له كان من أصل يهودي. وكان دون إسحق أبرابانيل، الذي لم يتحول عن عقيدته اليهودية، من أوفى أصدقائها.
كما كانت صديقتها الماركيزة دي مويا زوجة أندريس كابريرا وهو من اليهود المتنصرين. ونجح فرديناند وإيزابيلا في طرد المسلمين نهائياً من شبه جزيرة أيبريا عام 1492. وقام إسحق أبرابانيل وشريكه أبراهام سنيور بتمويل حروب الملكية الكاثوليكية ضد المسلمين. ويمكننا أن نقول، إن أردنا استخدام المصطلح المعاصر، إن اللوبي اليهودي كان قوياً للغاية في الدولة المسيحية الجديدة. ومع هذا، قام الملكان بطرد اليهود من مملكتهما وسمحا لمحاكم التفتيش بمطاردتهم. ولتفسير هذا، يجب أن ننسى العلاقات الشخصية قليلاً ونركز على بعض التحولات البنيوية في الدولة الإسبانية، ومن أهم هذه التحولات وحدة إسبانيا نتيجة الزواج الملكي بين إيزابيلا وفرديناند.
والواقع أن هذا الزواج الذي موَّله بعض الممولين اليهود هو نفسه ما جعل اليهود كجماعة وظيفية وسيطة بدون أهمية كبيرة. كما أن الدولة الإسبانية كانت تواجه أزمة سكانية حادة كالأزمة التي تواجهها الدولة الصهيونية في الوقت الحالي، إذ كان الموريسكيون (المسلمون المتنصرون) يتكاثرون بسرعة وزاد عددهم عن 60% من مجموع السكان وبعضهم كان من المسلمين المتخفين. وكانت الدولة الإسـبانية في حاجة شـديدة إلى مادة بشرية تدين لها وحـدها بالولاء، ولكن ثبت أن كثيراً من اليهود المتنصرين هم في الواقع مارانو أي يهود متخفون. وقد بذل الملكان جهوداً غير عادية لإقناع اليهود والمسلمين المتنصرين بالاندماج، ونجحا في إقناع روما بتعيين بعض هؤلاء في وظائف كنسية رفيعة من بينها وظيفة أسقف في إسبانيا.
ولكن الشبهات ظلت تحيط بالمتنصرين، فقررت إيزابيلا إقامة محاكم التفتيش. وقد وافقها على ذلك كل من كاتب سيرتها وقسيسها (اليهوديان المتنصران) وتم طرد اليهود بعد سبعة شهور من القضاء على الجيب الإسلامي المتبقي. ومع أن استرجاع شبه جزيرة أيبريا تم بمساعدة بعض القيادات اليهودية، فإن ذلك جعل الجماعة اليهودية ككل أداة عديمة الفائدة، وخصوصاً أن أعضاء الجماعة اليهودية لم يتمكنوا من التحول إلى جماعة وظيفية استيطانية يمكن الركون إليها.
محاكم التفتيش
Inquisitions
توجد ثلاثة أنواع من محاكم التفتيش:
1 ـ محاكم التفتيش الوسيطة:
أسسها البابا جريجوري التاسع عام 1233 وكانت مهمتها التفتيش والبحث عن الهرطقات الدينية بين المسيحيين بعد انتشارها في جنوب فرنسا وشمال إيطاليا مثل الكاثاري والوالدينيز. وكان قضاة هذه المحكمة من رجال الدين الدومينيكان، وكان المتهم المذنب يُسلَّم إلى السلطات الدنيوية لمعاقبته. ورغم أن الحرق كان العقوبة النهائية، فإنه لم يُمارَس إلا في النادر، وعادةً كان الحكم يُلزم المتهم بالتوبة ودفع غرامة والتكفير عن ذنبه بالقيام بأعمال معيَّنة.
2 ـ محاكم التفتيش الإسبانية:
أسسها البابا في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي (عام1471) بناء على طلب الملك فرديناند والملكة إيزابيلا، وللتأكد من إيمان مواطني إسبانيا من المسلمين واليهود الذين اعتنقوا عقيدة الدولة، أي المسيحية الكاثوليكية، ولتَعقُّب السحرة. ومما يجدر ذكره أن هذه المحاكم كانت محاكم «قومية» تابعة للدولة الإسبانية رغم أنها صدرت بمرسوم من الكنيسة الكاثوليكية، ورغم وجود رجال دين مُمثَلين فيها كان من أشهرهم توماس دي تروكيمادا وهو من أصل ماراني وأصبح رمزاً لقاضي محاكم التفتيش الذي يستخدم أدوات التعذيب لإرهاب ضحاياه.
وكانت نتائج المحاكمات تُعلَن فيما يُسمَّى «أوتو دي في auto de fé» وهو الاحتفال العام الذي يتم فيه النطق بالأحكام. وكان نفوذ محاكم التفتيش لا يمتد إلى غير المسيحيين. ثم صدر مرسوم في 31 مارس عام 1492 خُيِّر أعضاء الجماعة اليهودية في إسبانيا بمقتضاه بين النفي والتعميد (وقد طُبِّق هذا المرسوم على المسلمين عام 1502). فغادرت أعداد كبيرة من اليهود والمسلمين (نحو ثلاثة ملايين مسلم وما بين 150 إلى 250 ألف يهودي) شبه جزيرة أيبريا.
وقد صدر المرسومان بضغط من محاكم التفتيش التي كانت تهدف إلى حماية اليهود والمسلمين المتنصرين من التأثير السلبي لإخوانهم السابقين في الدين. ثم وضعت محاكم التفتيش هؤلاء المتنصرين تحت الرقابة الشديدة للتأكد من صدق إيمانهـم وولائهم للدولة وكانوا يمارسون شعائر دينهم الأصلي في السر. وكان اليهود المتخفون يُسمَّون «المارانو»، أما المسلمون فكانوا يُسمَّون «الموريسكيين». وتعقبت محاكم التفتيش أعضاء المارانو في البرتغال بل وفي المستعمرات الإسبانية والبرتغالية في جميع أنحاء العالم.
ومع ظهور الإصلاح الديني، طاردت محاكم التفتيش العناصر البروتستانتية، ونجحت في القضاء عليهم في شبه جزيرة أيبريا ولكنها فشلت في ذلك في هولندا. وقد ارتكبت محاكم التفتيش كثيراً من الفظائع، الأمر الذي دفع البابوات إلى التدخل لإيقافها عند حدها. وقد أُلغيت هذه المحاكم في القرن الثامن عشر الميلادي في البرتغال وفي التاسع عشر الميلادي في إسبانيا. ومما يجدر ذكره أن يهود بروفنس قدموا شكوى لمحاكم التفتيش ضد كتابات موسى بن ميمون بسبب هرطقتها، وأمرت المحكمة بحرق كتبه بناء على طلبهم هذا.
3 ـ محاكم التفتيش الرومانية:
وهي محاكم كنسية أسسها البابا بول الثالث عام 1542 ليحارب البروتستانتية، واستمرت هذه المحاكم حتى عام 1908 حيث تم تغيير اسمها. وهي تُعدُّ استمراراً لمحاكم التفتيش الرومانية الوسيطة.