الباب الثالث: مصر والإمبراطورية الحيثية
العلاقات الدولية في الشرق الأدنى القديم والمسألة العبرانية
International Relations in the Ancient Near East and the Hebrew Question
لا يمكن فهم تاريخ العبرانيين (أو العبرانيين اليهود) الذي تمركز بشكل أو بآخر في فلسطين إلا بفهم العلاقات الدولية في الشرق الأدنى القديم، ذلك أن أحداث تاريخ العبرانيين لم تكن سوى صدى أو رد فعل لحركيات هذه العلاقات الدولية.
وثمة مشكلة أساسية كانت تواجه العبرانيين، ومن بعدهم اليهود في فلسطين، منذ بداية ظهورهم حتى تحوُّلهم إلى جماعات منتشرة في أرجاء الأرض غير مرتبطة بفلسطين إلا بالرباط الديني. وتتمثل هذه المشكلة في قلة عددهم وصغر حجمهم كتشكيل سياسي، وضآلة إسهامهم الحضاري بالقياس إلى التشكيلات الحضارية الضخمة. وقد أدَّت العناصر السابقة مجتمعة إلى عجز العبرانيين عن أن يكون لهم جيوش ضخمة مسلحة تسليحاً جيداً ويمكنها أن تدافع عن كيانهم السياسي، وفي أن تضم أراضي أخرى. ولم يمكنهم بطبيعة الحال استرقاق الشعوب الأخرى أو فتح أراضيها، إذ أن هذا يتطلب قوة عسكرية ضخمة كما يتطلب مستوى إنتاجياً متقدماً نسبياً لاستيعاب الرقيق ولتشغيلهم. بل إننا نجد أن هذا التخلف النسبي جعل الدولة العبرانية غير قادرة على استيعاب كل المصادر البشرية المحلية فتحوَّلت إلى مُصدِّر لها، ومن ثم نجد أن كثيراً من العبرانيين القدامى كانوا يعملون عبيداً وجنوداً مرتزقة للشعوب والإمبراطوريات التي قامت في المنطقة.
ومما ساعد على تفاقم المشكلة أن الرقعة الجغرافية التي تمركز فيها تاريخ العبرانيين هي فلسطين، وهي نقطة إستراتيجية ذات أهمية قصوى كانت تُعَدُّ معبراً بين التشكيلات الحضارية المختلفة في الشرق الأدنى القديم، الأمر الذي جعلها وجعل سكانها عرضة للهجرات والغزوات.
ولقد كان الشرق الأدنى القديم يتكون من تشكيلين حضاريين أساسيين: التشكيل الحضاري المصري، وتشكيل الرافدين. وكان ينضم إليهما أحياناً تشكيل خارجي غير محلي مثل الحيثيين. وعند تَراجُع هـذه القوى العظمى، كانت تظهر قوى محلية مثل الآراميين والأنباط. وقد استمر هذا الوضع قائماً إلى أن غزا الفرس المنطقة وأصبحوا القوة العظمى فيها. وجاء بعدهم اليونانيون ثم الرومان. وحينما فتـح المسـلمون المنطقـة، كان اليهـود قد انتشروا في بقاع الأرض، ولم تكن فلسطين مركزاً لهم إلا من الناحية الدينية والمجازية.
ويمكن أن ننظر إلى تاريخ العلاقات الدولية في الشرق الأدنى القديم في هذا الإطار. فحتى بداية الألف الثانية قبل الميلاد، كان المصريون قانعين إلى حدٍّ كبير بحكم الأراضي الواقعة شمالي أول شلالات النيل، في حين كان حكام دول بلاد الرافدين يحكمون الشعوب الموجودة في منطقة دجلة والفرات. هذا لا يعني أن كلتا القوتين لم تمارس أي سلطان خارج حدودها، فحكام بلاد الرافدين هيمنوا على العيلاميين (3000 ـ 1700 ق.م). كما أن مصر في الدولة القديمة، من الأسرة الثالثة إلى الخامسة (2895 ـ 2510 ق.م)، وفي أيام الدولة الوسطى، أثناء حكم الأسرة الثانية عشرة (2040 ـ 1786 ق.م)، غزت النوبة وضمتها، كما كانت تقوم بالتعدين في شبه جزيرة سيناء، وكانت ذات نفوذ واضح في فينيقيا وشمالي سوريا وفلسطين.
وبعد عام 1500 ق.م، أخذ نفوذ القوتين العظميين ينحسر، الأمر الذي أدَّى إلى ظهور شعوب وأقوام عديدة لكلٍّ دولته ومناطق نفوذه ومراكز السلطة والحضارة الخاصة به، فأخذت تتنافس مع حضارات الأنهار. وهذه الشعوب والأقوام هي: الحوريون والكاشيون والشعوب السامية المختلفة والحيثيون.
وبعد ذلك التاريخ، تصبح الإمبراطوريات العظمى الشكل الأساسي للحكم في الشرق الأوسط. وقد ظهرت هذه الإمبراطوريات بسبب التطورات التقنية المهمة في أدوات الحرب والتخطيط العسكري، وبسبب تزايد السكان وتراكم الخبرات في عمليات الإدارة. وقد ظهر في ذلك الوقت نوع من أنواع العالمية الثقافية يتجلى في اختراع حروف الكتابة وانتشار لغات دولية مثل: الآرامية والأكادية. وظهرت العالمية أيضاً في المعتقدات الدينية سواء في عبادة آتون في مصر أو عبادة آشور في بلاد الرافدين أو يهوه عند العبرانيين، وكذلك عبادة زرادشت التوحيدية في فارس. وقد استمرت أولى مراحل الإمبراطوريات الدولية من 1500 إلى 1200 ق.م وهي الفترة التي نشب الصراع فيها بين المصريين والحيثيين على فلسطين والشام.
أما المرحلة الثانية، فهي مرحلة ظهور الأمم الصغيرة بسبب تَحطُّم قوة الحيثيين وضعف آشور المؤقت وتقوقع مصر، وهو ما أتاح الفرصة لبعض الشعوب الصغيرة للتحرك وإنشاء دويلات. فظهر الفلستيون على ساحل كنعان، وتسلل العبرانيون وأسسوا دولتهم في المنطقة الداخلية، وأسس الفينيقيون دويلاتهم في لبنان، واستقر الآراميون في سوريا.
أما المرحلة الثالثة، فتبدأ نحو عام 1100 ق.م، وتشهد ظهور القوة الآشورية، وخصوصاً في الفترة الآشورية الجديدة أو الثالثة، وعودة الدولة المصرية لتضطلع بدور إمبراطوري مرة أخرى، ثم أخيراً ظهور الدولة الفارسية التي استمرت حتى وصول الإسكندر الذي بسط نفوذه على معظم الشرق الأدنى القديم وتبعه السلوقيون فالبطالمة ثم الرومان.
ووجد العبرانيون أنفسهم وسط هذه التشكيلات السياسية والحضارية العظمى والإمبراطوريات الضخمة، وحاولوا أن يتكيفوا مع هذا الوضع إما عن طريق خلق إمبراطورية صغيرة (كما هو الحال مع داود وسليمان) تملأ الفراغ المؤقت الذي خلقه انكماش الإمبراطوريات العظمى في مرحلة مؤقتة، أو عن طريق التحالف مع بعض الدويلات الصغيرة (مثل الدويلات الآرامية في الشام) لمنع تَدخُّل القوى العظمى، أو عن طريق الاعتماد على إحدى القوى العظمى كما هو الحال مع المملكتين العبرانيتين الجنوبية والشمالية.
وقد ظهرت مملكة داود (1004 ـ 965 ق.م) في مرحلة ضَعُفت فيها مصر بسبب النزاعات الخارجية، وكان الحيثيون مشغولين بصد شـعوب البحر، ولم تكن بابل قد صارت بعد قوة عظمى، وكانت آشور على عتبـات عظمـتها الإمبراطورية، فاستفاد داود من هذا الفراغ المؤقت. واستمر هذا الوضع حتى نهاية حكم سليمان. ومن القرن الثامن قبل الميلاد حتى القرن السادس قبل الميلاد، لعبت آشور ثم بابل دوراً حاسماً في الشمال، ولعبت مصر دوراً مماثلاً في الجنوب. كما لعب الآراميون، كقوة عظمى محلية صغيرة، دوراً كبيراً في تحديد السياسات والتحالفات. وقد تحدَّد مصير المملكتين من خلال صراع كل هذه القوى العظمى، وهو الصراع الذي انعكس في صراع بين عدة أحزاب في المملكتين الشمالية والجنوبية، فكان ثمة حزب مصري وآخر آشوري وثالث يطالب بالتحالف مع الدويلات الآرامية. وبعد عدة محاولات، سقطت المملكة الشمالية (721 ق.م) وبعدها المملكة الجنوبية (567 ق.م)، وتبع ذلك تهجير إلى آشور وانصهار في سكانها ثم تهجير إلى بابل أعقبته عودة بعد أن أصدر قورش الأخميني إمبراطور الفرس مرسوماً يسمح لهم بها (538 ق.م).
وسيطرت الإمبراطورية الفارسية على الشرق الأدنى القديم، وعادت جماعات من العبرانيين اليهود إلى فلسطين تحت الحكم الفارسي الذي أعقبه الحكم اليوناني (333 ق.م). وقد تمتَّع اليهود بشيء من الاستقرار تحت حكم الدولة العظمى التي وفرت عليهم عناء الاختيار وأعفتهم من مسئولية القرار السياسي، بل تحولت طبقة كبار الكهنة والأثرياء إلى جماعة وظيفية.
وانتهت هذه الفترة بانقسام إمبراطورية الإسكندر إلى عدة إمبراطوريات صغيرة أهمها البطلمية في مصر والسلوقية في سوريا اللتان تنازعتا فيما بينهما فلسطين. وكان هناك حزب بطلمي وآخر سلوقي بين اليهود. هذا إلى جانب الانقسام الأعمق بين النخبة اليهودية ذات الطابع الهيليني والجماهير اليهودية ذات الطابع السامي، وهو الانقسام الذي انعكس في التمرد الحشموني والتمردات اليهودية الأخرى ضد الرومان. وقد استفاد المتمردون الحشمونيون من الصراع بين البطالمة والسلوقيين، كما استفادوا من ظهور قوة عظمى محلية أخرى هي الأنباط فتحالفوا معهم في بداية الأمر.
ورغم أن التمرد الحشموني قد حقق شيئاً من النجاح، وخصوصاً عام 161 ق.م، ضد الدولة السلوقية التي كانت قد بدأت تشعر بهجوم القوة الرومانية الصاعدة، فإن الحشمونيين كانوا يعرفون قوانين اللعبة كما كانوا يعرفون أنهم قوة صغيرة لا يمكنها أن تحقق الاستقلال لنفسها، ولذا أرسل يهودا المكابي مبعوثاً للدولة الرومانية ليعقد حلفاً مع القوة الجديدة. وقد قبل الرومان، إذ كانوا يعقدون تحالفات مع أعداء جيرانهم إلى أن يتم لهم التخلص منهم ثم يفرضون بعد ذلك هيمنتهم على الجمـيع. ولم يكن المجتمـع اليهـودي في فلسـطين اسـتثناءً من هذه القاعدة، فلقد كانت المعاهدة بين روما والدولة الحشمونية، شأنها شأن المعاهدات مع الدويلات المماثلة، تشبه معاهدات التحالف وعدم الاعتداء بين الولايات المتحدة وجرينادا أو حتى التحالف بين الولايات المتحدة وإسرائيل. وقد استمر التحالف قائماً بين الرومان والحشمونيين، وخصوصاً أن مجلس الشيوخ الروماني كان مهتماً بالحد من طموحات السلوقيين التوسعية. وقد قوى الحشمونيون علاقتهم مع الفرثيين (حكام الفرس)، ومع البطالمة في مصر، حتى أصبحت يهودا قوة عسكرية لا بأس بها في القرن الأول قبل الميلاد.
ولكن القوة الرومانية الصاعدة كانت آخذة في الاقتراب، كما أن الخلافات الداخلية كانت تعتمل داخل الدولة الحشمونية. ولذا، فقد سقطت الدولة بسهولة في يد الرومان (65 ق.م) وتحولت إلى الدولة الهيرودية التابعة.
وقد تعاظمت قوة الحزب الشعبي بين اليهود أثناء حكم الأسرة الهيرودية، وكان أعضاء هذا الحزب لا يعرفون موازين القوى العظمى. ولذا، فقد تمردوا ضد الهيمنة الرومانية، فكانت النتيجة سلسلة الهزائم والانكسارات في ماسادا وغيرها، وهي الهزائم التي انتهت بهدم الهيكل ثم القدس نفسها وبتحريم اليهودية في فلسطين.
ولم يكن لمشكلة العبرانيين في التاريخ القديم حل، فكان لابد أن تنتهي بهذه الطريقة، أي بخروجهم من فلسطين. ففلسطين ممر بريّ يربط آسيا بأفريقيا ومصر ببلاد الرافدين، الأمر الذي جعلها عبر التاريخ ميدان قتال دائم. وكان لابد أن تصبح فلسطين جزءاً من تشكيل حضاري كبير يعطيها هوية محددة حتى يصبح العنصر السكاني فيها جزءاً من كل يشعر بالأمن والانتماء، وحتى تصبح جزءاً من تشكيل أكبر لا مجرد مَعبر من تشكيل إلى آخر، وهذا ما حققه في نهاية الأمر الفتح الإسلامي.
والمشروع الصهيوني يرمي إلى نقيض ذلك تماماً إذ يستهدف أن يحتفظ لفلسطين بطبيعة الممر (القاعدة) ولسكانها بطبيعة العنصر الغريب (الاستيطاني) وهو ما أسميناه «الحدودية». كما يريد أن تحتفظ الدولة الصهيونية ببقائها واستمرارها، عن طريق التحالف مع القوة الإمبراطورية العظمى، نظير أن تضطلع هي بدور الدولة الوظيفية والخفير الذي يسهر على حراسة مصالح القوة الراعية.
ورغم انتهاء مشكلة العبرانيين باختفائهم كعنصر بشري مستقل، فإن وضعهم داخل التشكيلات الحضارية الكبرى أدَّى إلى انتشارهم في أنحاء العالم فيما يُسمَّى «الدياسبورا اليهودية».وقد تحولت معظم هذه الجماعات إلى جماعة وظيفية تجارية ومالية. ولذا، فإن المسألة أو الإشكالية العبرانية أدَّت إلى ظهور المسألة اليهودية إذ أن المسألة اليهودية هي مسألة الجماعات اليهودية (في شرق أوربا على وجه الخصوص) كجماعـات وظيفـية لم يَعُـد لها دور تلعبه أو وظيفة تضطلع بها. وهذه القضية هي التي أدَّت بدورها إلى المسألة الإسرائيلية، أي مشكلة المستوطنين الصهاينة الذين أرسلهم الاستعمار الغربي ليحل المسألة اليهودية التي تفاقمت عنده، وليحولهم إلى جماعة قتالية تدافع عن مصالحه. ومن ثم، يمكننا أن نقول إنه قد لا توجد علاقة سببية بين المسألة العبرانية والمسألتين اليهودية والإسرائيلية رغم أن هناك علاقة ترابط، إذ أن المسألة العبرانية هي التي خلقت قابلية لدى اليهود لأن يتحولوا إلى جماعات وظيفية تجارية ثم إلى جماعة وظيفية استيطانية قتالية كما حدث في فلسطين في نهاية الأمر.
المســألة العبرانيـــة
The Hebrew Question
انظر: «العلاقات الدولية في الشرق الأدنى القديم والمسألة العبرانية».
مصــر
Egypt
«مصر» تقابلها في اللغة العبرية كلمة «مصرايم» وهو اسم سامي لا يظهر إلا في اللغات السامية: «موصور» بالآشورية و«ميصير» بالبابلية و«مصر» بالعربية. وصيغة المثنى في العبرية قد تكون إشارة إلى الوجهين القبلي والبحري، أو مصر العليا ومصر السفلى. أما كلمة «إيجبت» في اللغات الأوربية، فهي مشتقة على الأرجح من اسم «منفيس» في اللغة المصرية القديمة وهي «حي - كو - بتاح» ومعناها «بيت روح بتاح». وصار هذا في اليونانية «إيجيبتوس».
والواقع أن تاريخي فلسطين ومصر مرتبطان منذ بداية التاريخ الإنساني، إذ كثيراً ما قامت مصر بضم فلسطين أو فرض سيطرتها عليها، كما كان فراعنة مصر يلعبون دوراً كبيراً في تحديد سياسة الدويلتين العبرانيتين (المملكة الشمالية والمملكة الجنوبية) من خلال الأحزاب الممالئة لهم فيهما. أثناء حكم الأسرتين الأولى والثانية، كانت توجد علاقات تجارية مع رتنو (Retjnu أو Rtnw) التي تعني «البلاد الأجنبية»، وهي الطريقة التي كان يشير بها الفراعنة إلى منطقة فلسطين وبلاد الشام في المملكتين القديمة والوسيطة. بل قام بعض العلماء بتحليل الأشكال التي وردت على درع مينا (نارمر) احتفالاً بتوحيد القطرين عام 3100 ق.م، وتوصلوا إلى أن التغلغل المصري قد وصل إلى شرق الأردن عبر صحراء النقب. كما وُجد فخار فلسطيني متأثر بالأسلوب المصري بكميات كبيرة في هذه الفترة. وقد أرسلت مصر في عهد المملكة القديمة في الفترة 2700 ـ 2200 ق.م (من الأسرة الثالثة إلى الخامسـة) حمـلات استكشافية إلى سيناء لاستثمارها وضمها. وهناك، في نهاية المملكة القديمة، في فترة حكم بيبي الأول 2343 ـ 2294 ق.م (من الأسرة السادسة) نقش عن حملة برّية وعسكرية ناجحة ضد أرض « أنف الظبى» التي يرى بعض العلماء أنها سهل جبل الكرمل في فلسطين. وقد انحسر النفوذ المصري في الفترة من نهاية الأسرة السادسة حتى الأسرة العاشرة. وبعد انهيار المملكة القديمة في عام 2200 ق.م وحتى 2130 ق.م، دخلت مصر فترة من الفوضى دامت قرنين (فترة الانحلال الأول) حكمت أثناءها الأسرات السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة، واختفت خلالها أيضاً السلطة المركزية واختل النظام الاجتماعي وتغلغلت العناصر الآسيوية في شرق الدلتا.
وقد تم توحيد مصر العليا ومصر السفلى مرة أخرى إبّان حكم الأسرة الحادية عشرة (2130 ـ 2000 ق.م)، وهو ما مهَّد لقيام المملكة الوسيطة (2040 ـ 1786 ق.م). ومع اعتلاء أمنمحات الأول العرش (الأسرة الثانية عشرة)، بدأت مرحلة الازدهار في المملكة الوسيطة، وهي متزامنة مع بداية فترة الآباء في فلسطين (2100 ـ 1200 ق.م). واستمرت العلاقات بين مصر والشام، ومنها فلسطين، كما يتضح في قصة سنوحي عن رحلاته في خلال حكم سنوسرت الأول (1970 ـ 1926 ق.م). ويبدو أن مصر أخضعت أجزاء من الشام وفيها فلسطين لهيمنتها أثناء حكم أمنمحات الثاني (1926 ـ 1897 ق.م) وسنوسرت الثالث «سيزوستريس» (1878 - 1849 ق.م)، إذ وُجدت آثار لحكام وكهنة مصريين في مجدو وأوجاريت. ويؤكد هذه النظرية أن حكام بعلبك كانوا يحملون ألقاباً مصرية يمنحها فرعون مصر، الأمر الذي يعني شكلاً من أشكال السيادة المصرية. ويظهر شقيق أمير رتنو (فلسطين)، في اللوحات المصرية لهذه الفترة، وهو يساعد المصريين في إدارة واستغلال مناجم الفيروز في سيناء. كما أن هناك إشارات مباشرة إلى حملة قام بها الفراعنة ضد سيكمان (شكيم).
وكان كثير من قبائل البدو السامية تستأذن فرعون مصر في الالتجاء إلى مصر، حيث كان فيها مجتمع زراعي مستقر يعتمد على الري وعـلى فيـضان النيـل فراراً من جفـاف أو مجاعة، ثم تخرج بعد ذلك. ولم يكن العبرانيون استثناءً من ذلك بأي شكل من الأشكال. ففلسطين مجتمع زراعي كان يعتمد على المطر. وثمة وثائق مصرية تتحدث عن بدو من أدوم وجنوب فلسطين تركوا منازلهم في زمن القحط ليبقوا على حياتهم وحياة قطعانهم. ومثل هذه المجاعات هي التي اضطرت إبراهيم وإسحق إلى التوجه جنوباً إلى مصر. وقد أرسل يعقوب أولاده لهذا السبب، ثم استقرت الأسرة كلها هناك. وقد بدأت الهجرة السلمية لبعض الساميين تحت قيادة أمير بدوي يُقال له أبشاي أو أبشاه في القرن الثامن عشر قبل الميلاد. وثمة لوحة مقبرة خنوم ـ حوتب (أحد أشراف الأسرة الثانية عشرة) في بني حسن تصور الآسـيويين يدخلـون مصر لكي يحـصلوا على الطعـام. وهذه هجرات تشبه، في بعض الوجوه، هجرات إبراهيم وإسحق ويعقوب. وهي تبين أن قصة يوسف، فيما يتعلق بهذه الهجرات، مبنية على خلفية تاريخية عامة، كما أن كره المصريين للرعاة له هو الآخر أساس تاريخي (تكوين 46/34).
وقد تحوَّلت الهجرة إلى تسلل والتسلل إلى غزو، حتى استولى خليط آسيوي سامي من الرعاة العموريين والكنعانيين والحوريين على السلطة في مصر خلال فترة الانحلال الثاني بدءاً من الأسرة الثالثة عشرة حتى الأسرة السادسة عشرة (1786 ـ 1570 ق.م) فيما يُعرَف باسم حكم الهكسوس. ورغم أن الهكسوس قد تبنوا الحضارة المصرية، فإن المصريين لم يتقبلوا الهكسوس قط، وقامت حركة تحرير بقيادة ملوك طيبة كُلّلت بالنجاح.
وقبل التعرُّض لموضوع دخول العبرانيين مصر وخروجهم منها، يجب التنبيه إلى أن لغتنا ستكون غير يقينية لأن الوثائق التاريخية المتاحة ليست قاطعة، وتترك مجالاً واسعاً للاختلاف. ويذهب كثير من المؤرخين إلى أن حكم الهكسوس متزامن مع فترة الآباء، وأن هذه الفترة هي التي دخل إبَّانها العبرانيون مصر. فوجود الهكسوس، على ما يبدو ،هو الذي سهل عملية دخول العبرانيين، وثمة رأي يذهب إلى أنه يوجد قرابة عرْقية بين الهكسوس والقبائل العبرانية.
وقد ازدهر العبرانيون بعض الوقت، وقد بلغ يوسف مكانته المرموقة في زمن ملوك الهكسوس، ولكن مع ظهور المملكة الحديثة (1570 ـ 1085 ق.م)، بدأ وضع جديد في مصر بالنسبة إلى العبرانيين، إذ ظهر الملك الذي لا يعرف يوسف (خروج 1/8) حسب الرواية التوراتية. وطرد المصريون الهكسوس إذ قام أحمس الأول (1570ـ 1546 ق.م) أمير طيبة، وأول ملوك الأسرة الثامنة عشرة فيما بعد، بمطاردتهم حتى جنوب فلسطين. ويبدو أن المصريين، بعد غزوة الهكسوس، لم يعودوا يثقون في الحواجز الطبيعية والصحراوية كمانع ضد الغزوات الأجنبية، فبدأت من هنا التطلعات الإمبراطورية لتأمين الحدود، وبسط ملوك الأسرة الثامنة عشرة هيمنتهم إلى الشرق والشمال حتى اصطدموا بالإمبراطورية الحورية (الميتانية)، وكانت فلسطين أرض المعركة بينهم. وقد وصل تحتمس الأول (1526 ـ 1512 ق.م) حتى نهر الفرات. ولكن واضع أساس الإمبراطورية الحقيقي هو تحتمس الثالث (1504 ـ 1450 ق.م) أعظم ملوك الأسرة الثامنة عشرة الذي حطَّم تحالفاً من الأمراء الكنعانيين والسوريين تحت قيادة ملك قادش في مجدو عام 1479 ق.م. وقد التقى تحتمس بالحيثيين، ولكنه إما هزمهم، أو عقد معهم معاهدة دفعوا له بمقتضاها الجزية، وقد خضعت له سوريا فترة قصيرة. وقد استمر تحتمس الثالث، مدة عشرين عاماً تقريباً، في إرسال جيشه إلى غرب آسيا لتعزيز انتصاراته، واستمر خلفاؤه في ذلك.
وقد واصل ابنه أمنحوتب الثاني (1450 - 1425 ق.م)، عمليات غزو فلسطين وسوريا. وهناك نصب تذكاري في منفيس يذكر أن هذا الفرعون « أسر ثلاثة آلاف وستمائة عبيرو » أثناء غزوة قام بها إلى فلسطين. ولذا، فقد قرنه بعض المؤرخين (من بينهم مانيتو) بفرعون الخروج مع أن كلمـة «عبيرو» أكثر اتسـاعاً وأكثر شـمولاً من كلمة «عبراني». ثم عقد أمنحوتب الثالث (1417 ـ 1379 ق.م) معاهدة مع مملكة ميتاني الحورية، وتزوج من أميرة ميتانية. وكانت المناطق الآسيوية يحكمها أمراء تابعون لمصر، تربوا في البلاط المصري وكانوا يحكمون لصالح فرعون مصر وباسمه.
وفي القرن الرابع عشر قبل الميلاد، بدأت عوامل الضعف تظهر في مصر، وقامت الثورة التوحيدية على يد إخناتون (أمنحوتب الرابع) (1379 ـ 1362 ق.م)، ويبدو أنها كانت ذات أبعاد اجتماعية أيضاً فالإمبراطورية بنيت على يد الجنود والموظفين ولكن أرستقراطية النبلاء والكهنة ظلت مغلقة دونهم، الأمر الذي تَطلَّب تغييراً يسمح بالحراك الاجتماعي. وتحوي ألواح تل العمارنة المكتوبة بالأكادية تقريراً رُفع لفرعون مصر عن أمراء بابل وآشور والحيثيين وسوريا وفلسطين الذين تم إخضاعهم كما تحوي طلباً بالعون للتصدي للخابيرو، تلك القبائل البدوية التي بدأت تُغير على حدود فلسطين. وكانت سياسة مصر في تلك الآونة هي أن تُبقي طرق التجارة لبلاد الرافدين مفتوحة وأن تُبقي حكام الشام تحت هيمنتها. وبعد موت توت عنخ آمون (1361ـ 1355 ق.م)، خليفة إخناتون، هزم الحيثيون المصريين واندلع ما يشبه الحرب الأهلية في مصر، فاستقلت فلسطين لبعض الوقت وربما نجح الخابيرو في الاستقرار فيها. ولكن الرعامسة من ملوك الأسرة التاسعة عشرة (1320 ـ 1200 ق.م) أعادوا السيطرة المصرية، عن طريق الاحتلال المباشر هذه المرة، فكانت توجد حاميات مصرية في غزة ويافا ومجدو وبيت شان وفي مدن أخرى. ودخل رمسيس الثاني حرباً مع الحيثيين في معركة قادش الشهيرة عام 1288 ق.م والتي لم يحرز أي من الطرفين فيها نصراً حاسماً، فتم تقسيم الشام إلى قسمين بحيث يئـول القسـم الشـمالي للحـيثيين والجنوبي (وفيه فلسطين) للمصريين. وتظهر في هذه المرحلة إشارة إلى فلسطين باسم «كنعان»، ويظن كثيرون أن رمسيس الثاني هو الفرعون الذي سخَّر العبرانيين ليبنوا له المدينة المسماة باسم «رعمسيس» (خروج 1/11)، وقد ورد في السجلات التي تركها أنه استخدم عبيداً من العبيرو في مشاريع البناء التي قام بها. لكن ثمة نظرية أخرى تذهب إلى أن رمسيس الثاني هو في الواقع فرعون الخروج.
وقام الفرعون منفتاح أو مرنبتاح (1236 ـ 1223 ق.م)، خليفة رمسيس الثاني، بإخماد ثورة في كنعان في أواخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد. واحتفالاً بهذه المناسبة، تظهر أول إشارة في التاريخ إلى كلمة «يسرائيل»: « يسرائيل شعب صغير. لقد دمرته وانمحت ذريته فلا وجود له ». ويُقال إن كلمة «يسرائيل» هنا تشير إلى إحدى المدن أو القبائل الكنعانية وليست لها أية علاقة بالعبرانيين.
وشهد عهد مرنبتاح أول موجة من موجات شعوب البحر (الفلستيين)، وقد نجح في صدهم. كما نجح رمسيس الثالث (1198 ـ 1167 ق.م) في وقف هجماتهم تماماً، وكان آخر فراعنة هذه الأسرة الذين حكموا فلسطين.
أما فترة عصر الأسرات المتأخرة (1085 ـ 332 ق.م)، بعد نهاية المملكة الحديثة، فتشمل حكم الأسر: من الحادية والعشرين (1085 ـ 945 ق.م) وحتى الأسرة الثلاثين (380 ـ 343 ق.م) والتي تُسمَّى في التاريخ المصري القديم بالحكم الأجنبي، أي حكم الليبيين والنوبيين والآشوريين والفرس وغيرهم. وقد شهدت هذه الفترة انحسار النفوذ المصري، وهي نفسها الفترة التي تم فيها اتحاد القبائل العبرانية فيما يُسمَّى بالمملكة العبرانية المتحدة ثم انقسامها وأخيراً سقوطها على يد الآشوريين والبابليين. وتتراوح العلاقات بين مصر وفلسطين في تلك الآونة بين الشد والجذب، فقد قدَّم أحد فراعنة الأسرة الحادية والعشرين ابنته زوجةً لسليمان. وتزوج ملك مصر الليبي (شيشنق الأول)، من الأسرة الثانية والعشرين الليبية (945 ـ 745 ق.م)، ابنة سليمان، الأمر الذي أدَّى إلى إقامة علاقات وطيدة بين مصر والمملكة العبرانية المتحدة. ولكن شيشنق قام، مع هذا، بحماية يربعام الأول المتمرد الهارب من حكم سليمان. ولكنه، بعد موت سليمان، هاجم المملكة الجنوبية ونهب الهيكل أثناء حكم رحبعام ابن سليمان (هناك نقش على الجزء الخارجي من الحائط الجنوبي لهيكل آمون في الكرنك يصور هذه الحملة التي قام بها شيشنق ويذكر المدن التي غزاها)، ثم هاجم المملكة الشمالية ذاتها. وقد استمر تَدخُّل مصر في شئون الدويلتين العبرانيتين، إذ أرسل فراعنة مصر ألف جندي مصري لإيقاف شلمانصر الثالث حينما هاجم التحالف الآرامي العبراني في معركة قرقر 853 ق.م، التي انتصر فيها الآشوريون وإن لم تكن نتيجتها حاسمة تماماً.
وفي نهاية القرن الثامن قبل الميلاد، حل الفراعنة النوبيون (الكوشيون) محل الفراعنة الليبيين، كما ظهرت القوة الآشورية في شخص تيجلات بلاسر الثالث. وأثناء ثورة المملكة الشمالية الأخيرة ضد آشور (724 - 721 ق.م)، كتب ملكها هوشع إلى فرعون مصر طالباً النجدة، ولكنه لم يفده في ذلك كثيراً إذ تم صد الحملة المصرية وسقطت المملكة الشمالية. ومع هذا، يبدو أن مصر ظلت قوة يُعتدُّ بها، فلقد طلب حزقيا، ملك المملكة الجنوبية، هو الآخر، العون من مصر.
وقد قام الآشوريون بضم مصر لفترة وجيزة (671 -663 ق.م)، وطردوا النوبيين، ووضعوا مكانهم ملوكاً مصريين تابعين. وقد نجح بسماتيك الأول (664 ـ 610 ق.م) من الأسرة السادسة والعشرين (663 ـ 525 ق.م) في الاستقلال بمصر، وفي تكوين جيش من المرتزقة اليونانيين والعبرانيين والفينيقيين. وكان ملوك الدولة الجنوبية يبادلون الجنود العبرانيين بالأحصنة المصرية. كما أن فراعنة مصر بدأوا في تبني سياسة تشجيع الأجانب (ومن بينهم العبرانيون) على القدوم إلى مصر للاشتغال بالتجارة والقتال.
وبعد سقوط نينوي (عاصمة الآشوريين) عام 612 ق.م على يد البابليين، حاول نخاو الثاني ابن بسماتيك الأول أن يساعد الآشوريين ضد التقدم البابلي في عام 608 ق.م، فتصدى له يوشيا، ملك المملكة الجنوبية، ولكنه سقط هو نفسه في المعركة. وقام نخاو بضم فلسطين إلى مصر، كما خلع يهوآحاز خليفة يوشيا وأقام بدلاً منه يهوياقيم على عرش المملكة الجنوبية وفرض عليه الجزية. ولكن نبوختنصر هزمه عام 605 ق.م في معركة قرقامش، ثم سقطت في يده القدس. وحينما قامت حركة تمرد عبراني بتحريض من مصر وأدَّت إلى مقتل جداليا، الحاكم الذي عينه البابليون، فرّ المتمردون إلى مصر ومعهم النبي إرميا. وتم تأسيس مستعمرة إلفنتاين في عهد بسماتيك الثاني (594 ـ 588 ق.م) لحماية حدود مصر الجنوبية. وحين وقعت مصر تحت الهيمنة الفارسية عام 525 ق.م، أظهر أعضاء الحامية ولاءهم للغزاة، إذ كان الفرس يعدون العبرانيين عنصراً موالياً لهم. وقد تأثر التراث الديني اليهودي القديم بالتراث الديني المصري في عدة نواح مثل عادة الختان، وفي فكرة التوحيد نفسها.
وحينما وقعت مصر تحت الهيمنة اليونانية عام 333 ق.م، هاجرت أعداد كبيرة من اليهود إلى مصر، وكانت الإسكندرية أكبر مركز لهم حيث بلغ عددهم فيها مليوناً. وفي تلك الفترة، ظهرت الترجمة السبعينية في مصر البطلمية. وقد لجأ الكاهن الأعظم أونياس الثالث إلى مصر وأسس ابنه أونياس الرابع هيكلاً في أون (هليوبوليس) بتشــجيع من البطـالمة الذين كانوا يحـاولون دائماً، شـأنهم في هـذا شأن فراعنة مصر، ضم فلسطين أو ضمان ولائها لهم. وقد قامت صراعات عميقة بين الجماهير الهيلينية والجماهير اليهودية وهو ما تسبب في تدخُّل الرومان. وقامت تمردات يهودية في مصر بعد هدم الهيكل في عام 71م، كما قام تمرد آخر فيما بعد (115 ـ 117م). وقد لعب الطابع الهيليني الذي اصطبغ به يهود الإسكندرية دوراً كبيراً في تهـيئتهم لتَقبُّل المسـيحية، فانخرطت أعـداد كبيرة منهـم في الدين الجديد، حتى أصبحت الجماعة اليهودية صغيرة العدد ضئيلة الشأن عند الفتح العربي. وقد اصطبغت هذه الجماعة بطابع عربي وأصبحت لغة اليهود وثقافتهم عربية. ومن كبار المفكرين الدينيين في مصر من أعضاء الجماعات اليهودية سعيد بن يوسف الفيومي. وقد انخرط عدد من يهود مصر في فرقة القرّائين، ثم أخذت أحوال الجماعة اليهودية تتغيَّر حتى القرن العشرين بحسب تغير الظروف.
يتبع إن شاء الله...