الباب الرابع: العالم العربي منذ القرن التاسع عشر
الجماعات اليهودية في العالم العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر : تعداد
The Jewish Communities in the Arab World since the Mid-Nineteenth Century: Numbers
يُلاحَظ أنه، مع بداية العصور الوسطى في الغرب، كان يهود العالم الإسلامي يشكلون أكثر من نصف تعداد يهود العالم. إلا أن عددهـم أخذ في التناقـص حتى أصبحوا يشكلون أقلية لا تتجاوز 10%.
وهذا يرجع إلى الأسباب التالية:
1 ـ تحوَّل كثير من اليهـود عن اليهـودية الحاخامية إلى اليهودية القرّائية، وهي شكل من أشكال اليهودية التوحيدية تأثر بالإسلام. ويبدو أن أعداداً كبيرة من القرّائين اعتنقوا الإسلام، وهو ما أثر في وجود اليهود العددي. ولا تُوجَد دراسات إحصائية عن هذا الأمر، ولكن من الصعب تفسير اختفاء اليهود القرّائين وتَناقُص عددهم دون اعتبار اعتناق الإسلام كسبب أساسي.
2 ـ تَراجُع العالم الإسلامي ككل، وهو ما أدَّى إلى نزوح كثير من اليهود عنه.
3 ـ يُعَدُّ الريف مصدراً دائماً للزيادة السكانية. ولما كان يهود البلاد الإسلامية من سكان المدن، فلم تكن هناك مصادر لزيادة أعدادهم، ولهذا أخذت أعدادهم في التناقص.
وفيما يلي عدد يهود العالم العربي قبل أن تحدث التغييرات العددية الكبرى بعد عام 1950:
البلـــد / عـدد الســكان اليهود عام 1950
مصر / 75.000
العراق / 120.000 (110آلاف حسب باتاي)
لبنان / 6.700 (6 آلاف حسب باتاي)
سوريا / 6.000 (13 ألفًاحسب باتاي)
البحرين / 400
حضرموت / 2.000
اليمن / 8.000 (غير مؤكد ، 50 ألفاً حسب باتاي)
عدن / 1.200
ليبيا / 14.000 (38 ألفاً حسب باتاي)
تونس / 100.000
الجزائر / 120.000 (130 ألفاً حسب باتاي)
المغرب / 225.000 (العدد الكلي حسب باتاي)
مراكش الإسبانية / 14.700 (عام 1940)
طنجة / 7.000
ويُلاحَظ أن نسبة السكان اليهود إلى التعداد العام في كل بلد كانت ضئيلة جداً.
أمـا في عامي 1958 و1969، فقـد كانت الأعـداد كالتالي:
البلـــد / عام 1958 / عام 1969
مصر / 40.000 / 1.000
العراق / 6.000 / 2.500
لبنان / 6.000 / 3.000
سوريا / 5.000 / 4000
اليمن / 3.500 / ــــــ
ليبيا / 3.750 / 100
تونس / 85.000 / 10.000
الجزائر / 140.000 / 1.500
المغرب / 200.000 / 50.000
وبناءً على هذا الإحصاء، كان عدد الجماعات اليهودية في العالم العربي عام 1950 يتراوح بين 650 ألف و800 ألف.
وهنا ينبغي أن نتوقف قليلاً عند المُصطلَح الذي نستخدمه: هل ينطبق مُصطلَح «يهود البلاد العربية» على اليهود العرب وغير العرب المقيمين في البلاد العربية حتى لو حملوا جنسيات أجنبية، أم يجب أن نقصر استخدام المُصطلَح على اليهود حاملي الجنسيات العربية المختلفة، والذين ينتمون إلى التشكيل الحضاري العربي الإسلامي، أي إلى اليهود المستعربة؟ الواقع أننا حين نتحدث عن مسيحيي البلاد العربية نتحدث عن عرب يؤمنون بالمسيحية، ولا يرد لنا على بال أن نضع ضمن هذه المجموعة أعضاء الإرساليات المسيحية الغربية لمجرد أنهم يقيمون في البلاد العربية. ومن المستحسن أن نميِّز بين «يهود البلاد العربية» من جهة و«اليهود العرب» أو «العرب اليهود» من جهة أخرى. والعدد 800 ألف يشير إلى يهود البلاد العربية، أما العرب اليهود فعددهم أقل من ذلك بكثير، إذ يجب أن نستبعد من هذا الرقم الأغلبية الساحقة من يهود الجزائر ومصر الذين كانوا يحملون جنسيات أجنبية، وإذا طرحنا عددهم يكون الباقي هو 600 ألف تقريباً. أما بالنسبة إلى الباقين، فيمكننا أن نستبعد من هذا العدد نسبة 25 ـ 30% من عدد أعضـاء الجمـاعات اليهودية باعتبارهم أجانب، فنسبة اليهود الأجانب إلى اليهود المستعربة كانت كبيرة جداً في طنجة والمغرب الإسبانية وتونس، بل كانت تقترب من نسبتهم في الجزائر ومصر، ولكنها كانت أقل في المغرب. وهذه البلاد تضم 346.500، أي أكثر من 50% من العدد الباقي. وتقل نسبة اليهود الأجانب بقدر أكبر في العراق، حيث كان يوجد 120 ألفاً، وتكاد تنعدم في اليمن وعدن وهي بلاد تضم بضعة آلاف وحسب.
ويُلاحَظ تَركُّز أعضاء الجماعات اليهودية في المدن بسبب اشتغالهم بالمهن وتركزهم في قطاعات اقتصادية بعينها. فيهود العراق الذين بلغ عددهم 118.000عام 1947 تَركَّز منهم في بغداد 77.542. كما كانت تُوجَد نسبة مرتفعة منهم في البصرة والموصل، أي أن معظم يهود العراق كانوا من سكان المدن، مع العلم بأن هذا يستبعد يهود كردستان البالغ عددهم 18 ألفاً. والوضع نفسه ينطبق على مصر، ففي إحصاء 1937 بلغ عدد يهود مصر 63.550 كانت تعيش أغلبيتهم (59 ألفاً) في القاهرة والإسكندرية، منهم 34.103 في الأولى و24.290 في الثانية. وبقيتهم موزعة على مدن صغيرة مثل المنصورة وطنطا ودمنهور. وفي عام 1947، كان 96% من يهود مصر في القاهرة والإسكندرية. أما في المغرب، فيعيش 80% من اليهود في مراكز حضرية مثل الدار البيضاء والباقون موزعون على مدن أخرى مثل مراكش وفاس. وقد أخذت الجماعات اليهودية في العالم العربي في الاختفاء بعد عام 1950 حتى لم يبق سوى بضع مئات في بلد مثل مصر والعراق وعدة آلاف في المغرب.
وذلك للأسباب التالية:
1 ـ ظهور الاقتصـاد الوطني الذي ضـيَّق الخنـاق على العناصر الأجنبية، وكانت نسبة كبيرة من أعضاء الجماعات اليهودية لا تحمل جنسية عربية، وخصوصاً أن الاقتصاد الوطني الجديد تلعب الدولة فيه دوراً كبيراً.
2 ـ ظهور طبقة تجارية ومالية وطنية بدأت تلعب دوراً اقتصادياً نشيطاً وشكلت منافسة قوية وخطيرة للعناصر التي كانت مهيمنة من قبل، كما أن ظهور الدول القومية لعب دوراً مماثلاً.
3 ـ ظهور الدولة الصهيونية بما خلقته من مشاكل خاصة بولاء يهود البلاد العربية،وهجرة أعداد كبيرة منهم إلى العالم الغربي وإسرائيل.
ويصل عدد يهود البلاد العربية حسب إحصاء عام 1986 إلى 26.900.
أما عام 1992 فيصل عددهم إلى 13.200على النحو التالي:
البلـــد / عام 1986 / عام 1992
المغرب / 17.000 / 7.500
سوريا / 4.000 / 1.200
تونس / 3.700 / 2.000
اليمن / 1.200 / 1.600
الجزائر / 300 / 300
لبنان / 250 / 200
مصر / 250 / 200
العراق / 200 / 200
المجموع / 26.900 / 13.200
وكما نرى، بلغ العدد الإجمالي عام 1986 نحو 27 ألفاً إن أضفنا بضعة أفراد في ليبيا والسودان وغيرهما من البلاد. وقد انخفض هذا العدد إلى النصف تقريباً في غضون ستة أعوام. وكل هذا يعني أنه لن يوجد في القرن القادم يهود في أيٍ من أنحاء العالم العربي. لكن هذه ليست ظاهرة مقصورة عليه حيث يتوقع الدارسون لأسباب مختلفة أن يختفي أعضاء الجماعات اليهودية من أوربا الشرقية وإنجلترا وأمريكا اللاتينية وأن تختفي البقية الباقية في الهنـد، وهــي ظاهـرة يُطلَق عليها مُصطلَح «موت الشعب اليهودي».
الجماعـــات اليهـــودية فــي العـــالم العـــربي: نمــــط الهجــــرة
The Jewish Communities in the Arab World: Pattern of Migration
تدخل هجرة أعضاء الجماعات اليهودية في العالم العربي في إطار هجرة أعضاء الجماعات اليهودية في العالم في العصر الحديث، وهي هجرة من البلاد الأقل تقدماً من الناحية الاقتصادية إلى البلاد الأكثر تقدماً، ومن البلاد التي تلعب فيها الدولة دوراً اقتصادياً كبيراً إلى بلاد المشروع الحر حيث يمكنهم تحقيق قدر أكبر من الحراك الاجتماعي. وقد لاحظنا أن الهجرة اليهودية في العصر الحديث تشكل جزءاً لا يتجزأ من حركة الاستيطان الغربي (وخصوصاً الأنجلو ساكسوني). ولكن يُلاحَظ أن يهود البلاد العربية كانوا يضمون بينهم أعداداً كبيرة من السفارد المتأثرين بالثقافة اللاتينية. كما أن الأليانس، حينما قامت بعملية صبغ لأعضاء الجماعات اليهودية في العالم العربي بصبغة تغريبية، صبغتهم أيضاً بصبغة فرنسية لاتينية. ويُلاحَظ أن معظم العناصر الثرية وأعضاء النخبة بين يهود البلاد العربية هاجروا إلى فرنسا أو الولايات المتحدة أو أمريكا اللاتينية. وهم برفضهم الهجرة إلى إسرائيل يتبعون النمط المذكور نفسه إذ أن مثل هذه الهجرة لا تحقق حراكاً لهذه الشريحة من أعضاء الجماعة بينما يمكن تحقيق هذا الحراك في البلاد الغربية المتقدمة. ولذا، نجد أن حركة هجرة يهود البلاد العربية تتجه أساساً إلى فرنسا وأحياناً أمريكا اللاتينية. ولكن العدد الأكبر اتجه إلى إسرائيل، أي أنها هجرة إلى بلد استيطاني لتحقيق قسط أكبر من الحراك الاجتماعي، هجرة من بلاد أقل تقدماً إلى بلد أكثر تقدماً، ومن بلاد بدأ يظهر فيها اقتصاد قومي أو اشتراكي إلى بلاد فيها مجال أكبر للمشروع الحــر.
وقد هاجر يهود الجزائر كلهم إلى فرنسا، كما هاجر إليها كثير من يهود تونس ومعظم يهود مصر، وكذلك الجزء الأكبر من يهود المغرب. ويبين باتاي أن عدد يهود المغرب كان عام 1947 نحو 280 ألفاً. فإذا أخذنا في الاعتبار الزيادة الطبيعية ونسبتها 1.8%، يمكن القول بأن بين الـ 250 ألف يهودي مغربي ممن هاجروا خلال الفترة 1947 ـ 1969 نحو 117 ألفاً ذهبوا إلى إسرائيل. ويرى البعض أن أكبر دليل على انتماء يهود البلاد العربية لبلادهم هو الدور الصغير الذي لعبوه في الهجرة الاستيطانية إلى فلسطين. والواقع أنَّنا لا نجد بين العدد 460 ألفاً الذين دخلوا فلسطين بين عامي 1919 و1948 سوى 42 ألفاً قدموا من البلاد العربية والإسلامية، أي 9% من الهجرة العامة والتي شكَّل الإشكناز النسبة الكبرى منها. ولكننا إذا أخذنا بالعدد الذي يقدر يهود العالم بنحو 16 ـ17 مليوناً ويهود البلاد العربية بنحو 800 ألف، فإننا نجد أنهم كانوا يشكلون 5 ـ 6% من مجموع يهود العالم، وبالتالي تكون نسبة 9% من حاصل الهجرة اليهودية نسبة عالية للغاية مقارنة بالهجرة من أوربا.
هجرة أعضاء الجماعات اليهودية في العالم العربي وتركيا وإيران
البلد / 1948-1951 / 1952-1954 / 1955-1957 / 1958-1960 / اجمالي48-1960
المغرب / 30.750 / 15.903 / 70.053 / 9.236 / 125.942
الجزائر / 1.523 / 396 / 2.483 / 529 / 4.931
تونس / 13.139 / 5.902 / 15.267 / 2.149 / 36.475
ليبيا / 30.482 / 1.609 / 198 / 94 / 32.383
مصر / 16.508 / 3.203 / 14.562 / 1.051 / 35.328
اليمن / 45.199 / 698 / 10 / 55 / 45.962
عدن / 3.155 / 151 / 7 / 95 / 3.408
سوريا ولبنان / 2.898 / 461 / ـــــ / ـــــ / 3.359
تركيا / 34.213 / 861 / 2.650 / 1.316 / 39.040
العراق / 121.512 / 1.382 / 361 / 233 / 123.488
إيران / 24.804 / 5.750 / 2.035 / 7.230 / 40.061
الإجمالي / 324.183 / 36.316 / 107.626 / 22.230 / 490.359
ولكن الأرقام هنا مضللة لأنها تتعامل ليس مع العرب اليهود (أي اليهود المحليين) وحسب وإنما تتعامل أيضاً مع يهود البلاد العربية ككل (أي اليهود الوافدين من الغرب). ولو أن أرقام الهجرة فرَّقت بين اليهود المحليين من حاملي الجنسيات العربية واليهود من حاملي الجنسيات الغربية، لوصلنا إلى نتائج مغايرة قليلاً. وعلى كلٍّ، فإن هذه المناقشة أصبحت مجرد مناقشة أكاديمية إذ أنَّ تأسيس الدولة الصهيونية خلق حركية ضخمة ابتلعت كل يهـود العـالم العربي، المحليين منهــم والوافـدين، وأدَّت إلى اختــفائهم تماماً، باستــثناء المغـرب التي هاجـر معظــم أعضاء الجماعة اليهودية بها إلى الكيان الصهيوني وبقيت فيه أقلية يهودية آخذة في التناقص.
ومن المفارقات التي لها أعمق الدلالة أن يهود البلاد العربية كانوا يُشكّلون أقلية صغيرة جداً لا أهمية لها بالنسبة ليهود العالم، وأصبحوا الآن يشكّلون أغلبية سكان إسرائيل. وأكبر المجموعات التي هاجرت هي يهود المغرب، إذ يوجد في الدولة الصهيونية 480 ألف يهودي من المغرب أو من أصل مغربي و125 ألف يهودي من تونس والجزائر و78 ألفاً من ليبيا، أي أن هناك 682 ألف يهودي من المغرب العربي، وهم يشكلون 20% من يهود المستوطَن الصهيوني. ومن أهم الشخصيات اليهودية من أصل مغربي في المؤسسة الحاكمة أهرون أبو حصيرة الوزير السابق ورئيس حزب تامي، والحاخام عوفيديا يوسف، وديفيد ليفي أحد أقطاب حزب الليكود.أما اليهود من أصل عراقي فإن عددهم يبلغ 129.499، ومن أشهرهم شلومو هليل. ويوجد 245 ألف يهودي يمني أو من أصل يمني: (49.500 من مواليد اليمن و161.100 ولدوا لآباء يمنيين و35 ألفاً كانوا في فلسطين عام 1948). ويهود اليمن هم الوحيدون الذين كانت تُوجَد منهم أعداد كبيرة نسبياً في المستوطَن الصهيوني قبل عام 1948، فلقد أراد المستوطنون الصهاينة أن يحلوا معضلة العمل العبري باستخدام يهود في الاقتصاد الصهيوني الاستيطاني، ولكنهم لم يجدوا العمالة الكافية بين يهود أوربا، فاستوردوا يهود اليمن. ويُوجَد إلى جانب ذلك بضعة آلاف من سوريا، وانضم إليهم 130 ألف يهودي من إيران و100 ألف يهودي كردي.
وقد سمحت المغرب، كما سمح العراق، لليهود الذين هاجروا إلى إسرائيل بالعودة، فعادت أعداد لا يُعتَد بها إحصائياً رغم دلالتها. وتكمن أهمية القرّار في أنه ضربة في الصميم لأسطورة الشرعية الصهيونية التي تطرح فكرة اليهودي الخالص الذي لا ينتمي إلا لوطنه اليهودي، إذ أنَّ القرّار العربي يؤكد عروبة هؤلاء اليهود وانتماءهم وانتماء كل أعضاء الأقليات العربية إلى وطنهم العربي.
الجماعات اليهودية في العالم العربي: الانقسامات الدينية والعرْقية
The Jewish Communities in The Arab World: Religious and Ethnic Divisions
مع منتصف القرن التاسع عشر، ومع بداية تفكك الدولة العثمانية ودخول الدول العربية في الدائرة الاستعمارية، لم يكن أعضاء الجماعات اليهودية في العالم العربي يُشكِّلون وحدة دينية أو ثقافية أو لغوية.
ويمكن تقسيم الجماعات اليهودية على النحو التالي:
1 ـ اليهود المستعربة الذين يتحدثون العربية وينتمون إلى التشكيل الحضاري العربي الإسلامي. ويمكن أن نصنف يهود اليمن ضمن هؤلاء رغم خصوصيتهم التي تميِّزهم عن بقية اليهود المستعربة.
2 ـ يهود السفارد الذين يتحدثون اللادينو.
3 ـ يهود الإشكناز الذين يتحدثون اليديشية.
4 ـ يهود الغرب الذين يتحدثون لغات بلادهم المختلفة: فرنسية وإنجليزية وألمانية.
5 ـ يهود البربر في جبال الأطلس ويتحدثون اللغات البربرية المختلفة.
6 ـ يهود كردسـتان في العـراق وإيران الذين يتحـدثون الكردية والآراميـة. وكان بعضهم يتحدث العربية، ولذا كانوا يُعدُّون من اليهود المستعربة.
وقد عبَّر عدم التجانس هذا عن نفسه في شكل صراع بين الجماعات اليهودية المختلفة. وفي المغرب، كان اليهود السفارد الوافدون إلى المغرب يشيرون إلى اليهود الأصليين على أنهم «توشافيم»، أي سكان أصليون أو محليون، وهي عبارة تحمل بعض الإيحاءات القدحية. وكان اليهود الأصليون يشيرون بدورهم إلى الوافدين باعتبارهم «مجوراشيم»، أي المنفيين أو المنبوذين! وكان يهود صنعاء في اليمن ينظرون بعين الاحتقار إلى يهود الجبال ويعتبرونهم أدنى مرتبة منهم. كما لم يكن الفريقان يتزاوجون فيما بينهم. وفي مصر، كان السفارد والإشكناز ينظرون إلى يهود مصر المستعربة بشيء من التعالي. كما كان السفارد يشيرون إلى الوافدين الجدد من الإشكناز على أنهم «شاخت»، أي الأشرار، بسبب تَورُّط عدد كبير منهم في الأنشطة المشبوهة، وخصوصاً الدعارة، وقد كانوا ينظرون إليهم بقدرٍّ كبير من التعالي. وهذه المواقف كانت في معظم الأحوال انعكاساً لمواقف مشابهة في المجتمع وسائدة بين أعضاء الأغلبية. وقد نشب الصراع الحاد بعد ذلك بين دعاة الصهيونية وأعدائها. والواقع أنَّ انقسام يهود البلاد العربية كان بارزاً في الإطار التنظيمي حيث لم يكن يتسم بأية مركزية أو وحدة إلا إذا قامت الدولة بفرضه كما حدث في مصر.
وكان أعضاء الجماعات اليهودية المستعربة مندمجين حضارياً في المحيط الثقافي العربي الإسلامي لكل جماعة. فكان يهود المغرب مغاربةً أو بربراً لهم نفس فلكلور المغاربة أو البربر ونفس المستوى الثقافي والحضاري، فكانوا يزورون أولياء اليهود، بل هناك حالات كثيرة كان فيها المسلمون واليهود يتبركون بوليّ واحد ويقومون بزيارته. وقد طلبت حكومة فيشي الموالية للنازي من الحكومة المغربية تسليم أعضاء الجماعات اليهودية للنازي لإبادتهم كما حدث مع أعداد كبيرة من يهود فرنسا. ولكن العاهل المغربي محمد الخامس تصدَّى لهم، وهو ما أدَّى إلى نجاة الجماعة اليهودية من خطر الإبادة. والشيء نفسه ينطبق على يهود ليبيا والجزائر ومصر وغيرها من البلاد العربية، فكان يهود مصر يزورون مقام سيدي أبو حصيرة الذي كان يزوره معهم المصريون من المسلمين والمسيحيين. وكان يهود متماته في جبال الأطلس بتونس يعيشون في الكهوف مثل المسلمين. ولكن كان هناك بالطبع العناصر اليهودية غير العربية التي كانت مرتبطة أساساً بالتشكيل الحضاري الغربي ثم الاستعماري. وكان السفارد ضمن هذه العناصر. وكذلك، بطبيعة الحال، الإشكناز الذين استوطنوا في العالم العربي مع تَزايُد النفوذ الغربي ومع تَعثُّر التحديث في روسيا ابتداءً من عام 1882.
وقد ترك وصول يهود الغرب (الإشكناز والسفارد) آثاراً متنوعة من منطقة إلى أخرى. ففي المغرب، اندمج يهود المدن الساحلية مع السفارد، واصطبغوا بالصبغة السفاردية. أما في المدن الداخلية، فقد احتفظ اليهود بصبغتهم العربية أو البربرية، بحيث كانوا 36.8% من السفارد و30.5% من العرب و6.95% من البربر (في نهاية القرن التاسع عشر). أما في الجزائر، فقد حدث العكس إذ تم استيعاب السفارد ضمن السكان الأصليين، وأصبح الجميع يهوداً مستعربة. ثم انضم إليهم في القرن السابع عشر الميلادي نخبة سفاردية من ليجورن (وقد سميت «جورينيم») قامت بدور الجماعة الوسيطة. وفي تونس، انقسمت الجماعة اليهودية إلى التوانسة وهم اليهود المستعربة، والجرانا أو الغرانا وهم السفارد من غرناطة، والجورينيم من ليجورن أيضاً.
ومن الناحية الدينية، ينقسم اليهود إلى:
1 ـ يهود حاخاميين يؤمنون بالتوراة والتلمود، وهؤلاء كانوا هم الأغلبية. ومعظم هؤلاء كان يتبع النهج السفاردي، وكان بعضهم يتبع النهج الإشكنازي، وكان لكل فريق معابده المستقلة.
2 ـ يهود قرّائين، وكانوا يوجدون أساساً في مصر حيث بلغ عددهم عام 1947 نحو 3.486 (مقابل 62.153 يهودي حاخامي).
3 ـ يهود سامريين.
4 ـ يهود لادينيين وعلمانيين.
ويبدو أن التيارات اليهودية الدينية الجديدة (وهي أساساً تيارات إشكنازية)، مثلها مثل اليهودية الإصلاحية والمحافظة وغيرها، لم تجد طريقها إلى العالم العربي. وكان اليهود يختلفون في درجة تَمسُّكهم بتعاليم دينهم حسب معدلات العلمنة الموجودة في مجتمعهم. فكان مدى تَمسُّك يهود مصر باليهودية يختلف عن مدى تمسك يهود اليمن الذين كانوا معزولين عن العالم ومشهورين بتمسكهم بتعاليم دينهم كما يتضح في طريقة قصهم شعر رأسهم وتركهم السوالف وإطلاقهم اللحى. وقد نشبت صراعات دينية بين أعضاء هذه الفرق، وخصوصاً بين الحاخاميين والقرّائين والسامريين، بحيث كان لكل فرقة دينية معبدها وحاخامها وتنظيماتها.
لقد ضمنت دساتير العراق ومصر والمغرب وغيرها من الدول العربية لليهود المساواة في الحقوق الدينية والسياسية والاقتصادية. وكان لكل جماعة يهودية مدارسها وصحفها، العربية والإنجليزية والفرنسية، ومحاكمها (إلى أن أُلغيت المحاكم الشرعية في بعض الدول العربية). وكان تنظيم الجماعة اليهودية (الذي كان يترأسه شخص يُقال له الناسي أو الحاخام الأكبر) يشبه منصب بطريرك الأقباط في مصر يساعده مجلس أو لجان معيَّنة أو منتخبة تشرف على كل الشئون الاجتماعية للجماعـة التي لا تندرج تحـت نفـوذ أو سـلطان الدولة. وفي معظم الأحيان، كانت كل جماعة يهودية سفاردية أو إشكنازية أو مستعربة... إلخ تحتفظ باستقلالها عن الجماعات الأخرى، ولكن كان يتم التنسيق بين هذه الجماعات أحياناً بحيث تعترف كلها بسلطة مركزية واحدة كما حدث في مصر.
ويُلاحَظ أن ظاهرة الجيتو الغربية ليس لها نظير في العالم العربي إلا في المغرب حيث كان اليهود يعيشون في حي خاص بهم يُسمَّى «الملاح»، والكلمة مشتقة من كلمة «ملح» ولا يُعرَف السبب هذه التسمية على وجه التحديد، وإن كان يُقال إنه سُمي كذلك لأنه بعد تنفيذ حكم الإعدام في أعداء السلطان كان رأس المعدوم يُفصَل عن جسده ثم يتم تمليحه حتى لا يصاب بالتلف عند عرضه على الجمهـور، كما وردت تفسـيرات أخـرى لا تقل طرافة عن هذا التفسير. أما حارة اليهود، فلم تكن جيتو بأي معنى، وإنما كانت مجرد مكان يتركز فيه أعضاء الجماعة نفسها كما يحدث في الولايات المتحدة على سبيل المثال.
الجماعات اليهودية في العالم العربي: تحولها إلى عنصر استيطاني
The Jewish Communities in the Arab World: Their Trans- formation into a Colonial Settler Element
بعد أن نجحت الدول الغربية في القضاء على تجربة محمد علي في النهضة القومية في مصر والعالم العربي، وفي إصلاح الدولة العثمانية ككل، تعاظم النفوذ الغربي في العالم العربي وتراجعت الدولة العثمانية التي أخذت تتنازل للقوى الغربية بالتدريج. وقد أخذ هذا شكل قوانين الامتيازات وحماية الأجانب. وانتهى الأمر إلى القضاء على الدولة العثمانية واقتسام معظم أجزاء العالم العربي بين الدول الغربية، فأصبحت العراق ومصر والسودان وفلسطين وعدن وبعض دول الخليج تابعة للإنجليز، وتونس والجزائر والمغرب وسوريا ولبنان لفرنسا، وليبيا لإيطاليا، وأجزاء من المغرب لإسبانيا. وقد تَكرَّس هذا الوضع بانتهاء الحرب العالمية الأولى. وحاول الاستعمار الغربي في العالم العربي الإسلامي أن يوسع رقعة نفوذه بين السكان عن طريق فرض الحماية على أعضاء الأقليات وإعطائهم حقوقاً ومزايا لم تكن متاحة لأعضاء الأغلبية بحيث تتحول الأقلية إلى جيب سكاني ترتبط مصالحه وتطلعاته بالقوى الاستعمارية الحامية وتتحول هي إلى جماعة وظيفية وسيطة بين القوة الاستعمارية والسكان المحليين، وكانت هذه العملية تسمى عملية «حماية» الأقليات، وهذا هو النمط الذي يسم علاقة إسرائيل بالعالم الغربي ويسم موقف الحضارة الغربية من اليهود عبر تاريخها. ويبدو أن عملية حماية الأقليات أول شكل من أشكال الاستعمار الاستيطاني عن طريق تحويل أقلية محلية مندمجة إلى عنصر غريب يدين بالولاء لقوة غربية غريبة! ولعبت المؤسسات اليهودية الغربية، وخصوصاً الأليانس ذات الاتجاه الصهيوني، دوراً أساسياً في ذلك. فأسست الأليانس سلسلة من المدارس في كل أنحاء العالم العربي والإسلامي دخلها أبناء اليهود من الجماعات كافة سواء المحلية أو الوافدة. ولم يتعلَّموا في هذه البلاد لغة بلادهم (العربية) وإنما تعلَّموا الفرنسية أساساً ولغات أوربية أخرى، وهو ما أدَّى إلى صبغ معظم أعضاء الجماعة اليهودية بصبغة غربية فرنسية فاقعة وإلى عزلهم عن بني أوطانهم وتهميشهم من الناحية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. ويُلاحَظ الانجذاب الشديد ليهود البلاد العربية إلى فرنسا والثقافة الفرنسية، بما في ذلك يهود مصر التي كانت مستعمرة إنجليزية، ويهود ليبيا وكانت مستعمرة إيطالية. ولهذا، اتجه أغلبهم بعد الهجرة من البلاد العربية إلى فرنسا أو إلى القسـم الفرنسـي في كنـدا، أو إلى أمريكا الجنوبيـة ذات الثقافـة اللاتينية.
ومما عمق هذا الاتجاه نحو التهميش الاقتصادي والثقافي، وجود عناصر يهودية وافدة من الغرب كان يفوق عددها أحياناً عدد اليهود المحليين. فعدد يهود مصر، على سبيل المثال، في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، كان بين ستة آلاف وسبعة آلاف. وفي عام 1897، بلغ عددهم خمسة وعشرين ألفاً نصفهم من الأجانب الوافدين. وفي عام 1917، بلغ عددهم 60 ألفاً 58% منهم من الأجانب. ومع حلول عام 1947، أي عشية إنشاء الدولة الصهيونية، كانت نسبة المصريين بين أعضاء الجماعة اليهودية لا تتجاوز 20%. وفي دمشق وحلب، كان نصف اليهود «سنيوريس فرانكوس»، وهي عبارة أسبانية تعني «الأسياد الفرنجة»، وهو ما كان يعني أنهم وافدون يتمتعون بالامتيازات.
وكان العنصر الوافد يشكل، بطبيعة الحال، عامل جذب قوياً للعناصر المحلية إذ كان لدى الوافدين من الكفاءات ما يؤهلهم للتعامل مع القوة الاستعمارية المهيمنة ومع الاقتصاد الحديث الآخذ في التشكل. ولذا، نجد أن العنصر المحلي سرعان ما اكتسب الصبغة الغربية حتى أصبح من الصعب، في كثير من الأحوال، تمييز اليهود المستعربة المحلية عن اليهود الوافدين. ولقد كان يهود العراق استثناء من هذه القاعدة، إذ لم تنضم أعداد كبيرة منهم إلى يهود العالم الغربي واحتفظوا بهويتهم العربية. وكانت هناك شريحة اكتسبت الثقافة الغربية في مدارس الأليانس واعتمدت عليها سلطات الاحتلال البريطانية للخدمة في إدارتها الجديدة في أعقاب الحرب العالمية الأولى. ويبدو أن أعضاء الجماعة اليهودية لا يختلفون كثيراً في سلوكهم هذا عن بعض أعضاء النخبة الحاكمة في البلاد العربية ولا عن بعض أعضاء طبقات المجتمع الهامشية الأخرى الذين يتركون ثقافتهم الوطنية وهويتهم ويكتسبون ثقافة الغازي ويتعلمون لغته. وهم في الواقع يهدفون إلى أن يحققوا حراكاً اجتماعياً، وينتهي بهم الأمر إلى التوحد الكامل مع هذا الغازي ثم الرحيل معه حينما تحين الساعة (كما حدث لبعض أعضاء الطبقات الحاكمة في العالم العربي).
وتجب إضافة أن أعضاء الأقليات أكثر تعرضاً لهذه العملية من أعضاء الأغلبية بسبب هامشيتهم فيما يتعلق بالرموز الأساسية للمجتمع. ومن المفارقات التي تستحق التسجيل أن عملية إعتاق يهود العالم العربي وتحديثهم تمت خارج نطاق المجتمع العربي نفسه وبمعدلات مختلفة عن معدلات التحديث فيه، كما أنها تمت من خلال القوى الغازية. ولذلك، فبينما أدَّى الإعتاق والتحديث في الغرب إلى اندماج اليهود في مجتمعاتهم أدَّت العملية السياسية والاجتماعية نفسها إلى نتيجة عكسية تماماً في المجتمع العربي.
وقرر كثير من المواطنين اليهود الاستفادة من قوانين الامتيازات، فتجنسوا بإحدى الجنسيات الأوربية حيث كانت بعض الدول الغربية تشجع هذا الاتجاه لخلق رأس جسر لها. وفي الجزائر بالذات، أعطيت الجنسية الفرنسية لكل يهود الجزائر في محاولة لزيادة الكثافة البشرية الفرنسية داخل الجزائر، وكان هذا جزءاً من المخطط الاستعماري الاستيطاني. ومع اندلاع الثورة الجزائرية، كانت أغلبية يهود الجزائر العظمى مواطنين فرنسيين. وقد كان العدد أقل في تونس والمغرب نظراً لأن الحكومة الفرنسية لم تشجع هذا الاتجاه هناك. وبعد احتلال بريطانيا للعراق في أعقاب الحرب العالمية الأولى، سعى أعضاء الجماعة اليهودية في العراق للحصول على الجنسية البريطانية، فقدموا طلبات بهذا المعنى إلى المندوب السامي البريطاني عام 1921 ولكن بريطانيا لم تستجب لطلبهم.
ومن العناصر الأخرى التي سـاهمت في تعمـيق الاتجـاه نحو التغريب، تركيب أعضاء الجماعات اليهودية الوظيفي والاقتصادي، وخصوصاً بين الوافدين. فقد تركزوا في مهن تجارية معينة (تجارة دولية) ومالية (الربا والسمسرة وأعمال البورصة) وحرفية (صناعة الخمور)، وهي مهن حولتهم إلى جماعات وظيفية وسيطة مرتبطة أساساً بالقطاع الاقتصادي الغربي وبالقوة المهيمنة. ولم يكن من قبيل الصدفة أن معظم قرّارات التعريب أو التأميم كانت دائماً تضر بمصالح أعضاء الجماعة اليهودية والجماعات شبه الأوربية الأخرى، مثل اليونانيين والإيطاليين والمالطيين، من الوافدين أو الذين تم تهميشهم ثقافياً واقتصادياً.
لكل هذا، نجد أن مصير أعضاء الجماعات اليهودية ارتبط بمصير الاستعمار في المنطقة، فتحسنت أحوالهم المادية وازدادت هامشيتهم البنيوية مع تَزايُد الهيمنة الاستعمارية والتغلغل الأجنبي. وأثناء فترة النضال ضد الفرنسيين في الجزائر، أيَّد 90% من يهود الجزائر بقـاء الجزائر فرنسـية، ووقفـوا إلى جانب منظمة الجيـش السري، وأخيراً رحلوا مع المستوطنين الفرنسين، رغم أن هؤلاء المستوطنين كانوا معروفين بكرههم العميق لليهود وعدائهم لهم، كما أنهم عارضوا منحهم الجنسية الفرنسية في بادئ الأمر. أما في تونس والمغرب، فتقول بعض المراجع الصهيونية إن أعضاء الجماعات اليهودية قد وقفوا موقف الحياد من حركة التحرر الوطني، وهي عبارة غير مفهومة وتفترض هامشية اليهود وعدم انتمائهم.
وقد ازدادت عملية التهميش هذه مع تَزايُد نشاط الحركة الصهيونية التي حاولت أن تعرِّف اليهود لا باعتبارهم عرباً أو حتى غربيين وإنما باعتبارهم يهوداً يدينون بالولاء للشعب اليهودي ثم للدولة الصهيونية.وفي العشرينيات، قامت الوكالة اليهودية بتكوين شبكة جاسوسية في العالم العربي استخدمت المؤسسات والمنظمات اليهودية الشرعية (مثل نوادي المكابي) واجهات تخفي نشاطها المعادي وغير الشرعي. وفي الثلاثينيات، أسست الوكالة اليهودية جهاز مخابرات يتبعه قسم عربي يترأسه موشيه شاريت. وقد قام الموساد عام 1937 بتأسيس مركز لتدريب بعض اليهود العرب على أعمال الجاسوسية ضد بلادهم أطلقت عليه اسم «الأولاد العرب». وبعد قيام الدولة، تم تجنيد بعض العناصر العربية اليهودية للقيام بأعمال تخريبية تخدم مصالحها، كما حدث في حادثة لافون حينما جنَّد بعض اليهود المصريين للإساءة إلى العلاقات بين حكومة مصر الثورية الجديدة عام 1952 وحكومات الدول الغربية. ولقد أدَّى تأسيس الدولة الصهيونية التي تدَّعي أنها دولة يهودية تُمثِّل كل يهود العالم، ومنهم يهود العالم العربي، إلى الوصول بعملية التهميش إلى ذروتها.
ومع هذا، ظلت أغلبية يهود العراق بمنأى عن عملية التهميش آنفة الذكر لبعض الوقت، ولذلك فقد تمتعوا بقدر كبير من الاستقرّار والرخاء الاقتصادي واستفادوا من الازدهار الاقتصادي الذي شهدته البلاد خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، ولم يتعرض اليهود إلا لبعض الأحداث المتفرقة التي جاءت كرد فعل إما للتطورات الجارية في فلسطين أو لتصاعد المشاعر المعادية لبريطانيا. وقد كانت أخطر هذه الأحداث الاضطرابات التي جرت عام 1941، والتي جاءت في أعقاب هزيمة قوات رشيد عالي الكيلاني أمام القوات البريطانية وسقوط نظامه. وقد راح ضحية هذه الاضطرابات التي عُرفت باسم «فرهود» ما بين 170 و180 يهودياً (وعدد أكبر من غير اليهود). وبعد هذه الأحداث، عادت الأمور إلى نصابها. ولذلك، فقد وجدت الحركة الصهيونية صعوبة بالغة في تشجيعهم على الهجرة إلى فلسطين، واضطرت في نهاية الأمر إلى اللجوء للإرهاب ضدهم حين دفعت بعملائها ليضعوا متفجرات في المعابد اليهودية وفي أماكن تَجمُّع أعضاء الجماعة حتى يبدو الأمر وكأن المجتمع بدأ يتحرك ضد اليهود.
ولكن هذا لا يعني أن كل أعضاء الجماعات اليهودية كانوا ممالئىن للاستعمار الغربي وتحولوا إلى وسطاء له، كما كان يهدف المخطَّط الاستعماري. ذلك أن أعداداً كبيرة من يهود سوريا انضمت إلى حركة التحرر الوطني ودعمت المطالب القومية. ومن المعروف أن يعقوب صنوع (أبو نظارة)، وهو كاتب مصري يهودي، هاجم الاستعمار الإنجليزي ونُفي بسبب ذلك. كما أن المصري اليهودي ليون كاسترو كان، وهو رئيـس تحرير جريـدة يومية فرنسـية، من كبار مؤيدي حزب الوفد المصري، ورافق سعد زغلول أثناء مفاوضاته في لندن (لكنه أسس بعد ذلك تنظيماً صهيونياً في مصر، ولعل تأييده للوفد كان يهدف إلى تعميق التيار الوطني المصري لعزل مصر عن العالم العربي وبالتالي فلسطين). ويوجد، غير هؤلاء، كثيرون من أثرياء اليهود الذين كانوا جزءاً لا يتجزأ مما يُطلق عليه مُصطلَح «الرأسمالية الوطنية» والذين ارتبطت مصالحهم ورؤيتهم وتطلعاتهم بالوطن الذي يعيشون فيه. ففي مصر مثلاً، ساهمت عائلتا قطاوي وشيكوريل في تأسيس بنك مصر عام 1920، وهو مشروع كان يهدف إلى تقليص اعتماد مصر على رأس المال الأجنبي وإلى إرساء حجر أساس لصناعة وطنية مستقلة.
ومن المعروف كذلك أن يهود العالم العربي لعبوا دوراً ملحوظاً في تأسيس الحركات الشيوعية في العالم العربي. وقد كانت هذه الحركات نشاطات، أياً كان تقييم المرء لها، معادية للاستعمار. فقام هنري كورييل بتأسيس الحركة الشيوعية المصرية (وثمة دراسات تشير إلى دور كورييل المشبوه). وقد كان هناك وجود يهودي ملحوظ في الحركة الشيوعية في العراق (الصحفي اليهودي نعيم قطان ومراد العماري وغيرهما ممن تبنوا موقفاً معادياً للصهيونية وأسسوا منظمة باسم «عصبة مكافحة الصهيونية»). والواقع أنَّ وجود اليهود في هذه النشاطات بأعداد تفوق نسبتهم العددية أمر ليس مقصوراً عليهم، ففي الكثير من الأحيان يوجد أعضاء الأقليات بنسب كبيرة في الحركات الثورية والفوضوية. وعلى كلٍّ، فحينما قررت الحركة الشيوعية العراقية أن تلعب دوراً أكثر فاعلية في محيطها العربي، طلبت إلى أعضاء القيادة من اليهود الاستقالة، وقد فعلوا ذلك مؤثرين مصلحة الحزب على مصلحتهم الشخصية. ولكن الصورة العامة للجماعات اليهودية في العالم العربي هي أنَّ الاستعمار الغربي قد نجح في عزلها ثقافياً عن الثقافة العربية الإسلامية وربطها بمصالحه الاقتصادية ورؤيته الثقافية ومن ثم تحوَّل أعضاء الجماعات اليهودية إلى مادة بشرية استيطانية لها قابلية عالية للهجرة. وهذا ما حدث بعد تأسيس إسرائيل إذ اختفى يهود البلاد العربية تقريباً.
يتبع إن شاء الله...