الباب الثالث: المدونات الحديثية
تمهيد:
رأيت أن تكون الكتابة في هذا الموضوع عن الكتب المتعلقة بالأنواع الثمانية الآتية، وأن يكون لكل نوع منها فصل خاص به، وأن تكون على هذا الترتيب.

كتب الأحكام، كتب الترغيب والترهيب، كتب الجوامع، كتب الزوائد، كتب توضيح المبهمات، كتب أصول الحديث، كتب التخريج، كتب الرجال.

وآثرت هذه الأنواع دون غيرها -كالعقائد وأحوال الآخرة وغيرها- لأن هذه الأنواع الثمانية ألصق بالحديث من غيرها.

وبدأت من بينها بكتب الأحكام لأنها أهم ما في كتب السُّنَّة من هذه الأنواع؛ إذ كان الجانب الأهم منها راجعًا إلى تصحيح معظم الأركان التي بني عليها الإسلام، كالصلاة والصيام والزكاة والحج، ثم إلى تصحيح المعاملات التي يتعايش الناس بها في حياتهم، ويعرف كل منهم ما له وما عليه دون غبن ولا جور، دفعًا للفساد في الأرض، ومقاومة للتعدي والبغي، وعلى وفقها يكون الفصل في القضايا والخصومات بين الناس.

وقفيت على كتب الأحكام بكتب الترغيب والترهيب؛ لأنها دون كتب الأحكام في الأهمية فهي تتجه في الجملة إلى جانب ما تتحقق به كماليات الأعمال، وما يطلب به الثواب ويتحاشى به العقاب في دار الجزاء، وهي لهذا غير متجهة إلى تصحيح العبادات والمعاملات الذي هو أهم شيء في الدين وتعاليمه.

ثم كانت كتب الجوامع في هذا العصر هي الثالثة في الترتيب؛ لأن مهمتها فيه جمع السُّنَّة، ومحاولة استقصائها أو استقصاء الأهم منها، وليس المقصود منها بيان موضوعات دينية معينة كالنوعين السابقين ولهذا كان ترتيبها على الحروف لا على الأبواب تسهيلًا للمراجعة، على أنها جاءت متأخرة في الزمن عن النوعين السابقين.

ثم تجيء بعد ذلك في الترتيب كتب الزوائد، لما أنها -كاسمها- زوائد على كتب الأصول الحديثية التي اعتبرها الناس مراجع أصلية لهم على مدى الأزمان، ولأن فيها استيعابًا أيضًا ككتب الجوامع في لون آخر من ألوان الاستيعاب، ولهذا كانت ككتب الجوامع أقل تداولًا من غيرها من كتب الحديث، ولم تتجه العناية إليها إلا في عصور متأخرة.

وأما كتب توضيح المبهمات التي جاءت في الفصل الخامس، فلأن المقصود الأهم بها هو خدمة الأحاديث النبوية التي هي موضوعات الأنواع الأربعة السابقة؛ وما شابهها، بشرح ألفاظها، أو تبيين معانيها، أو دفع توهم التضارب عنها، وهذا شيء متأخر طبعًا ووضعًا عن وجود الأحاديث ذاتها، وقد أشرت إلى أن الشروح جاءت متأخرة في التدوين عن جمع السُّنَّة في الجملة.

وبعد الانتهاء من دراسة ما يتعلق بالحديث النبوي في الأنواع السابقة رواية أنتقل إلى ما يتعلق به دراية في الأنواع التي اخترتها لبحث بعض مؤلفاتها، وهي التي سميت بكتب أصول الحديث الذي هو فن المصطلح، فبدأت به من بين هذه الأنواع؛ لأنه هو الفن الجامع لشتاتها، والمستوعب لأبوابها فهو أصل والباقي فروع عنه، فأخذت منه أهم الكتب المؤلفة فيه وتناولتها بالدراسة.

ثم قفيت على ذلك بفرع مهم من فروع المصطلح وهو تخريج الأحاديث؛ لأن له أهميته في بيان درجة الأحاديث التي تحتاج إلى التخريج، ومنزلتها من حيث القبول والرد، وهذا أهم ما يقصد من إيراد الحديث والاحتجاج به، فلذلك بدأت به من بين هذه الفروع.

ثم أتبعت ذلك بدراسة بعض كتب الرجال، ووجهت إليها عناية تناسبها تبعًا لرجال الحديث الذين أكثروا من التأليف فيها، للتعريف بالرواة وتواريخ وفياتهم وصفاتهم إلى غير ذلك، مما يلقي أضواء على أسانيد الأحاديث التي هي الأسس والدعاثم في قبول الأحاديث والاستدلال بها.

واكتفيت من بين فروع المصطلح بهذين النوعين؛ لأن الذي سمح به مقام البحث، ولأن في دراسة كتب الرجال ما يغني عن كثير من دراسة بعض الأنواع الأخرى ككتب التجريح والتعديل وكتب الوفيات ونحو ذلك.

تلك هي وجهة نظري في الترتيب الذي رتبته بين هذه الأنواع، وفي الاكتفاء بما اكتفيت به منها.

وعسى الله عز وجل أن يكون قد وفقني في وجهة النظر فيما ذهبت إليه، وأن يوفقني في الدقة العلمية في التصوير والبحث في تحليل هذه الكتب، وفي دراستها دراسة تنفعني وتنفع القراء إن شاء الله.