وتحاول هذه الأدبيات، انطلاقاً من النموذج نفسه، أن تؤكد بعض السمات الأساسية التي تتسم بها بعض الجماعات اليهودية باعتبارها جزءاً من المصير اليهودي وتعبيراً عنه. فاليهودي مكتوب علىه الانعزال وعدم الاندماج، شاء أم أبى، وهو دائماً يعزل نفسه عن الآخرين بسبب تركيبية شخصيته اليهودية، وهي مقولة وجدت طريقها إلى الأدبيات العربية التي تتناول الشأن اليهودي. ولكن الدارس المدقق يعرف أنها مقولة لا أساس لها من الصحة، فلو لم يندمج اليهود ولم ينصهروا في مجتمعاتهم لبلغ عددهم الآن مئات الملايين، فقد كان عددهم مع بداية العصر المسيحي (في بعض التقديرات) يزيد على سبعة ملايين. كما أن تنوع اليهود الإثني والعرْقي والحضاري لا يمكن فهمه إلا في إطار اندماجهم. فالفلاشاه يختلفون عن يهود الهند الذين يختلفون بدورهم عن يهود الولايات المتحدة. ومع هذا، تصر الأدبيات الصهيونية على أن مصير اليهودي وقدره هو العزلة وعدم الاندماج، وبالتالى تصبح الدولة الصهيونيـة نتيجـة حتمـية ومفهومة وأمراً طبيعياً، فهي الإطـار الذي يمكن لهذا المنعزل الأزلي أن يعبِّر عن شخصيته اليهودية من خلاله.
ويظهر قصور المقدرة التفسيرية لنموذج المصير اليهودي إذا ما درسنا السلوك الفعلي لأعضاء الجماعات اليهودية خارج إطار هذه المقولات الأسطورية. فيهود الولايات المتحدة قد ربطوا مصيرهم كليةً بمصير بلدهم، برغم كل ادعاءاتهم الصهيونية. كما أن اليهود الأمريكيين الذين اشتركوا في الحرب العالمية الثانية بلغ عددهم خمسمائة وخمسين ألفاً، جرح منهم أربعة وعشرون ألفاً، وحصل ستة وثلاثون ألفاً على نياشين، وقتل منهم عشرة آلاف وخمسمائة من أجل وطنهم، وهو عدد يفوق عدد جملة اليهود الذين ماتوا دفاعاً عن الوطن القومي اليهودي. كذلك، فإن يهود الولايات المتحدة لا يهاجرون الى هذا الوطن القومي، علماً بأن عدد من يزور منهم هذا الوطن للسياحة لا يزيد على 10% وابتداءً من العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، أخذ المصير اليهودي (أو مصير الأغلبية العظمى من يهود العالم) يرتبط بالمصيرالأمريكى، إذ أن ملايين المهاجرين اتجهوا إلى الولايات المتحدة وتجاهلوا أرض الميعاد تماماً عدا أعداداً قليلة للغاية. ولا يزال هذا البلد الذهبي (جولدن مدينا) الغريم الأكبر للدولة الصهيونية حيث يهاجر مواطنوها بأعداد متزايدة إلى أرض الميعاد الأمريكية التي تحقق للجميع قسطاً أكبر من الأمن. وكذلك يفعل يهود أمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا. كما أن المهاجرين من روسيا وأوكرانيا يتجهون أساساً، هم أيضاً، إلى الولايات المتحدة متى سنحت لهم الفرصة. فإذا أضفنا إلى هذا الاتفاق الإستراتيجي بين الدولة الصهيونية والولايات المتحدة، والاعتماد شبه الكامل لهذه الدولة على الدعم الأمريكي بحيث أصبح مصيرها في يد راعيها الأكبر، فإننا نستطيع أن نقول بكثير من الإطمئنان إن المصير اليهودي، إن كان ثمة مصير مستقل، هو نفسه المصير الأمريكي. فالمصير اليهودي خاضع تماماً للإرادة الأمريكية. وهو، على كلٍّ، أمر متوقَّع بعد أن قامت المنظمة الصهيونية العالمية بتوقيع عقد صامت مع الحضارة الغربية يتحول بمقتضاه أعضاء الجماعات اليهودية إلى جماعة وظيفية استيطانية في فلسطين، أو إلى جماعات توطينية خارجها، تدافع عن المصالح الغربية نظير أن تضمن هذه الحضارة أمن وبقاء الدولة الصهيونية.
وقد أصبحت مقولة «المصير اليهودي» مقولة أساسية في الخطاب السياسي الإسرائيلي وتتبدَّى في عبارة مثل «إين بريرا»، أي «لا خيار»، وهي العبارة التي يصف بها المستوطنون الصهاينة حالة الحرب الدائمة التي يعيشونها. وقد تعمق هذا المفهوم في أدبيات جوش إيمونيم، إذ يصبح المصير اليهودي جوهر حياة المستوطنين، فهو تعبير عن عبء الميثاق بين الإله والشعب، وهو عبء لا يحمله كل الشعب اليهودي، وإنما يحمله المستوطنون وحدهم، فيذهبون إلى الضفة الغربية، ويضربون خيامهم بجوار البركان. وهو أمر مكتوب عليهم، فقد جاء في العهد القديم: « هو ذا شعب وحده وبين الشعوب لا يسكن ». ولذا، فالحرب الدائمة مع العرب جزء من المصير المحتوم.
ولقد حوَّلت المحكمة العليا فكرة المصير اليهودي إلى معيار ارتضته أساساً لتعريف الهوية اليهودية. ومن هنا، رُفض طلب الأخ دانيال أن يُعترَف به يهودياً، رغم أنه وُلد لأم يهودية، وذلك لأنه تبنَّى ديناً آخر ولم يربط مصيره بمصير الشعب اليهودي. ومع هذا، صرح شامير بأن الدولة الصهيونية لا يمكنها أن تدافع عن كل يهود العالم، إذ أنها مشغولة بالدفاع عن نفسها، أي أنه رفض اشتباك مصير الشعب اليهودي بالدولة اليهودية.
ويُلاحَظ أن الجماعات الوظيفية عادةً ما يكون لديها إحساس متضخم بخصوصية مصيرها. فالساموراي، في شعر الهايكو، يتحدثون دائماً عن مصيرهم الموعود، كما تتحدث العاهرات عن نصيبهن المكتوب على الجبين. وهذه جميعاً محاولات إنسانية لعقلنة وضع غير عقلاني وغير إنساني لا تمكن عقلنته إلا بهذه الطريقة. ولعل اضطلاع أعضاء الجماعات اليهودية بدور الجماعات الوظيفية في الحضارة الغربية، واضطلاع الدولة الصهيونية بدور الدولة الوظيفية، السبب الكامن وراء تضخُّم الحديث الصهيوني عن المصير اليهودي الفريد والمشترك.
ونحن نفرِّق بين وحدة المصير اليهودي وبين تشابك المصائر، إذ أن أحوال إحدى الجماعات اليهودية تؤثر أحياناً على جماعة يهودية أخرى، وذلك رغم وجودهما في مسارين تاريخيين مختلفين، وبرغم انتمائهما إلى حركيات تاريخية مختلفة. وعلى سبيل المثال، فإن حركيات التحديث المتعثر في شرق أوربا قذفت بملايين اليهود الفائضين إلى غربها، فاشتبك مصيرهم بمصير يهود هذه البلاد دون أن يتَّحد المصيران بالضرورة، وبذل يهود غرب أوربا أقصى جهدهم للتخلص من الوافدين الجدد. وظهرت، في هذا الإطار، الصهيونية الخارجية التوطينية التي يُطلَق عليها مصطلح «صهيونية الدياسبورا»، وهي صهيونية لا تطلب من المؤمن بها الاستيطان، وإنما تطلب منه المساهمة في توطين الفائض البشري اليهودي الذي يهدِّد مكانته بالخطر. وقد أثر المشروع الاستيطاني الصهيوني، وهو مشروع إشكنازي غربي بالدرجة الأولى، في الجماعات اليهودية في العالم العربي، إذ أن مصيرهم اشتبك مع مصير المستوطنين الإشكناز، الأمر الذي اضطرهم إلى الخروج من بلادهم العربية وإلى استيطان أعداد منهم فلسطين. ومع هذا، ظل الوضع الاقتصادي المتدني والهوية الحضارية المستقلة داخل المُستوطَن الصهيوني، وهو ما يعني أن مصيرهم ليس متوحداً بعد مع مصير الإشكناز وإن كان الوضع قد بدأ في التغير في الآونة الأخيرة (وقد يصبحون جزءاً من المُستوطَن الصهيوني لهم نفس مصيره). ومع هذا، فثمة عناصر تتفاعل داخل المُستوطَن الصهيوني وتوسِّع الهوة بين الإشكناز ويهود العالم الإسلامي، وتفرض على كلٍّ مصيراً مختلفاً.
القدر اليهودي
Jewish Fate
عبارة مرادفة لعبارة »المصير اليهودي«
الاسـتمرار اليهـودي
Jewish Continuity
«الاستمرار اليهودي» نموذج تفسيري يفترض أن الجماعات اليهودية تكوِّن في العصر الحديث كلاًّ متجانساً عل مستوى العالم، وأن ثمة استمرارية تاريخية وثقافية (بل أحياناً عرْقية) تسم ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي»، ويُعَدُّ هذا النموذج عنصراً محورياً في الفكر الصهيوني. وانطلاقاً منه، يذهب الصهاينة إلى أن اليهود المحدَثين هم ورثة العبرانيين القدامى، وأن حكومة إسرائيل الحالية في فلسطين المحتلة ما هي إلا الكومنولث اليهودي الثالث. ويرى بعض الصهاينة أن الصهيونية هي تعبير عن هذه الاستمرارية فأصولها تمتد بعيداً إلى أيام الأنبياء الأوائل وأن الدعوة الى العودة شيء متصل منذ بداية التاريخ اليهودي إلى الآن من الأنبياء إلى هرتزل.
وفكرة الاستمرار هذه فكرة حلولية ذات أصول إنجيلية، إذ أن الوجدان الغربي ينظر إلى أعضاء الجماعات اليهودية من خلال الكتب المقدَّسة، فيرى العبرانيين القدامى يدخلون كنعان، ثم يرى حكم القضاة فالملوك، فالسبي البابلي، فعودة عزرا ونحميا، وبعد ذلك ثورة الحشمونيين، ثم هدم الهيكل على يد تيتوس، وهو ما أدَّى إلى نفي اليهود. وهذا ما يعني أنهم في حالة انتظار، قابعون داخل تاريخهم المقدَّس الذي حلّ فيه الإله. وتُستأنَف الحلقة بعودة اليهود مرة أخرى إلى فلسطين. وبالتالى، فإن الاستيطان الصهيوني تعبير عن نمط متكرر ومستمر ومتوقع. كما أن دخول المستوطنين الصهاينة إلى فلسطين، وقيامهم بذبح الفلسطينيين، ليس إلا اسـتمراراً وتكـراراً لدخـول العبرانيين إلى أرض كنعان وإبادتهم لأهلها.
ويُعبِّر نموذج الاستمرار هذا عن نفسه فيما يمكن تسميته القياس التاريخي الزائف الذي يفترض أن الظواهر المحيطة بيهود اليوم تشبه في كثير من الوجوه الظواهر التي واجهها اليهود في ماضيهم السحيق. فنجد، مثلاً، أن حاييم وايزمان يطالب العرب في خطابه أمام المؤتمر الصهيوني العشرين (1937) بالتفاوض مع اليهود مذكراً إياهم بأنه، في الفترات العظيمة من التاريخ العربي، تعاون الشعبان معاً في بغداد وقرطبة على حفظ كنوز الثقافة العربية. فالعرب في نظره ما زالوا كما كانوا، واليهود أيضاً لم يتغيروا، أما الظروف التاريخية المتغيرة فهي أمر ثانوي يحسن التغاضي عنه كلية. ومن أطرف الأمثلة على هذا الإيمان باستمرار إسرائيل، وعلى القياس التاريخي الزائف، ما صرح به أستاذ للتاريخ بالجامعة العبرية من أن جنود إسرائيل رأوا البحر الأحمر لأول مرة في يونيه عام 1967 بعد غياب دام بضعة آلاف من السنين، أي بعد عبورهم إياه مع موسى حينما كان يطاردهم فرعون مصر! وقد كان من الشائع في الولايات المتحدة، بعد حرب 1967 مباشرة، أن يحاول بعض الحاخامات تفسير أسفار العهد القديم، مبينين أن معارك يونيه ليست إلا تكراراً لمعارك حدثت من قبل. ويحاول بن جوريون تبرير عسكرة المجتمع الإسرائيلي باللجوء إلى أسطورة الاستمرار، فيقول: « إن جنود موسى ويوشع وداود لم يكفُّوا عن القتال... وكذلك جنود صهيون [أي دولة إسرائيل] لن يتوقفوا عن القتال ». ويقوم بعض المعلقين العسكريين الإسرائيليين بعقد المقارنات بين فرسان داود وسليمان ودبابات الجيش الإسرائيلي، كما يقيمون الندوات لبحث أوجه الشبه والخلاف بين أساليبب جدعون وتكتيكات ديان. بل إن الصراع العربي الإسرائيلي بأسره ينظر إليه على أنه استمرار لصراع العبرانيين مع الفراعنة والآشوريين والبابليين والفينيقيين. ويتبدَّى نموذج الاستمرار اليهودي في فكرة النقاء العرقي والحضاري لليهود، لأن فكرة الاندماج والاختلاط بالآخرين تنسف فكرة الاستمرار من جذورها.
وتذهب الرؤية الصهيونية في تفسير هذا الاستمرار اليهودي إلى أن الوجود اليهودي عبر التاريخ اتبع نمطاً واحداً، وعبَّر عن جوهر يهودي واحد، فهو أقرب إلى التكرار منه إلى الاستمرار ويأخذ شكلاً هندسيٍّا متسقاً يشبه إلى حدٍّ كبير الأساطير البدائية التي تصل إلى درجة عالية من الاتساق العضوي مع نفسها. وعلى أية حال، فإن هذا الاتساق يجعل الصهيونية نظاماً مغلقاً مكتفيًّا بذاته لا علاقة له بالواقع المتعيِّن الحي، وهي في هذا تشبه كثيراً من الأساطير الشمولية مثل الأسطورة النازية. ويجد الصهاينة نفس القدر من الاستمرارية في ظاهرة معاداة اليهود، إذ يرون أنها دائمة ما دام اليهود في المنفى.
وكما هـو الحـال مع «البقاء اليهودي» وغيره من المفاهيـم الصهيونية، نجد أن مفهوم الاستمرار اليهودي يعطي اليهودي حقوقاً مطلقة مستمرة لا تنقطع، ويسقط الحقوق القائمة للآخرين. فباسم هذا الاسـتمرار يدَّعـي الصهاينة لأنفسـهم شرعية احتلال فلسطين وطرد أهلها. فالدولة اليهودية، حسب رؤيتهم، هي وريثة الدويلات اليهودية التي قامت منذ آلاف السنين.
الاســتمرار اليهـــودي: منظــــور إســلامي
Jewish Continuity: An Islamic Perspective
من المفاهيم الصهيونية المحورية مفهوم الاستمرار اليهودي، ويُقصَد به أن ثمة استمرارية في الصفات الأساسية (الثقافية والدينية بل والعرْقية أحياناً) التي تسم أعضاء الجماعات اليهودية وتفصلهم عن غيرهم من الشعوب والجماعات. وانطلاقاً من هذه الاستمرارية يرى المؤمنون بها أن كلمة «يهودي» تشير إلى يهود العالم في الحاضر والماضي والمستقبل، وأن كلمة «يهودية» تشير إلى نظامهم العقدي، وكأن سمات اليهود الثقافية لم يطرأ عليها أي تَغيُّر جوهري، وكذلك موروثهم الديني.
ونحن نرى أن مثل هذا التصور يتنافى تماماً مع الواقع التاريخي ومع الرؤية الإسلامية، ويمكن أن نسجل الملاحظات الآتية:
1 ـ لا يملك الدارس المتأني إلا أن يُلاحظ وجود تَنوُّع هائل بين أعضاء الجماعات اليهودية على المستوى العرْقي، فهناك يهود بيض ويهود سود ويهود صفر، وتختلف أحجام الرأس باختلاف انتماء اليهودي، كما يظهر الاختلاف والتباين على المستوى الثقافي/الإثني (انظر الباب المعنون «إشكالية العزلة والخصوصية اليهودية»).
2 ـ يُلاحَظ أن اليهودية ليست عقيدة متكاملة محددة المعالم بشكل معقول فهي أساساً تركيب جيولوجي تراكمي يحوي داخله طبقات عقيدية مختلفة ومتناقضة، بعضها يقترب من الشرك الصريح وبعضها يصل إلى التوحيد الكامل، وهذه الطبقات جميعاً جزء من اليهودية. وإن آمن اليهودي بطبقة دون أخرى، فهو مع هذا يظل يهودياً من منظور الشرع اليهودي. وفي عهد الهيكل الثاني، كان الصدوقيون الذين لا يؤمنون باليوم الآخر يجلسون في السنهدرين جنباً إلى جنب مع الفريسيين الذين يؤمنون بالبعث واليوم الآخر. وإلى جانب هؤلاء توجد بعض كتب الأنبياء في العهد القديم التي تقترب من التوحيد الخالص، بل تصل إليه أحياناً. وقد جاء في القرآن الكريم « قالت اليهود عزير ابن الله » (التوبة: 30) وبالفعل، هناك من اليهود من يستخدم مفهوم ابن الله باعتباره مفهوماً محورياً (انظر: «ابن الله»)، ولكن هناك من يُهمِّش هـذا المفهـوم بل يرفضـه تماماً، ويـصر على قدر عال من التوحيد. وهناك العشرات من اليهود في العصور الوسطى في الغرب ممن تقدموا إلى النار التي أُضرمت لإرغامهم على الرجوع عن التوحيد ولاقوا حتفهم وهم يرددون أن الإله واحد.
وقد جمع حاخامات اليهود تفسيراتهم للعهد القديم في التلمود الذي يُسمَّى أيضاً «الشريعة الشفوية»، وجعلوا الإيمان بهذه الشريعة الشفوية أساساً للعقيدة اليهودية يفوق في الأهمية الإيمان بالتوراة (الشريعة المكتوبة). والتلمود يحوي آراء أقل ما تُوصَف به أنها تُناقض أية رؤية توحيدية. وقد ازداد الأمر سوءاً بظهور تراث القبَّالاه التي وصفها بعض الحاخامات بأنها شرك صريح. وكان هناك إلى جوار هذا كله أشكال من اليهودية غير الحاخامية مثل يهودية الفلاشاه في إثيوبيا ويهودية بني إسرائيل في الهند. وازدادت المسألة ارتباكاً في العصر الحديث مع ظهور اليهودية الإصلاحية واليهودية التجديدية واليهودية المحافظة، وهي صيغ مخفَّفة من اليهودية بعضها لا يؤمن أتباعه بأن التوراة مُوحىً بها، وبعضها لا يؤمن بالبعث، وهكذا. ثم ظهر لاهوت موت الإله الذي ينطلق من فكرة أن الإله مات مع الإبادة النازية (ليهود الغرب)، وأن الدولة اليهودية حلت محل الإله! ثم ظهر أخيراً اليهود الملحدون والإثنيون الذين يرون أن يهوديتهم تكمن في خواص عرْقية أو إثنية أو حتى نفسية لا علاقة لها بالدين.
3 ـ كل هؤلاء يعتبرون أنفسهم « يهوداً » وهذا أمر يحدث في كثير من العقائد حين يرفض شخص ما معيارية عقيدة ما ويرفض الاحتكام لها (مثل الإيمان بالإله في الإسلام والمسيحية واليهودية) ومع هذا يستمر في ادعاء الانتماء لها. ويُلاحَظ أن المسيحية والإسلام لا يمكن أن يقبلا مثل هذا الشخص في حظيرة الدين. فرغم وجود قدر من الاختلاف والتنوع وعدم التجانس يسمح به النسق الديني الإسلامي والمسيحي إلا أن ثمة معيارية نهائية لابد من قبولها. هذا على عكس اليهودية التي تفتقر إلى مثل هذه المعيارية، فلم تتبن تعريفاً عقيدياً وحسب (اليهودي هو من يؤمن باليهودية)، ولكنها تبنت أيضاً تعريفاً بيولوجياً مادياً (اليهودي هو من وُلد لأم يهودية)، وفي الآونة الأخيرة تبنت تعريفاً نفسياً (اليهودي هو من يشعر بذلك في قرارة نفسه، ومن قَبل أن يربط مصيره بمصير الشعب اليهودي)، وهذه تعريفات تُسقط المعيارية وتفتح الباب على مصراعيه لكل من يريد أن يُسمِّي نفسه يهودياً. فالتعريفان الثاني والثالث لا علاقة لهما بأية معيارية عقيدية. ولذا يمكن الحديث عن «يهودي ملحد»، أي يهودي لا يؤمن بالإله، ولكن لا يمكن أن نتحدث عن «مسلم ملحد» أو عن «مسيحي ملحد».
انطلاقاً من كل هذا سنطرح مجموعة من الإشكاليات وسنجتهد في الإجابة عليها لنبيِّن استحالة افتراض الاستمرار اليهودي (الثقافي أو البيولوجي) من منظور إسلامي:
1 ـ إشكالية المجال الزمني لمصطلح «يهودي» (هل يشير إلى كل يهود العالم في كل زمان ومكان، في الماضي والحاضر والمستقبل، أو إلى يهود المدينة أيام البعثة المحمدية وحسب؟):
لفظ «يهودي» في اللغة من «هاد» أي «تاب ورجع إلى الحق» و«التَهوُّد» هو «التوبة والعمل الصالح». ويُقال أيضاً «هاد» و «تهود» أي «صار يهودياً» بمعنى أنه يؤمن بالعقيدة اليهودية. ولكن كلمة «يهودي» ليست الكلمة الوحيدة التي تدل على اليهود في القرآن، فقد وردت عدة مصطلحات أخرى: بني إسرائيل [41 مرةٍ]، واليهود [8 مرات]، وهود [3 مرات]، والذين هادوا [9 مرات]، وأوتو الكتاب [12 مرة]، وأهل الكتاب [31 مرة].
ومن الواضح أن القرآن الكريم لا يفترض وجود استمرارية بين يهود العالم، ولذا وردت هذه المصطلحات غير المترادفة ليعبِّر كل مصطلح عن وضع زماني ومكاني مختلف. فالقرآن يُفرِّق تفرقة واضحة بين اليهود الذين عاشوا في الجزيرة العربية وتعامل المسلمون معهم في فترة البعثة المحمدية من جهة وبين بني إسرائيل من جهة أخرى. فمصطلح «بني إسرائيل» جاء مخصصاً للحديث عن يهود عصر موسى وعيسى وأنبياء بني إسرائيل.
ولم يُستخدَم هذا اللفظ تخصيصاً ليهود عصر البعثة المحمدية إلا في موضعين (من المواضع الإحدى والأربعين) وهما:
ـ «سـل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة » (سورة البقرة ـ 211(
ـ « إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون» (سورة النمل ـ 76(.
وواضح أن في هذين الموضعين إحالة إلى موروثات قديمة يمكن أن يتناقلها اليهود، أياً كانت أصولهم العرْقية، عن بني إسرائيل، أي يهود عصر موسى، الأمر الذي يفتح الباب لإمكانية توجيه الخطاب العام (اليهودي) بصفة الخاص (بنو إسرائيل) الذي هو مسئول مسئولية مباشرة عن هذه الموروثات.
وهذا التمييز مفهوم تماماً في إطار الواقع التاريخي. فيهود المدينة والجزيرة العربية كانوا يؤمنون بصياغة دينية يُقال إنها شبه توحيدية، فهم في أغلب الظن لم يكونوا يعرفون التلمود حتى مع احتمال أن يكون قد تم جمعه آنذاك. (ومع هذا، تجب الإشارة إلى أن الفكر السبئي [نسبة إلى عبد الله بن سبأ] يدل على تَصاعُد العنصر الحلولي في اليهودية). وقد كان يهود الجزيرة العربية منعزلين عن يهود العالـم، وعـن مراكـز الدراسـة التلمـودية والفقهية في فلسطين وبابل، بل ويُقال إن يهود العالم آنذاك لم يكونوا يعتبرونهم يهوداً.
ومن هنا تكون التفرقة بين يهود عصر موسى ويهود المدينة، ومن هنا تكون ضرورة افتراض عدم وجود استمرار يهودي، فلابد من التفرقة بين يهود الماضي من جهة ويهود العالم الحديث في أيامنا هذه من جهة أخرى، فالمجالان الدلاليان لكلمتي «يهودي» و«بني إسرائيل» كما وردتا في القرآن محددان ولا ينطبقان بالضرورة على يهود العصر الحديث.
وربما كان من المفروض أن تُولَد داخل المعجم العربي الإسلامي، من البداية، مجموعة ألفاظ للإشارة إلى المدلولات المختلفة: «بنو إسرائيل»، و«اليهود بالمعنى القرآني»، و«اليهود عبر التاريخ»، و«اليهود في العصر الحديث»، وهكذا. وقد حاولنا من جانبنا أن نولّد مبدئياً مجموعة من المصطلحات مثل: «العبرانيون» للإشارة إلى اليهود القدامى كجماعة عرْقية، و«جماعة إسرائيل» للإشارة إليهم كجماعة دينية، و«الجماعات اليهـودية» للإشـارة إلى الجماعات البـشرية ممن اتُفق عرفاً أنهم يهود، وهو حل مؤقت للمشكلة إلى حين بحثها فقهياً ولغوياً. ولعل الفقهاء لم يتوجهوا لهذه المشكلة بالحماس المطلوب، لأن اليهود لم يكونوا يمثلون إشكالية خاصة أو مستقلة داخل التشكيل الحضاري الإسلامي نظراً لعدم أهميتهم وبسبب استقرار وضعهم داخل الحضارة الإسلامية بعد استقرار مفهوم أهل الذمة. أما في القرن العشرين، بعد تَركُّز غالبية يهـود العـالم داخل الحضـارة الغربية العلـمانية أو في الدولـة الصهيونية، فإن الوضع جدُّ مختلف ويتطلب فتح باب الاجتهاد والنظر في هذه المسألة.
2 ـ التناقض بين تعريف العقيدة اليهودية لليهودي والتعريف الإسلامي له:
كلمة «يهود» في الإسلام تعني «أتباع الكتاب الذي جاء به موسى عليه السلام». ورغم أنهم قاموا بتحريفه أو أصروا على اتباع المحرَّف منه إلا أن ثمة مبادئ أساسية وردت فيه لم يتم تحريفها من بينها الإيمان بالله واليوم الآخر.
هذا التعريف الإسلامي لو طُبِّق على يهود العالم الحديث لتم استبعاد ما يزيد عن 90% منهم، أو إذا توخينا الدقة لقلنا لاستُبعد 50% منهم (الملحدون واللاأدريون) ولتَعَذَر تَقبُّل 40% (الإصلاحيون والمحافظون والتجديديون) كيهود، ولربما قُبل الـ 10% الأرثوذكس (فقط) كيهود. وحتى هذا أمر خلافي بسبب تَزايُد النزعة الحلولية التي هيمنت على اليهودية الحاخامية. والمسلم لا يمكنه إلا أن يستبعد أولئك الذين لا ينطـبق عليهم التعـريف الإسـلامي لليهودي، حتى لو سـموا أنفسـهم «يهوداً»، وحتى لو قبلتهم الشريعة اليهودية كيهود.
وقد تنبه الشهرستاني (صاحب الملل والنحل) إلى ظاهرة مماثلة إذ أشار إلى أن الجماعة التي تُسمَّى «الصابئة» في العراق ليسوا هم في حقيقة الأمر بالصابئة الذين يشير إليهم القرآن، فهؤلاء جماعة غنوصية تُدعَى «المندائية» اتخذت الاسم بغية أن يُعامَلوا معاملة أهل الكتاب، أي أن كلمة «صابئة» (كما عرَّفها القرآن) لا تنطبق في واقع الأمر على هؤلاء الذين يُسمون أنفسهم «صابئة».
3 ـ التناقض بين مفهوم الاستمرار اليهودي ومفهوم الفطرة في الإسلام:
افتراض الاستمرار اليهودي، البيولوجي والثقافي، يتناقض مع إحدى القيم الحاكمة الكبرى في الإسلام، ونقصد به مفهوم الفطرة. فالإنسان ـ حسب التصور الإسلامي ـ يُولَد على الفطرة، وإن كان ثمة صفة وراثية فهي الفطرة الإنسانية والاستعداد لعمل الخير، وهو مفهوم يضع على الفرد عبء المسئولية الخلقية ويطرح إمكانية التوبة الدائمة (من جانب المخلوق) وإمكانية المغفرة (إن شاء الخالق). ومن ثم فإن فكرة الاستمرار اليهودي تُشكّل سقوطاً في المنطق العنصري العلماني الشامل الذي يرى الإنسان محكوماً بموروثه البيولوجي أو الاقتصادي أو العرْقي أو مجموعة من الحتميات المادية الأخرى. ومن الواضح أن النص القرآني حذَّر من ذلك ففرَّق بين اليهود عموماً من ناحية وبين الصالحين والطالحين منهم من ناحية أخرى، وحكم على كل فريق منهم بما يستحقه من خير أو شر، مُلتزماً في ذلك طريقة العدالة والصدق.
والإنسان المسلم مُلزَم أولاً وأخيراً بالتعامل مع اليهود والمسيحيين من خلال مفهوم أهل الذمة الذي حدد حقوقهم وواجباتهم وأكد المساواة الكاملة والمطلقة بينهم وبين المسلمين، ولم يطرح تصوراً لوجود استمرار بيولوجي أو ثقافي بينهم.
4 ـ الفوائد العملية لافتراض الاستمرار اليهودي:
رغم وضوح الموقف الإسلامي من فكرة الاستمرار اليهودي، هناك من يرى قيمة تعبوية عملية في التأكيد على النزوع اليهودي الأزلي والحتمي والطبيعي، في كل زمان ومكان، نحو الشر (وهو أمر مخالف لتعاليم الإسلام ـ كما أسلفنا). ومثل هؤلاء يرون أن أية عملية للتفرقة بين اليهود والصهاينة وبين اليهودية والصهيونية وبين يهود الماضي ويهود الحاضر هي عملية أكاديمية تضيع الوقت ولا جدوى من ورائها، وأن من الأفضل أن يتم التعامل مع الأمور على إطلاقها.
وابتداءً، فإن هذا الموقف العملي المادي يتنافى مع القيم الأخلاقية المطلقة (المُرسَلة من الله). فالإنسان المؤمن يرفض التنازل عن قيمه بسبب نفع مادي.
ولكن حتى على المستوى العملي، نجد أن تَبَنِّي هذا المنطق خطر لأقصى درجة للأسباب التالية:
أ ) افتراض وحدة اليهود سيقلل مقدرتنا على رصد الظواهر اليهودية والصهيونية إذ سنكتفي برصد العموميات دون رصد المنحنى الخاص للظواهر، وسنبحث عن الدلائل والقرائن التي تدعم وجهة نظرنا دون النظر إلى خصوصيات الظواهر.
ب) عادةً ما يذهب دعاة الاستمرار اليهودي إلى أن اليهود مسئولون عن الشرور كافة، الأمر الذي ينسب لهم قوى شيطانية خارقة تُولِّد الرعب في قلب المجاهد حتى قبل دخول الحرب.
جـ) ينسب دعاة الاستمرار اليهودي أولوية سببية لليهود ويجعلهم المتحكمين في شئون العالم بأسره الأمر الذي يقلب الأولويات تماماً، وخصوصاً في زمن النظام العالمي الجديد. فالدولة الصهيونية، في واقع الأمر، إن هي إلا أداة في يد الاستعمار الأمريكي على وجه الخصوص، والغربي على وجه العموم، وهذا هو العدو الحقيقي الذي يحاول أن يفرض منظومته على العالم فيُحوِّله إلى سوق ومصنع، والدولة الصهيونية هي الوسيلة والجزء وليست الغاية والكل.
د) مثل هذا المنطق الذي يرى مجموعة بشرية غير متجانسة كتلة بيولوجية واحدة يُكرِّس رؤية علمانية عنصرية تُقوض دعائم القيم الأخلاقية وضرورة الحكم الأخلاقي الفردي على الآخر. وفي منطقة مثل منطقتنا العربية الإسلامية، حيث تُوجَد أقليات عديدة (دينية وإثنية ولغوية) عاشت عبر مئات السنين داخل الفسيفساء الإسلامية الثرية، نجد أن مثل هذا المنطق يؤدي إلى تَفجُّرات عرْقية وإثنية ودينية وربما أدَّى إلى تآكُل العقد الاجتماعي الإسلامي.
هـ) رؤية اليهود باعتبارهم كلاً لا يتجزأ تَصوُّر صهيوني يرى أن من الصعب تفتيتهم، ويرى أن من الصعب على العناصر اليهودية الرافضة للصهيونية (وللحلولية الوثنية) أن تنشط وتظهر وتعبِّر عن نفسها. ومثل هذا الطرح يتجاهل الحقيقة التاريخية، وهي أن الصهيونية حركة إلحادية معادية لليهودية وتطرح نفسها بديلاً لها. ولذلك، فإن الطرح المجرد والتعميمي، وقبول الأمور على إطلاقها، سيجعل الاستفادة من هذه التناقضات الداخلية أمراً صعباً، وسيؤدي إلى القضاء على العناصر الرافضة.
و ) يُلاحَظ أن كثيراً من الحركات العلمانية الإلحادية في أوربا، في القرن الثامن عشر، كانت تخشى الهجوم على المسيحية ومؤسساتها نظراً لوجود قطاعات كبيرة في المجتمع الغربي كانت لا تزال تؤمن بالمسيحية.
ولذا، بدلاً من الهجوم المباشر على المسيحية، كان يتم الهجوم على اليهود واليهودية. وكان بعض دعاة الخطاب الإلحادي يلمحون إلى أن اليهودية نموذج لأي دين وأي نظام عقيدي يستند إلى الغيب، وأصبح الهجوم على اليهود واليهودية أكبر دعاية إلحادية. ولم تتنبه الكنيسة لهذه الشفرة إلا في وقت متأخر. والهجوم على اليهود (والنصارى) يحمل حتماً تضمينات إلحادية، فهو هجوم غير واع على النموذج الإيماني ككل، طالما تضمن هجوماً على الوحي/الغيب.
ز ) إذا كان الهدف هو شحذ الهمم للجهاد، فلابد أن يتم هذا من منطلقات إسلامية وبديباجات إسلامية، إذ أن تَقبُّل أطروحات الآخر وديباجاته (كل اليهود صهاينة ـ كل اليهود سواء ـ اليهودي هو من وُلد لأم يهودية) هو سقوط في منطقه وفقدان للهوية. والإسلام يدعو إلى الجهاد ضد أعدائه، وضد من يسلبون حقوق المسلمين دون السقوط في أية عنصرية « وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين » (البقرة: 190). ويقول تعالى « أُذنَ للذين يقاتلون بأنهم ُظلموا وإن الله على نصرهم لقدير» (الحج: 93).
5 ـ اليهودية كنموذج عام:
رغم ارتباط دال «يهودي» بأزمنة وأمكنة محدَّدة، ورغم أن دال «يهودية» يُشير إلى مجموعة من العقائد إلا أن بالإمكان القول بأن إحدى استخدامات كلمة «يهودي» في القرآن لها مجال دلالي عالمي متحرر من الزمان والمكان. واليهودي حسب هذا التعريف هو الشخص الذي تتوفر فيه مجموعة من السمات (بغض النظر عن انتمائه العقيدي). ويمكن هنا مقارنة استخدام الدال «يهودي» باستخدام الدال «فرعون» فهو دال يشير إلى شخص بعينه وإلى واقعة تاريخية محددة ومع هذا لم يُقصَر أمر استخدامه على هذا الشخص أو هذه الواقعة. كما لم يربط أيٍّ من المفسرين الدال «فرعون» بحكام مصر المحدثين (إلا من قبيل المجاز). ويبدو أن دوال مثل «مصري» أو «فرعون» دوال تشير إلى وقائع تاريخية محددة وإلى سمات وأنماط بشرية متكررة تنفصل عن سياقها التاريخي لتصبح ذات مدلول أخلاقي عام يصلح لكل زمان ومكان.
وإن أخذنا بهذا الرأي فيمكن القول بأن اليهودي كنموذج واليهودية كنموذج يتسمان بالسمات الأساسية للجماعات والعقائد الحلولية الكمونية ويتضح هذا في عدة جوانب:
أ ) يرى القرآن أن اليهود يصبغون دينهم بصبغة مادية، ويتضح هذا في ميلهم الشديد نحو التجسيد. « وإذ قُلتُم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرةً » (البقرة: 255). ويتضح هذا الاتجاه في اتخاذهم العجل إلهاً. والميل نحو التجسيد الذي يتحوَّل إلى عبادة للأوثان هو سمة أساسية في العقائد الحلولية.
ب) تتضح الحلولية والنزوع نحو المادية والتجسيد في الفهم اليهودي للنصوص المقدَّسة فهو فهم يتسم بالظاهرية والحرفية، ولذا فقد فهموا دعوة القرآن للإنفـاق في سـبيل الله باعتباره قرضاً لله، إذ قالوا « إن الله فقير ونحن أغنياء » (آل عمران: 181).
جـ) حينما يصبح الإنسان موضع الحلول في المنظومات الحلولية فإنه يتأله فينسب لنفسه الخلود. وقد وصف القرآن اليهود بأنهم أحرص الناس على الحياة وبأنهم يكرهون الموت ويخافونه ولا يتمنونه أبداً. (وهو ما يتناقض مع قولهم بأنهم أولياء الله وأنهم أبناء الله وأحباؤه)، وهم لهذا لا يقاتلون غيرهم إلا في قرى محصنة أو من وراء جُدُر. وحكى القرآن عنهم أنهم طالبوا أنبياءهم بالقتال في سبيل الله بعد إخراجهم من مصر فلما كُتب عليهم القتال تولوا، بل وعندما دعاهم موسى عليه السلام للقتال ودخول الأرض المقدَّسة قالوا لموسى عليه السلام اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون.
د) تعبِّر المنظومة الحلولية عن نفسها في موقفين متناقضين الأول زيادة الحدود والطقوس والاهتمام الشديد بالتفاصيل، والثاني إلغاء الحدود والطقوس تماماً. ويظهر هذا في الوصف القرآني لليهود إذ يصفهم بالتشدد فقد قست قلوبهم حتى أصبحت أشد قسوة من الحجارة وهو ما جعلهم يتعنتون مع الأنبياء فرفضوا أن يؤمنوا بنبي ما لم يأتهم بقربان تأكله النار (آل عمران: 183)، وأكثروا من السؤال عن المحرمات بشكل أدى إلى تضييقهم على أنفسهم. فقد أحل الله لهم كل الطعام إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه فتشددوا جدالاً وسؤالاً حتى حرَّم عليهم كل ذي ظفر ومن الغنم والبقر الشحوم إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا (الأنعام: 146)، وهو تشريع يؤكد إغراقهم في التفاصيل ويُبيِّن إلى أي حد أكثر اليهود من السؤال والاختلاف حتى حرَّم الله عليهم بعض ما أحل لهم عقاباً لهم. وفي خروجهم من مصر تشددوا مع موسى عليه السلام في مطالبهم فطلبوا منه أن يدعوا الله أن يخرج لهم نباتاً مختلفاً لأنهم لا يصبرون على طعام واحد (البقرة: 261)، وتعكس قصة البقرة التي رواها القرآن إلى أي حد عذبوا أنفسهم وضيقوا على أنفسهم بالسؤال مرات عديدة عن صفة البقرة وعندما ذبحوها أطاعوا الله بعد مشقة (البقرة: 67 ـ 71)
هـ) أما الجانب الآخر للحلولية وهو إلغاء الحدود تماماً فيتضح في أن اليهود يحوّلون أنفسهم إلى مرجعية ذاتهم فهم يبحثون عن دين يجعلهم شعباً مختاراً. وبدلاً من طاعة الإله يطوعونه، ولذا فهم يستخدمون الدين استخداماً نفعياً. فلم يؤمن بنو إسرائيل لرسول ما لم يأت بما تهوى أنفسهم « أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون » (البقرة: 87). ونقضهم ينبع من عملية تَوثُّن الذات هذه فقد وصف القرآن اليهود في غير موضع بنقض العهود (« وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور... ثم توليتم من بعد ذلك » [البقرة: 63ـ 64] ـ « وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله... ثم توليتم إلا قليلاً » [البقرة: 83] و«أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون » [البقرة: 100]). فقد نبذوا عهود الله وعهود الأنبياء وعهود الناس، وإن كان الوصف القرآني الدقيق ينسب نبذ العهد إلى فريق وعدم الإيمان إلى الأكثرية لا إلى كل اليهود.
و ) وتتضح الحلولية وتحطيم الحدود في أن العقيدة اليهودية، كما يصفـها القرآن، ليـست لها معيارية ثابتـة وإنما تتداخل مع العقائد الأخرى. ولذا فاليهود يتأثرون بعقـائد وثقافـات الأمم التي يعيـشـون بينها أو يحتـكون بها " قالوا يا موسى إجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة " (الأعراف: 138) وهذا ما نعبِّر عنه بعبارة «اليهودية كتركيب جيولوجي تراكمي».
إن وصف القرآن لليهود وللعقيدة اليهودية هو في واقع الأمر وصف لأتباع أية عقيدة حلولية. وقد لاحظ كثير من المفسرين تشابه وصف اليهود في القرآن مع بعض سمات الإنسان العلماني الشامل الحديث الذي يتوثن ويتأله ويصبح هو ذاته مرجعية ذاته، ويعيش في عالم الحواس الخمس يرفض تَجاوُزه. فكأن كلمة «يهودي» هنا تصف الإنسان الحلولي الكموني الذي يتصف بهذه الصفات، يهودياً كان أم مسيحياً أم مسلماً أم ملحداً. ولعل هذا التماثل هو الذي يجعل البعض يتصور أن اليهود مسئولون عن الشرور كافة، وما فاتهم أن وصف اليهودية في القرآن هو وصف لعقيدة حلولية وأن وصف اليهود هو وصف لأتباع عقيدة حلولية، وأن هذا الوصف لا ينطبق على اليهود ممن يدورون في إطار الحلولية وإنما ينطبق كذلك على كل أتباع العقائد الحلولية المختلفة، سواء كانوا من أتباع عقيدة الشنتو اليابانية، أو الفلسفة النيتشوية الألمانية، أو العلمانية الشاملة.
يتبع إن شاء الله...