الباب السادس: إشكالية التعاون بين أعضاء الجماعات اليهودية والنازيين
التعاون بين بعض أعضاء الجماعات اليهـودية والنازيـين
Collaboration between Some Members of the Jewish Communities and the Nazis
من الموضوعات التي لم يتم بحثها بالقدر الكافي، لأسباب معروفة، قضية تورُّط بعض أعضاء الجماعات اليهودية (من الصهاينة وغير الصهاينة) في علاقة تعاون وثيقة مع النازيين. وقد أخذ هذا التعاون أشكالاً كثيرة من بينها عدم الاشتراك في المقاومة أو التعاون الاقتصادي والثقافي مع النازيين. ولكن أهم أشكال التعاون وأوثقها هو التعاون المؤسَّسي بين المستوطنين الصهاينة والنظام النازي والنظام الفاشي الذي أخذ شكل معاهدة الهعفراه. ومن أهم الشخصيات الصهيونية التي تعاونت مع النازي ألفريد نوسيج.
مقاومة الجماعات اليهودية للنازية
Jewish Resistance to Nazism
يُثير بعض الدارسين تساؤلاً بخصوص المقاومة اليهودية والصهيونية للنازيين، وهي مسألة خلافية مركبة. ومما يجدر ذكره أنه حين استولى هتلر على السلطة عام 1933، ظلت هناك جيوب رافضة داخل المجتمع الألماني صعَّدت المقاومة ضده من منظور ليبرالي. كما كانت هناك حركة مقاومة ثورية نظمتها الأحزاب الشيوعية والاشتراكية، فالنازية حركة شمولية تقف ضد مصلحة الطبقة العاملة. كما كانت هناك مقاومة من منظور يميني تدعمها قطاعات معينة من الرأسمالية الألمانية الكبيرة. وكانت هناك أيضاً مقاومة من منظور تقليدي أرستقراطي باعتبار أن النازية تقضي على امتيازات الطبقة الأرستقراطية الألمانية التقليدية ومكانتها. إذ كانت النازية، على مستوى من المستويات، عملية تحديث سريعة وراديكالية تمت تحت إشراف عناصر من البورجوازية الصغيرة لا تحترم التقاليد وتقضي على سائر الخصوصيات وتحاول أن تنجز في عشرة أعوام ما أنجزته أوربا في مئات الأعوام. وقد تمركزت المقاومة التقليدية في الجيش ووزارة الخارجيـة، وكانا يضمـان أعـداداً كبيرة من أعضاء الطبقة الأرستقراطية. وبالمثل قام البولنديون بحركة مقاومة عنيفة ضد النازيين، هذا بخلاف حركات المقاومة في فرنسا وغيرها من الدول. وقد بيَّن كثير من الكُتَّاب أنه لم تنشـأ أية مقاومـة يهودية في أرجاء أوربا، مع أن مثل هذه المقاومة كان بوسعها أن تصيب آلة الإبادة النازية بالشلل أو تحد من سرعتها أو تعطلها،خصوصاً أنها كانت مرهَقَة.ولم تبدأ المقاومة اليهودية جدياً في وارسو،التي كان 45 في المائة من سكانها من اليهود، إلا في أوائل عام 1943، عندما بدأت موازين القوى تميل لصالح الحلفاء وحين قررت برلين تدمير حارة اليهود، وكان الوقت قد فات على إنقاذ نزلاء المعسكرات.
ومن الأسباب الأساسية التي يطرحها البعض لتفسير ضعف المقاومة اليهودية رغم الشراسة النازية هو الموقف الصهيوني، إذ يبدو أن الصهاينة لم يبدوا حماساً كبيراً في حربهم ضد النازية، وكانوا غير مكترثين بالمقاومة ضد النازيين. وفي مجال هجومه على المشروع الصهيوني، حذر المفكر الاشتراكي كارل كاوتسكي من الآثار الضارة للصهيونية التي توجه جهود اليهود وثرواتهم إلى الاتجاه الخاطئ (الاستيطان في فلسطين) في وقت تتقرر فيه مصائرهم في مسرح مختلف تماماً (أوربا وألمانيا) حيث يجب عليهم أن يركزوا فيه كل قواهم. وكان كاوتسكي يشير بذلك إلى أن ملايين اليهود في شرق أوربا (بين ثمانية وعشرة ملايين) لم يكن من الممكن تهجيرهم إلى فلسطين. وبدلاً من تنظيمهم وتوجيه طاقاتهم، حتى يكونوا مهيئين للدفاع عن أنفسهم حينما تقع الواقعة، كانت القيادات الصهيونية تركز على تهجير بضع مئات منهم إلى أرض الميعاد.
ولكن الاعتبارات الصهيونية كانت مختلفة تمام الاختلاف عن ذلك، إذ قرر الصهاينة اتخاذ موقف الحياد من المقاومة، باعتبار أن اليهود لهم مصالحهم وحروبهم المختلفة، وأن هدفهم الوحيد هو تأسيس الدولة الصهيونية. ولذا نادى كثير من الصهاينة بعدم الاشتراك في الحركات المعادية للنازية والفاشية. وقد بيَّن ماريك إيديلمان، أحد قواد تمرد جيتو وارسو، في حديث له مع مجلة هآرتس أن الأبطال الحقيقيين للمقاومة كانوا أعضاء حزب البوند واليهود المعادين للصهيونية والشيوعيين والتروتسكيين والصهاينة اليساريين، أما أعضاء التيار الصهيوني الأساسي فكان موقفهم هو موقف الحياد إياه. وكلما كان النضال ضد النازية يزداد ضراوة، كان الصهاينة يزدادون ابتعاداً عن بقية اليهود. ومن المعروف أن القوات النازية كانت تقيم مجالس لليهود في البلاد التي تحتلها بعد حل كل التنظيمات اليهودية، ويُقال إن أغلبية أعضاء هذه المجالس كانوا من الصهاينة (وإن كان هذا يحتاج إلى مزيد من التمحيص). ومن الثابت تاريخياً أن المجالس اليهودية كانت أداة ذات كفاءة عالية في إدارة عملية الإبادة.
وقد تعاون كثير من الأفراد اليهود (غير الصهاينة) مع النازيين، وهم في هذا لا يختلفون عن مئات الأوربيين الآخرين الذين كانوا مجرد موظفين ينفذون الأوامر التي تَصدُر إليهم. كما لم يكترث يهود فرنسا بنقل اليهود الذين ليسوا من أصل فرنسي، تماماً مثلما أظهر يهود ألمانيا عدم اكتراث بنقل اليهود الأوست يودين (أي يهود شرق أوربا). بل إن بعض الكُتَّاب اليهود أثاروا قضية دور الحاخامات في أوربا وفشلهم في قيادة حركة المقاومة. ومن المعروف أن قساً كاثوليكياً وواعظاً بروتستانتياً تطوعا للذهاب مع المرحلين إلى معسكرات الاعـتقال، بينما لم تلعب الحاخاميـة دوراً مماثلاً.
والموضوع، كما أسلفنا، خلافي للغاية، فثمة نظرية تذهب إلى أن المقاومة لم تكن على أية حال لتجدي فتيلاً، وذلك لأن الأغلبية الساحقة من الشعب الألماني لم تكن تمانع في الإبادة، كما أن آلة الحرب والمخابرات والإبادة الألمانية كانت على درجة عالية من الكفاءة والقدرة على الفتك. ومن الممكن تطبيق نفس المقولة على هؤلاء الأغيار المتهمين بعدم مقاومة النازي، فلعلهم توصلوا هم أيضاً إلى عدم جدوى المقاومة. ولكن هذا القول الذي ينطبق على الجماعة اليهودية في ألمانيا لا يسري بأية حال على يهود بولندا الذين كانوا يُشـكِّلون كثافـة سـكانية لا بأس بها، وكان بوسعهم المقاومة والانضمام إلى الشعب البولندي الذي كان يقاوم الغزو النازي.
ومن القضايا الأخرى التي تُثار في هذا السياق موقف المستوطنين الصهاينة. فقد كانت إحدى دعاوى إقامة الدولة الصهيونية أنها ستكون ملجأ لليهود يحميهم من هجمات الأغيار ومذابحهم. ولكن حينما دخلت قوات روميل حدود مصر وبدأت تتقدم نحو الإسكندرية، اكتشف المستوطنون الصهاينة عبث المقاومة، بل ضعت بعض الكيبوتسات خطة للانتحار. والقدرة على الانتحار تختلف بشكل جوهري (في تصورنا) عن المقاومة والإنقاذ. ولكن ما يهمنا هنا هو الإشارة إلى أن الانتحار يفقد الجيب الصهيوني شرعيته كملجأ أخير ونهائي لليهود. ويبدو أن يهود الولايات المتحدة (الذين يُشكِّلون أكبر جماعة يهودية في العالم) لم يلعبوا دوراً فعالاً بما فيه الكفاية في محاولة حماية يهود ألمانيا. وقد حاولت إحدى المنظمات اليهودية الأمريكية، عام 1981، فتح ملف تقصير الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة، ولكنها أغلقته بسرعة بدعوى أن الموضوع محرج ومؤلم، وهو كذلك بالفعل. لكن هذا لا يبرر إغلاق التحقيق، وخصوصاً أن الاتهامات الصهيونية للحكومة الأمريكية والفاتيكان والكنيسة بالتقصير لم تتوقف.
الفاشـية والصهيونيـة
Fascism and Zionism
من أهم الأفكار الغربية التي نبتت الصهيونية في تربتها، الأفكار السياسية الخاصة بالقومية العضوية وبالدولة القومية باعتبارها المرجعية الوحيدة والركيزة الأساسية للنسق، وهي الأفكار التي تصبح تقديساً للدولة وانصياعاً لزعيمها في الأنساق الشمـولية. وقـد تبنت الصهيونية كل هـذه الأفكـار وتحـركت في إطـارها، فأنشـأت علاقة مع النظام الفاشـي (في إيطاليا) والنظام النازي (في ألمانيا).
وقد أكد موسوليني منذ بداية حكمه أن الفاشيه لا علاقة لها بالعداء لليهود. وفي 30 أكتوبر 1930 أصدر قراراً بدمج كل التجمعات اليهودية في إيطاليا في اتحاد فاشي يمثل كل يهود إيطاليا بغير استثناء، وأصبح هذا الاتحاد إحدى الوكالات الرسمية للحكومة الفاشية. حيث نصت المادة 35 من قانـون تأسـيس هـذا الاتحاد على أن اليهود هم سفراء الفاشية للعالم، وعلى ضرورة أن يشترك اتحاد التجمعات اليهودية في إيطاليا في النشاطات الدينية والاجتماعية ليهود العالم، وأن يحتفظ بعلاقاته الدينية والثقافية معهم.
وفي يناير 1923 قام حاييم وايزمان بوصفه رئيس المنظمة الصهيونية بزيارة موسوليني، لمحاورته بشأن الصهيونية والدعم الفاشي الممكن تقديمه إلى الحركة. واكتشف الزعيم الصهيوني أن اعتراض موسوليني على الصهيونية مرده إحساسه بأن الصهيونية أداة لإضعاف الدول الإسلامية لصالح الإمبراطورية البريطانية. فرد وايزمان عليه رداً مقنعاً بيَّن له فيه أن إضعاف الدول الإسلامية سيعود أيضاً على إيطاليا بالنفع، وأضاف أن شروط حكومة الانتداب ذاتها تفتح المجال أمام إيطاليا أو أية دولة أخرى للمشاركة في تطوير هذا البلد (أي تصدير العمالة الفائضة والحصول على امتيازات تجارية، على حد قول وايزمان)، وأن في وسع إيطاليا أن تفعل ذلك إذ اعتمدت الميزانية اللازمة. وانتهى الاجتماع بتفاهم كامل بين الطرفين، سمح موسوليني على أثره بتعيين يهودي إيطالي في الوكالة اليهودية.
وحينما دُعي وايزمان مرة أخرى إلى إيطاليا في سبتمبر 1926، عرض موسوليني أن يُقدم المساعدة للصهاينة كي يبنوا اقتصادهم، وقامت الصحافة الفاشـية بنشـر مقالات مؤيدة للصهاينة. كما قـام ناحوم سوكولوف، باعتباره رئيس اللجنة التنفيذية في المنظمة الصهيونية، بزيارة إيطاليا عام 1927 وصرح بأنه أدرك الطبيعة الحقة للفاشية، وأكد أن اليهود الحقيقيين لم يحاربوا قط ضدها. ولا شك في أن كلماته هذه تحمل معنى التأييد الكامل للنظام الفاشي، وقد تبعته في ذلك المنظمة الصهيونية في إيطاليا. ومن الزعماء الصهاينة الذين زاروا إيطاليا الفاشية، ناحوم جولدمان الرئيس السابق للمؤتمر اليهودي العالمي الذي استمع إلى الزعيم الإيطالي وهو يُعرب عن حماسه للمشروع الصهيوني وعن استعداده الكامل لمساندته.
وقد تعلم جابوتنسكي الكثير من الفاشية الغربية، وكان يُعبِّر عن إعجابه الشديد بالدوتشي وفكره، وبالتنظيمات الشبابية الفاشية التي حاولت المنظمات الشبابية التصحيحية التشبه بها في زيها الرسمي. وكال موسوليني المديح والتقريظ لجابوتنسكي حين قال مرة للحاخام ديفيد براتو الذي أصبح فيما بعد حاخام روما: «كي تنجح الصهيونية يجب أن تحصلوا على دولة يهودية لها علم يهودي ولغة يهودية، والشخص الذي يفهم ذلك حقاً هو الفاشي جابوتنسكي». كما نعت موسوليني نفسه ضمناً بأنه صهيوني يدافع عن فكرة الدولة اليهودية. ورغم أن جابوتنسكي لم يكن يرتاح أحياناً إلى وصفه بالفاشي، فإن موقفه بشكل عام كان موقف المؤيد للفاشية والمعجب بها.
النازية والصهيونية: الأصول الفكرية المشتركة والتمـاثل البنيوي
Nazism and Zionism (Common Intellectual Origins and Structural Parallelism)
رغم الدعاية الصهيونية الشرسة وتأكيد احتكار اليهود لدور الضحية في عملية الإبادة التي قام بها النازيون ضد كثير من الشعوب والأقليات الإثنية والدينية والعرْقية، فإن ثمة علاقة وطيدة بين الصهيونية والنازية تستحق الدراسة. وقد يكون من المفيد ابتداءً أن نقرر أن النازية والصهيونية ليستا بأية حال انحرافاً عن الحضارة الغربية الحديثة بل يمثلان تيارين أساسيين فيها. ولعل أكبر دليل على أن الصهيونية جزء أصيل من الحضارة الغربية أن الغرب يحاول تعويض اليهود عما لحق بهم على يد النازيين بإنشاء الدولة الصهيونية على جثث الفلسطينيين، وكأن جريمة أوشفيتس يمكن أن تُمحَى بارتكاب جريمة دير ياسين أو مذبحة بيروت أو مذبحة قانا. وقد أنجزت الصهيونية ما أنجزت من اغتصاب للأرض وطرد وإبادة للفلسطينيين من خلال التشكيل الإمبريالي الغربي، واستخدمت كل أدواته من غـزو وقمع وترحيل وتهجير. والغرب، الذي أفرز هتلر وغزواته، هو نفسه الذي نظر بإعجاب إلى الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان وبيروت وأنحاء أخرى من العالم العربي. وهو الذي ينظر بحياد وموضوعية داروينية للجريمة التي ارتكبت والتي تُرتكب يومياً ضد الشعب الفلسطيني.
ولابد أن نقرر أن الصهيونية لم تقم بعملية إبادة شاملة (بمعنى التصفية الجسدية) للفلسطينيين، إلا أن هذا يرجع إلى اعتبارات عملية عديدة لا علاقة لها بالبنية الإبادية للأيديولوجية الصهيونية، من بينها تأخر التجربة الصهيونية إلى أواخر القرن التاسع عشر، وعدم إعلان الدولة الصهيونية إلا في منتصف القرن العشرين، وهو ما جعل الإبادة مسألة عسيرة بسبب وجود المنظمات الدولية والإعلام. كما كان شأن الكثافة السكانية العربية وتماسك العرب وانتمائهم إلى تشكيل حضاري مركب ومقدرتهم على التنظيم والمقاومة والانتفاضة أن أصبحت الإبادة حلاًّ مستحيلاً (ومع هذا لابد من الإشارة إلى عمليات الإبادة الجسدية والتي تمت في صفد ودير ياسـين وكفر قاسم، وغيرها من مدن وقرى في فلسطين، حيث لم تكن الممارسة الصهيونية تهدف إلى تهجير الفلسطينيين، بقدر ما كانت تهدف إلى قتلهم وإبادتهم. وبالمثل كانت عملية صابرا وشاتيلا ذات طابع إبادي واضح). كما أن الإبادة بمعنى التهجير والتسخير والقمع والاستغلال هي حدث يومي داخل الإطار الصهيوني.
إن الحضارة الغربية الحديثة هي التي أفرزت الإمبريالية والنفعية الداروينية والنازية والصهيونية، ولذا فليس من المستغرب أن نجد مجموعة من الأفكار المشتركة بين الرؤيتين النازية والصهيونية التي تُشكِّل الإطار الحاكم لكل منهما:
1 ـ القومية العضوية والتأكيد على روابط الدم والتراب، وهو ما يؤدي إلى استبعاد الآخر (الشعب العضوي المنبوذ(.
2 ـ النظريات العرْقية.
3 ـ تقديس الدولة.
4 ـ النزعة الداروينية النيتشوية.
كما يظهر التماثل البنيوي بين النازية والصهيونية في خطابهما. فكلاهما يستخدم مصطلحات القومية العضوية مثل «الشعب العضوي (فولك)» و«الرابطة الأزلية بين الشعب وتراثه وأرضه» و«الشعب المختار». وقد سُئل هتلر عن سبب معاداته لليهود، فكانت إجابته قصيرة بقدر ما كانت قاسية: "لا يمكن أن يكون هناك شعبان مختاران. ونحن وحدنا شعب الإله المختار. هل هذه إجابة شافية على السؤال؟". ويتحدث مارتن بوبر عن أن الرابطة بين اليهود وأرضهم هي رابطة الدم والتربة، ومن ثم يطالب بضرورة العودة إلى فلسطين حيث توجد التربة التي يمكن للدم اليهودي أن يتفاعل معها ويبدع من خلالها، وهي مسألة أشار إليها كل من الكاتبين الصهيونيين ميخا بيرديشفكي وشاؤول تشرنحوفسكي، حيث تحدثا عن الشعب العضوي اليهودي بالعبارات نفسها ونسبا إليه الخصائص نفسها. كما استخدم الصهاينة مفهوم «الدم اليهودي» لتعريف الهوية اليهودية.
وأثناء محاكمات نورمبرج، كان الزعماء النازيون يؤكدون، الواحد تلو الآخر، أن الموقف النازي من اليهود تمت صياغته من خلال الأدبيات الصهيونية، خصوصاً كتابات بوبر عن الدم والتربة. وقد أشار ألفريد روزنبرج، أهم المنظرين النازيين، إلى أن « بوبر على وجه الخصوص هو الذي أعلن أن اليهود يجب أن يعودوا إلى أرض آسيا، فهناك فقط يمكنهم العثور على جذور الدم اليهودي ». ولعله، بهذا، كان يشير إلى حديث بوبر عن اليهود باعتبارهم آسيويين حيث يقول « لأنهم إذا كانوا قد طُردوا من فلسطين، ففلسطين لم تُطرد منهم ».
ومن الموضوعات الأساسية المشتركة فكرة النقاء العرْقي. وكان سترايخر (المُنظر النازي) يؤكد أثناء محاكمته، أنه تعلم هذه الفكرة من النبي عزرا: لقد أكدت دائماً حقيقة أن اليهود يجب أن يكونوا النموذج الذي يجب أن تحتذيه كل الأجناس، فلقد خلقوا قانوناً عنصرياً لأنفسهم، قانون موسـى الـذي يقول: "إذا دخلـت بلداً أجنبـياً فلـن تتزوج من نسـاء أجنبيـات". وكانت الأدبيات الصهيونية الخاصة بنقاء اليهود العرْقي ثرية إلى أقصى حد في أوربا حتى نهاية الثلاثينيات. ويستخدم النازيون والصهاينة على حد سواء الخطاب النيتشوي الدارويني نفسه المبني على تمجيد القوة وإسقاط القيمة الأخلاقية. إذ يستخدم الصهاينة ـ شأنهم في هذا شأن النازيين ـ مصطلحاً محايداً، فهم لا يتحدثون عن طرد الفلسطينيين وإنما عن "تهجيرهم" أو "دمجهم في المجتمعات العربية". وهم لا يتحدثون مطلقاً عن «تفتيت العالم العربي » وإنما عن "المنطقة"، ولا يتحدثون عن «الاستيلاء» على القدس وإنما عن "توحيدها" ولا عن الاستيلاء على فلسطين أو «احتلالها» وإنما عن "اسـتقلال" إسـرائيل أو عن "عودة الشـعب اليهودي" إلى أرض أجداده.
ويتضح التطابق بين النازيين والصهاينة بكل جلاء في واحد من أهم التنظيمات النازية. فقد كان النازيون ـ شأنهم شأن أية عقيدة تدور في إطار القومية العضوية ـ يؤمنون بوجود دياسبورا ألمانية («أوسـلاندويتـش Auslandeutsch») تربطها روابط عضوية بالأرض الألمانية. وأعضاء هذا الشتات الألماني مثل أعضاء الشتات اليهودي يدينون بالولاء للوطن الأم ويجب أن يعملوا من أجله. وربما لأن العودة للوطن الأم أمر عسير، كما هو الحال مع الصهاينة، اقترح النازيون ما يشبه نازية الشتات (مثل صهيونية الشتات) عن طريق تشجيع الألمان في الخارج على دراسة الحضارة واللغة الألمانيتين. وكان للنازيين ما يشبه المنظمة النازية العالمـية التي كانت لها صـلاحيات تشـبه صلاحيات المنظمة الصهيونية العالمية، وكانت لها مكانة في ألمانيا تشبه من بعض الوجوه مكانة المنظمة الصهيونية في إسرائيل. وقد تعاون الألمان، في كل أنحاء العالم مع السفراء والقناصل الألمان، تماماً كما يتعاون اليهود والصهاينة مع سفراء وقناصل إسرائيل في بلادهم.
ولنا أن نلاحظ الأصول الألمانية الراسخة للزعماء الصهاينة الذين صاغوا الأطروحات الصهيونية الأساسية. فتيودور هرتزل وماكس نوردو وألفريد نوسيج وأوتو ووربورج كانوا إما من ألمانيا أو النمسا يكتبون بالألمانية ويتحدثون بها، كما كانوا ملمين بالتقاليد الحضارية الألمانية ويكنون لها الإعجاب ولا يكنون احتراماً كبيراً للحضارات السلافية (وقد غيَّر هرتزل اسمه من «بنيامين» إلى «تيودور» حتى يؤلمن اسمه، وسمَّى ماكس نوردو نفسه بهذا الاسم لإعجابه الشديد بالنورديين). ولا يختلف زعماء يهود اليديشـية عن ذلك، فلغتهم اليديشـية هي رطانة ألمانية أساساً. ومن جهة أخرى، كانت لغة المؤتمرات الصهيونية الأولى هي الألمانية، كما توجـه الزعماء الصهاينة أول ما توجهوا لقيصر ألمانيا لكي يتبنى المشـروع الصهيوني. وقد أكد جولدمان أن هرتزل قد وصل إلى فكـرته القومية (العضـوية) من خــلال معـرفته بالفـكر والحضــارة الألمانيــين. وكان كثير من المستوطنين الصهاينة يكنون الإعجاب للنازية، وأظهروا تفهماً عميقاً لها ولمُثُلها ولنجاحها في إنقاذ ألمانيا. بل عدوا النازية حركة تحرر وطني. وقد سجل حاييم كابلان، وهـو صهـيوني كان موجــوداً في جيتـو وارسـو (حينمـا كـان تحت حكـم النـازي)، أنـه لا يوجد أي تناقض بين رؤية الصهاينة والنازيين للعالم فيما يخص المسألة اليهودية، فكلتاهما تهدف إلى الهجرة، وكلتاهما ترى أن اليهود لا مكان لهم في الحضارات الأجنبية.
وقد ظهرت في ألمانيا، في الثلاثينيات، جماعة من المفكرين الدينيين اللوثريين الذين أدركوا العناصر الفكرية المشتركة بين النازية الصهيونية وأبعادها العدمية. ومن هؤلاء هاينريش فريك الذي حذر اليهود من فكرة الشعب العضوي التي يدافع عنها النازيون والصهاينة، كما عَرَّف كلاً من النازية والصهيونية بأنهما حركتان حولتا النزعة الأرضية (الارتباط بالأرض) والدنيوية (الارتباط بالدنيا)، وهما من الأمور المادية، إلى كيانات ميتافيزيقية، أي إلى دين. وأشار إلى أن النازية والصهيونية تتبنيان الرأي القائل بأن ألمانيا لا يمكنها أن تقبل اليهود أو تظهر التسامح تجاههم.
وفي عام 1926، حدد فيلي ستارك ما تصوره موقف المسيحية من مسألة الشعب العضوي. فأشار إلى نقط التشـابه بين الصهيونية والنازية، فكلتاهما تدور حول قيمة مطلقة تحيطها القداسة الدينية، الدم والتربة، وهي قيمة تضرب بجذورها في المشاعر الأسطورية الكونية، وفي ممالك الأرض بدلاً من مملكة السماء. ومن ثم، توصَّل فيلي ستارك إلى أنه لا يوجد أي مجال للتفاهم بين المسيحية وعبادة الشعب العضوي (فولك) الصهيونية أو النازية. كما توصل إلى أن كلاً من الصهيونية (التي تحاول أن تؤسس الهيكل الثالث أي الدولة الصهيونية) والنازية (التي أسست الرايخ الثالث أي الدولة النازية) تجسيد لعدم فهم البُعد المجازي في العقيدة الألفية الاسترجاعية في المسيحية. وبالتالي، فإن كلتا الحركتين ضرب من ضروب المشيحانية السياسية (الأخروية العلمانية) التي تحوِّل الدنيوي المدنَّس إلى مقدَّس، وبذلك يُمثل كل منهما تهديداً لليهودية والمسيحية، بل للجنس البشري بأسره.
النيتشـويــــة والصهـيونيـــة
Nietzscheanism and Zionism
تنبع النازية من عدة روافد في الفكر الغربي الحديث لعل أهمها على الإطلاق الفكر الفلسفي الرومانسي الألماني، وبخاصة الفكر النيتشوي أو النيتشوية. وقد يكون من المفيد أن نشير ابتداءً إلى أننا نميِّز بين الفكر النيتشوي وفلسفة نيتشه. ففلسفة نيتشه توجد في أعماله الفلسفية، وهي فلسفة متناقضة تحوي الكثير من الأفكار النبيلة والخسيسة والعاقلة والمجنونة. أما الفكر النيتشوي فهو منظومة شبه متكاملة، استنبطها الإنسان الغربي من أعمال نيتشه وحققت من الذيوع والشيوع ما يفوق أعمال نيتشه الفلسفية. وما يهمنا في دراسة تاريخ الأفكار هو الفكر « النيتشوي » وليس أعماله الفلسفية. فهناك الكثير من النيتشويين ممن لم يقرأوا صفحة واحدة من أعمال نيتشه، بل الذين اتخذوا مواقفهم النيتشوية قبل أن يخط نيتشه حرفاً واحداً. فالخطاب الإمبريالي، منذ لحظة ظهوره في القرن السابع عشر، كان خطاباً نيتشوياً.
يتَّسم موقف نيتشه من اليهود بالغموض، فهناك رأي يذهب إلى أنه كان معادياً لليهود. ومما ساعد على تدعيم هذا الرأي أن أخته إليزابيث ـ التي نفذت وصيته الأدبية ـ كانت متزوجة من برنارد فوستر وهو من أهم الداعين إلى معاداة اليهود. بل يُقال إن إليزابيث زيَّفت بعض خطابات نيتشه لتشيع هذه الصورة عنه. لكن مما لا شك فيه أن أعمال نيتشه تحتوي على إشارات لليهود واليهودية تحمل دلالات سلبية. وينبع سخطه على اليهودية بالدرجة الأولى من تصوره أن اليهودية هي أحد أشكال أخلاق الضعفاء. فعندما فقد اليهـود دولتهم ولاقـوا الاضـطهاد وحُرموا من حريتهم في العالم الروماني، تجمَّع لديهم شعور مكبوت بالإساءة وصل إلى أقصى درجات غليانه فوُلدت المسيحية من رحم اليهودية، فهي ديانة التواضع والضعف والعبودية. وأخلاقيات المسيحية ألحقت ضرراً بالغاً بالحضارة الغربية الوثنية، ولكن القيم الأرستقراطية ثارت من جديد في عصر النهضة التي عارض رجالها القيم المسيحية التي سادت في العصور الوسطى. ثم عاد الإصلاح الديني يحاول أن يفرض أخلاق العبيد مرة أخرى، وهذا ما حاولته الثورة الفرنسية بعد ذلك. ووسط ثورة العبيد الأخيرة هذه، ظهر المثل الأعلى القديم مرة أخرى: نابليون. وبسقوطه سقط آخر شعاع نور صادر عن قيم السادة.
ولكن هناك جانباً آخر لنيتشه وهو رفضه لمعاداة اليهود، بل إنه اعتبر معـاداة اليهـود مجرد شـكل آخر من أشـكال ثورة العبيد الحديثة ضد السادة. كما كان نيتشه معجباً بالعهد القديم وما تصوره أسلوبه غير الأخلاقي ووصاياه التي لا تتضمن أي تهاون أو مساومة. وفي كثير من كتاباته، نجده يكيل المديح لليهود أكثر من الألمان، فاليهود عنصر قوي يتمتع بالصحة، وتدل صلابتهم وإبداعهم على مقدرتهم على القيام بعملية إعادة تقييم القيم. ولكن بغض النظر عن موقف نيتشه من اليهود أو اليهودية يظل ما يعنينا في هذا الجزء من دراستنا هو الفكر النيتشوي وأثره في الفكر الديني اليهودي وفي الفكر الصهيوني.
ولفهم هذا الجانب، قد يكون من المفيد أن نعرض لآراء المفكر الصهيوني الروسي أحاد هعام في هذا الموضوع، فهو يرى أن نيتشه لم يفهـم اليهـودية حـق الفهم وخلـط بينها وبين المسيحية. والعارفون باليهودية، حسب رأيه، سيكتشفون في التو أنه لا توجد أية حاجة لاستحداث نيتشوية يهودية، ذلك أن الجزء العام (أي الجزء الذي يتجاوز الخصوصية الألمانية) من الفلسفة النيتشوية موجود في اليهودية نفسها منذ قرون عـديدة. فاليهـودية ديانة لم تسـتند إلى فكرة الرحمة وحـدها، ولم تُلزم الإنسان الأعلى اليهودي بالخضوع للجماهير، كما لو كان الهدف الأساسي من وجوده هو مجرد زيادة سعادة الأغلبية. ويمكن أن نضيف عناصر أخرى لم يذكرها أحاد هعام، فالعقيدة اليهودية، مثلاً، أصبحت نسقاً دينياً حلولياً متطرفاً، وهو ما يعني تحوُّل الشعب اليهودي إلى شعب مقدَّس، مكتف بذاته، يحوي مركزه داخله، لا يمكن الحكم عليه بمعايير أخلاقية خارجة عنه. بل إن الشعب اليهودي، حسب التراث القبَّالي، هو امتداد للخالق في الكون. ووجود الخالق ذاته وتوحده بعد تبعثره (كما جاء في التراث الأسطوري القبَّالي) يتوقف على قيام اليهود بممارسة الأوامر والنواهي. ويُبيِّن أحاد هعام أن المقولة الأساسية النيتشوية، الخاصة بتفوق النموذج الإنساني الأعلى على بقية البشر، هي نفسها مقولة يهودية. ولكن أحاد هعام يُحل فكرة الأخلاق محل القوة، ويشير إلى أن نيتشه يشكو من أنه (حتى الآن) لا توجد محاولة واعية لتعليم الناس بطريقة تؤدي لظهـور الإنسـان الأعلى، وهـو ما يعرقل ظهـوره. فالإنسان حيوان اجتماعي، ولذا فإن روح الإنسان الأعلى نفسها لا يمكنها أن تتحرر من الجو الأخلاقي الذي تعيش فيه. ويخلص أحاد هعام من هذا التحليل إلى أنه إذا كان الهدف من الحياة هو الإنسان الأعلى، فيجب أن نقبل بارتباط ظهوره بظهور الأمة الممتازة أو الأمة العليا، أي ينبغي أن تكون هناك أمة لها من السمات الذاتية ما يجعلها على استعداد أكبر للنمو الأخلاقي بالمعنى النيتشوي، ولتنظيم حياتها على أساس قانون أخلاقي يعلو على النموذج العادي. هذه الأمة هي ولا شك التربة الخصبة التي ينبت فيها الإنسان الأعلى.
وإذا نظرنا إلى اليهودية من زاوية هذه الفلسفة، لتبين لنا، على حد قول أحاد هعام، أن معظم نقائصها، أو تلك النقائص التي يشير إليها الآخرون والتي يحاول العلماء اليهود أنفسهم إنكارها، تشكل نقطة قوة ولا تحتاج لإنكار أو اعتذار. ومن المعروف للجميع أن اليهود واعون بأنهم متفوقون أخلاقياً على الأمم كافة، وهو وعي يجسد نفسه في فكرة الشعب المختار. والاختيار غير مبني على حكم القوة لأن جماعة يسرائيل هي أصغر الأمم. فقد اختار الإله يسرائيل، لكي يُعبِّر هذا الشعب بشكل متعيِّن في كل جيل عن أعلى نموذج أخلاقي، ولكي يحمل عبء الواجبـات الأخلاقية دون اعتبار للربح و الخسـارة بالنسـبة لبقية البشر، بل للحفاظ على وجود هذا النموذج الراقي.
ويرى أحاد هعام أن هذه الفكرة تسـيطر على الدين اليهودي. ولذلك، لم يحاول اليهود التبشير بدينهم لا بسبب الغيرة (كما يدَّعي الأعداء) ولا التسامح (كما ينادي المعتذرون)، ولكن لأنهم لا يقبلون أن يجعلوا واجبهم نحو تجسيد النموذج الراقي هو واجب كل البشر، ففي هذا خفض لمستواه وتدن له. وهم في محاولتهـم هذه، لن يفرضـوا المسـئولية على الآخرين ولن يشركوهم فيها، ووصف أحاد هعام للأمة المختارة هو ذاته وصف نيتشه للإنسان الأعلى.
ويشير أحاد هعام إلى محاولة بعض العلماء اليهود إضفاء غلالة من المعاصرة على فكرة الشعب المختار، كأن يحاولوا أن يوفقوا بينها وبين فكرة مساواة الشعوب، حيث يرون أن رسالة الشعب المختار هي نشر الخير وطريقة الحيـاة الخيرة بين كل الشعوب (كما يرى اليهود الإصلاحيون). ولكن أحاد هعام يرفض هذه الليبرالية، فهو يصر على أن رسالة الشعب هي بكل بساطة أن يقوم بواجبه دون أي اعتبار للعالم الخارجي، لأن تأدية الواجب هي غاية في ذاتها وليست وسيلة لإسعاد العالم. وإذا كان اليهود القدامى قد عبَّروا عن الأمل في أن اليهودية سيكون لها أثر طيب على الأمم الأخرى، فهذا مجرد نتيجة وليس هدفاً، إذ يظل الهدف هو الانتماء لمثل أعلى ونموذج متفوق لا ينتمي إليه الآخرون ولا يشاركون فيه.
ويميِّز أحاد هعام بين وحش نيتشه الجميل الأشقر القوي المُدافع عن الجسد والعنف (الذي أصبح المثل الأعلى النازي) وبين الإنسان الأعلى اليهودي الذي يُدافـع عـن القيم اليهـودية الخلقية ويقف ضد العنف، وهذا هو الفارق بين النيتشوية الآرية والنيتشوية اليهودية. ولنلاحظ أن أحاد هعام لا يعترض على بنية النيتشوية التي تستند إلى التفاوت بين الناس وإنما على مضمونها وحسـب. وحديثه عن الأخـلاق اليهـودية لا يُغيِّر من البنية في شـيء، فالنيتشـوية اليهودية مبنية على فكرة تفوق اليهود وتعاليهم على البشر، وهو الأمر الذي يميزهم بحقوق مطلقة، من بينها، على سبيل المثال، حقهم في أن يعودوا إلى الأرض المقدَّسة متى شاءوا ذلك، وأن يؤسسوا فيها مركزاً روحياً إن أرادوا، وأن يستوطنوها ويعمروها أو يخربوها حسبما تملي مشيئتهم، باعتبارهم السوبر أمة أو الأمة الأعلى (وهذا هو جوهر كل المنظومات المعرفية والخلقية العلمانية الشاملة، بل إن أصحاب المنظومة يجسدون المطلـق ويصبـحون هـم المرجعية الذاتية وتصـبح إرادتهم هي الحق المطلق). فإذا جاء الفيلسوف النيتشوي الصهيوني بعد هذا وأضاف زخارف أخلاقية وأصر على أن تكون الدولة الصهيونية تجسيداً للقيم الأخلاقية النبيلة، فإن الزخارف الأخلاقية تظل مجرد زخارف لا علاقة لها بمنطق النسق العام، بينما يظل العنف هو الجوهر والمحك وقانون البنية. وقد أثبتت التجربة التاريخية (من دير ياسين إلى صابرا وشاتيلا وقانا) أن الأبعاد الأخلاقية إن هي إلا زخارف وأقوال وديباجات، وأن وضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ يفترض قتل العرب وسفك دمائهم.
ولم يكن أحاد هعام فريداً في دفاعه عن النيتشوية. فقد تأثر كثير من المفكرين من أعضاء الجماعات اليهودية (خصوصاً الصهاينة منهم) بالفكر النيتشوي. ومن بين هؤلاء مؤسسو الحركة الصهيونية: تيودور هرتزل والفريد نوسيج وماكس نوردو، وكلهم ذوو ثقافة ألمانية، كما تأثر بها مفكرون صهاينة آخرون، مثل: ميخا بيرديشفكي وحاييم برنر وشاؤول تشرنحوفسكي. ولا يمكن فهم كتابات أهم الفلاسفة الدينيين اليهود المحدثين (مارتن بوبر) إلا من خلال نيتشه (وكذا كتابات ليو شستوف). وتسري القاعدة نفسها على مفكري مدرسة لاهوت موت الإله. وأثر نيتشه على جاك دريدا وإدمون جابيس واضح تماماً. كما أن البُعد النيتشوي في الفكر الصهيوني بُعد أساسي. ولا غرو في هذا فالجميع هم أبناء عصرهم العلماني الإمبريالي الأداتي الشامل.
يتبع إن شاء الله...