سابعاً: موقف إسبينوزا من الدين:
يمكننا أن نقول إن إسهام إسبينوزا الأكبر في تاريخ الفلسفة الغربية هو اكتشافه التوازي والترادف بين وحدة الوجود الروحية ووحدة الوجود المادية، وأن عبارة « لا موجود إلا هو » (أي الإله) هي ذاتها عبارة « لا موجود إلا هي » (أي الطبيعة)، ومن ثم أمكنه (من خلال المنظومة الحلولية الكمونية) أن يُعلمن الفلسفة الغربية ويشيع الفكر الفلسفي الواحدي المادي دون أن يسبب أي فزع لأحد، ودون أن يدرك أحد أن خلف غنائيته الحلولية الكمونية الصوفية يوجد النموذج الواحدي المادي بكل وحشيته ولا إنسانيته. بل يمكن القول بأنه نجح في توليد المنظومة العلمانية المادية من داخل المنظومة الدينية واستخدم مصطلحاتها الغيبية (كما يفعل كثير من العلمانيين العرب).
وانطلاقاً من واحديته المادية الصارمة (التي تجعل هدف المعرفة فهم قوانين العالم الثابتة وتجعل الحرية إدراك الحتمية واستحالة الحرية)، يصنف إسبينوزا الرؤية الدينية باعتبارها ظاهرة بشرية ذات هدف عملي جزئي تحاول تحقيق أمانيَّ معينة للإنسان وتجنبه مخاوف خاصة، وهي تفعل هذا بهدف تنظيم أحوال البشر ومعاملاتهم، أي أن الرؤية الدينية لا علاقة لها بالرؤية الكونية الموضوعية التي يبشر بها إسبينوزا، والتي ترى الإنسان باعتباره شيئاً ضمن الأشياء وجزءاً لا يتجزأ من النظام الطبيعي الضروري والكلي للأشياء، وهو نظام كوني ليس فوق الطبيعة وحسب ولكنه فوق الإنسان أيضاً، ولذا فهو لا يمنح الإنسان أو أي كائن جزئي آخر أية أهمية خاصة، فهو نظام يدور حول المادة وليس كالدين الذي يدور حول الإنسان.
ولنلاحظ هنا أن إسبينوزا يرى أن الدين يمنح الإنسان مركزية في الكون (لا يستحقها) على عكس الرؤية الكونية الموضوعية العلمية (العلمانية) التي تنزع عن الإنسان ـ في تصوُّر إسبينوزا ـ هذه المركزية وتجعله كائناً ضمن كائنات أخرى أو شيئاً ضمن أشياء أخرى. والمفارقة هنا أن إسبينوزا ينسب للرؤية الدينية ما ينسبه أصحاب الرؤية الإنسانية الهيومانية لرؤيتهم للكون، فهم يزعمون أن رؤيتهم رؤية مادية وضعت الإنسان في مركز الكون. ولكننا نرى أن موقف إسبينوزا أقرب إلى الدقة وأنه استطاع بثاقب نظره وبصيرته أن يستشرف المستقبل ويرى الحلقات الأخيرة في المنظومة العلمانية (والاستنارة المظلمة).
فالمنظومة العلمانية بدأت بالزعم الهيوماني العلماني أن الإنسان يقف في مركز الكون، لكن الأمر انتهى بها في العصر الحديث إلى الموقف المعادي للإنسان الذي ينكر عليه أية مركزية أو حرية أو استقلالية ويجعل المادة أو النظام الكلي للأشياء مركزاً للكون، ويجعل الكون ذاته كوناً أحادياً لا غاية فيه ولا اتجاه ولا مركز، كوناً خالياً من الثنائيات، معقماً من المطلقات، متجرداً من الأخلاقيات، متجاوزاً للعواطف. وأدرك إسبينوزا، منذ البداية، القانون الداخلي للنموذج العلماني ودفعه إلى نتيجته المنطقية ورأى في مخيلته كيف أن الواحدية الكونية المادية لابد أن تقضي على الإنسان وتحوِّل العالم إلى آلة هندسية دقيقة، ولا يبقى بعد ذلك سوى الحركة الهندسية للذرات والتكرار الرتيب للأرقام، ورأى أن إدراك هذا وقبوله هو قمة المعرفة والحرية.
ومع هذا، يتعرض إسبينوزا لقضية الدين، ويشير إليه مستخدماً الكلمة نفسها في ثلاثة معان مختلفة تماماً. أما النوع الأول وأهمها فهو ما سماه ثالث أنواع المعرفة «الحب الفكري للإله» (باللاتينية: أمور ديي إنتلكتواليس amor dei intcllectualis) وهذه هي الديانة الحقيقية، وهي ديانة عقلية عقلانية يمارسها الإنسان الذي يتمكن من نفي ذاته كذات مستقلة فاعلة حرة عن قوانين الكون، فيتخلص من عبودية الانفعال عن طريق ربطها بالمنطق الكلي للأشياء في ضرورته الشاملة. فالإله هنا هو الطبيعة/المادة وحب الإله هو الإذعان للحتمية الطبيعية وهو « فهم » الإله/الطبيعة، وهذا الفهم يجعل الإنسان أكثر تواضعاً ولكن أكثر انعتاقاً، خالياً من الخوف من الموت، إذ أن الإنسان باكتشافه أنه جزء لا يتـجزأ من الإله/الطبيعة سـيكتشف أن المـوت هو إحدى حقائق الطبيعة، تماماً مثل حقائق الحيـاة والنمـو، أي أنه تتم تسـوية الحياة والموت والنمـو بالعدم.
ومن ثم، فإن حديث إسبينوزا عن الاتحاد الصوفي (باللاتينية: يونيو مستيكا unio mystica) وحلول اللامتناهي في المتناهي، وهو ما يمنحه الخلود والأزلية، هو في واقع الأمر حديث عن الاتحاد مع الطبيعة/ المادة والامتزاج بها والإذعان لها. وهذا الدين هو فلسفة إسبينوزا، وإطلاق كلمة «دين» عليه يشبه تماماً إطلاق كلمة «الإله» على الطبيعة. والوصول إلى هذه المرحلة من المعرفة مسألة نادرة للغاية لا يصلها سوى الخاصة، أما العامة فإن أقصى ما يمكن أن يصلوا إليه هو ما يسميه إسبينوزا الديانة العالمية (باللاتينية: ريليجيو كاثوليكا religio catholica)، وهي ليست العقيدة الكاثوليكية وإنما هي عقيدة تمكث في نطاق عالم الخيال والوجدان ولكنها تحاول أن تصوغ نفسها حسب تعاليم العقل مُستخدمة في ذلك مبدأ طاعة الإله.
وكلمة «الإله» مختلفة عن معناها في المعجم الإسبينوزي، فهي تعني الإله الشخصي الذي يتدخل في التاريخ ويرسل رسائل للإنسان. ويرى إسبينوزا أن مثل هذه العقيدة يمكن الاستفادة منها وتوظيفها اجتماعياً عن طريق التفسيرات العقلية للعهد القديم (ومن هنا نقده للعهد القديم والدعوة لتطهيره). ويمكن ترجمة إرادة الإله (الوهمية) إلى مجموعة من القواعد النافعة: العدل ـ وطاعة قوانين الدولة (التي تصبح المفسر الوحيد لإرادة الخالق).
إن الدين من منظور إسبينوزا ليست له قيمة من الناحية المعرفية، فهو مجرد وظيفة ذات نفع للإنسان (هذا الكائن الذي ليس له أهمية كونية خاصة). ولذا، فلا أهمية على الإطلاق للأساس النظري الذي ترتكز عليه هذه العقائد مادامت تؤدي وظيفتها العملية على النحو المنشود. ولكن « السلوك الفاضل الذي يتحقق في إطار خارجي تماماً عن العقيدة (في إطار فلسفة إسبينوزا والمرجعية المادية الكامنة)، يصبح على هذا الأسـاس مسـاوياً لذلك الذي يتحقق في الإطار الديني »، أي أن السلوك « يُعدُّ مطابقاً للغاية المنشودة سواء أقام على أسس دينية أم لم يقم، مادام ينفذ الأغراض نفسها التي يدعو إليها الدين ».
لكن تحويل الدين إلى مجرد وظيفة عملية ذات نفع دنيوي هو « علمنة من الداخل » إن صح التعبير، إذ يصبح المعيار هنا مدى التأثير العملي للدين ومدى تكيفه مع الواقع العملي والمادي حتى يحتفظ بفاعليته، أي أن الدين هنا يصبح تابعاً لهذا النظام الضروري والكلي للأشياء. وعملية العلمنة هذه لا تقل في ضراوتها وشراستها عن عملية العلمنة من الخارج، أي الهجوم المباشر على الدين، بل لعلها أكثر خطورة.
أما ثالث الأنواع فهو الديانة التاريخية السوقية أو الفارغة (باللاتينية: فانا ريليجيو vana religio)، وهي الديانة التي تستند إلى مجموعة من القصص الأسطورية والتاريخ المقدَّس والشعائر وتمتد لتشمل عالم السياسة وهي عقيدة تضرب بجذورها في مخاوف الإنسان وعواطفه (لا في عقله) وجهله بالأسباب الحقيقية، ولذا تحل الخرافات محل العقل ويظهر الإيمان بالمعجزات والقوى الخفية، وهي مخاوف يستخدمها الحكام ويوظفونها لصالحهم. وهذا النوع من الديانة يرفضه إسبينوزا جملةً وتفصيلاً قلباً وقالباً.
ومن المفارقات التي تستوجب النظر أن الفيلسوف الذي يشير له البعض بأنه فيلسوف العلمانية الذي حاول استبعاد الدين تماماً من منظومته الفلسفية والذي حاول تأسيس مذهب فلسفي يخلو من جميع عناصر ما فوق الطبيعة أو العناصر التشبيهية أو اللاعلمية أو فلنقل الروحية الدينية والإنسانية، نقول إن من المفارقات أنه صرح بأنه يحاول عن طريق فلسـفته الوصول إلى « الغاية نفسها التي تتخذها الأديان هدفاً أسـمى لها »، أي أنه تخلص من الغائية الإنسانية الروحية ليُحل محلها غائية مادية مجردة لا إنسانية (أي أنه حاول تحقيق قدر من التجاوز داخل الإطار المادي الكموني).
ففي منظومته الفلسفية يوجد خلاص عن طريق إدراك النظام الكلي للأشياء، وفيه أيضاً حرية عن طريق فهم موقع كل شيء في السلسلة الضرورية الشاملة، وفيه أيضاً طمأنينة وبركة عن طريق إدراك وحدة الكون والذهن الذي هو مظهر جزئي له، وفيه أيضاً حب هو حب المعرفة والعلم. إن فلسفة إسبينوزا ليست علمية وليست مادية بما فيه الكفاية، أي لم تتم علمنتها تماماً، وإلا فلم البحث عن الخلاص والطمأنينة، بل وعن شيء قديم إنساني متخلف مثل الحب؟ ولذا سُـمِّيت فلسفته « صوفية العلم الذي لا تداخله أية سمة من النزوع إلى ما فوق الطبيعة »، أي أن فلسفته هي ميتافيزيقا بدون إله، أو حلولية مادية.
وهو أيضاً من مفكري الربوبية المتطرفين، فالربوبية حاولت أيضاً أن تجد الرب في قوانين الطبيعة بحيث يمكن الوصول إليه عن طريق العقل وحسب. وإسبينوزا، بذلك، يكون قد بدأ المشروع المعرفي التحديثي والحداثي ولكنه تعثَّر وسقط في مفهوم الكل (والميتافيزيقا) وبحث عن الطمأنينة والحب، وهو ما يدل على ضعف الرؤية الكونية الموضوعية عنده. أما نيتشه، فقد اتسم بالجسارة وأكمل هذا المشروع المعرفي، فظهر النسق المعرفي المادي المعقم من كل مطلقات، وأعلن موت الإله وتطهير العالم من ظلاله وسقوط فكرة الكل والمركز بل والحقيقة، وإن كان قد ترك فكرة إرادة القوة كمصدر لتماسك النسق وكمركز له. ويتحقق المشروع المعرفي الغربي الحداثي في فكر دريدا (وهو يهودي سفاردي آخر) الذي أعلن سقوط الكل والمركز وعلاقة الدال بالمدلول وبداية عصر ما بعد الحداثة!
وقد فرَّق إسبينوزا بين اليهودية والمسيحية وصنف اليهودية باعتبارها نسقاً دينياً لا يتناول إلا الجانب الظاهر من سلوك الإنسان، في مقابل المسيحية التي تُعَدُّ نموذجاً دينياً يركز على حياة الإنسان الباطنة، والتي تجعل الجزاء روحياً أكثر منه دنيوياً. وقد أصبحت هذه التفرقة أساساً للتفرقة بين النموذجين الدينيين المسيحي واليهودي في الفكر الغربي (سواء بين اليهود أو بين غير اليهود) فتبناه موسى مندلسون وكانط وهيجل وماركس وأصبح أحد البدهيات والمقولات التحليلية في علم مقارنة الأديان في الغرب، وهي تفرقة أقل ما يُقال عنها إنها مغرضة وسطحية وأحادية.
وقد أثر إسبينوزا في الفكر الألماني، خصوصاً في فكر هردر ولسنج ( « لا يوجد سوى فلسفة إسبينوزا »)، وفي فكر موسى مندلسون وهيجل ( « لا يوجد سوى الفلسفة أو الإسبينوزية » )، وشلنج ( « لا يمكن لإنسان أن يتقدم نحو الحق والكمال في الفلسفة دون أن يغوص مرة على الأقل في حياته في هوة الإسبينوزية » ). وأشاع كوليردج فكر إسبينوزا وصرح بأنه لا يوجد سوى نسقين فلسفيين: فلسفة كانط وفلسفة إسبينوزا (ولكنه رفض حلولية إسبينوزا في أواخر حياته). وقد تأثر به كذلك الهيجليون اليساريون إذ كان فيورباخ ينظر إلى مادية إسبينوزا بعين التقدير، وتحدث بليخانوف (مؤلف كتاب تطور النظرة الواحدية للتاريخ) عن إسبينوزية ماركس وإنجلز أي واحديتهما التاريخية الكونية.
واعترف إنجلز بأنه يؤمن بفكرة إسبينوزا القائلة بأن الامتداد والفكر صفتان لجوهر واحد، لأن الفكرة ليست لها دلالة سوى الدلالة المادية. كما نوه إنجلز في كتابه جدلية الطبيعة بفكرة إسبينوزا بأن الطبيعة علة نفسها، لا نهائية وأزلية، وهي صفات الإله التي خلعها إسبينوزا على الطبيعة. وقد بدأ الباحثون يهتمون بأثر فكر إسبينوزا في فرويد، كما أن فلسفته لقيت اهتماماً غير عادي في الاتحاد السوفيتي. وشعر كثير من العلماء والمفكرين في العصر الحديث مثل أينشتاين وبرجسون بوجود علاقة وثيقة بين رؤيتهم للكون ورؤية إسبينوزا.
ونحن نذهب إلى أن المنظومـة العلمانية الشاملة اكتمـلت في كتـابات إسبينوزا، وأن المتتالية التي أدَّت إلى تفكيك الإنسان في القرن العشرين بدأت مع واحديته المادية الصارمة، وأن هناك داخل منظومته (بشكل جنيني) معظم الفلسفات العلمانية الأساسية: الفلسفة النفعية المادية (بنتام) والرؤية المادية الآلية التجريبية للعقل والنفس (لوك) ونسبية الأخلاق وإعلاء القوة كمطلق (نيتشه) والبرجماتية (وليام جيمس وجون ديوي). ومع هذا لم يُقدَّر لفلسفة إسبينوزا أن تكون الإطار الأساسي للفلسفات العلمانية الحديثة، فالهيجلية أحرزت قصب السبق في هذا المضمار، وهذا يعود إلى سكونية منظومة إسبينوزا، وفكرة الإله/الطبيعة المكتمل الذي يتجلى في الطبيعة، على عكس فكرة الإله/ الصيرورة الهيجلية (هو إله غير مكتمل ويتحقق تدريجياً داخل الطبيعة والتاريخ).
وقد يكون من المفيد التوقف قليلاً عند علاقة إسبينوزا بنيتشه. قال نيتشه (في كارت بوستال أرسل به لصديق له) إنه يتعرف على نفسه في عدة نقاط في عقيدة إسبينوزا: إنكار حرية الإرادة ـ إنكار الغائية ـ إنكار وجود نظام أخلاقي في العالم وإلغاء فكرة الخير والشر ـ رفض فكرة إيثـار الغـير والتأكيد على حـب الذات والقوة كأساس للحياة وللأخلاق. وأكد نيتشه أنه هو وإسبينوزا يجعلان المعرفة جزءاً لا يتجزأ من الغريزة وليس نشاطاً مستقلاً عن رغبات الإنسان وغرائزه، أي أن نظامهما المعرفي يتسم بالكمون الكامل (موت الإله المتجاوز) وأن الحياة مكتفية بذاتها.
ومع هذا، يمكن القول بأن ثمة نقط اختلاف مهمة بينهما تعود إلى أن إسبينوزا يقف عند بداية المتتالية العلمانية بينما يقف نيتشه في مرحلتها النهائية، ذلك أن إسبينوزا أخذ أول خطوة في عمليات العلمنة حينما أمكن تهميش الإله أو القول بموته (باعتبار أن الإله هو الطبيعة)، كما أنه رفض أن يُمنَح الإنسان أية مركزية في الكون. ولهذا، أكد أن العالم تحكمه قوانين لا شخصية آلية لا تكترث بالإنسان أو بغائياته. ولكنه لم يأخذ الخطوة الثانية الحاسمة وهي تطهير العالم من ظلال الإله، أي من كل عناصر الثبات والمطلقية والتجاوز.
فالعالم المادي (الطبيعة) والإنسان يرثان كثيراً من صفات الإله، فالعالم هو علة ذاته وغاية ذاته ومرجعية ذاته، عالم أزلي تحكمه قوانين ثابتة آلية خالدة، والطبيعة المطبوعة في حالة حركة دائمة ولكنها تحركها الطبيعة الطابعة التي لها عقل وهدف وغاية وهي التي تمنح الطبيعة المطبوعة شيئاً من الثبات. وهذه الطبيعة الطابعة هي العقل الأكبر الذي يحكم الكون والذي تتجسد عقلانيته في الطبيعة المطبوعة وثباتها. هذا الإيمان بالعقلانية هو سقوط في الغائية الإنسانية إذ أننا نُسقط صفاتنا ورغباتنا الإنسانية على عالم الطبيعة فنراه ثابتاً معقولاً!
وقد ورث الإنسان، هو الآخر، بعض هذه الصفات الربانية، فهو يتصور أنه كائن عقلاني وأن ثمة عقلاً إنسانياً عالمياً شاملاً قادراً على مراكمة المعرفة. ومن خلال إيمانه هذا، يدَّعي الإنسان أنه يؤمن بأنه قادر على تحقيق قدر من تجاوز الصيرورة والتناهي ومن هنا مفهوم الحب العقلي للإله، فهو يعني أسبقية العقل على الوجود، فالوجود بعض من جوهر الإله ولذا فهو وجود عقلاني، أما الحتمية التي ينصب عليها حب الإنسان فيمكن فهمها وفهم قوانينها ويمكن الإذعان لها برضا ويمكن للإنسان تحقيق الصفاء والغبطة (أتاركسيا) من خلالها باكتشافه الوحدة الكامنة فيه. بل إن الحب العقلي للإله يدخل عنصراً أزلياً في عقل الإنسان بحيث يصبح هذا العقل خالداً أيضاً، ومن هنا حديث إسبينوزا عن وحدة صوفية بين الإنسان والطبيعة والخالق.
أما نيتشه، فتحرر تماماً من الإله وهرب من ظلاله فتجربته الكمونية كاملة، فهي لا تترك أي مجال للنظام أو الثبات أو الاستمرارية أو العقلانية في الكون. والإنسان نفسه في حالة سيولة وتغير، فهو إرادة قوة محضة وموازين قوى. كل هذا يعني استحالة تفسير أي شيء أو تبرير أي شيء. ولذا، بدلاً من فكرة الحب العقلي للإله عند إسبينوزا، يظهر حب القَدَر (باللاتينية: آمور فاتي amor fati).
والحتمية، موضع الحب عند إسبينوزا، هي حتمية داخل نظام عقلاني متسق، أما الحتمية في نظام نيتشه فهي قَدَر غامض غاشم لا يمكن فهمـه، حتمـية تلقي بكلكـلها على كل المخلوقات كـعبء لا يمكن التخلص منـه. ولذا، لا يمكن تحقيق الصفاء أو الأمن، فالعالم أرض خراب ميتافيزيقية، عالم من الصراع والتحول ولا يوجد أي عزاء فلسفي، فالفرد في حالة عزلة دائمة، وحب القدر عمل من أعمال التحدي، فهو رفض لفكرة الطبيعة البشرية ولفكرة السببية وقبول للصيرورة والعود الأبدي لا تنتج عنها أية وحدة صوفية. ومن هنا، دعا نيتشه إلى إعادة تقييم القيم حتى يمكن اتخاذ الخطوة الحاسمة نحو تأسيس حضارة نسبية كاملة لا توجد فيها طبيعة معقولة ولا إنسان عاقل، حضارة تتجاوز ثنائية الذات والموضوع لتصل إلى السيولة الشاملة.
إسبينوزا وعلاقة فلسفته بالعقيدة والجماعـات اليهودية
Relationship between Spinoza's Philosophy, Judaism and Jewish Communities
يمكن تقسيم علاقة إسبينوزا باليهود واليهودية إلى قسمين: علاقة التضاد على المستوى المباشر، وعلاقة التماثل على المستوى النماذجي:
1 ـ علاقة التضاد (على المستوى المباشر):
كان لابد أن يهاجم إسبينوزا العقيدة اليهودية انطلاقاً من واحديته المادية، وكان هجومه يتم على مستويين: اليهودية كدين له شعائره الخاصة، واليهودية كمجموعة من العقائد تستند إلى ما فوق الطبيعة والإيمان بالإله كقوة مفارقة لها، أي اليهودية كنموذج لكل الأديان.
ومن أهم مؤلفات إسبينوزا كتاب رسالة في اللاهوت والسياسة، وهو أساساً نقد للعهد القديم ولأسفار موسى الخمسة. ومن هنا يُعَدُّ إسبينوزا من أوائل المفكرين الذين وضعوا دعائم العلم الذي يُسمَّى «نقد العهد القديم» (أي النقد التاريخي للكُتب المقدَّسة). وقد أنكر إسبينوزا في كتابه كثيراً من مبادئ اليهودية أو مبادئ أي دين آخر مثل الإيمان بالوحي، فالأنبياء حسب تصوره إن هم إلا أشخاص ذوو خيال متوقد، كانوا قادرين على التوصل إلى حقائق أخلاقية. أما فيما يتصل بمعرفتهم بالقوانين العلمية فأفكارهم متناقضة.
وموسى لا يختلف عن الأنبياء إلا في أن الوحي بالنسبة إليه كان مباشراً من خلال صوت الإله. وقد رفض إسبينوزا الإيمان بالمعجزات إذ لا يمكن أن يحدث أي شيء متناقض مع القانون الطبيعي (فالطبيعة/المادة هي المرجعية النهائية). وإن كانت هناك إشارات للمعجزات في العهد القديم، فإن هذا يعود إلى أنه مُوجَّه للوجدان الشعبي ولا يصلح لكل الناس. والتوراة عديمة القيمة إلا في تلك الجوانب المشتركة مع القانون الطبيعي، أي أن المرجعية النهائية هي دائماً الطبيعة/المادة (وهذا هو جوهر التفكير الربوبي).
وأكد إسبينوزا أن الكتب الدينية اليهودية موجهة أساساً إلى الجماهير اليهودية وحدها، وأن الشريعة اليهودية إن هي إلا قوانين الدولة العـبرانية القديمـة التي صدرت لضمان الاستقرّار السـياسي بين العبرانيين. ولذا، لا علاقة لهذه القوانين باليهود بعد الشتات، أي بعد انتشارهم في العالم، فعلاقتها أساساً بالاستقرّار الزمني للدولة. ويرى إسبينوزا أن سائر الشعائر والاحتفالات الدينية التي وردت في العهد القديم هي من وضع العلماء اليهود الفريسيين.
ويقارن إسبينوزا بين موسى والمسيح فيقول إن موسى كان يخاطب اليهود بوصفه مشرِّعاً وقاضياً وكان يتناول في تشريعه الجانب الظاهر من سلوك الإنسان، أما المسيح فتناولت تعاليمه حياة الإنسان الباطنة وكان الجزاء عنده روحياً أكثر منه دنيوياً.
وقد حلل إسبينوزا مختلف طرق الاتصال بين الإله والأنبياء حسبما جاء في الأناجيل، ويرى أن الأوصاف الواردة في الأناجيل لا تدل على حدوث اتصال مباشر بين العقل الإلهي وبين أي عقل آخر سوى المسيح. فالاتصال الإلهي بموسى كان مخاطبة أو كلاماً، والكلام يحتاج دائماً إلى المخيلة لتفسيره أو فهمه (أي أن هناك ثغرة بين الخالق وموسى إبّان عملية الوحي). وكذا كان الأمر مع الأنبياء، فالاتصال ببقية الأنبياء اليهود كان عن طريق أحلام أو علامات أو أمارات معيَّنة، أي أنه كان يتم دائماً من خلال واسطة، وهو ما يعني وجود ثغرة أو فجوة بين الإله والأنبياء.
والحالة الوحيدة التي تم فيها اتصال مباشر، ومن عقل إلى عقل دون توسط اللغة أو الخيال، هي حالة المسيح (فهل التجسد ـ إذن ـ هو النموذج الكامن في فكر إسبينوزا: أي أن تصبح الكلمة جسداً، ويصبح الدال مدلولاً، وتختفي الثغرات تماماً؟ هل التجسد هو تحوُّل الواحدية الروحية إلى واحدية مادية وتحوُّل اللاهوت إلى ناسوت؟). وعلاوة على كل هذا، أُرسل موسى إلى اليهود وحسب، ولذا فقد توجه موسى إلى اليهود وحدهم وتكيَّف عقله مع أوضاعهم. أما المسيح فتوجه إلى العالم، ولذا فإن أفكاره عالمية وحقيقية. وقد أثرت رؤية إسبينوزا للعقيدة اليهودية فيمن أتى بعده من فلاسفة غربيين بما في ذلك كانط وهيجل وماركس، بل وفي مقارنة النماذج التحليلية التي سادت في علم مقارنة الأديان (وفي الفكر الديني اليهودي).
وقد حدا هذا بالبعض على أن يروا في موقف إسبينوزا هذا محاباة للمسيحية على حساب اليهودية. ولكن إسبينوزا يستوعب كل شيء في نسقه الواحدي فبيَّن كيف يختلف رأيه عن رأي المسيحيين، فهو يرى الإله باعتباره العلة الكامنة في الأشياء (المبدأ الواحد) وليس العلة العالية فوق الأشياء، المتجاوزة لها. ولذا، فهو يُفسِّر الفكرة المسيحية القائلة بأن المسيح هو ابن الإله الأزلي باعتبار أنها تعني في واقع الأمر أن المسيح كان يُعبِّر عن الحكمة الإلهية الأزلية كما تتمثل في الأشياء ولا سيما العقل البشري (المبدأ الواحد الكامن في المادة)، وهي الحكمة المؤدية بالفعل إلى الخلاص. أما فكرة أن يتخذ الإله صورة بشـرية، فإنها مسـتحيلة تماماً كأن نقـول إن الدائرة اتخـذت صورة المربع، وهكذا نعود دائماً إلى الهندسة والأرقام.
ولا ينصرف نقد إسبينوزا إلى اليهودية وحسب وإنما يمتد ليشمل اليهود أيضاً، إذ يرى أنهم تمسَّكوا بعقائدهم بعد هدم الهيكل لا ابتغاء مرضاة الإله وإنما كرهاً للمسيحية. وعنده أن عقيدة الاختيار إن هي إلا تعبير عن غبطتهم بعزلتهم عن الآخرين. واليهود هم محط كراهية الإله الذي حطم هيكلهم والذي أرسل إليهم بشرائع وقوانين لا يستطيع أحد أن يعيش بمقتضاها. ولذا، فهذه القوانين لم تكن تعبيراً عن رغبة الإله في الحفاظ على رضاء اليهود بل تعبيراً عن غضبه عليهم ومنهم.
وأفاض إسبينوزا بعد ذلك في ذكر صفات اليهود السلبية، فاليهود يكرهون كل الشعوب الأخرى حتى أصبح الحقد بالنسبة إليهم طبيعة ثانية، ينمونها كل يوم في صلواتهم. وحتى صفاتهم الطيبة، فإنها نابعة من سيئاتهم، فتماسكهم وتعاطفهم ينبع من كُرههم لكل الشعوب الأخرى. ويُفسِّر إسبينوزا استمرار ما يرى أنه الهوية اليهودية على أساس موقف الشعوب غير اليهودية من اليهود، فيشير إلى أن يهود المارانو في إسبانيا الذين سُمح لهم بشغل مناصب رفيعة حققوا الاندماج وانتهى الأمر بهم إلى الانصهار، على عكس المارانو في البرتغال الذين احتفظوا بهويتهم لأنهم تم استبعادهم من الوظائف الحكومية.
ومن هنا يجب على المسيحيين ألا يضطهدوا اليهود المتنصّرين لأن المعاملة الحسنة هي التي ستؤدي إلى اختفائهم، بل إن السياسة نفسها يمكن أن تُطبَّق على اليهود المؤمنين، وقد تؤدي إلى نفس النتائج.
2 ـ علاقة التماثل (على المستوى النماذجي):
هاجم إسبينوزا اليهودية، إذن، بشكل واضح، والمسيحية بشكل مستتر، بل هاجم اليهود وتاريخهم. ومع هذا، فإن علاقة إسبينوزا باليهود واليهودية علاقة بالغة العمق والتركيب، وثمة جوانب في فكره لا يمكن فهمها دون العودة إلى الكثير من العناصر في العقيدة اليهودية وإلى أشكال تطور الجماعات اليهودية في أوربا. ففكره، من هذا المنظور، تعبير عن جوانب كامنة في النموذج الديني الذي يرفضه.
كما أن ثمة تطورات لاحقة بين اليهود واليهودية كان إسبينوزا تعبيراً عميقاً عنها، ونموذجاً أساسياً لها:
أ ) كان إسبينوزا من يهود المارانو الذين فقدوا هويتهم الدينية، فقد كانوا مسيحيين كاثوليك قولاً، يهوداً فعلاً، أو هكذا كانوا يتوهمون، إذ أنهم في واقع الأمر فقدوا هويتهم اليهودية الدينية في الفترة التي أخفوها فيها فلم يبق منها إلا قشرة ضعيفة، فأصبحوا جمـاعة هامشية بالنسبة لكل الـعقائد، ولم يكونوا مسيحيين ولا يهود. ولذا، فإنهم حينما تركوا شبه جزيرة أيبريا واستقرت أعداد منهم في أمستردام، التي كانت قد حققت أعلى معدلات العلمنة في الغرب، وجدوا التربة المناسبة لهم هناك وبدأوا يقودون الفكر المعادي للدين، أيِّ دين، وكانوا من حملة لواء الشك الفلسفي والديني.
وقد خرج إسبينوزا من هذه التشكيلة الحضارية الدينية الفذة، فهو مفكر ماراني بالدرجة الأولى يُظهر الإيمان الديني ويستخدم الخطاب الديني ولكنه يُبطن الإيمان الكامل بالمادة وقوانينها باعتبارها النقطة المرجعية النهائية، لا بالنسبة إلى العالم المادي وحسب (الطبيعة) وإنما بالنسبة للإنسان أيضاً. وعلى مستوى الخطاب، يتحدث إسبينوزا عن الإله، وهو في واقع الأمر يعني الطبيعة. ولذا، فإنه عندما يقول « بأمر الإله » إنما يعني « حسب قوانين الطبيعة ». وقد أشار أحد المؤلفين إلى إسبينوزا باعتباره ماراني العقل (مادي)، أي أنه يدافع عن الرؤية المادية بشكل خفي.
ب) وحينما استقر المارانو في أرجاء أوربا، كانت اليهودية الحاخامية تعاني من بدايات أزمتها بعد هجمات شميلنكي وبعد تحجر الفكر الديني اليهودي الحاخامي وعزلته عن التيارات الدينية في العالم وأوربا. وشن كل من إسبينوزا وشبتاي تسفي هجوماً شرساً على اليهودية، وكلاهما من أصل ماراني، وكلاهما حلولي واحدي في فكره يؤمن بوحدة الوجود الروحية في المظهر، المادية في المخبر، ويؤمن بإمكانية تشييد الفردوس الأرضي (الآن وهنا) وإعلان نهاية التاريخ.
ولعل الفارق الوحيد بينهما هو أن تسفي ظل حبيس الديباجة الدينية اليهودية القبَّالية اللوريانية ووحدة الوجود الروحية، بينما تمكَّن إسبينوزا من تجاوزها واكتشــف التوازي بين الحلولية الواحدية الروحية والحلولية الواحدية المادية، فاسـتخدم مصطلحاً دينياً روحياً ومصطلحاً فلسـفياً مـادياً في آن واحد، ويمكن فك شفرة الأول من خلال المقولة المبدئية « إن الإله هو الطبيعة ». وحتى المصطلح الديني السطحي الذي استخدمه إسبينوزا كان مصطلحاً دينياً عاماً ليس فيه سوى أصداء يهودية. ولذا، كان هجوم تسفي على اليهودية من الداخل، بينما كان هجوم إسبينوزا هجوماً من الخارج.
ونحن نذهب إلى أن رؤية إسبينوزا الفلسفية حلولية متطرفة تضرب بجذورها في القبَّالاه اللوريانية. ولكن قبل أن نعرض لهذا المصدر الأساسي من مصادر رؤيته، قد يكون من المفيد الإشارة إلى وجود تيارات أخرى داخل اليهودية أثرت في إسبينوزا وعمقت اتجاهه الحلولي. وتذهب بعض الدراسات إلى أن هناك اتجاهين داخل اليهودية: الاتجاه الميموني العقلاني، نسبة إلى موسى بن ميمون، والاتجاه الحلولي القبَّالي اللاعقلاني. ولكن فكر موسى بن ميمون نفسه يحوي في داخله عناصر مادية، فعقلانيته أحياناً شاملة متطرفة كثيراً ما تقترب من حالة الواحدية المادية الشاملة التي حققها إسبينوزا والتي لا تختلف عن واحدية الرؤية الحلولية الروحية.
وتوجد داخل اليهودية الحاخامية أفكار تركت أعمق الأثر في إسبينوزا. فاليهودية، في إحدى صورها، تكاد تكون ديناً بدون إله وبدون ميتافيزيقا. ونظراً لتناقض بعض العقائد اليهودية، تم التركيز على الشعائر حتى لا تتعارض الفرق اليهودية المختلفة فيما بينها وبحيث يمارس كل اليهود الشعائر نفسها بعد أن ينسب إليها كل فريق المعنى الذي يريده. وهذه السمة في اليهودية هي التي أثرت في إسبينوزا حينما فرق بين اليهودية والمسيحية باعتبار أن الأولى دين الظاهر والثانية دين الباطن. ورؤية إسبينوزا للإله متأثرة بجانب مهم في اليهودية هو الإيمان بإله متجاوز للمادة تماماً (إلى درجة التعطيل أحياناً) حالٍّ فيها تماماً في الوقت نفسه، إله يشبه قوانين الضرورة في المنظومة الإسبينوزية، وهي قوانين عامة مجردة ولكن لا وجود لها خارج المادة (يشبه من بعض الوجوه إله كالفن).
وقد يكون من المفيد هنا أن نشير إلى ما سميناه «الطبيعة الجيولوجية التراكمية لليهودية»، فهناك داخل اليهودية إيمان بإله مفارق وإيمان بإله حالّ، وإيمان بالبعث واليوم الآخر وإنكار لهما أو عدم اكتراث بهما. وقد أشار إسبينوزا نفسه إلى أن فكرة الآخرة في العقيدة اليهودية كانت دائماً فكرة شاحبة، فالعهد القديم لا يتحدث عن خلود الروح (وعلى كلٍّ، فإن هذا هو الحال دائماً مع المنظومات الحلولية الواحدية). وشدد إسبينوزا على أن الصدوقيين كانوا يُنكرون اليوم الآخر وعقيدة البعث، وأنهم مع هذا لم يُطرَدوا من حظيرة الدين بل كانوا يشكلون الطبقة الكهنوتية القائدة. وكانوا يجلسون في السنهدرين جنباً إلى جنب مع الفريسيين.
كما أن العهد القديم لا يوجد فيه، على حد قوله، أي شيء عن وجود غير مادي أو غير جسماني للإله (أي أنه اكتشف الطبقة الحلولية التجسيدية المادية في العهد القديم). ولكل ما تقدَّم، فإنه يُعرِّف اليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية حتى ولو لم يؤمن بالإله، فاليهودية خاصية بيولوجيـة مادية وراثية. وإسـبينوزا على حق فيما يقول، بشكل جزئي، فكل الآراء التي ذكرها وردت في التراث الديني اليهودي. ولكن هذه الآراء لا تشكل إلا جزءاً وحسب أو طبقة جيولوجية توجد بجوارها طبقات أخرى متناقضة معها تماماً. وبسبب هذه الخاصية الجيولوجية، ظهر إسبينوزا وولَّد الإلحاد والعلمانية من داخل النسق الديني اليهودي ذاته (وهذه إستراتيجية كثير من المفكرين الإلحاديين في القرن العشرين، فتحت شعار التوفيق بين العقل والدين يتم إحلال العقل محل الدين، ثم المادة محلهما جميعاً).
ومهما يكن تأثير اليهودية الحاخامية، فإن القبَّالاه اللوريانية (التي تُعَدُّ مكوِّناً أساسياً في فكر اليهود السفارد والمارانو والتي تشبَّع بها إسبينوزا) تركت أثراً حاسماً فيه وشكلت إطاراً لمعظم أفكاره. والقبَّالاه اللوريانية صياغة غنوصية حلولية متطرفة، بل تُعَدُّ من أكثر الصياغات الحلولية تطرفاً، فهي حلولية روحية توحِّد تماماً بين الخالق ومخلوقاته، أي بين الإله والإنسان والطبيعة. والكون ليس مجرد تعبير عن الإله وإنما هو الإله ذاته.
والخالق حسب القبَّالاه اللوريانية يسري تماماً في الكون متصلاً بمخلوقاته ملتحماً بهم بحيث يصبح المخلوق في قداسة الخالق وتصبح المادة/الطبيعة في قداسته. ويمكن القول بأن وحدة الوجود الروحية شكل من أشكال علمنة الدين من الداخل، فالرؤية الدينية التوحيدية تؤمن، كما هو معروف، بثنائية الدنيا والآخرة، والخالق والمخلوق، والمادة والروح، والكل والجزء، والسماء والأرض، والإله والطبيعة. وتحاول الديانات والفلسفات الدينية التوحيدية كافة الحفاظ على هذه الثنائية حتى وإن حاولت أن تختزل المسافة بين الخالق والمخلوق وتُقرِّب بينهما (بحيث تتحول الثنائية الصلبة إلى ثنائية فضفاضة وتتحول المسافة إلى مجال تفاعل بين الخالق والمخلوق).
أما الفلسفات الحلولية في لحظة وحدة الوجود فتأخذ شكل رؤية وحدة عضوية كاملة بحيث يسري قانون واحد في كل الكون، ومن هنا النزعة الكونية الموضوعية التي تكتسح الإنسان. وقد أكدت الكنيسة الكاثوليكية هذه الثنائية بشكل حاد. ويُعَدُّ الإصلاح الديني البروتستانتي أولى محاولات كسر الثنائية، ولكن القبَّالاه اللوريانية كانت قد أنجزت ذلك منذ زمن وعلمنت اليهودية، فثمة عالم واحد أحادي يسري فيه قانون واحد ضروري حتمي عام، وهو عالَم يتراجع فيه الإنسان ويختفي، فهو جزء من كل وليس له خصوصية إنسانية.
وعالَم القبَّالاه اللوريانية لا عاطفة فيه ولا أخلاق، فالأمور كلها جزء من نسق هندسي، ومن هنا ظهرت الجماتريا، وهي محاولة تفسير العالم بالأرقام من أجل التحكم فيه لا التوازن معه، وهذا يقابل تماماً فكرة إسبينوزا عن إمكانية فهم العالم، بما في ذلك الإنسان، من خلال المنطق والخطاب الهندسي، وعن إمكانية التحكم في العالم وفي الذات بأن ينظر الإنسان إلى الكون من منظور الإله (الرؤية الكونية الموضوعية).
وقد قيل عن القبَّالاه اللوريانية إنها ألهَّت الجنس وجنَّست الإله، وهو إنجاز فرويد فيما بعد، ويمكننا أن نقول إن إسبينوزا ألَّه الطبيعة وطَّبع الإله، وتطبيع الإله شكل من أشكال التجسد الدائم والمستمر. وإذا كان التجسد في المسيحية أخذ شكل لحظة تاريخية فريدة في حياة المسيح باعتباره ابن الإله (وهو ما نسميه «الحلول المؤقت»)، فإن حلولية القبَّالاه اللوريانية هي في الواقع تجسد دائم إذ يُصبح الكون بأسره جسد الإله، فالطبيعة هي التجسد الكامل والمستمر للإله، وعلى من يود معرفته أن يدرسها ويستخلص منها كل ما يلزمه من معرفة للخلاص.
وجاء في القبَّالاه اللوريانية أن " إلوهيم هو هاطيفع " أي أن الإله هو الطبيعة (تماماً كما يقول إسبينوزا)، وأكد القبَّاليون أن طيفع هي المعادل الرقمي لإلوهيم. بل إن إنجازه الفلسفي الأكبر هو اكتشـافه هـذا التقابل المدهش بين وحدة الوجود الروحية (لا موجود إلا هو، أي الإله) ووحدة الوجود المادية (لا موجود إلا هي، أي المادة أو الطبيعة). ومن خلال اكتشافه هذا، جعل إسبينوزا الإنسان الغربي قادراً على أن يتبنَّى الرؤية العلمانية الشاملة دون أن يدري ودون أي إحساس بالحرج.
وقد أشرنا من قبل إلى تأثير اليهودية الحاخامية في رؤية إسبينوزا للإله باعتباره متجاوزاً تماماً للمادة حالاًّ تماماً فيها. وهذه الرؤية المتناقضة، توجد وبشكل حاد في القبَّالاه اللوريانية، فالسفيروت أو التجليـات النورانية هي تجسـُّد إنساني كامل للإله، فهي الحلول الكامل، ولكن وراءها يوجد الـ «إين سوف»، أي الإله الخفي المفارق تماماً للعالم والذي لا علاقة له به، وهي ثنوية (أو ثنائية صلبة) توجد كذلك في الفكر الغنوصي.
وبحسب أسطورة تهشُّم الأوعية، فقد تبعثر النور الإلهي في الكون كله، بحيث اختلط الخير بالشر والروح بالجسد وأصبح الشر ملازماً للخير بحيث يصبح التمييز بين الواحد والآخر مستحيلاً. وفي مفهوم الخلاص بالجسد (بالعبرية: عفوداه بجشيموت)، نجد أن الخلاص يتم عن طريق ارتكاب المعاصي أو عن طريق الغوص في المادة. ونظرية القبَّالاه اللوريانية الأخلاقية لا تختلف كثيراً عن نظرية إسبينوزا في الأخلاق حيث يتم الخلاص لا من خلال معرفة الخير والشر، وممارسة الخير وتجنُّب الشر، وإنما يتم من خلال إدراك أن الكون لا غاية له ولا خير فيه ولا شر وإنما ضرورات وحتميات تحدث لأنها يجب أن تحدث، فهو خلاص من خلال معرفة قوانين المادة. كما أن المطلَق الوحيد في منظومة إسبينوزا هو البقاء وبالتالي القوة، وكلما ازداد الإنسان قوة ازدادت مقدرته على البقاء وازداد خيراً. وهذا لا يختلف كثيراً عن طريق الخلاص من خلال المعاصي والغوص في المادة. كما أن النسبية الأخلاقية التي تسم المنظومة الإسبينوزية توجد في المنظومة اللوريانية.
ومن الأفكار الأساسية في القبَّالاه فكرة أن الإنسان (المايكروكوزم: الكون الأصغر) يشبه الكون (الماكروكوزم: الكون الأكبر) في البنية، وأن ثمة قانوناً واحداً يسري عليهما. وهذه فكرة أساسية أيضاً في فلسفة إسبينوزا حيث نجد هذا التعادل بين الخالق والطبيعة والإنسان، وأن الإنسان إن هو إلا جزء من كل، خاضع تماماً لقوانينه.
وقد طُرد إسبينوزا من حظيرة الدين اليهودي، إلا أنه يشكل أول تعبير عن نمـط متكرر بعـد ذلك في الحضارة الغربية، وهو اليهودي الإثني، أي اليهودي الذي يترك عقيدته الدينية ولا يعتنق ديناً آخر، ومع هذا يظل يُشار إليه باعتباره يهودياً. وهو اليهودي الذي تستند هويته لا إلى عقيدته وإنما إلى انتمائه للموروث اليهودي.
ويقف إسبينوزا أيضاً على بداية سلم طويل من المثقفين الغربيين العلمانيين ذوي الجذور اليهودية الذين يقفون على هامش الحضارة لا يشعرون بأية قداسة نحو أي شيء، ويُخضعون كل شيء، بما في ذلك الإنسان نفسه، للقياس الكمي، ويناصبون كل التقاليد السائدة العداء. وهم سلم طويل بدأ بإسبينوزا ويضم لاسال وماركس (إلى حدٍّ ما) وفرويد وتروتسكي وليفي شتراوس. ومعظم هؤلاء المفكرين يرفضون الدين تماماً ولكنهم يقترحون بدلاً منه نموذجاً معرفياً مادياً متكاملاً شاملاً يحمل كثيراً من سمات الدين.
ويبدو أن إسبينوزا والمفكرين الثوريين مثل ماركس متأثرون بالنزعة المشيحانية في اليهودية وهي نزعة حلولية واحدية معادية تماماً للتاريخ وللحدود وترى أن كل تفاصيل التاريخ والكون تفاصيل مؤقتة، تؤدي جميعاً (في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير) إلى العصر المشيحاني (والفردوس الأرضي عند نهاية التاريخ) الذي سيحدث فيه تغيُّر كامل لكل شيء.
وهذه النقطة عند إسبينوزا تأخذ شكل الإدراك الكامل لقانون الضرورة والحتمية، وهي المعرفة الشاملة بكل الأمور بحيث يصل الإنسان في معرفته إلى مرتبة الآلهة، وهي معرفته بأنه ليس ثمة حرية ولا معنى خاص له، وأنه جزء من كل مادي يتحرك حسب قوانينه الذاتية التي تستطيع الإرادة الإنسانية التدخل فيها. وتحوَّلت هذه الفكرة عند ماركس إلى فكرة الحتمية التاريخية وقوانين الجدل المادية التي ترتفع بالإنسانية جمعاء إلى المجتمع الشيوعي (في نهاية الأمر) حيث يتم التحكم الكامل في الذات والموضوع. ومع هذا، يجب تأكيد أن هذه النزعة المشيحانية السياسية العلمانية هي تيار واضح بين المفكرين العلمانيين الغربيين سواء كانوا من أصول مسيحية أم كانوا من أصول يهودية.
هاجم إسبينوزا اليهودية واليهود، وأشار البعض إلى أنه بسبب ذلك لا يمكن أن يكون صهيونياً. ولكننا بيَّنا أن مفهوم الشعب العضوي المنبوذ هو أساس لكل من معاداة اليهود والصهيونية. وينتمي إسبينوزا إلى هذا النمط، فعداؤه الشديد لليهود أدَّى به إلى طرح اقتراح صهيوني حين قال: "بل إنني لأذهب إلى حد الاعتقاد بأنه لو لم تكن مبادئ عقيدتهم [أي اليهود] قد أضعفت عقولهم، ولو سنحت الفرصة وسط التغيرات التي تتعرض لها أحوال البشر بسهولة، فقد يُنشئون مملكتهم من جديد، وقد يختارهم الإله مرة ثانية".
ويمكن هنا أن نملأ بعض الفراغات الموجودة بين السطور والكلمات، وبين الدال والمدلول، من خلال معرفتنا برؤية إسبينوزا. فالعقيدة اليهودية حسب رأيـه أضـعفت عـقول اليهود بما حوت من غيب وغرض واتجاه وثنائيات، فإن نجحت اليهودية في تطهير نفسها من أية مطلقات أو ثنائيات، أي أصبحت عقيدة مادية علمانية تماماً، تدور في إطار وحدة الوجود المادية لا وحدة الوجود الروحية، لأمكنها أن تنقذ اليهود خصوصاً وسط التغيرات التي تحدث في العالم، وكان التغير الأساسي آنذاك هو صعود القوة الغربية وبداية التشكيل الاستعماري الغربي الذي كان يعني في واقع الأمر علمنة العالم وفرض إرادة القوة عليه. وسيؤدي هذا إلى أن يقوم اليهود بتأسيس مملكتهم الصهيونية بمساندة هذه القـوة الجديدة. وهذا ما يعنيه إسـبينوزا باختيار الإلـه لهم مرة ثانيـة.
والمشروع الصهيوني تنفيذ حرفي للمشروع الإسبينوزي، ذلك أن الصهيونية علمنت اليهودية وطهَّرتها من الغيبيات والثنائيات والغايات الأخلاقية، فوحَّدت بين الخالق والمخلوق والطبيعة (الإله والشعب اليهودي وإرتس أو أرض يسرائيل)، بحيث لا يمكن فصل أيٍّ من هذه الأشياء عن الآخر، تماماً مثلما وحَّد إسبينوزا بين الإله والإنسان والطبيعة في إطار واحديته الكونية المادية. ومع تصفية الثنائية، لم يَعُد اليهودي عضواً في جماعة دينية وعرْقية تتحدد هويتها حسب الموروث الديني والعرْقي (البيولوجي) وإنما عضواً في جماعة عرْقية (أي قومية) فقط تتحدد هويتها حسب موروثها العرْقي (أو الإثني) وحسب، وهو موروث لا يُلزمها بأية أهداف أخلاقية أو غايات إنسانية إذ يصبح الهدف الوحيد بقاء اليهود.
لكن آلية هذا البقاء تكمن في القوة وفي المقدرة على ضرب كل من يقف في طريق اليهود بيد من حديد، فلهم « حق طبيعي كامل [مطلق]، ولهم من الحق على الطبيعة بقدر ما لهم من القوة ». فحق كل فرد « يمتد بقدر ما تمتد قوته ». وبالتالي، أصبح الشعب اليهودي شعباً مختاراً « مرة ثانية »، شعباً مختاراً لأنه اختار نفسه، شعباً يُشبه في كثير من الوجوه المستوطنين البيوريتان في أمريكا الشمالية الذين اختاروا مصيرهم وركبوا سفنهم و « اكتشفوا » العالم الجديد وطهروه من تاريخه السابق، وحولوه إلى جنة عذراء. وقد أُقيمت في إسرائيل مراسم عودة إسبينوزا لحظيرة الدين مرة أخرى، ويُحتَفل بميلاده وذكرى نشر كتبه، ويوجد معهد متخصص لدراسة كتبه.
يتبع إن شاء الله...