منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية Empty
مُساهمةموضوع: الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية   الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية Emptyالأربعاء 11 ديسمبر 2013, 8:45 pm

الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية
الفلسفـة اليهـودية والفلاسفـة اليهـود 
Jewish Philosophy and Philosophers 
«الفلسفة اليهودية» عبارة تفترض أن رؤى الفلاسفة من أعضاء الجماعات اليهودية وكذلك أنساقهم الفلسفية متماثلة ومتجانسة وأن ثمة عناصر تجانس وتشابه ووحدة بينها، تفوق في أهميتها وتفسيريتها عناصر عدم التجانس وعدم التشابه. ولكننا لو وضعنا فيلسوفاً هيلينياً يهودياً مثل فيلون إلى جانب فيلسوف إسلامي الحضارة والتفكير يؤمن باليهودية مثل موسى بن ميمون إلى جانب فيلسوف فرنسي يهودي مثل برجسون لاكتشفنا أن عناصر الاختلاف وعدم التجانس بين الفلاسفة اليهود من الأهمية والضخامة بحيث أن المقدرة التفسيرية والتصنيفية لمصطلح «فلسفة يهودية» أو حتى «فلاسفة يهود» ضعيفة إلى أقصى حد. ولذا، فنحن نفضل استخدام اصطلاح «الفلاسفة من أعضاء الجماعات اليهودية» حتى يتم تفسير أنساقهم الفلسفية المختلفة بالعودة إلى التشكيلات الحضارية التي كانوا يعيشون في كنفها والتي تفاعلوا معها واستمدوا منها الإطار الأساسي لأنساقهم الفلسفية وخطابهم، بل والأبعاد الأساسية لرؤيتهم للكون. 
الفـلاسـفة من أعضاء الجماعات اليهوديــة 
Philosophers from Members of the Jewish Cmmunities 
«الفلاسفة من أعضاء الجماعات اليهودية» عبارة ذات مقدرة تفسيرية وتصنيفية عالية (بالقياس إلى عبارات مثل «الفلسفة اليهودية» أو «الفلاسفة اليهود»).ويمكن أن نُقسِّم هؤلاء الفلاسفة من منظور موضوع فلسفتهم،فهناك من يتعامل مع اليهودية وبعض المشكلات الفلسفية المرتبطة بها وهناك من يتعامل مع القضايا الفلسفية العامة،وإن تعرَّض لقضايا يهودية فهو يتعرض لها بشكل عرضي. 
ويمكن التمييز بين المحاولات التي يبذلها بعض المفكرين الذين يتبنون الموقف التحليلي من اليهودية ويدرسونها بطريقة منهجية. فإن كان المفكر غير يهودي فإن ثمرة فكره تكون جزءاً من الدراسة الفلسفية للدين. أما إذا كان المفكر يهودياً مؤمناً بالعقيدة اليهودية، فإن الثمرة تكون اللاهوت اليهودي أو دراسة أصول الدين (التي تناولناها في مدخل العقائد). 
وغني عن القول أن المفكر من أعضاء الجماعات اليهودية حين يحاول أن يتأمل عقيدته فإنه، شاء أم أبى، يُطبِّق المقولات الفلسفية السائدة في عصره على اليهودية. ولا يمكن الفصل بين الجانب التحليلي والجانب التركيبي، فالتحليل مثل التركيب كان يتم من خلال المقولات الفلسفية السائدة في الحضارات التي كان الفيلسوف من أعضاء الجماعات اليهودية يعيش بين ظهرانيها. ومن ثم، لا يمكن الحديث عن «فلسفة يهودية» وإنما عن محاولات قام بها مفكرون من أعضاء الجماعات اليهودية لتطبيق النظم الفلسفية المختلفة على العقيدة اليهودية والمزاوجة بينهما، وهي محاولة لا تتسم بكثير من التجانس نظراً لوجود الجماعات اليهودية داخل تشكيلات حضارية مختلفة تؤثر كل منها في المفكرين بطريقة مختلفة. ولذا، فإن دراسة فكر هؤلاء لا يكون إلا بالعودة للحضارات التي يعيشون بين ظهرانيها. 
والعهد القديم، مثله مثل أي كتاب مقدَّس، لا يحوي نسقاً فلسفياً واضحاً، وإنما يستند إلى نسق كامن مركب يعبِّر عن نفسه في العقائد الأساسية الخاصة بطبيعة الخالق والخلق والوحي والتوحيد والعدالة الإلهية ومعنى التاريخ، وهلم جرا. كما أن التراث الديني اليهودي، من خلال الأجاداه، كان يحاول الإجابة على أسئلة فلسفية بطريقة غير فلسفية، من خلال الرموز والقصص. وتوجد تساؤلات فلسفية في كلٍّ من التلمود وكتب القبَّالاه، ولكن الاجابة عليها لا تتم بالطريقة الفلسفية المنهجية وإنما من خلال الأسطورة والأمثولة والصورة والمجاز. ولم يظهر التفكير الفلسفي المنهجي بين اليهود إلا في القرن الأول قبل الميلاد في فلسفة فيلون السكندري الذي حاول المزاوجة بين الفلسفة اليونانية (الأفلاطونية والرواقية) والعقيدة اليهودية. ولكن فلسفته لم تترك أثراً في التطور اللاحق لليهودية، بينما تأثر بها اللاهوت المسيحي. وتأثر المفكرون من أعضاء الجماعات اليهودية في الدولة الإسلامية بعلم الكلام (الذي هو بدوره، في جانب من جوانبه، رد الفعل الإسلامي للفلسفة اليونانية). 
ويبدو أن اليهودية وجدت نفسها دين أقليات متناثرة تواجه دينين سماويين توحيديين تتبع كل منهما إمبراطورية مترامية الأطراف وترفض كلٌ منهما اليهودية. ولذا، ظهر فكر ديني يهودي يحاول تفسير هذه الظاهرة عقلياً ويرمي إلى الدفاع عن اليهودية وإثبات شرعيتها. وأولى هذه المحاولات محاولة داود بن مروان المقمص، وتبعتها محاولة سعيد بن يوسف الفيومي، اللذين نقلا فكر المعتزلة إلى الفكر الديني اليهودي. وهما، في هذا، لا يختلفان كثيراً عن القرّائين. وتأثر الفكر الديني اليهودي بالحوار الذي جرى داخل الفلسفة الإسلامية بين الفلسفة وأعدائها، فدافع عن الفلسفة أبراهام بن داود، وموسى بن ميمون، ولاوي بن جرشون (جيرونيدس)، وحسداي قرشقاش. وهاجم الفكر الفلسفي كلٌّ من سليمان بن جبيرول وابن فاقودة ويهودا اللاوي. 
وفي العصر الحديث، يبدأ التفكير الفلسفي بين اليهود في كتابات إسبينوزا فيلسوف العَلمانية الذي وجَّه سهام نقده لليهودية خاصة، وللفكر الديني عامة، لدرجة يصعب معها الحديث عنه باعتباره مفكراً دينياً. ولذا، قد يكون من الأفضل أن نبدأ بموسى مندلسون فيلسوف حركة التنوير بين اليهود، والذي تبنَّى فكر حركة الاستنارة الغربية والفلسفة العقلانية وطبقه على اليهودية بعد إفساح المجال للوحي، وهذا ما جعل فكره ربوبياً إلى حدٍّ ما. وقد تأثر المفكرون اليهود بفكر هيجل كما يتضح في كتابات كروكمال. أما هرمان كوهين فتأثر بفلسفة كانط. وظهر فلاسفة يهود آخرون في العصر الحديث حاولوا إعادة صياغة اليهودية مستخدمين مقولات الأنساق الفلسفية السائدة. فنجد فرانز روزنزفايج، ومارتن بوبر، وليوبايك، وأبراهام هيشيل، يحاول كل منهم بطريقته استخدام مقولات نسق فلسفي ما (وجودي أو مثالي) لإعادة تفسير اليهودية (وقد تناولنا كتابات مثل هؤلاء المفكرين الدينيين في المجلد السادس الخاص باليهودية). 
ويمكن أن نضع الصهيونية في هذا الإطار، فهي محاولة لتطبيق مقولات الفكر الرومانسي القومي العنصري على اليهودي. وتأثر معظم المفكرين الصهاينة (هرتزل ونوردو وآحاد هعام) بفلسفة نيتشه وأفكاره عن القوة وأخلاق العبيد والإنسان الأعلى أو الأسمى. ويُلاحَظ أن كثيراً من الموضوعات الصهيونية وجدت طريقها إلى كتابات الفلاسفة من أعضاء الجماعات اليهودية، حتى أولئك الذين لم يهتموا بالصهيونية أو ناصبوها العداء، ومن أهم هذه الموضوعات موضوع «سر بقاء الشعب اليهودي»، ومحاولة تفسيره إما من خلال مقولات هيجلية أو من خلال مقولات نيتشوية أو وجودية. ورغم أن الموضوع يُناقَش بشكل فلسفي مجرد للغاية، وليس له علاقة كبيرة بالتطبيقات السياسية، إلا أن هذا الموضوع نفسه يشكل الفكرة المحورية في النسق العقائدي الصهيوني الذي هو بدوره علمنة لفكرة الشعب المختار أو الشعب المقدَّس. ومن ثم، نجد أن هذه الكتابات إنما هي تسويغ واع أو غير واع للغزوة الصهيونية من خلال ديباجات فلسفية معاصرة. 
ويوجد فلاسفة يهود كان اهتمامهم باليهودية ضعيفاً أو منعدماً، أو تعبيراً عن موقف فلسفي عام يتجاوز اليهودية في حد ذاتها. ولذا، فإن إسهامهم الأساسي كان يصب في التيار العام للفلسفة الغربية، ومعظمهم من اليهود غير اليهود، أي اليهود الذين لا يؤمنون بالعقيدة اليهودية ولا يتمسكون بإثنيتهم اليهودية حقيقية كانت أم وهمية والذين ازدهروا في الحضارة الغربية بمقدار تمثُّلهم لقيمها وبمقدار تهميشهم هويتهم وفهمهم. وإسبينوزا هو أول هؤلاء الفلاسفة. ويمكن أن نذكر في هذا المقام كارل ماركس، وفرديناند لاسال، وإدموند هوسرل، وهنري برجسون، ولودفيج فيتجنشتاين، وهربرت ماركوز، وهوراس كالن، وجاك دريدا (أي كل الفلاسفة من أعضاء الجماعات اليهودية الذين ازدهروا على مستوى الحضارة الغربية). وقد يكون لهؤلاء الفلاسفة بعض الملاحظات أو العبارات المؤيدة للصهيونية أو المعادية لهـا أو لليهودية ولكنهـا تظل ملاحظات عرضية (إلا فـي حالة كالـن). وقد لاحظنا أن معظم الفلاسفة العلمانيين من أعضاء الجماعات اليهودية يُعبِّرون في فلسفتهم عن الرؤية الحلولية الكمونية الواحدية وأنهم يتأرجحون بين التمركز حول الذات والتمركز حول الموضوع.
ومن الظواهر التي تستحق الدراسة عدم ظهور فلاسفة من أعضاء الجماعات اليهودية يُعتَد بهم عبر تاريخ العالم الغربي والإسلامي، وأن أول فيلسوف يُعتَد به هو إسبينوزا في القرن السابع عشر (هذا على عكس علم الاجتماع وعلم النفس وعلم الأنثروبولوجيا وعلم اللغة، حيث يُلاحَظ وجود عدد كبير من العلماء من أعضاء الجماعات اليهودية ساهموا في تأسيس هذه العلوم وتطويرها). ولتفسير ذلك يمكن الإشارة إلى أن الفلسفة كانت دائماً مرتبطة بالدين وبرؤية المجتمع للكون، وهو ما كان يعني استبعاد أعضاء الجماعات اليهودية باعتبارهم أعضاء في جماعة وظيفية تعيش في داخل المجتمع ولكنها ليست منه. ومع ظهور الرؤية العلمانية المادية للكون وترسُّخها، وتصاعُد معدلات العلمنة في المجتمع، أصبح بإمكان أعضاء الجماعة الوظيفية (وهم عادةً من حملة الرؤية الحلولية العلمانية) أن يساهموا بدور أكثر فعالية ومباشرة في عملية الإبداع الفلسفي (وفي العلوم الأخرى التي ظهرت بعد الثورة الصناعية والثورة الفرنسية، أي بعد أن أصبحت رؤية الإنسان الغربي للكون حلولية علمانية). 
وقد لاحظنا أن الفيلسوف أو المفكر من أعضاء الجماعة اليهودية يحقق ذيوعاً إن تحرك على أرضية حلولية كمونية (روحية على طريقة فيلون أو مادية على طريقة إسـبينوزا) تجعـل التمييز بين عقيدة وأخرى أمراً عسيراً. ومع هذا يُلاحَظ أنه بعد إسبينوزا لم يظهر فيلسوف واحد بارز من أعضاء الجماعات اليهودية، وعلينا الانتظار حتى أوائل القرن العشرين لنقابل بعض الفلاسفة البارزين من بين أعضاء الجماعات اليهودية (برجسون وهوسرل). وقد ترك ماركس أثراً عميقاً في الفكر الفلسفي الغربي ولكنه لم يكن فيلسوفاً بالمعنى المتخصص للكلمة. ولتفسير هذه الظاهرة يمكن القول بأن إسبينوزا ظهر في لحظة انقطاع في الحضارة الغربية (نهاية الرؤية المسيحية وبداية الرؤية العقلانية المادية) وأن برجسون وهوسرل ظهرا هما الآخران في لحظة انقطاع في الحضارة الغربية (عالم ما بعد نيتشه وبداية اللاعقلانية المادية). 
ويُلاحَظ تزايد اشتراك أعضاء الجماعات اليهودية في صياغة الفكر الفلسفي النقدي في الغرب (ماركس وفرويد) خصوصاً في فلسفة اللغة، وهو تيار يصل إلى قمته في فكر تشومسكي (الثورة التوليدية) وفكر دريدا (الفلسفة التفكيكية التي تضم عدداً كبيراً من المفكرين من أعضاء الجماعات اليهودية). وقد تلاحَظ بعض السمات الأساسية في أنساقهم الفلسفية التي لا يمكن تفسيرها إلا بالعودة لميراثهم اليهودي (مارانية إسبينوزا ومشيحانية ماركس العلمانية وحلولية دريدا... إلخ). ولكن نسقهم الفكري يظل في شكله ومضمونه جزءاً من الفلسفة الغربية ينبع منها ويصب فيها. ولذا، سيُلاحَظ أن تتابع فلسفات هؤلاء الفلاسفة وتغيُّرها ينبع من تاريخ الفلسفة في الغرب. 
وفي هذه الموسوعة فرقنا بين المفكرين والفلاسفة، فالمفكرون هم من يتعاملوا مع القضايا الفكرية والفلسفية من خلال مقولات فكرية عامة ليست بالضرورة المقولات الفلسفية المتعارف عليها، كما أن آليات التحليل والخطاب المستخدم مختلفة عن تلك التي يستخدمها الفلاسفة. ومع هذا، بإمكان القارئ أن يعود للباب المعنون «المفكرون اليهود» للتعرف على فكر بعض المفكرين الفلاسفة مثل حنه أرنت وإرنست بلوخ وإيزياه برلين، وغيرهم.
فيلون (بين 10 و15 ق.م - 30 م) والأفلاطونية المُحدَثة 
Philo and Neo-Platonism 
فيلسوف سكندري هاجر أبوه إلى فلسطين من مصر ضمن الألوف الأخرى من اليهود التي هاجرت (قبل سقوط الهيكل) حتى فاق عدد يهود الإسكندرية يهود القدس. وكان أبوه يلعب دوراً بارزاً في فلسطين، أي أنه كان من أعضاء النخبة اليهودية، التي كانت متأغرقة إلى حدٍّ كبير. وكان أخو فيلون (ليسيماخوس) من كبار المصرفيين ومسئولاً عن الجمارك في الإسكندرية. وكان أثرى رجل في الإسكندرية، بل يُقال إنه كان من أثرى الناس في العالم آنذاك، إذ يقول يوسيفوس المؤرخ إنه أعطى قرضاً ضخماً « للملك » أجريبا الأول، كما أرسل كميات من الذهب والفضة لتزيين بوابات الهيكل اليهودي التسعة في القدس. وكان صديقاً للإمبراطور الروماني كلوديوس تايبيرو. وفيلون هو عم تايبريوس ألكسندر الذي ارتد عن اليهودية وكان حاكماً رومانياً وجنرالاً في الجيش الروماني أثناء حصار القدس عام 70م والذي انتهى حينما أمر تيتوس بهدم الهيكل. 
وُلد فيلون في الإسكندرية التي كانت قد تأغرقت جماعتها اليهودية وتحولت إلى جماعة وظيفية (كما تدل على ذلك وظيفة أخى فيلون). وقد بلغ بهم التأغرق حد أنهم نسوا العبرية، فكانوا يؤمنون بأن الترجمة اليونانية للعهد القديم المعروفة باسم «الترجمة السبعينية» مُرسَلة من الإله. 
وظهر في الإسكندرية عدد من الكتاب اليهود (ممن كتبوا باليونانية) تُظهر أعمالهم مدى تمثُّلهم قيم الحضارة الهيلينية. وظهر بين هؤلاء أدب يحاول المزاوجة بين الحضارتين اليونانية والعبرانية ولكنها كانت في واقع الأمر محـاولة لإعادة صـياغة اليهـودية على أسـس يونانية هيلينية. كما حاول هؤلاء الكُتَّاب أن يبينوا أن اليهود ليسوا أقل مكانة أو تحضراً من الشعوب الأخرى، خصوصاً اليونانيين. 
وكان يهود الإسكندرية يرسلون أبناءهم للجمنيزيوم اليوناني (وهو يعادل المدرسة الثانوية) عندما يبلغون العاشرة من عمرهم تقريبــاً. والجمنيزيوم كان مدرسـة كاملة للجسـد والـروح، مرتبـطة تمام الارتباط بالعقيدة الوثنية اليونانية. ولا شك في أن اليهود الذين درسوا في مثل هذه المعاهد فقدوا ما تبقى لهم من هوية «عبرانية ». وقد أجهـزت المؤسسـات الثقـافية الشعـبية الأخـرى (مثل المسرح والسيرك) على ما تبقى من ترسبات عبرانية في وعيهم وذاكرتهم. ثم كان هناك أخيراً الحراك الاجتماعي، فاليهودي الذي كان يود أن يخدم المدينة، كان عليه أن يصبح وثنياً إذ أن طقوس المدينة السـياسية كانت مرتبــطة تمـام الارتبـاط بالشعائر الدينية الوثنية (وهذا ما فعله تايبريوس ألكسندر، ابن أخي فيلون، وهو بذلك ينتمي إلى نمط أبناء الجيل الثالث من المهاجرين الذين ينسون كل شيء عن وطنهم الأصلي (إلا بضعة قصص أو كلمات) وينتمون تماماً إلى وطنهم الجديد،على عكس أبناء الجيل الثاني ممن يحتفظون ببعض القشور الحضارية من الوطن الأصلي من خلال احتكاكهم بآبائهم). 
ولم يكـن فيلـون اسـتثناء من هذه القاعدة، إذ تلقى تعليماًً هيلينياً كاملاً. فهو يذكر في كتاباته عدداً ضخماً من الكُتَّاب اليونانيين وكان يعرف جيداً أسرار الخطابة اليونانية، وتلقى تعليمه في الجمنيزيوم (ويشير إليه في عبارات إيجابية). وحينما تحدث فيلون عن العلوم التي أتقنها موسى، فإنه يذكر أنها الرياضيات والهندسة والفلك والموسيقى والفلسفة والنحو والخطابة والمنطق، وهي العلوم التي كانت تُدرَّس في الجمنيزيوم، والأغلب أنها العلوم التي درسها فيلون نفسه. ومن المعروف عن فيلون أنه كان مغرماً بالمسرح والموسيقى وبمباريات الملاكمة وحضر كثيراً من سباق العربات. كما أنه يذكر في كتاباته أنه كثيراً ما كان يحضر مآدب العشاء التي كانت تتبعها أنواع من التسلية التي سادت في الإمبراطورية الرومانية، أي أنه (على المستوى الثقافي العام) كان متأغرقاً تماماً. 
وفي مقابل هذا، لا يذكر فيلون شيئاً عن تعليمه اليهودي رغم أنه كان يعتبر نفسه يهودياً ممارساً للعقيدة اليهودية. والإشارة الوحيدة للتعليم اليهودي في أعماله تبيِّن مدى ضعف صلته، فهو لا يذكر سوى مـدارس السـبت اليهـودية التي كانت تُعقَد لسـماع محاضرات عن الأخلاق. ولم يكن فيلون يعرف العبرية ولا الشريعة الشفوية،كما كان يستخدم الترجمة السبعينية اليونانية. ويبدو أنه،في مرحلة من حياته،انضم إلى جماعة المعالجين (ثيرابيوتاي) وهي جماعة يهودية ذات طابع غنوصي كانت توجد بجوار الإسكندرية،كما أنه عبَّر عن إعجابه بجماعة الأسينيين (أي أنه كان معجباً بجماعات دينية يهودية هامشية). 
ومما يُعرَف عن فيلون أنه زار فلسطين ذات مرة، كما أنه كان ضمن الوفد اليهودي الذي ذهب إلى روما ليعرض شكوى يهود الإسكندرية على الإمبراطور كاليجولا بعد ثورة سكان الإسكندرية اليونانيين على أعضاء الجماعة اليهودية فيها. وكان أبيون قد اتهم اليهود بأنهم لا يدينون بالولاء للمدينة أو للإمبراطورية، فأعد فيلون دفاعاً ليلقيه بين يدي الإمبراطور. ولكنه ما أن بدأ في إلقائه حتى قاطعه كاليجولا وصرف الوفد اليهودي. 
وأهم مصادر فكر فيلون الفلسفة الأفلاطونية، كما أنه تأثر بأرسطو والفيثاغورثيين الجدد والكلبيين والرواقيين. وقد حاول أن يمزج بين روح الفلسفة اليونانية (خصوصاً فلسفة أفلاطون) وعقائد الدين اليهودي (خصوصاً فكرة الوحي الإلهي والعهد القديم)، فكان يرى أن الفلسفة اليونانية وحي عميق، ومصدراً لبيان الحقائق بينما الكتاب المقدَّس وحي واضح جلي لبيان ما في هذا الكون من حق. بل إنه كان يرى، شأنه شأن كثير من الكُتَّاب اليهود المتأغرقين. أن الفلسفة اليونانية مأخوذة من التقاليد العبرية، وأن أفلاطون وأرسطو أخذا تعاليمهما من موسى ومن التوراة. ورغم كل هذا، لا يمكن تصنيف فلسفة فيلون إلا على أنها فلسفة يونانية تنتمي أساساً إلى التقاليد الأفلاطونية بعد اختلاطها بالعبادات السرية. 
والوجود الإلهي في نظر فيلون هو الكمال المطلق، والوجود الحق، والموجود حقاً، والصلة الأولى، وأبو العالم ونفسه وروحه الذي لا يمكن أن نعرفه بإدراك عقلي ولا يستطيع الفكر إدراك كنهه، أو هو (بمعنى أدق) لا يدخل في نطاق العقل الإنساني (وبهذا فهو يشبه الإله الخفي في الفكر القبَّالي والفكر الغنوصي). والإله لا يسـتطيع أن يحكم هذا العالم مباشـرةً، فاستعان فيلون بالمفهوم الأفلاطوني الخاص بالأشكال أو النماذج المثالية أو الأفكار المطلقة والتي يسميها فيلون «القوى التي تحدد أشكال العالم المرئي». هذه الأشكال هي أفكار الإله قبل خلق العالم، ولذا، فهي أدواته التي يفرض من خلالها النظام على العالم. ويُفسِّر فيلون رغبة موسى في أن يرى جلال الإله رؤية العين، فيقول: إنها رغبة في رؤية القوى الإلهية، لكن الإله يخبره أن أحداً لا يمكنه أن يدرك هذه القوى، بل يمكن فقط رؤية أثرها في العالم تماماً كما يرى الإنسان أثر الختم في الشمع دون أن يرى الختم نفسه. فهذه القوى هي مصدر كل من البنية الكامنة والنظام الواضح في العالم، وهي بمنزلة الوسيط بين الملك والكون.
وأهم الوسطاء (والفكرة العليا التي توحِّد القوى كافة) اللوجوس (الكلمة) التي تُعبِّر عن الإله ولكنها منفصلة عنه. فمن خلالها خلق الإله العالم، وبواسطتها يتجلى في الوجود كما تتجلى آثار الشمس في أضوائها. وبهذه الوسيلة، فإنه موجود دائماً، حاضر في كل شيء، فعّال في الأشياء التي تفيض منه دون أن ينفعل على الإطلاق. إن اللوجوس هو الوكيل الذي تتجلى من خلاله عظمة الإله في العالم المادي. وقد سماه فيلون «أول أبناء الإله» و«صورة الإله». وقد يكون اللوجـوس هو ما يتجسـد في التوراة التي أرسـلها الإله للبشـر. 
واللوجوس لا يحل فقط في الكون والتوراة وإنما يحل في الإنسان نفسه أيضاً. فأرواح البشر أصلها الإله، ولذا فإن الإنسان يمكنه أن يصل إلى فهم طبيعة الإله لا من خلال الإدراك الروحي وإنما من خلال التأمل الصوفي وروح النبوة. وحتى يتم ملء كل الثغرات تماماً (وهذا متوقع في رؤية حلولية كمونية فيضية للإله). يقول فيلون: بعد اللوجوس، يأتي نموذج العالم ويليه الحكمة ثم رجل الإله أو آدم الأول ثم الملائكة ثم الإله نفسه، وأخيراً القوى وهي كثيرة: ملائكة وجن ناريون وهوائيون يُنفِّذون الأمر الإلهي. والتماثل البنيوي بين هذه الأفكار والقبَّالاه واضح للغاية. وعلى كلٍّ، ورغم مهاجمة فيلون للغنوصية، فثمة أثر واضح للغنوصية في فكره يتضح بشكل خاص في رؤيته للجسد باعتباره سجن الروح التي تهرب من الجسد وتعود للإله وتلتحم به. 
وثمة رأي يذهب إلى أن النزعة الحلولية القوية في فكر فيلون هي في واقع الأمر محاولة من جانبه لأن يجعل اليهودية قادرة على التنافس مع عبادات الأسرار (الحلولية) ذات الطابع التبشيري القوي والتي جذبت كثيراً من أعضاء الجماعات اليهودية. وهذا تفسير براني تراكمي، فالفلسفات والعبادات التي انتشرت في العالم الوثني الروماني بعد أفلاطون وأرسطو (الرواقية ـ الأبيقورية ـ الفيثاغورثية الجديدة ـ الأفلاطونية الحديثة ـ الغنوصية ـ الأورفية... إلخ). كانت فلسفات وعقائد حلولية. وفيلون السكندري جزء من هذا التيار الحضاري العام بغض النظر عن البُعد اليهودي في تفكيره ووجدانه. 
وتأخذ الحلولية عند فيلون طابعاً كوزموبوليتانياً كونياً (كما هو الحال في الرواقية والأبيقورية والأفلاطونية الحديثة). ولذا، فإن الإله ليس رب اليهود وإنما هو رب الكون. ويتوقف الحديث عن الشعب المقدَّس، ولا يوجد أثر للنزعة المشيحانية المرتبطة بالحلولية اليهودية. وقد أوَّل فيلون قضية جمع شمل اليهود في بلد واحد بعد توبتهم (أي الشتات والعودة) بأنه يعني اجتماع الفضائل في النفس وتناسقها بعد ما تُحدثه الرذيلة من تشتُّت. أما الوعد بخيرات مادية للشعب، فهو وعد بالخيرات الروحية للنفس الصالحة وسيادة الشريعة على العالم. ويفسر فيلون كلمة «يسرائيل» بأنها « الرجل أو الشعب الذي يرى الإله ». وهذا أمر ليس مقصوراً على اليهود وحسب، وكل ما في الأمر أن اليهود يقومون على خدمته. واليهودية، من ثم، ليست انتماء عرْقياً وإنما عقيدة دينية. وعلى ذلك، فقد كان فيلون من دعاة التبشير باليهودية وبأنه يتعيَّن على اليهودي أن يكون مواطناً في البلد الذي يقيم فيه. 
ويتجاوز فيلون أحياناً المنظومة الحلولية، فيُظهر الإله منزهاً عن الكون، غير خاضع لقوانين الطبيعة، قادراً على أن يوقفها. كما أن التشبيهات الغليظة والصور التجسيمية التي ترد في العهد القديم (وهي تعبير عن الحلولية اليهودية) يتم تأويلها وتخليصها من ماديتها. كما لجأ إلى التفسير الرمزي لمعاني العهد القديم حتى يخلِّص كثيراً من النصوص من معانيها الحلولية الوثنية إن فُسِّرت حرفياً. وفي المجال الأخلاقي، يتميَّز فيلون عن الحلولية الوثنية بأنه يؤمن بحرية الإرادة. وحينما تحدث عن الفضائل فقد تحدث عن فضيلة العدالة وأدرج الإيمان الديني والإنسانية ضمن الفضائل، كما أنه يرى أن الندم على الخطايا فضيلة (بينما هو ضعف من وجهة نظر الفلاسفة الوثنيين). 
وكتابات فيلون إسقاط لكثير من القيم الهيلينية على التراث الديني اليهودي وليست مزجاً بينهما. ومن ثم، فإنه لم يترك أثراً واضحاً في التطور اللاحق للفكر الديني اليهودي، في حين استفاد منه الآباء المسيحيون (أمبروزو و أوريجين) استفادة بالغة بحيث يمكن أن نقول إن فلسفة فيلون هي مسيحية جنينية. وقد تركت طريقته في التأويل الرمزي أعمق الأثر في التراث المسيحي ومن أهم إضافاته أيضاً رموز الأنبياء. وقد صنفته الموسوعة البريطانية كرائد من رواد اللاهوت (بالإنجليزية: فورانر forerunner) المسيحي ومؤسس الفلسفة الوسيطة المسيحية.
موسى بن ميمون (1135-1204) والفلسفة الإسلامية 
Maimonides and Islamic Philosophy 
موسى بن عبد الله بن ميمون القرطبي. مفكر عربي إسلاميُّ الحضارة والفكر يؤمن باليهودية وعضو في الجماعة اليهودية في إسبانيا الإسلامية. وُلد في قرطبة لأسرة من القضاة والعلماء اليهود. وعُرف أيضاً باسم «رمبم» وهي الحروف الأولى من اسمه ولقبه حيث تجيء الراء اختصاراً لكلمة «رابي» أى «حاخام». وكان من الأقوال المأثورة بين اليهود قولهم « لم يظهر رجل كموسى من أيام موسى إلا موسى » وذلك لأنه كان بارعاً في آداب الدين والعهد القديم والطب والعلوم الرياضية والفلسفة. تلقى تعليماً عربياً ودينياً يهودياً، ومن بين شيوخه تلميذ من تلاميذ ابن باجه. 
وحين استولى الموحِّدون على قرطبة عام 1148، اتخذوا سياسة متشددة تجاه الأقليات الدينية بسبب تصاعد المواجهة مع الدولة المسيحية في شمال شبه جزيرة أيبريا. وقد خُيِّر اليهود والمسيحيون بين أن يسلموا أو يرحلوا خلال مدة محددة. وبقي موسى بن ميمون وأظهر الإسلام حتى أتته الفرصة فسافر إلى فلسطين ومكث فيها بعض الوقت ومنها ذهب إلى الإسكندرية ثم إلى الفسطاط فعاش بين أعضاء الجماعة اليهودية وأظهر اليهودية وتزوج بنت كاتب يهودي وشمله القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني برعايته وقدر له راتباً كطبيب. وفي آخر عمره دخل مصر فقيه أندلسي فشنع عليه وهاجمه لأنه كان بالأندلس يُظهر الإسلام فدافع عنه القاضي عبد الرحيم بأنه أسلم مكرهاً فلا يصح إسلامه شرعاً. وقد عمل ابن ميمون في بداية الأمر تاجر جواهر ثم طبيباً للوزير القاضي الفاضل. وحينما تولى ابن صلاح الدين (الأفضل) الملك، أصبح موسى بن ميمون طبيبه الخاص. وقد ألَّف ابن ميمون معظم كتبه أثناء إقامته في القاهرة (ومن بينها عدة كتب في الطب). ومات فيها عام 1204م. 
من أهم كتبه كتاب السراج وهو تفسير دقيق للمشناه. ومن كتبه الأخرى كتاب مشنيه توراه أي «تثنية التوراة» وهو الكتاب الوحيد الذي كتبه بالعبرية حتى يستطيع كل قضاة اليهود قرّاءته والاستفادة بما جاء فيه ولا يضطروا إلى العودة للتلمود. والكتاب عمل تصنيفي متأثر بالتصنيفات الإسلامية المماثلة، رتب فيه في نظام منطقي وبإيجاز واضح ما حواه العهد القديم من قوانين بالإضافة إلى جميع قوانين المشناه والجماراه. 
وإذا كانت طريقة التلمود هي عرض الموضوع وإفساح المجال للمناقشة بين أصحاب المذاهب والآراء المختلفة بدون ترجيح في أغلب المشكلات، فإن ابن ميمون اعتمد على رجاحة عقله وعلى التقاليد الموروثة في الحكم بشكل مجرد. وهو لا يجمع روايات ولا يدخل في غمرة مناقشات، بل يُفصِّل تفصيلاً ويحكم حكماً صريحاً مبيناً. ومن هنا، نراه لا يشير إلى مصادر أو إلى أسانيد أو إلى أصحاب المذاهب من أحبار التلمود إذ ليست المذاهب جوهر الموضوع الذي يبحثه. وقد ُسمِّي هذا الكتاب اليد القوية (يد حازاقاه)، وكلمـة «يـد» تعـادل الرقـم 14 وهـو عدد فصول الكتاب. 
أما أهم كتب ابن ميمون على الإطلاق فهو كتاب دلالة الحائرين الذي كتبه بالعربية ثم تُرجم إلى العبرية، وهو مقسَّم إلى ثلاثة فصول. ويحاول ابن ميمون في هذا الكتاب أن يُوفِّق بين العقل والدين، لأن العقل غرسه الخالق في الإنسان. وحينما يبحث ابن ميمون في الذات الإلهية، فإنه يستنتج مما في الكون من شواهد التنظيم المُحكَم أن عقلاً سامياً يسيطر على هذا الكون. فالخالق حسب رأيه عاقل ولا جسم له، وكل العبارات التي تشير إلى شيء من أعضاء الجسم في وصف الخالق يجب أن تُفسَّر تفسيراً مجازياً. 
وصفاته لا تنفصل عن ماهيته وهو المحرِّك الأول والصلة الأولى الواجبة. وهو خالق العالم من العدم، ولذا فهو يدحض فكرة أرسطو الخاصة بأزلية الكون. والعالم كلٌ تترابط أجزاؤه على أساس قوانين معينة تتوقف في كليتها على فعل الخلق (أي عملية الخلق) ذاته، وهو فعل لا نظير له في التاريخ، وهذا الرأي يقترب من رأي الأشاعرة رغم هجوم ابن ميمون عليهم. ويصر ابن ميمون على فكرة فعل الخلق هذه إذ بدونها يصبح العالم عبارة عن مادة محضة تتحرك بقانون السببية المادي. وهو يضيف أنه لو كان هذا هو الوضع حقاً لفهمنا كل شيء في الطبيعة بقوانين المنطق. ولكن هناك في الطبيعة من الظواهر ما لا يمكننا فهمه. 
تعرَّض موسى بن ميمون للمعجزات فآمن بإمكانية حدوثها، ولكنه حاول أن يُبقي هذه الإمكانية في أدنى حد ممكن. وفسَّر بعض ما ورد من المعجزات في العهد القديم تفسيراً علمياً وأوَّل كثيراً من الأفكار الدينية اليهودية تأويلاً يجعلها تتفق مع العقل. ويتعرض الكتاب أيضاً لطبيعة النبوَّة حيث عرَّفها بأنها ظاهرة تكاد تكون طبيعية يستطيع المرء أن يصل إليها من خلال المران اللازم حتى يرتفع إلى الكمال الخلقي والعقـلي. ولكن، مع هـذا، ليس بإمكان النبي أن يصبح نبياً إلا بإرادة الخالق. وأبو الأنبياء هو موسى، فكل الأنبياء يأتيهم الوحي منقطعاً، أما موسى فقد أتى بشريعة وأطلق نبوءته بشكل مستمر. وشريعة موسى من أهم المعجزات في التاريخ، ومع هذا كان على الشريعة أن تتنازل للعقل الشعبي، ومن هنا تأتي بعض الشعائر مثل تقديم الضحايا والقرّابين التي تُعَدُّ تنازلاً لهذا العقل الذي ينجذب دائماً نحو الوثنية (ولذا لا يمكنه تخيُّل عبادة بدون تضحية). 
والشر، حسب رأي ابن ميمون، ليس له وجود ذاتي موجَب وإنما هو انتفاء الخير. وكثير مما يبدو لنا أنه شر في ذاته إنما هو نتيجة خطأ الإنسان. كما أن الإنسان لا يمكنه أن يعرف الغرض الإلهي النهائي. وقد خلق الإله العالم بإرادته وحكمته. وعناية الإله لا تتوقف عند النوع والعام وإنما تصل إلى الأفراد، وهي تتناسب مع جهد الفرد في أن ينشِّط عقله ويسمو به. 
ثم يتحدث ابن ميمون عن دين الكمال الإنساني، دين قوامه التأمل الفلسفي في الخالق. ويضرب مثلاً ليوضح فكرته فيشبِّه مستويات العقل الإنساني بمجموعات من الناس يقفون حول قصر الملك بعضهم خارج حوائط المدينة، وهؤلاء هم الذين لا يؤمنون بعقيدة ما. وبعضهم داخلها، وهؤلاء يؤمنون بعقيدة ولكنهم وقعوا في خطأ ما أثناء تأملهم أو أنهم اتبعوا رأي حجة وقع هو نفسه في الخطأ. ويحاول بعضهم دخول قصر الملك ولكنهم لا يستطيعون لأنهم لا يعرفون الطريق (وهؤلاء هم الذين يعرفون الشريعة بسذاجة). وهناك من يسيرون حول القصر (وهم علماء اليهود الذين يؤمنون بالآراء الدينية الصائبة ولكنهم لا يتأملون فلسفياً). 
أما في داخل القصر، فهناك هؤلاء الذين انغمسوا في تأمل مبادئ الدين، ولهؤلاء كتب ابن ميمون كتابه. والتأمل الفلسفي في الخالق يعادل حب الإله. ولكن هل يعني هذا الرغبة الصوفية في الاتحاد به؟ يقتبس ابن ميمون من سفر إرميا (9/23 ـ 24): "لا يفتخرنَّ الحكيم بحكمته ولا يفتخر الجبار بجبروته ولا يفتخر الغني بغناه. بل بهذا ليفتخرنَّ المفتخر: بأنه يفهم ويعرفني أني أنا الرب الصانع رحمة وقضاء وعدلاً في الأرض لأني بهذه أُسر". 
ويُفسِّر ابن ميمون هذه الكلمات بأن الخالق يُسرُّ بمقدرة الإنسان على أن يسمو على كل ما هو متغير مثل القوة الجسدية والكمال الجسدي. ويذهب ابن ميمون إلى أن السلوك الأخلاقي ذاته لا يحقق هذا إذ أنه خاضع للتغير باعتبار أنه يتوقف على وجود الآخرين. وعلى الفرد أن يطمح إلى أن يُشبه اكتفاء الخالق بذاته. ولا توجد صفة واحدة يستطيع الإنسان أن يحقق من خلالها هذا الاكتفاء إلا معرفة الخالق داخل الحدود المتاحة للإنسان (أي صفاته) وهي معرفة تدفع الإنسان إلى أن يحاول محاكاة الخالق.
وضع ابن ميمون ما يُعرَف بالأصول الثلاثة عشر (بالعبرية: شلوشاه عسار عيقاريم) لليهودية، وهي أهم محاولة لتحديد عقائد الدين اليهودي، التي وردت في مقدمة ابن ميمون لكتاب السنهدرين في كتاب السراج، وهي في جوهرها لا تختلف عن المعتقدات الإسلامية كثيراً.
فهي تنفي أية حلولية عن الإله: 
1 ـ الإله هو خالق ومدبِّر هذا الكون. 
2 ـ واحد منذ الأزل وإلى الأبد. 
3 ـ لا جسد له ولا تحدُّه حدود الجسد. 
4 ـ هو الأول والآخر. 
5 ـ على اليهودي ألا يعبد إلا إيّاه. 
6 ـ كلام الأنبياء حق. 
7 ـ موسى أبو الأنبياء؛ من جاء قبله ومن جاء بعده. 
8 ـ التوراة التي بين يدي اليهود هي التي أُعطيت لموسى. 
9 ـ التوراة غير قابلة للتغيير ولن تنسخها شريعة أخرى. 
10 ـ الخالق عالم بكل أعمال البشر وأفكارهم. 
11ـ إنه يجزي الحافظين لوصاياه ويعاقب المخالفين لهـا. 
12 ـ سيجيء الماشيَّح، وعلى اليهودي انتظاره. 
13 ـ على اليهودي أن يؤمن بقيامة الموتى. 
ويوجد نوعان من الاختلاف بين هذه الأصول وبين العقائد الإسلامية؛ اختلاف سطحي ينصرف إلى الألفاظ لا إلى البنية حين يحل موسـى بن ميمـون كلمـة «توراة» محل «القرآن» وكلمة «موسى» محل «محمد»، واختلاف أساسي بنيوي يتعلق بالعقيدة الخاصة بعودة الماشيَّح. ولكننا، حتى في هذا المجال، نجد أن موسى بن ميمون يحاول أن يضفي عليها صيغة عقلية إذ يذهب إلى أن عصر الخلاص بعودة الماشيَّح سيأتي في مسار التاريخ وسيكون حدثاً يتم في هدوء بعيداً عن أية كوارث وعلامات للظهور، وسيأخذ شكل عصر جديد لا يختلف عن عصرنا هذا وإن كان سيأخذ شكلاً أعلى من أشكال التنظيم الاجتماعي والسياسي. ورغم تأثر موسى بن ميمون بالفكر الإسلامي العقلاني في كتابات الفارابي وابن سينا وربما ابن رشد، فإنه يؤمن بأن الشريعة الشفوية (التلمود) مرسلة من الإله ويشير إلى الشعب المقدَّس والشعب المختار. 
وقد ذهب موسى بن ميمون إلى أن العقيدة اليهودية وفكرة الخالق لا يمكن فهمهما واستيعابهما إلا من خلال الفلسفة الأرسطية، وإلى أن أيَّ تفسيرات أخرى هي شكل من أشكال الوثنية، ولذا يجب أن نلقن الناس (حتى العوام) التعريف الدقيق للخالق. 
ويبدو أن بعض أقواله تحتمل تأويلات يُفهَم منها أنها إلحادية أو تبث الشك في قلوب المؤمنين، مثل قوله إن جوهر الإله غامض على الإنسان ولا يمكنه فهمه. وهناك ما يوحي بأنه لا يؤمن بالبعث، خصوصاً أن فكرة الآخرة ظلت باهتة في اليهودية. كما أنه كان يؤمن بأن النبوَّة أمر يحققه الإنسان من خلال الجهد العقلي. ومن ثم ذهب بعض علماء اليهود إلى أن الأرسطية الميمونية تشوِّه معنى الكتاب المقدَّس وأن ابن ميمون يظهر احتراماً لأرسطو أكثر من احترامه لنصوص الكتاب المقدَّس أو التراث الحاخامي. 
ولذا، حدثت مواجهة بين أنصار ابن ميمون وأعدائه. ففي عام 1230 حاول معارضوه أن يمنعوا دراسة دلالة الحائرين والأجزاء الفلسفية في كتاب مشنيه توراه. وكان نحمانيدس ضمن مهاجميه، بل واستعدى بعض اليهود في بروفانس (فرنسا) محاكم التفتيش على كتابات ابن ميمون فأُحرقت عام 1232. واندلع السجال مرة أخرى عام 1300 ومُنعت دراسة كتابات ابن ميمون قبل سن الخامسة والعشرين. وانتهى السجال حين طُرد اليهود من فرنسا عام 1306. 
ويبدو أن أعمال موسى بن ميمون لم تكن لها أهمية تذكر في العالم الإسلامي بين المثقفين المسلمين، فلم يسمع أحد بأعماله في الحوار الفلسفي في عصره، إذ أن ابن رشد أهم فلاسفة وعلماء عصره لم يسمع عنه ولم يقرأ أياً من كتبه. ولا ندري إن كان هذا يرجع إلى أن فكر ابن ميمون لا يتسم بالأصالة أم إلى أن الثقافة العربية اليهودية في الأندلس كانت ثقافة تابعة للحضارة الأم إلى درجة كبيرة، أم أن ذلك يرجع إلى أن مؤلفاته كُتبت بحروف عبرية فظلت مجهولة لجمهرة القرّاء والمثقفين؟ 
وقد بعثت حركة التنوير اليهودية كتاباته لإدخال شيء من العقلانية على الدين اليهودي بعد أن خنقته الدراسات التلمودية والاهتمامات الحسيدية والقبَّالية. ومن بين المتأثرين بفكره، إسبينوزا وموسى مندلسون (أبو حركة التنوير اليهودية) وهرمان كوهين. بل إن كتابات ابن ميمون تُعَدُّ النقطة الأساسية التي اجتمع عليها دعاة التنوير، وهي إطار مرجعي أساسي لليهودية الإصلاحية.
يتبع إن شاء الله...


الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية   الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية Emptyالأربعاء 11 ديسمبر 2013, 8:57 pm

باروخ إسبينوزا (1632-1677) والعقلانية المادية 
Baruch Spinoza and Materialist Rationalism 
فيلسـوف عقلاني مادي. من أهم فلاسـفة الحضارة الغربية الحديثة، بل هو في تصوُّرنا (مع نيتشه ومن بعده دريدا) فيلسوف العلمانية الأكبر. عاش في هولندا، ولكنه من أصل ماراني. أفصح أبوه وجده عن انتمائهما اليهودي بعد وصولهما إلى أمستردام حيث أصبحا من قادة الجماعة اليهودية ومن كبار التجار فيها، وكانا يعملان بالاستيراد أساساً. وبإمكان القارئ أن يعود إلى مدخل «هولندا» لمعرفة الخلفية الاقتصادية والثقافية العامة ليهود أمستردام في القرن السابع عشر. 
ومن المعروف أن أزمة اليهودية الحاخامية كانت قد بدأت في القرن السابع عشر، وهي الأزمة التي قوضت دعائمها بحيث أصبحت في نهاية الأمر عقيدة أقلية صغيرة من يهود العالم، إذ تبنَّى بقية أعضاء الجماعات اليهودية أشكالاً مختلفة من اليهودية (مثل اليهودية التجديدية) ليس لها علاقة كبيرة باليهودية الحاخامية. 
ومن أهم مظاهر هذه الأزمة سيطرة القبَّالاه، خصوصاً اللوريانية، على معظم يهود أوربا ابتداءً من منتصف القرن السادس عشر، وهي صيغة حلولية كمونية واحدية (وحدة وجود روحية لم يبق فيها من الإله سوى الاسم) استوعبها إسبينوزا وغيره من أعضاء الجماعات اليهودية، وأثرت في رؤيتهم للعالم بشكل عميق. تلقى إسبينوزا تعليماً تقليدياً فدرس التلمود، ولكن التفسيرات القبَّالية كانت قد تغلغلت حتى في المدارس التلمودية العليا (يشيفا)، وأصبحت تفاسير التلمود ذات طابع قبَّالي لورياني، وقرأ كتابات ابن ميمون وتعرف من خلالها إلى فكر ابن رشد، كما درس اللاتينية. وإلى جانب ذلك، كان إسبينوزا يجيد الإسبانية والبرتغالية والعبرية وكان ملماً بالفرنسية والإيطالية، الأمر الذي فتح له كثيراً من الآفاق فدرس فكر عصر النهضة الأوربية، وقرأ أعمال ديكارت وهوبز اللذين تركا أعمق الأثر فيه، واستوعب فكر جوردانو برونو وهو فكر ذو طابع حلولي كموني واضح. وتعلَّم إسبينوزا اللاتينية على يد فان دن اندج، كما تلقى على يديه أيضاً مبدأ وحدة الوجود. 
ويبدو أن إسبينوزا كان يُعد نفسه ليكون حاخاماً. وكان يعمل في تجارة أبيه وكذلك كانت تربطه علاقة طيبة بكثير من المسيحيين الهولنديين الذين بدأت ترتفع بينهم معدلات العلمنة. وكانت هولندا آنذاك مسرحاً للاضطرابات بين أنصار بيت أورانج والنبلاء (والجماهير) من جهة، والطبقة الوسطى الثرية التي كانت لها اتجاهات جمهورية من جهة أخرى. وقد أعلن إسبينوزا تمرده على العقيدة اليهودية (وكل العقائد في واقع الأمر)، وحاول الحاخامات رشوته في بادئ الأمر حتى يخفي رأيه، ولكنه أصر عليه وعلى إعلانه، فاتُهم بالإلحاد وطُرد من حظيرة الدين، فقبل هذا القرّار بهدوء ولكنه لم يتبن عقيدة دينية جديدة بديلة. وانتقل ليعيش بعيداً عن الحي اليهودي، وغيَّر اسمه إلى «بنيديكتوس Benedictus» (المرادف اللاتيني لاسم «باروخ» أي «مبارك»)، وعاش على صقل العدسات البصرية. 
لم ينشر إسبينوزا سوى كتابين في حياته ولم يصدر باسمه سوى واحد منهما فقط وهو مبادئ الفلسفة الديكارتية، أما الكتاب الثاني فهو رسالة في اللاهوت والسياسة. ونُشرت بقية مؤلفاته بعد وفاته ومن بينها الأخلاق و البحث السياسي و إصلاح العقل و الرسائل و رسالة في النحو العبري. وتتسم فلسفة إسبينوزا بشمولها، فهي نظرية في الدين والدنيا، وفي الأخلاق والعاطفة، وفي الإنسان والطبيعة، وفي الفرد والمجتمع. وتدور معظم (إن لم يكن كل) النمـاذج والمنظـومات الفكرية حول عناصر ثلاثـة، الإله والطبيعة والإنسان، والعلاقة بينها. وإذا كان هذا القول ينطبق على معظم النماذج الفكرية.
فهو أكثر انطباقاً على فلسفة إسبينوزا إذ تدور فلسفته حول هذه العناصر الثلاثة بشكل واضح. 
أولاً: رؤية إسبينوزا للإله والطبيعة: 
يُفرِّق إسبينوزا بين الجوهر (ما يوجد وهو علة ذاته)، وبين الصفات (الجوهر كما ينكشف للمعرفة)، والأحوال (ما يطرأ على الجوهر)، وكلها جزء من الجوهر الواحد الأزلي اللامتناهي. هذا الجوهر هو الإله الذي يصفه إسبينوزا بأنه الوجود الضروري اللانهائي الأزلي الشامل. وحينما تُطرَح هذه الأوصاف قد نظن لأول وهلة أننا أمام إله متجاوز للطبيعة والتاريخ، ولكننا حينما ندقق النظر سنكتشف أن صفات الإله هي ذاتها صفات الطبيعة. فالطبيعة لا تأتي من أية علة (أي أنها علة ذاتها) وهي مبدأ خلاق وهي النظام الكلي الشامل للعالم. 
وقد استخدم إسبينوزا للتفرقة بين تصوري الإله والطبيعة تعبيرين لاتينيين «ناتورا ناتورانز natura naturans»، أي «الطبيعة الطابعة»، و«ناتورا ناتوراتا natura naturata»، أي «الطبيعة المطبوعة». والطبيعة الطابعة هي النظام الشامل للأشياء من حيث هو ذو وجود ضروري، ولا يمكن أن يتم تصوُّره بغيره لأن شيئاً لا يخرج عنه، كما أن العلة كامنة فيه باطنة، أي لا يتحكم فيه شيء خارج عنه. أما الطبيعة المطبوعة، فهي الأوجه الجزئية أو المكوِّنات الموجودة في العالم من حيث هي تعبير جزئي عن صفات الجوهر الشاملة. ويمكن القول بأن «الطبيعة الطابعة» هي الإله/الطبيعة في حالة اكتمال، أما الطبيعة/المطبوعة فهي الإله/الطبيعة في حالة صيرورة آخذاً في التحقق في المادة (وهذا يقابل العقل المطلق عند هيجل ثم تحقُّقه من خلال الجدل داخل الطبيعة إلى أن يكتمل في نهاية التاريخ). 
وبهذا، ردَّ إسبينوزا العالم بأسره، في ثباته وحركته، إلى مبدأ واحد، وهذا المبدأ هو القوة الدافعة للمادة والسارية في الأجسام، الكامنة فيها، والتي تتخلل ثناياها وتضبط وجودها، قوة لا تتجزأ ولا يتجاوزها شيء ولا يعلو عليها أحد، وهي النظام الضروري والكلي للأشياء، نظام ليس فوق الطبيعة وحسب ولكنه فوق الإنسان أيضاً. ويُسمي دعاة وحدة الوجود الروحية هذا المبدأ «الإله» ويسميه دعاة وحدة الوجود المادية «الطبيعة»، ويكتشف إسبينوزا التقابل بين شكلي وحدة الوجود ويؤكد هذه الحقيقة الأساسية بالنسبة لمنظومته الفلسفية في عبارته اللاتينية الشهيرة «ديوس سيفي ناتورا Deus sive natura» وهي عبارة تعني «الإله أي الطبيعة». والطبيعة هي النظام الكلي للأشياء، ومن ثم فإن الإله هو النظام الكلي للأشياء. 
وإن أدركنا هذا الترادف الحرفي (وليس التقابل المجازي) بين الإله والطبيعة، فإننا سندرك أن إله إسبينوزا ليس إله الديانات التوحيدية التقليدية، إذ تذهب هذه الديانات إلى أن الإله مفارق للطبيعة والتاريخ متجاوز لهما، ومع هذا فإنه منشغل بمصير البشر، رحيم بهم، يرسل لهم العلامات والرسائل. الإله في نسق إسبينوزا هو مجرد علة أولى أو قانون لا يعلو على المادة بل يحل أو يكمن فيها، فهو النظام الثابت المحدد للطبيعة أو سلسلة الحوادث الطبيعية التي هي الحركة الآلية التي تعبِّر عن القوانين الثابتة. 
وعلاقته بالعالم ليست علاقة خلق فهو لم يخلق العالـم من العـدم بل ولم يصـدر عنه العالم (كما يقول الغنوصيون وغيرهـم)، فالأشياء لا تصدر عنه كما لو كانت تصدر عن خالق موجود في الخارج سابق عليها وإنما العالم تال بالضرورة لطبيعة الإله أو ينبثـق عنه مثلما ينتج من تعريف المثلث أن مجموع زواياه يسـاوي قائمتين. فالعلاقة، إذن، منطقية وباقية أشبه ما تكون بعلاقة السبب بالنتيجة، شريطة أن نرى الأسباب والنتائج في حالة تلاصق كامل لا تفصلهما ثغرة زمنية أو مسافة. والحديث عن خلق العالم تحقيقاً لغرض إلهي هو بمثابة إسناد أغراض إنسانية (أغراضنا نحن البشر) إليه هو المتجرد. 
وبالتالي، فهو إله غير شخصي غير إنساني محايد غير مكترث بآلام البشـر أو أفراحهـم أو خيرهم أو شـرهم أو ثوابهم أو عقابهم، لا يتدخل البتة في شئونهم. بل إنه إله بلا إرادة، فكل ما يحدث لا يمكن أن يحدث إلا بهذه الطريقة، وكما يقول إسبينوزا فإن الإله ما كان بوسعه أن " يختار " أن يسلك بطريقة مختلفة عن تلك التي يسلك بها بالفعل، أي أن ثمة حتمية آلية تتجاوز البشر والطبيعة والإله. فالإله، إذن وببساطة بالغة، هو المبدأ المادي الأوحد في الكون، قوة قد يصل الموجود الطبيعي إلى كماله الطبيعي من خلالها، ولكنها أيضاً قوة لا تكترث بالتمايز الفردي، ولا تمنح الإنسان أية منزلة خاصة.
وفي ضوء هذا التعريف المبدئي، لابد أن يُعاد تعريف معجم إسـبينوزا. فأزلية الإله ليـست أزلية منفصـلة عن الزمـان وإنما هي أزلية الماهية، أي أزلية الضرورة المنطقية، أي الوجود الآلي للشيء (مثل لا زمانية الموضوعات الهندسية). إنه أزلي بالمعنى الذي تكون فيه ماهية الدائرة أزلية. والأمر الإلهي والإرادة الإلهية والعناية الإلهية ما هي إلا نظام الطبيعة كما ينبثق بالضرورة من قوانينها الحتمية. وكل ما يحدث هو إرادة الإله، ولكن ما حدث لا يحدث من خلال إرادة إله عاقل خيِّر شخصي وإنما من خلال حتمية مطلقة. فالإرادة تحدث لأنها مقرَّر لها أن تحدث ولا يمكن لإرادة الإله، إن وُجدت (وهي بطبيعة الحال غير موجودة)، أن تغيِّر ذلك. ولذا، فإن قبلنا مفهوم عون الإله، فنحن نعني النظام الثابت، والقول بأن « كل شيء يحدث بأمر الإله » يعني في واقع الأمر أن « كل شيء يحدث وفقاً لقوانين الطبيعة ». 
الإله هو الطبيعة، وكلاهما هو النظام الثابت والمحدد للطبيعة، أي أنه لا توجد أية ثغرات أو فجوات في هذا النموذج، فهو نموذج مغلق تماماً، سلسلة من الأسباب والنتائج المرتبطة رياضياً ومنطقياً وعقلياً من بدايته إلى نهايته، كل جزئية فيه تخضع لقانون صارم أزلي لا يتغيَّر، عالم مادي تماماً لا مجال فيه لروح أو لما فوق الطبيعة أو حتى ما يوازيها أو يجاورها، ولامجال فيه لأية غاية (فالغاية فكرة إنسانية يخلعها الإنسان على الطبيعة)، وهو لا مجال فيه للقلب أو الضمير أو حتى الشخصية المستقلة. فنحن أمام مذهب واحدي أحادي مادي استخدم خطاباً دينياً تقليدياً (الإله ـ الأزلية ـ الكمال)، ولذا فلنسمِّه حلولية بدون إله (وحدة وجود مادية)، وهي تعني أن الخالق حلَّ في مخلوقاته تماماً وتوحَّد بها وأصبح كامناً فيها حتى أصبح هو هم، وأصبح الخالق والمخلوق والخلق واحداً فهما مكوَّنان من جوهر واحد. 
ويمكن القول بأن الواحدية والكمونية الفلسفية بلغت ذروتها عند إسبينوزا، فقد ألغى كل الثنائيات التقليدية، ولذا فنحن نرى أن فلسفته هي نظام مادي خال من أية رواسب دينية سوى المصطلح، بل يمكن القول بأنه من أكثر النظم المادية تبلوراً ومن أكثرها نقاءً وخلواً من العناصر غير المادية. فالإله هو الطبيعة، والعقل هو الجسم، والفكرة هي الموضوع، والدال هو المدلول، والجوهر هو الصفة، والكون كله ـ كما أسلفنا ـ هو في نهاية الأمر جوهر واحد لا متناه ذو صفات عديدة يُدرَك منها الفكر والامتداد. ولكن الموجودات، في علاقتها بالجوهر الواحد، تشبه الأمواج في علاقتها بالمحيط، أي أنها أجزاء مستقلة بشكل ظاهري وحسب، إذ لا وجود لها خارج الواحد المادي. 
ثانياً: رؤية إسبينوزا للإنسان: 
بعد أن تناولنا موقف إسبينوزا من الإله والطبيعة، يمكننا الآن تناول موقفه من الإنسان. فنقطة البدء عند إسبينوزا، كما هو الحال مـع مفكري عصر النهضة وممثلي التفكير الإنسـاني الهيـوماني في الغرب، هي إعلان الإيمان بمقدرة العقل البشري غير المحدودة على إزالة أية عقبة قد تحول دون اقتحام هذا العقل جميع ميادين المعرفة أو تحول دون فهمه كل قوانين الطبيعة فهماً كاملاً. ومن هذا المنظور، فهو ممثل جيد للفكر الإنساني (الهيوماني) الغربي. ولكن الفكر الهيوماني، كما بيَّنا في مدخل «عصر النهضة والرؤية الإنسانية (الهيومانزم)»، يتفرع إلى رؤيتين: رؤية متمركزة حول الإنسان تدور حول ثنائية الإنسان والطبيعة، والأخرى متمركزة حول المادة تلغي هذه الثنائية. 
كما أن الفكر الغربي الحديث هو انتقال تدريجي من الرؤية الأولى التي تمنح الإنسان مركزية في الكون إلى الرؤية الثانية التي ترى الكون بشكل محايد ولا تمنح الإنسان أية خصوصية، بل تساوي بينه وبين كل الكائنات. وتتميَّز المنظومة الفلسفية عند إسبينوزا بأنها حققت هذا الانتقال منذ البداية بشكل جذري وجعلت منه رائداً حقيقياً للفكر الغربي الحديث وللمشروع التحديثي والتفكيكي الغربي والاستنارة المظلمة، ومن هنا جاء هجومه الشرس على ظاهرة الإنسان، بعد تمجيده للعقل، وقوله إن الإنسان يستثني نفسه بصلف شديد من قوانين الطبيعة الحتمية المحايدة ومن موضوعية الضرورة الكاملة التي لا ثغرات فيها. 
والإنسان، لهذا، يحاول أن يُحدث ثغرات هي في واقع الأمر المجال الذي يحاول أن يطبِّع فيه صورته البشرية (وهو ما نسميه «الحيز الإنساني»)، أي يحاول أن يتصرف كطبيعة طابعة (خالقة) لا كطبيعة مطبوعة (مخلوقة). بل إنه يَعدُّ نفسه سيداً للطبيعة ويظن نفسه سيداً مطلقاً أو أن له وضعاً خاصاً، وهو في واقع الأمر ليس سوى جزء من الطبيعة، شيء بين الأشياء يسري عليه ما يسري عليها، لا تحيط به أية أسرار ولا يتمتع بأية قداسة خاصة. 
ويذهب إسبينوزا إلى أن خطأ من جاءوا قبله يَكمُن في ترددهم في أن يطبقوا على الإنسان المبادئ نفسها التي تُطبَّق على الطبيعة بوجه عام، ونظروا إلى الإنسان كاستثناء من المجرى العام للطبيعة وتحيزوا له ووضعوه في مركز مميَّز يعلو فيه سلوكه على سائر الظواهر الطبيعية. وهذا يفسر (من وجهة نظره) سبب بقاء طبيعة الإنسان مجهولة لدى الدارسين والفلاسفة، إذ ظل الإنسان ـ كظاهرة ـ غير مدرج ضمن الظواهر الطبيعية الخاضعة للبحث، مع أن كل ما يحدث في الطبيعة لا يمكن أن يُفسَّر بأنه انحراف عنها « إذ إن الطبيعة هي هي على الدوام، وهي دوماً متماثلة في أحكامها، أي أن قوانين الطبيعة وأوامرها، التي تحدث على أساسها كل الأشياء وتتغير من صورة إلى أخرى، واحدة في كل شيء وكل زمان، بحيث يجب أن يوجد منهج واحد لفهم طبيعة كل الأشياء على إطلاقها أو اختلافها»، أي أن إسبينوزا هو من رواد الدعوة إلى وحدة العلوم (ترجمة الواحدية المادية على مستوى المنهج). 
ويُشبِّه إسبينوزا الإنسان بالحجر المندفع الذي قذف به أحد، ومع هذا يظن هذا الحجر أنه يتحرك بإرادته. إن الإرادة الإنسانية إن هي إلا جهل بالأسباب، فالإنسان (كالحجر) ليس سوى حلقة في السلسلة الكونية السببية الكاملة الشاملة التي لا يملك فيها من أمره شيئاً. كل هذا يعني سقوط الإنسان كهوية مستقلة وذات فاعلة حرة، فليس بإمكانه أن يطرح غاية إنسانية مستقلة عن الطبيعة. 
ومع هذا، يطرح إسبينوزا مفهوماً جديداً للحرية إذ يُعرِّفها بأنها اتفاق السلوك الخارجي للكائن مع الضرورة الباطنية لطبيعته وحسب، بحيث لا يرغمه شيء خارجه، أي أن حرية كل الكائنات لا يمكن أن تكون كلية، فهي دائماً جزئية. أما الحرية الكلية والمطلقة، فهي لا تتوافر إلا للكون بمعناه الشامل الذي لا يتحكم فيه شيء ولا يوجد شيء خارجه يرغمه، أي أن الإله/ الطبيعة/ القوانين المادية الثابتة هي الشيء الوحيد الحي، أي أن قوانين الطبيعة/المادة هي المطلق الوحيد الحق الذي لا يتقيد بأية حدود ويتجاوزها جميعاً. 
وانطلاقاً من هذه الواحدية المادية، ومن هذا المفهوم للإله/الطبيعة (المادة) باعتباره الكل الذي يعلو على كل الأجزاء، يرى إسبينوزا أن الإنسـان جزء من الطبيعة ليـست له دلالة خاصة ولا يختلف عن بقية الأجزاء، فهو خاضع لقوانينها خضوع الأشياء الأخرى لها، ولذا يذهب إسبينوزا إلى ضرورة البحث في الإنسان لا باستخدام أدوات ومناهج خاصة مقصورة عليه، وإنما بالبحث فيه كما نبحث في الأجسام المادية، أي لابد من تفكيك كل الأشياء بما في ذلك الإنسان لتصبح كلها أجساماً وخطوطاً ومسطحات ومعادلات رياضية وذرات وأرقام، ومن هنا حتمية المنهج الهندسي واللغة الهندسية.
وتبنَّى إسبينوزا هذا المنهج الهندسي التفكيكي لأسباب خارجية تتصل بالعصر، وداخلية تتصل ببنية فكره. فالعصر جعل الرياضة نموذجاً ومثلاً أعلى للمعرفة البشرية في ميادينها كافة، ولذا كان على كل العلوم أن تحذو حذو الرياضة وتنحو منحاها. كما أن اتجاه إسبينوزا الماراني (أن يُظهر غير ما يُبطن، وأن يقول شيئاً ويرمي إلى عكسه) جعله يتبنى الخطاب الهندسي بحيث يتحدث عن الإله (ب) طيلة بحثه ولكن بعد أن أكد في البداية أن الطبيعة (أ) تعادل (ب)، وعلى القارئ أن يفك الشفرة ببساطة شديدة بأن يحل (أ) محل (ب). ولكن، مع هذا، يوجد داخل المنظومة الإسبينوزية ما يجعل من اختيار المنهج الهندسي أمراً شبه حتمي، فهي منظومة خالية من الثغرات، مقدماتها مرتبطة بنتائجها ارتباطاً كاملاً. 
وهي منظومة استبعدت الغائية والانفعالات، بل استبعدت الإنسان كعنصر حر وركزت على القوانين الثابتة المجردة. فالمنهج الهندسي، في هذا الإطار، يصبح أفضل طريقة للوصول إلى الفهم والوضوح وأعلى درجات التجريد والسببية واليقين. واستخدام اللغة الهندسية يعني تجنب الأسلوب البلاغي والإطناب واستبعاد العواطف والانفعالات الإنسانية ذاتها، وكل التشبيهات والصور المجازية التي تسترجع الإنسان. ويمكننا أن نقول أيضاً إن مفهوم وحدة العلوم الذي يبشر به إسبينوزا، إذا دُفع إلى نهايته المنطقية (ويتميَّز إسبينوزا باستعداده الكامل للقيام بهذه الخطوة)، فإنه يصل إلى عالم الهندسة والجبر، فإن المنهج الهندسي هو أصلح المناهج لفلسفة تساوي بين الإنسان والطبيعة وبين الإنسان والأشياء بحيث يتحول الكون بأسره إلى نقط وخطوط ومسطحات وأرقام، فهي فلسفة التمركز حول الموضوع بالدرجة الأولى. 
ثالثاً: الرؤية المعرفية: 
لا توجد في منظومة إسبينوزا الفلسفية أية فراغات بين الإله والطبيعة والإنسان، فهي منظومة مصمتة تماماً؛ شكل من أشكال الحلولية الكمونية الواحدية المادية. وهي حلولية كمونية بمعنى أن كل الأسباب تحل في المادة وقوانين الحركة كامنة فيها، ومادية بمعنى أن الأسباب لا تتجاوز المادة وأن القوانين كامنة في الأشياء لا تفارقها أبداً (إلا من خلال مقدرة العقل البشري على التجريد، وهي عملية عقلية لا تُغيّر من طبيعة الأشياء شيئاً). 
ولكن الذهن والجسم في المنظومة الإسبينوزية شيء واحد، يُنظَر إليه في الحالة الأولى من خلال صفة الفكر وفي الحالة الثانية من خلال صفة الامتداد، وهو ما يعني أن الأفكار والتطلعات والأحلام والغائيات الإنسانية كلها في نهاية الأمر « إن هي إلا » تعبير عن حركة القوانين الثابتة للطبيعة/المادة/الإله. ويُلاحَظ هنا أن الذهن هو الذي يُردُّ إلى المادة، فنظام الأفكار (البناء الفوقي) لا يوازي نظام الأشياء (النظام التحتي) وإنما يُردُّ الأول للثاني. 
ويتحدث إسبينوزا عن القانون الطبيعي، وهو المجرى الذي حددته الطبيعة كي يسير فيه الإنسان وكل الأشياء، وهو يسير فيه لا لأنه يريد ذلك، بل لأنه مُقدّر عليه ذلك بالطبيعة. فالطبيعة هي المصدر وهي المآل، وهي المرجعية النهائية. وقمة المعرفة الإنسانية هي معرفة ذلك، أي أن يعي الإنسان النظام الكوني ويدرك آلياته، وعليه أن يفعل ذلك من خلال ما يمكن تسميته «المنظور الكوني الموضوعي»، أي أن يستبعد الإنسان أية إرادة أو رغبات إنسانية أو اعتبارات خلقية مرتبطة بوهم مركزية الإنسان في الكون، وأن ينظر إلى الكون وإلى ذاته المتعينة كما لو كان إله إسبينوزا، أي أن يتجرد تماماً من العواطف ويُحيِّد كل انفعالات. 
وهو يجب أن يدرك أن العالم هو آلة دقيقة الصنع تدور حسب قوانين آلية كامنة فيها (وهذا هو جوهر الترشيد المادي العلماني: أن يُخضع الإنسان ذاته من الداخل ومن الخارج للواحدية المادية وللطبيعة/المادة، وأن يدرك ذاته في ضوء القوانين الحتمية المادية، وأن يذعن لها وأن يعيد صياغة حياته وبيئته بما يتفق معها). إن قمة المعرفة الإنسانية هي أن ينفي الإنسان ذاته من خلال معرفة القانون الطبيعي والاستسلام تماماً له (وهذا تعبير عن النزعة الرحمية التي تسم الفكر الواحدي المادي والتي تتبـدَّى في الرغبة في الانسـحاب من عـالم تذوب فيه الجزئيات في الكليات، والإنسان في الواحد المادي، حتى يتخلص من عبء الهوية ومن المسئولية التي تأتي مع حرية الاختيار الخلقي ومع إمكانية العقل، وهذه النزعة مهيمنة تماماً على منظومة إسبينوزا الفلسفية). 
وإذا أدرك الإنسان انعدام هويته الإنسانية المتعينة فإن ذلك لا يسبب أي أسى أو حزن، بل العكس، فحرية الإنسان تَكمُن في فهم هذه القوانين الحتمية وفي التحرر من وهم قدرته على تغيير الأشياء، أي أن حريته تكمن في تخليه عن وهم الحرية. فالإنسان يحقق سعادته القصوى ويشعر بانفعالات إيجابية طاغية بإدراكه سيادة فكرة الضرورة وبنفي ذاته كذات فاعلة حرة، وإعادة تعريفها باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة ومجرد انعكاس للقانون العام وجزءاً من منظومة رياضية هائلة لا يوجد فيها مجال للحرية (وهذه كلها انفعالات تذكر الإنسان بصفاء النفس أتاركسيا عند الرواقيين وأباتيا عند الأبيقوريين). وهكذا يظهر الانفعال في اللحظة التي تصل فيها المعقولية إلى قمتها، أي أن الإنسان سيصل إلى قمة الفرح في اللحظة التي يشعر فيها بالمشاركة في الطبيعة بأسرها، أي يتوحد معها ويذوب فيها ويتحرر من عبء الهوية ويسقط في الرحم الكوني. 
ولكن ماذا إذا لم يصل الإنسان للمعرفة الكاملة ولم يتوصل إلا إلى قدر ضئيل منها (كما هو متوقع مع معظم البشر)؟ هذا لا يعني بطبيعة الحال عدم صحة التعريفات. فقصور البشر عن إدراك القوانين الكونية الشاملة لا يعني تكذيب المبدأ القائل بأن الأشياء تخضع لضرورة شاملة، فلو عرفنا قوانينها الكاملة لاكتمل علمنا بالكون. إن إدراك قوانين الكون يجب أن يظل هدفاً يسعى إليه العلم، فهو علم يصدر عن الإيمان الكامل بأنه لا توجد عناصر متجاوزة للمادة غير كامنة فيها، وهو إيمان لابد من التمسك به حتى ولو أدَّى قصور إدراك كثير من البشر إلى عدم التوصل إلى هذه النتيجة، أي أن واحدية العالم المادية هي الأطروحة التي يصدر عنها العلم، وهي الأطروحة التي يحاول إثباتها والتي على كل البشر الإيمان الكامل بها، حتى لو لم يتمكن العلم من إثباتها. إن الواحدية الكمونية المادية هي ميتافيزيقا إسبينوزا الحقيقية. 
ولكن ثمة قلة قليلة من البشر قادرة على الوصول إلى مثل هذه المعرفة. وهنا تصبح هذه القلة القليلة موضع الحلول وهنا تصبح المعادلة الحلولية ليست مجرد الإله ـ الطبيعة ـ الإنسان، أي إنسان، وإنما تصبح الإله ـ الطبيعة ـ الإنسان العارف من أمثال إسبينوزا (الذي يذكرنا بالماشيَّح في المنظومة القبَّالية، وبالإنسان الروحاني في المنظومة الغنوصية). 
رابعاً: الرؤية النفسية: 
يذهب إسبينوزا إلى أن الفرح المصاحب لعملية المعرفة الكونية الموضوعية لا يشكل تجرداً كاملاً من الحالة الإنسانية، ولذا فهو يؤكد أن الإحساس الأكثر ثباتاً هو نوع من الاتزان والحياد الكامل والتحرر من الخوف الذي يحققه الإنسان عن طريق الخضوع لقانون الطبيعة وللمنطق السائد في الواقع وإدراك الضرورة الكونية (قانون الضرورة). وبهذه الطريقة، نفصل الانفعال عن أسبابه المباشرة وعن الأفكار الغامضة غير الكافية ونربطه بالأفكار العقلية الصحيحة، وبذلك تتخلص النفس من عبودية الانفعال عن طريق تأمله في ضوء العقل الباهر، ويزداد المرء اقتراباً من حالة الصفاء كلما اتسع نطاق فهمه للأشياء، حتى إذا ما توصل إلى تأمل النظام الكلي للأشياء في ضرورته الشاملة حقق بذلك أسمى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان من الفضائل وأمكنه التغلب تماماً على انفعالاته عن طريق ربطها بالمنطق الكلي للأشياء. 
بل إن فكر الإنسان، بذلك، ينحصر في التفكير في الحياة ودون تفكير في الموت، فكأن الحلولية الكمونية المادية تحل مشكلة الموت بإلغائها. فإذا كان الإنسان مادة وحسب فإنه حينما يموت، ينحل إلى مادة ويلتحم مرة أخرى بالمادة ويعود إلى الرحم الأكبر الذي جاء منه، وهو ما يعني أنه لم تحدث تحولات، فالإنسان لا يموت لا لأنه حر بشكل مطلق، وإنما لأنه كان ميتاً من الأصل، وهو لا يفقد حريته لأنه لا يمتلكها أصلاً! ويصبح الجهد المعرفي والنفسي للإنسان منصرفاً إلى الحصول على المعرفة الشاملة التي ستبين له بما لا يقبل الشك أنه لا حرية ولا إرادة ولا حياة (مستقلة) له، أي أن الإنسان ينفي حريته بكامل حريته، وينفي إرادته بإرادته.
فالإنسان جزء لا يتجزأ من الطبيعة تسري عليه القوانين نفسها التي تسري عليها. ومن ثم، فإن الانفعالات ظواهر طبيعية خالصة منفصلة تماماً عن كل ما كان يُعزَى إليها من أسباب استثنائية متعلقة بمجال الإنسان وحده (وهذه هي نقطة انطلاق المدرسة السلوكية، وهي تعبير آخر عن وحدة العلوم والواحدية المادية). فانفعالات الإنسان لا تختلف عن انفعالات الحيوانات أو حتى الأشياء (إن استطعنا تسجيل انفعالاتها). والانفعالات هي تلك التغيرات التي تطرأ على الجسم وتزداد بها قوة هذا الجسم الفعالة أو تَنقُص وتُنَمَّى أو تُعاق. 
وهذا التعريف يعلمن الانفعال تماماً فيستبعد كل إشارة إلى قيم الخير والشر، بل يستبعد كل تفرقة كيفية بين انفعال وآخر ويجعل أساس التمييز بين جميع الانفعالات هو ما يؤدي إليه كل منها من زيادة أو إنقاص لقدرة الكائن على حفظ ذاته، أي المساعدة على استمراره في الوجود أو الحيلولة دون ذلك. وتُردُّ جميع الانفعالات إلى انفعالات ثلاثة: اللذة والألم والرغبة، والتي تُردُّ جميعاً بدورها إلى النزوع الأساسي للكائن (الحيوانات والإنسان) إلى حفظ ذاته أو البقاء (المنظومة الداروينية العلمانية). واللذة هي ما يساعد على حفظ الإنسان (جسمه)، والألم هو الذي يعود بالضرر على جسم الإنسان. 
والانفعالات التي تساعد على حفظ الذات واستمرار الوجود انفعالات تتمشى مع العقل، ومثل هذه الانفعالات هي الفضيلة، وجـوهر الفضيلة غريزة البقاء، (وتتفق مع النظام الكلي للأشياء/الإله). ومن ثم، فالسعي وراء اللذة التي تفيدنا بحق يؤدي إلى زيادة كمالنا وبالتالي إلى ازدياد مشاركتنا في الطبيعة الإلهية (أي السير وفقاً للنظام الكلي للطبيعة) أما ما يعوق وجودنا فمن الواجب تجنبه بأي ثمن (وهذه هي الفلسفة النفعية المادية وقد تلبست ثوباً حلولياً كمونياً روحياً). 
خامساً: الرؤية الأخلاقية: 
تنبع رؤية إسبينوزا الأخلاقية من الإيمان بأن الإنسان جزء لا يتجزأ من الطبيعة ليس له أي استقلال عنها. والطبيعة كما يقول إسبينوزا محايدة خالية تماماً من القيم البشرية، فلا هي بالجميلة ولا بالقبيحة، ولا هي بالخيِّرة ولا بالشريرة (فهذه كلها أفكار إنسانية ذاتية لا توجد إلا في ذهن الإنسان المتمركز حول ذاته) هي « أحوال للفكر »، فالقيم الأخلاقية ليس لها مكان في المجرى الفعلي للطبيعة (الواقعية المادية). وبينما نجد أن القيم الأخلاقية في نظر كثير من الفلاسفة التقليديين (المؤمنين بوجود خالق) هي الغاية النهائية لسلوك الطبيعة بأسرها، نجد أن ظهور القيم عند إسبينوزا هو في حقيقته تعبير عن ضيق حدود الذهن الإنساني وعدم قدرته على استيعاب الطبيعة بأطرافها اللامتناهية. 
وهكذا يحد الإنسان نظرته إلى الطبيعة بمجال معيَّن يتأمله من خلال أمانيه ورغباته الخاصة ويفسره على أساسها، بينما لو كان قادراً على إدراك مجموعة العلاقات اللانهائية المتشابكة في الطبيعة لاختفت تماماً هذه القيم التي صنعها، ولظهر كل شيء على حقيقته جزءاً من نسق هائل لا نهائي التعقيد في الكون، ولطرح المُثُل العليا جانباً. وحيث إن الكمال هو الواقع (فكل القوانين كامنة في المادة ولا توجد خارجها)، فالأخلاق تنتقل من مجال ما ينبغي أن يكون إلى مجال ما هو كائن، وبالتالي «تجاوز إسبينوزا الحواجز بين الواقع والمثل الأعلى، وبين ما هو فعلي وما هو معيار مثالي، وأنكر الخير المطلق، وبالتالي عالم الغايات الذي تركزت فيه الأخلاق المثالية بأسرها »، وأحل بدلاً من ذلك عالماً محايداً لا غاية له ولا هدف يتحرك حسب قوانينه الداخلية. والأخلاق الحقة هي محاولة عدم إعاقة هذه القوانين عن التحقق لأن الإنسان (بتحقيقه هذه القوانين) يضمن لنفسه البقاء، فالبقاء هو القيمة المطلقة الكبرى باعتبار أن قوانين الكون ثابتة (ويُعَدُّ هذا الطرح الإسبينوزي بداية الفكر البرجماتي). 
وترتبط فكرة الحقوق (التي تساندها القوة) بالنظرية الأخلاقية. يقول إسبينوزا: « أعني بالحق الطبيعي قوانين الطبيعة نفسها أو قواعدها التي يحدث كل شيء وفقا لها، أي بعبارة أخرى قوة الطبيعة ذاتها... وعلى ذلك، فكل ما يفعله الإنسان، وفقاً لقوانين طبيعية، يفعله بحق طبيعي كامل، ويكون ما له من الحق على الطبيعة بقدر ما له من القوة ». وتحوُّل القوة هنا إلى مطلق (بدلاً من الطبيعة) أمر مفهوم ومتسق فلسفياً مع فكرة أن البقاء المادي هو القيمة. فالقوة هي التي تضمن البقاء (وداخل هذا الخطاب نسمع داروين ونيتشه وهتلر وكل الخطاب المعرفي العلماني الإمبريالي الغربي). 
بل إن فكرة الحقوق تخضع لفكرة القوة « فحق كل فرد يمتد بقدر ما تمتد قوته ». وعلى أية حال، كما يقول إسبينوزا، فإن الطبيعة (مثلاً) قَدَّرت أن تأكل الأسماك الكبيرة الأسماك الصغيرة كحق طبيعي لا نزاع فيه، ذلك لأن للطبيعة الحق المطلق في أن تفعل ما تستطيع، أي أن حقها بمقدار قدرتها. وهكذا تكون الغلبة في هذه الحالة للقوى التي لا يحد من قوتها شيء إلا اصطدامها بالقوى الأخرى وتوقفها عند الحد الذي تبطلها فيه هذه القوى (تماماً كما امتدت رقعة الإمبريالية بمقدار قوة جيوشها). 
ولهذا، فإن حقوق الفرد لا تُحدُّ إلا بحدود قدرته، وحدود قدرته تتحدد بواسطة طبيعته. ولما كان من حق الإنسان الحكيم أن يعيش وفقاً لقوانين العقل، فإن الإنسان الجاهل أو الأحمق له مطلق الحق في أن يعيش وفقاً لقوانين الشهوة. فالجاهل أو الأحمق ليس ملزماً بأن يسير وفقاً لما يأمر به العقل المستنير، كما أن القط ليس مُلزَماً بأن يعيش وفقاً لقوانين الأسد (ولنلاحظ كيف وُلدت النسبية الأخلاقية ثم وُلد التفاوت بين البشر من داخل مفهوم القانون الطبيعي، وكيف ظهرت اللاعقلانية المادية من العقلانية المادية، وهو الاتجاه الذي وُلدت منه فيما بعد العنصرية الغربية، حيث يصبح البقاء للأصلح وللأقوى، وحيث تصبح القوة علامة التفوق الحضاري والإنساني، وحيث لا جدوى من أية منظومات معرفية أو أخلاقية). 
إن للإنسان، سواء بمقتضى عقله أو بمقتضى أهوائه وشهواته، أن يسعى لتحقيق مصلحته بحسب ما يعتقد أنه مصلحته، سواء أكان ذلك بالقوة أو بالدهاء والحيلة أو بالتملق والخدعة أو بأية وسيلة أخرى. والسبب في ذلك أن الطبيعة ليست ملزمة بقوانين العقل الإنساني. كما أن أغراض الطبيعة، إن كان للطبيعة أغراض، إنما تتعلق بنظام الطبيعة وليس للإنسان في هذا النظام إلا مكان ضئيل تافه. وإذا بدا لنا في الطبيعة شيء غير معقول أو شرير، فما ذلك إلا بسبب جهلنا بنظام الطبيعة وتوقف أعضاء هذا النظام بعضها على بعض، وكذلك لأننا نريد أن يحدث كل شيء وفقاً لما يقتضيه عقلنا ومصلحتنا. 
ولو أننا أفلحنا في التحرر من تصوراتنا التشبيهية بالإنسان وطرائقنا الإنسانية في النظر إلى الطبيعة، لأدركنا أن الحق الطبيعي لا تحده إلا الرغبة والقوة. وليُلاحَظ هنا أننا دخلنا العصر العلماني الحديث حيث تُوجَد كل القوى المحركة داخل الأشياء (قوانين الحركة) دون احتكام لأية معايير خارجية غائية، حيث تأخذ الحركة شكل أجسام تصطدم من الخارج. ولكن هذا أمر مفهوم تماماً في السياق الإسبينوزي، فقوانين الطبيعة واحدة تسري على كل الأشياء والكائنات والأفراد والمجتمعات. وهكذا، كما حل إسبينوزا قضية الإرادة الإنسانية بإنكار الحرية، وكما حل قضية وضع الإنسان في الكون بإنكار مركزيته وأهميته، وحل مشكلة عواطف الإنسان بإنكارها هي الأخرى، فإنه يحل القضية الأخلاقية عن طريق إنكار الأخلاق تماماً وإحلال الصراع والقوة محلها.
سادساً: النظرية السياسية: 
وفي هذا النسـق الواحدي تماماً، الذي يُردُّ فيه الكمال إلى الواقع، ويُردُّ الإنسان فيه إلى الطبيعة، ويتجرد الواقع فيه تماماً من القيمة، ويتجرد الإنسان فيه من القداسة ويفقد مركزيته: ما وضع الدولة؟ سنكتشف أن نظرية إسبينوزا عن الدولة امتداد لنظريته عن الطبيعة وقوانينها. ويذهب إسبينوزا إلى أن الإنسان لديه دافع طبيعي للمحافظة على نفسه، فغريزة البقاء هي جوهر الإنسان، ومن حق الإنسان أن يتخذ كل وسيلة لتحقيق هذا الغرض، وأن يعد كل من يحول بينه وبين المحافظة على نفسه عدواً له. 
ومن هنا، يود كل إنسان أن يعيش آمناً على حياته، متحرراً من الخوف. لكن من المستحيل تحقيق ذلك إذا مارس الإنسان حقه الطبيعي بطريقة طبيعية وفعل كل ما يريده. ولهذا السبب، لم يكن ثمة مفر لكل فرد من أن يتعاون مع غيره ويتفق معه من أجل تحقيق هذا الغرض، أي تحقيق بقاء النفس والعيش في وئام بدلاً من حالة الصراع الدائم. فقَبل الأفراد التنازل عن شريعة الطبيعة والخضوع لقانون العقل، كما تنازلوا عن بعض رغباتهم وحقوقهم الطبيعية لهيئة حاكمة في المجتمع الذي ينظمه القانون المدني لا القانون الطبيعي. فالاجتماع البشري يقوم إذن على المصلحة الشخصية المستنيرة، وهو أمر مختلف عن الحق الطبيعي والمصلحة المباشرة غير المستنيرة. 
وبهذه الطريقة، يتم الانتقال من الحالة التي يسودها الحق الطبيعي إلى حالة العقد الاجتماعي. وينبغي على الأفراد طاعة الهيئة الحاكمة وإلا لما أمكن قيام الدولة. ويظل حق الحاكم قائماً مادامت لديه القدرة على إقرّاره. وبعبارة أخرى، فإن القاعدة نفسها « الحق الخاضع للقوة » تسري على الدولة بدورها، بحيث تُحَدد سلطة الدولة بما لديها من القوة. ولكن لابد أن تجد الدولة أيضاً أن من مصلحتها هي الأخرى أن تسترشد بالعقل، وأن تحفظ قدرتها بتوخي الصالح العام: أي أن تحد من ذاتها بمعنى أن تضع حدوداً لنفسها ولا تستخدم قواها أكثر مما ينبغي حتى لا تُقابَل بالمقاومة (كما جاء في دراسة د. فؤاد زكريا التي اعتمدنا عليها في هذا المدخل). 
ولنلاحظ وجود تشققات عديدة هنا في الخطاب الإسبينوزي. فثمة ثغرة بين الطبيعة والعقل، إذ يوجد حق طبيعي من جهة وعقل يسترشد به الجميع (الأفراد والدولة) من جهة أخرى. ومن خلال إيمانهم بالعقل، فإنهم يتنازلون عن حقوقهم الطبيعية (المادية) ويكبحون رغباتهم الطبيعية المباشرة (الغريزة) باسمه. فالمطلق هنا ليس الطبيعة وإنما العقل، بل إن هناك قانونين لا قانوناً واحداً: شريعة الطبيعة وقانون العقل، والإنسـان لا يخضع للطبيـعة وإنما يخضع لما هو ليـس بطبيعـة، أي للعقل، أي أن الإنسان لا يخضع للمادة بل يتجاوزها بفضل ما هو ليس بمادة. وهكذا سقطنا مرة أخرى في الثنائيات الدينية التقليدية، ولم يعد نسق إسبينوزا معقماً بما فيه الكفاية من الثنائيات والمطلقات والغايات كما كان (وهذا ما يُسمَّى «السقوط في الميتافيزيقا»). 
بل إن الوئام يحل لا من خلال القوة وحسب وإنما من خلال الخضوع للعقل أيضاً! يخضع له الأفراد كما تسترشد به الدولة. ويبدو أن إسبينوزا هنا يتنصل مما قاله من قبل من أن العقل ليس إلا حالة من أحوال الطبيعة والمادة (وسيظل هذا الوضع قائماً إلى أن يظهر نيتشه ودريدا، اللذان سيحاولان تنقية النموذج العلماني من أي مطلقية أو مرجعية أو ما يسميه نيتشه «ظلال الإله»). 
يتبع إن شاء الله...


الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية   الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية Emptyالأربعاء 11 ديسمبر 2013, 9:08 pm

سابعاً: موقف إسبينوزا من الدين: 
يمكننا أن نقول إن إسهام إسبينوزا الأكبر في تاريخ الفلسفة الغربية هو اكتشافه التوازي والترادف بين وحدة الوجود الروحية ووحدة الوجود المادية، وأن عبارة « لا موجود إلا هو » (أي الإله) هي ذاتها عبارة « لا موجود إلا هي » (أي الطبيعة)، ومن ثم أمكنه (من خلال المنظومة الحلولية الكمونية) أن يُعلمن الفلسفة الغربية ويشيع الفكر الفلسفي الواحدي المادي دون أن يسبب أي فزع لأحد، ودون أن يدرك أحد أن خلف غنائيته الحلولية الكمونية الصوفية يوجد النموذج الواحدي المادي بكل وحشيته ولا إنسانيته. بل يمكن القول بأنه نجح في توليد المنظومة العلمانية المادية من داخل المنظومة الدينية واستخدم مصطلحاتها الغيبية (كما يفعل كثير من العلمانيين العرب). 
وانطلاقاً من واحديته المادية الصارمة (التي تجعل هدف المعرفة فهم قوانين العالم الثابتة وتجعل الحرية إدراك الحتمية واستحالة الحرية)، يصنف إسبينوزا الرؤية الدينية باعتبارها ظاهرة بشرية ذات هدف عملي جزئي تحاول تحقيق أمانيَّ معينة للإنسان وتجنبه مخاوف خاصة، وهي تفعل هذا بهدف تنظيم أحوال البشر ومعاملاتهم، أي أن الرؤية الدينية لا علاقة لها بالرؤية الكونية الموضوعية التي يبشر بها إسبينوزا، والتي ترى الإنسان باعتباره شيئاً ضمن الأشياء وجزءاً لا يتجزأ من النظام الطبيعي الضروري والكلي للأشياء، وهو نظام كوني ليس فوق الطبيعة وحسب ولكنه فوق الإنسان أيضاً، ولذا فهو لا يمنح الإنسان أو أي كائن جزئي آخر أية أهمية خاصة، فهو نظام يدور حول المادة وليس كالدين الذي يدور حول الإنسان. 
ولنلاحظ هنا أن إسبينوزا يرى أن الدين يمنح الإنسان مركزية في الكون (لا يستحقها) على عكس الرؤية الكونية الموضوعية العلمية (العلمانية) التي تنزع عن الإنسان ـ في تصوُّر إسبينوزا ـ هذه المركزية وتجعله كائناً ضمن كائنات أخرى أو شيئاً ضمن أشياء أخرى. والمفارقة هنا أن إسبينوزا ينسب للرؤية الدينية ما ينسبه أصحاب الرؤية الإنسانية الهيومانية لرؤيتهم للكون، فهم يزعمون أن رؤيتهم رؤية مادية وضعت الإنسان في مركز الكون. ولكننا نرى أن موقف إسبينوزا أقرب إلى الدقة وأنه استطاع بثاقب نظره وبصيرته أن يستشرف المستقبل ويرى الحلقات الأخيرة في المنظومة العلمانية (والاستنارة المظلمة). 
فالمنظومة العلمانية بدأت بالزعم الهيوماني العلماني أن الإنسان يقف في مركز الكون، لكن الأمر انتهى بها في العصر الحديث إلى الموقف المعادي للإنسان الذي ينكر عليه أية مركزية أو حرية أو استقلالية ويجعل المادة أو النظام الكلي للأشياء مركزاً للكون، ويجعل الكون ذاته كوناً أحادياً لا غاية فيه ولا اتجاه ولا مركز، كوناً خالياً من الثنائيات، معقماً من المطلقات، متجرداً من الأخلاقيات، متجاوزاً للعواطف. وأدرك إسبينوزا، منذ البداية، القانون الداخلي للنموذج العلماني ودفعه إلى نتيجته المنطقية ورأى في مخيلته كيف أن الواحدية الكونية المادية لابد أن تقضي على الإنسان وتحوِّل العالم إلى آلة هندسية دقيقة، ولا يبقى بعد ذلك سوى الحركة الهندسية للذرات والتكرار الرتيب للأرقام، ورأى أن إدراك هذا وقبوله هو قمة المعرفة والحرية. 
ومع هذا، يتعرض إسبينوزا لقضية الدين، ويشير إليه مستخدماً الكلمة نفسها في ثلاثة معان مختلفة تماماً. أما النوع الأول وأهمها فهو ما سماه ثالث أنواع المعرفة «الحب الفكري للإله» (باللاتينية: أمور ديي إنتلكتواليس amor dei intcllectualis) وهذه هي الديانة الحقيقية، وهي ديانة عقلية عقلانية يمارسها الإنسان الذي يتمكن من نفي ذاته كذات مستقلة فاعلة حرة عن قوانين الكون، فيتخلص من عبودية الانفعال عن طريق ربطها بالمنطق الكلي للأشياء في ضرورته الشاملة. فالإله هنا هو الطبيعة/المادة وحب الإله هو الإذعان للحتمية الطبيعية وهو « فهم » الإله/الطبيعة، وهذا الفهم يجعل الإنسان أكثر تواضعاً ولكن أكثر انعتاقاً، خالياً من الخوف من الموت، إذ أن الإنسان باكتشافه أنه جزء لا يتـجزأ من الإله/الطبيعة سـيكتشف أن المـوت هو إحدى حقائق الطبيعة، تماماً مثل حقائق الحيـاة والنمـو، أي أنه تتم تسـوية الحياة والموت والنمـو بالعدم. 
ومن ثم، فإن حديث إسبينوزا عن الاتحاد الصوفي (باللاتينية: يونيو مستيكا unio mystica) وحلول اللامتناهي في المتناهي، وهو ما يمنحه الخلود والأزلية، هو في واقع الأمر حديث عن الاتحاد مع الطبيعة/ المادة والامتزاج بها والإذعان لها. وهذا الدين هو فلسفة إسبينوزا، وإطلاق كلمة «دين» عليه يشبه تماماً إطلاق كلمة «الإله» على الطبيعة. والوصول إلى هذه المرحلة من المعرفة مسألة نادرة للغاية لا يصلها سوى الخاصة، أما العامة فإن أقصى ما يمكن أن يصلوا إليه هو ما يسميه إسبينوزا الديانة العالمية (باللاتينية: ريليجيو كاثوليكا religio catholica)، وهي ليست العقيدة الكاثوليكية وإنما هي عقيدة تمكث في نطاق عالم الخيال والوجدان ولكنها تحاول أن تصوغ نفسها حسب تعاليم العقل مُستخدمة في ذلك مبدأ طاعة الإله. 
وكلمة «الإله» مختلفة عن معناها في المعجم الإسبينوزي، فهي تعني الإله الشخصي الذي يتدخل في التاريخ ويرسل رسائل للإنسان. ويرى إسبينوزا أن مثل هذه العقيدة يمكن الاستفادة منها وتوظيفها اجتماعياً عن طريق التفسيرات العقلية للعهد القديم (ومن هنا نقده للعهد القديم والدعوة لتطهيره). ويمكن ترجمة إرادة الإله (الوهمية) إلى مجموعة من القواعد النافعة: العدل ـ وطاعة قوانين الدولة (التي تصبح المفسر الوحيد لإرادة الخالق).
إن الدين من منظور إسبينوزا ليست له قيمة من الناحية المعرفية، فهو مجرد وظيفة ذات نفع للإنسان (هذا الكائن الذي ليس له أهمية كونية خاصة). ولذا، فلا أهمية على الإطلاق للأساس النظري الذي ترتكز عليه هذه العقائد مادامت تؤدي وظيفتها العملية على النحو المنشود. ولكن « السلوك الفاضل الذي يتحقق في إطار خارجي تماماً عن العقيدة (في إطار فلسفة إسبينوزا والمرجعية المادية الكامنة)، يصبح على هذا الأسـاس مسـاوياً لذلك الذي يتحقق في الإطار الديني »، أي أن السلوك « يُعدُّ مطابقاً للغاية المنشودة سواء أقام على أسس دينية أم لم يقم، مادام ينفذ الأغراض نفسها التي يدعو إليها الدين ». 
لكن تحويل الدين إلى مجرد وظيفة عملية ذات نفع دنيوي هو « علمنة من الداخل » إن صح التعبير، إذ يصبح المعيار هنا مدى التأثير العملي للدين ومدى تكيفه مع الواقع العملي والمادي حتى يحتفظ بفاعليته، أي أن الدين هنا يصبح تابعاً لهذا النظام الضروري والكلي للأشياء. وعملية العلمنة هذه لا تقل في ضراوتها وشراستها عن عملية العلمنة من الخارج، أي الهجوم المباشر على الدين، بل لعلها أكثر خطورة. 
أما ثالث الأنواع فهو الديانة التاريخية السوقية أو الفارغة (باللاتينية: فانا ريليجيو vana religio)، وهي الديانة التي تستند إلى مجموعة من القصص الأسطورية والتاريخ المقدَّس والشعائر وتمتد لتشمل عالم السياسة وهي عقيدة تضرب بجذورها في مخاوف الإنسان وعواطفه (لا في عقله) وجهله بالأسباب الحقيقية، ولذا تحل الخرافات محل العقل ويظهر الإيمان بالمعجزات والقوى الخفية، وهي مخاوف يستخدمها الحكام ويوظفونها لصالحهم. وهذا النوع من الديانة يرفضه إسبينوزا جملةً وتفصيلاً قلباً وقالباً. 
ومن المفارقات التي تستوجب النظر أن الفيلسوف الذي يشير له البعض بأنه فيلسوف العلمانية الذي حاول استبعاد الدين تماماً من منظومته الفلسفية والذي حاول تأسيس مذهب فلسفي يخلو من جميع عناصر ما فوق الطبيعة أو العناصر التشبيهية أو اللاعلمية أو فلنقل الروحية الدينية والإنسانية، نقول إن من المفارقات أنه صرح بأنه يحاول عن طريق فلسـفته الوصول إلى « الغاية نفسها التي تتخذها الأديان هدفاً أسـمى لها »، أي أنه تخلص من الغائية الإنسانية الروحية ليُحل محلها غائية مادية مجردة لا إنسانية (أي أنه حاول تحقيق قدر من التجاوز داخل الإطار المادي الكموني). 
ففي منظومته الفلسفية يوجد خلاص عن طريق إدراك النظام الكلي للأشياء، وفيه أيضاً حرية عن طريق فهم موقع كل شيء في السلسلة الضرورية الشاملة، وفيه أيضاً طمأنينة وبركة عن طريق إدراك وحدة الكون والذهن الذي هو مظهر جزئي له، وفيه أيضاً حب هو حب المعرفة والعلم. إن فلسفة إسبينوزا ليست علمية وليست مادية بما فيه الكفاية، أي لم تتم علمنتها تماماً، وإلا فلم البحث عن الخلاص والطمأنينة، بل وعن شيء قديم إنساني متخلف مثل الحب؟ ولذا سُـمِّيت فلسفته « صوفية العلم الذي لا تداخله أية سمة من النزوع إلى ما فوق الطبيعة »، أي أن فلسفته هي ميتافيزيقا بدون إله، أو حلولية مادية. 
وهو أيضاً من مفكري الربوبية المتطرفين، فالربوبية حاولت أيضاً أن تجد الرب في قوانين الطبيعة بحيث يمكن الوصول إليه عن طريق العقل وحسب. وإسبينوزا، بذلك، يكون قد بدأ المشروع المعرفي التحديثي والحداثي ولكنه تعثَّر وسقط في مفهوم الكل (والميتافيزيقا) وبحث عن الطمأنينة والحب، وهو ما يدل على ضعف الرؤية الكونية الموضوعية عنده. أما نيتشه، فقد اتسم بالجسارة وأكمل هذا المشروع المعرفي، فظهر النسق المعرفي المادي المعقم من كل مطلقات، وأعلن موت الإله وتطهير العالم من ظلاله وسقوط فكرة الكل والمركز بل والحقيقة، وإن كان قد ترك فكرة إرادة القوة كمصدر لتماسك النسق وكمركز له. ويتحقق المشروع المعرفي الغربي الحداثي في فكر دريدا (وهو يهودي سفاردي آخر) الذي أعلن سقوط الكل والمركز وعلاقة الدال بالمدلول وبداية عصر ما بعد الحداثة! 
وقد فرَّق إسبينوزا بين اليهودية والمسيحية وصنف اليهودية باعتبارها نسقاً دينياً لا يتناول إلا الجانب الظاهر من سلوك الإنسان، في مقابل المسيحية التي تُعَدُّ نموذجاً دينياً يركز على حياة الإنسان الباطنة، والتي تجعل الجزاء روحياً أكثر منه دنيوياً. وقد أصبحت هذه التفرقة أساساً للتفرقة بين النموذجين الدينيين المسيحي واليهودي في الفكر الغربي (سواء بين اليهود أو بين غير اليهود) فتبناه موسى مندلسون وكانط وهيجل وماركس وأصبح أحد البدهيات والمقولات التحليلية في علم مقارنة الأديان في الغرب، وهي تفرقة أقل ما يُقال عنها إنها مغرضة وسطحية وأحادية. 
وقد أثر إسبينوزا في الفكر الألماني، خصوصاً في فكر هردر ولسنج ( « لا يوجد سوى فلسفة إسبينوزا »)، وفي فكر موسى مندلسون وهيجل ( « لا يوجد سوى الفلسفة أو الإسبينوزية » )، وشلنج ( « لا يمكن لإنسان أن يتقدم نحو الحق والكمال في الفلسفة دون أن يغوص مرة على الأقل في حياته في هوة الإسبينوزية » ). وأشاع كوليردج فكر إسبينوزا وصرح بأنه لا يوجد سوى نسقين فلسفيين: فلسفة كانط وفلسفة إسبينوزا (ولكنه رفض حلولية إسبينوزا في أواخر حياته). وقد تأثر به كذلك الهيجليون اليساريون إذ كان فيورباخ ينظر إلى مادية إسبينوزا بعين التقدير، وتحدث بليخانوف (مؤلف كتاب تطور النظرة الواحدية للتاريخ) عن إسبينوزية ماركس وإنجلز أي واحديتهما التاريخية الكونية. 
واعترف إنجلز بأنه يؤمن بفكرة إسبينوزا القائلة بأن الامتداد والفكر صفتان لجوهر واحد، لأن الفكرة ليست لها دلالة سوى الدلالة المادية. كما نوه إنجلز في كتابه جدلية الطبيعة بفكرة إسبينوزا بأن الطبيعة علة نفسها، لا نهائية وأزلية، وهي صفات الإله التي خلعها إسبينوزا على الطبيعة. وقد بدأ الباحثون يهتمون بأثر فكر إسبينوزا في فرويد، كما أن فلسفته لقيت اهتماماً غير عادي في الاتحاد السوفيتي. وشعر كثير من العلماء والمفكرين في العصر الحديث مثل أينشتاين وبرجسون بوجود علاقة وثيقة بين رؤيتهم للكون ورؤية إسبينوزا. 
ونحن نذهب إلى أن المنظومـة العلمانية الشاملة اكتمـلت في كتـابات إسبينوزا، وأن المتتالية التي أدَّت إلى تفكيك الإنسان في القرن العشرين بدأت مع واحديته المادية الصارمة، وأن هناك داخل منظومته (بشكل جنيني) معظم الفلسفات العلمانية الأساسية: الفلسفة النفعية المادية (بنتام) والرؤية المادية الآلية التجريبية للعقل والنفس (لوك) ونسبية الأخلاق وإعلاء القوة كمطلق (نيتشه) والبرجماتية (وليام جيمس وجون ديوي). ومع هذا لم يُقدَّر لفلسفة إسبينوزا أن تكون الإطار الأساسي للفلسفات العلمانية الحديثة، فالهيجلية أحرزت قصب السبق في هذا المضمار، وهذا يعود إلى سكونية منظومة إسبينوزا، وفكرة الإله/الطبيعة المكتمل الذي يتجلى في الطبيعة، على عكس فكرة الإله/ الصيرورة الهيجلية (هو إله غير مكتمل ويتحقق تدريجياً داخل الطبيعة والتاريخ).
وقد يكون من المفيد التوقف قليلاً عند علاقة إسبينوزا بنيتشه. قال نيتشه (في كارت بوستال أرسل به لصديق له) إنه يتعرف على نفسه في عدة نقاط في عقيدة إسبينوزا: إنكار حرية الإرادة ـ إنكار الغائية ـ إنكار وجود نظام أخلاقي في العالم وإلغاء فكرة الخير والشر ـ رفض فكرة إيثـار الغـير والتأكيد على حـب الذات والقوة كأساس للحياة وللأخلاق. وأكد نيتشه أنه هو وإسبينوزا يجعلان المعرفة جزءاً لا يتجزأ من الغريزة وليس نشاطاً مستقلاً عن رغبات الإنسان وغرائزه، أي أن نظامهما المعرفي يتسم بالكمون الكامل (موت الإله المتجاوز) وأن الحياة مكتفية بذاتها. 
ومع هذا، يمكن القول بأن ثمة نقط اختلاف مهمة بينهما تعود إلى أن إسبينوزا يقف عند بداية المتتالية العلمانية بينما يقف نيتشه في مرحلتها النهائية، ذلك أن إسبينوزا أخذ أول خطوة في عمليات العلمنة حينما أمكن تهميش الإله أو القول بموته (باعتبار أن الإله هو الطبيعة)، كما أنه رفض أن يُمنَح الإنسان أية مركزية في الكون. ولهذا، أكد أن العالم تحكمه قوانين لا شخصية آلية لا تكترث بالإنسان أو بغائياته. ولكنه لم يأخذ الخطوة الثانية الحاسمة وهي تطهير العالم من ظلال الإله، أي من كل عناصر الثبات والمطلقية والتجاوز. 
فالعالم المادي (الطبيعة) والإنسان يرثان كثيراً من صفات الإله، فالعالم هو علة ذاته وغاية ذاته ومرجعية ذاته، عالم أزلي تحكمه قوانين ثابتة آلية خالدة، والطبيعة المطبوعة في حالة حركة دائمة ولكنها تحركها الطبيعة الطابعة التي لها عقل وهدف وغاية وهي التي تمنح الطبيعة المطبوعة شيئاً من الثبات. وهذه الطبيعة الطابعة هي العقل الأكبر الذي يحكم الكون والذي تتجسد عقلانيته في الطبيعة المطبوعة وثباتها. هذا الإيمان بالعقلانية هو سقوط في الغائية الإنسانية إذ أننا نُسقط صفاتنا ورغباتنا الإنسانية على عالم الطبيعة فنراه ثابتاً معقولاً! 
وقد ورث الإنسان، هو الآخر، بعض هذه الصفات الربانية، فهو يتصور أنه كائن عقلاني وأن ثمة عقلاً إنسانياً عالمياً شاملاً قادراً على مراكمة المعرفة. ومن خلال إيمانه هذا، يدَّعي الإنسان أنه يؤمن بأنه قادر على تحقيق قدر من تجاوز الصيرورة والتناهي ومن هنا مفهوم الحب العقلي للإله، فهو يعني أسبقية العقل على الوجود، فالوجود بعض من جوهر الإله ولذا فهو وجود عقلاني، أما الحتمية التي ينصب عليها حب الإنسان فيمكن فهمها وفهم قوانينها ويمكن الإذعان لها برضا ويمكن للإنسان تحقيق الصفاء والغبطة (أتاركسيا) من خلالها باكتشافه الوحدة الكامنة فيه. بل إن الحب العقلي للإله يدخل عنصراً أزلياً في عقل الإنسان بحيث يصبح هذا العقل خالداً أيضاً، ومن هنا حديث إسبينوزا عن وحدة صوفية بين الإنسان والطبيعة والخالق. 
أما نيتشه، فتحرر تماماً من الإله وهرب من ظلاله فتجربته الكمونية كاملة، فهي لا تترك أي مجال للنظام أو الثبات أو الاستمرارية أو العقلانية في الكون. والإنسان نفسه في حالة سيولة وتغير، فهو إرادة قوة محضة وموازين قوى. كل هذا يعني استحالة تفسير أي شيء أو تبرير أي شيء. ولذا، بدلاً من فكرة الحب العقلي للإله عند إسبينوزا، يظهر حب القَدَر (باللاتينية: آمور فاتي amor fati). 
والحتمية، موضع الحب عند إسبينوزا، هي حتمية داخل نظام عقلاني متسق، أما الحتمية في نظام نيتشه فهي قَدَر غامض غاشم لا يمكن فهمـه، حتمـية تلقي بكلكـلها على كل المخلوقات كـعبء لا يمكن التخلص منـه. ولذا، لا يمكن تحقيق الصفاء أو الأمن، فالعالم أرض خراب ميتافيزيقية، عالم من الصراع والتحول ولا يوجد أي عزاء فلسفي، فالفرد في حالة عزلة دائمة، وحب القدر عمل من أعمال التحدي، فهو رفض لفكرة الطبيعة البشرية ولفكرة السببية وقبول للصيرورة والعود الأبدي لا تنتج عنها أية وحدة صوفية. ومن هنا، دعا نيتشه إلى إعادة تقييم القيم حتى يمكن اتخاذ الخطوة الحاسمة نحو تأسيس حضارة نسبية كاملة لا توجد فيها طبيعة معقولة ولا إنسان عاقل، حضارة تتجاوز ثنائية الذات والموضوع لتصل إلى السيولة الشاملة.
إسبينوزا وعلاقة فلسفته بالعقيدة والجماعـات اليهودية 
Relationship between Spinoza's Philosophy, Judaism and Jewish Communities 
يمكن تقسيم علاقة إسبينوزا باليهود واليهودية إلى قسمين: علاقة التضاد على المستوى المباشر، وعلاقة التماثل على المستوى النماذجي: 
1 ـ علاقة التضاد (على المستوى المباشر): 
كان لابد أن يهاجم إسبينوزا العقيدة اليهودية انطلاقاً من واحديته المادية، وكان هجومه يتم على مستويين: اليهودية كدين له شعائره الخاصة، واليهودية كمجموعة من العقائد تستند إلى ما فوق الطبيعة والإيمان بالإله كقوة مفارقة لها، أي اليهودية كنموذج لكل الأديان. 
ومن أهم مؤلفات إسبينوزا كتاب رسالة في اللاهوت والسياسة، وهو أساساً نقد للعهد القديم ولأسفار موسى الخمسة. ومن هنا يُعَدُّ إسبينوزا من أوائل المفكرين الذين وضعوا دعائم العلم الذي يُسمَّى «نقد العهد القديم» (أي النقد التاريخي للكُتب المقدَّسة). وقد أنكر إسبينوزا في كتابه كثيراً من مبادئ اليهودية أو مبادئ أي دين آخر مثل الإيمان بالوحي، فالأنبياء حسب تصوره إن هم إلا أشخاص ذوو خيال متوقد، كانوا قادرين على التوصل إلى حقائق أخلاقية. أما فيما يتصل بمعرفتهم بالقوانين العلمية فأفكارهم متناقضة. 
وموسى لا يختلف عن الأنبياء إلا في أن الوحي بالنسبة إليه كان مباشراً من خلال صوت الإله. وقد رفض إسبينوزا الإيمان بالمعجزات إذ لا يمكن أن يحدث أي شيء متناقض مع القانون الطبيعي (فالطبيعة/المادة هي المرجعية النهائية). وإن كانت هناك إشارات للمعجزات في العهد القديم، فإن هذا يعود إلى أنه مُوجَّه للوجدان الشعبي ولا يصلح لكل الناس. والتوراة عديمة القيمة إلا في تلك الجوانب المشتركة مع القانون الطبيعي، أي أن المرجعية النهائية هي دائماً الطبيعة/المادة (وهذا هو جوهر التفكير الربوبي). 
وأكد إسبينوزا أن الكتب الدينية اليهودية موجهة أساساً إلى الجماهير اليهودية وحدها، وأن الشريعة اليهودية إن هي إلا قوانين الدولة العـبرانية القديمـة التي صدرت لضمان الاستقرّار السـياسي بين العبرانيين. ولذا، لا علاقة لهذه القوانين باليهود بعد الشتات، أي بعد انتشارهم في العالم، فعلاقتها أساساً بالاستقرّار الزمني للدولة. ويرى إسبينوزا أن سائر الشعائر والاحتفالات الدينية التي وردت في العهد القديم هي من وضع العلماء اليهود الفريسيين. 
ويقارن إسبينوزا بين موسى والمسيح فيقول إن موسى كان يخاطب اليهود بوصفه مشرِّعاً وقاضياً وكان يتناول في تشريعه الجانب الظاهر من سلوك الإنسان، أما المسيح فتناولت تعاليمه حياة الإنسان الباطنة وكان الجزاء عنده روحياً أكثر منه دنيوياً. 
وقد حلل إسبينوزا مختلف طرق الاتصال بين الإله والأنبياء حسبما جاء في الأناجيل، ويرى أن الأوصاف الواردة في الأناجيل لا تدل على حدوث اتصال مباشر بين العقل الإلهي وبين أي عقل آخر سوى المسيح. فالاتصال الإلهي بموسى كان مخاطبة أو كلاماً، والكلام يحتاج دائماً إلى المخيلة لتفسيره أو فهمه (أي أن هناك ثغرة بين الخالق وموسى إبّان عملية الوحي). وكذا كان الأمر مع الأنبياء، فالاتصال ببقية الأنبياء اليهود كان عن طريق أحلام أو علامات أو أمارات معيَّنة، أي أنه كان يتم دائماً من خلال واسطة، وهو ما يعني وجود ثغرة أو فجوة بين الإله والأنبياء. 
والحالة الوحيدة التي تم فيها اتصال مباشر، ومن عقل إلى عقل دون توسط اللغة أو الخيال، هي حالة المسيح (فهل التجسد ـ إذن ـ هو النموذج الكامن في فكر إسبينوزا: أي أن تصبح الكلمة جسداً، ويصبح الدال مدلولاً، وتختفي الثغرات تماماً؟ هل التجسد هو تحوُّل الواحدية الروحية إلى واحدية مادية وتحوُّل اللاهوت إلى ناسوت؟). وعلاوة على كل هذا، أُرسل موسى إلى اليهود وحسب، ولذا فقد توجه موسى إلى اليهود وحدهم وتكيَّف عقله مع أوضاعهم. أما المسيح فتوجه إلى العالم، ولذا فإن أفكاره عالمية وحقيقية. وقد أثرت رؤية إسبينوزا للعقيدة اليهودية فيمن أتى بعده من فلاسفة غربيين بما في ذلك كانط وهيجل وماركس، بل وفي مقارنة النماذج التحليلية التي سادت في علم مقارنة الأديان (وفي الفكر الديني اليهودي). 
وقد حدا هذا بالبعض على أن يروا في موقف إسبينوزا هذا محاباة للمسيحية على حساب اليهودية. ولكن إسبينوزا يستوعب كل شيء في نسقه الواحدي فبيَّن كيف يختلف رأيه عن رأي المسيحيين، فهو يرى الإله باعتباره العلة الكامنة في الأشياء (المبدأ الواحد) وليس العلة العالية فوق الأشياء، المتجاوزة لها. ولذا، فهو يُفسِّر الفكرة المسيحية القائلة بأن المسيح هو ابن الإله الأزلي باعتبار أنها تعني في واقع الأمر أن المسيح كان يُعبِّر عن الحكمة الإلهية الأزلية كما تتمثل في الأشياء ولا سيما العقل البشري (المبدأ الواحد الكامن في المادة)، وهي الحكمة المؤدية بالفعل إلى الخلاص. أما فكرة أن يتخذ الإله صورة بشـرية، فإنها مسـتحيلة تماماً كأن نقـول إن الدائرة اتخـذت صورة المربع، وهكذا نعود دائماً إلى الهندسة والأرقام. 
ولا ينصرف نقد إسبينوزا إلى اليهودية وحسب وإنما يمتد ليشمل اليهود أيضاً، إذ يرى أنهم تمسَّكوا بعقائدهم بعد هدم الهيكل لا ابتغاء مرضاة الإله وإنما كرهاً للمسيحية. وعنده أن عقيدة الاختيار إن هي إلا تعبير عن غبطتهم بعزلتهم عن الآخرين. واليهود هم محط كراهية الإله الذي حطم هيكلهم والذي أرسل إليهم بشرائع وقوانين لا يستطيع أحد أن يعيش بمقتضاها. ولذا، فهذه القوانين لم تكن تعبيراً عن رغبة الإله في الحفاظ على رضاء اليهود بل تعبيراً عن غضبه عليهم ومنهم. 
وأفاض إسبينوزا بعد ذلك في ذكر صفات اليهود السلبية، فاليهود يكرهون كل الشعوب الأخرى حتى أصبح الحقد بالنسبة إليهم طبيعة ثانية، ينمونها كل يوم في صلواتهم. وحتى صفاتهم الطيبة، فإنها نابعة من سيئاتهم، فتماسكهم وتعاطفهم ينبع من كُرههم لكل الشعوب الأخرى. ويُفسِّر إسبينوزا استمرار ما يرى أنه الهوية اليهودية على أساس موقف الشعوب غير اليهودية من اليهود، فيشير إلى أن يهود المارانو في إسبانيا الذين سُمح لهم بشغل مناصب رفيعة حققوا الاندماج وانتهى الأمر بهم إلى الانصهار، على عكس المارانو في البرتغال الذين احتفظوا بهويتهم لأنهم تم استبعادهم من الوظائف الحكومية. 
ومن هنا يجب على المسيحيين ألا يضطهدوا اليهود المتنصّرين لأن المعاملة الحسنة هي التي ستؤدي إلى اختفائهم، بل إن السياسة نفسها يمكن أن تُطبَّق على اليهود المؤمنين، وقد تؤدي إلى نفس النتائج.
2 ـ علاقة التماثل (على المستوى النماذجي): 
هاجم إسبينوزا اليهودية، إذن، بشكل واضح، والمسيحية بشكل مستتر، بل هاجم اليهود وتاريخهم. ومع هذا، فإن علاقة إسبينوزا باليهود واليهودية علاقة بالغة العمق والتركيب، وثمة جوانب في فكره لا يمكن فهمها دون العودة إلى الكثير من العناصر في العقيدة اليهودية وإلى أشكال تطور الجماعات اليهودية في أوربا. ففكره، من هذا المنظور، تعبير عن جوانب كامنة في النموذج الديني الذي يرفضه.
كما أن ثمة تطورات لاحقة بين اليهود واليهودية كان إسبينوزا تعبيراً عميقاً عنها، ونموذجاً أساسياً لها: 
أ ) كان إسبينوزا من يهود المارانو الذين فقدوا هويتهم الدينية، فقد كانوا مسيحيين كاثوليك قولاً، يهوداً فعلاً، أو هكذا كانوا يتوهمون، إذ أنهم في واقع الأمر فقدوا هويتهم اليهودية الدينية في الفترة التي أخفوها فيها فلم يبق منها إلا قشرة ضعيفة، فأصبحوا جمـاعة هامشية بالنسبة لكل الـعقائد، ولم يكونوا مسيحيين ولا يهود. ولذا، فإنهم حينما تركوا شبه جزيرة أيبريا واستقرت أعداد منهم في أمستردام، التي كانت قد حققت أعلى معدلات العلمنة في الغرب، وجدوا التربة المناسبة لهم هناك وبدأوا يقودون الفكر المعادي للدين، أيِّ دين، وكانوا من حملة لواء الشك الفلسفي والديني. 
وقد خرج إسبينوزا من هذه التشكيلة الحضارية الدينية الفذة، فهو مفكر ماراني بالدرجة الأولى يُظهر الإيمان الديني ويستخدم الخطاب الديني ولكنه يُبطن الإيمان الكامل بالمادة وقوانينها باعتبارها النقطة المرجعية النهائية، لا بالنسبة إلى العالم المادي وحسب (الطبيعة) وإنما بالنسبة للإنسان أيضاً. وعلى مستوى الخطاب، يتحدث إسبينوزا عن الإله، وهو في واقع الأمر يعني الطبيعة. ولذا، فإنه عندما يقول « بأمر الإله » إنما يعني « حسب قوانين الطبيعة ». وقد أشار أحد المؤلفين إلى إسبينوزا باعتباره ماراني العقل (مادي)، أي أنه يدافع عن الرؤية المادية بشكل خفي. 
ب) وحينما استقر المارانو في أرجاء أوربا، كانت اليهودية الحاخامية تعاني من بدايات أزمتها بعد هجمات شميلنكي وبعد تحجر الفكر الديني اليهودي الحاخامي وعزلته عن التيارات الدينية في العالم وأوربا. وشن كل من إسبينوزا وشبتاي تسفي هجوماً شرساً على اليهودية، وكلاهما من أصل ماراني، وكلاهما حلولي واحدي في فكره يؤمن بوحدة الوجود الروحية في المظهر، المادية في المخبر، ويؤمن بإمكانية تشييد الفردوس الأرضي (الآن وهنا) وإعلان نهاية التاريخ. 
ولعل الفارق الوحيد بينهما هو أن تسفي ظل حبيس الديباجة الدينية اليهودية القبَّالية اللوريانية ووحدة الوجود الروحية، بينما تمكَّن إسبينوزا من تجاوزها واكتشــف التوازي بين الحلولية الواحدية الروحية والحلولية الواحدية المادية، فاسـتخدم مصطلحاً دينياً روحياً ومصطلحاً فلسـفياً مـادياً في آن واحد، ويمكن فك شفرة الأول من خلال المقولة المبدئية « إن الإله هو الطبيعة ». وحتى المصطلح الديني السطحي الذي استخدمه إسبينوزا كان مصطلحاً دينياً عاماً ليس فيه سوى أصداء يهودية. ولذا، كان هجوم تسفي على اليهودية من الداخل، بينما كان هجوم إسبينوزا هجوماً من الخارج. 
ونحن نذهب إلى أن رؤية إسبينوزا الفلسفية حلولية متطرفة تضرب بجذورها في القبَّالاه اللوريانية. ولكن قبل أن نعرض لهذا المصدر الأساسي من مصادر رؤيته، قد يكون من المفيد الإشارة إلى وجود تيارات أخرى داخل اليهودية أثرت في إسبينوزا وعمقت اتجاهه الحلولي. وتذهب بعض الدراسات إلى أن هناك اتجاهين داخل اليهودية: الاتجاه الميموني العقلاني، نسبة إلى موسى بن ميمون، والاتجاه الحلولي القبَّالي اللاعقلاني. ولكن فكر موسى بن ميمون نفسه يحوي في داخله عناصر مادية، فعقلانيته أحياناً شاملة متطرفة كثيراً ما تقترب من حالة الواحدية المادية الشاملة التي حققها إسبينوزا والتي لا تختلف عن واحدية الرؤية الحلولية الروحية. 
وتوجد داخل اليهودية الحاخامية أفكار تركت أعمق الأثر في إسبينوزا. فاليهودية، في إحدى صورها، تكاد تكون ديناً بدون إله وبدون ميتافيزيقا. ونظراً لتناقض بعض العقائد اليهودية، تم التركيز على الشعائر حتى لا تتعارض الفرق اليهودية المختلفة فيما بينها وبحيث يمارس كل اليهود الشعائر نفسها بعد أن ينسب إليها كل فريق المعنى الذي يريده. وهذه السمة في اليهودية هي التي أثرت في إسبينوزا حينما فرق بين اليهودية والمسيحية باعتبار أن الأولى دين الظاهر والثانية دين الباطن. ورؤية إسبينوزا للإله متأثرة بجانب مهم في اليهودية هو الإيمان بإله متجاوز للمادة تماماً (إلى درجة التعطيل أحياناً) حالٍّ فيها تماماً في الوقت نفسه، إله يشبه قوانين الضرورة في المنظومة الإسبينوزية، وهي قوانين عامة مجردة ولكن لا وجود لها خارج المادة (يشبه من بعض الوجوه إله كالفن). 
وقد يكون من المفيد هنا أن نشير إلى ما سميناه «الطبيعة الجيولوجية التراكمية لليهودية»، فهناك داخل اليهودية إيمان بإله مفارق وإيمان بإله حالّ، وإيمان بالبعث واليوم الآخر وإنكار لهما أو عدم اكتراث بهما. وقد أشار إسبينوزا نفسه إلى أن فكرة الآخرة في العقيدة اليهودية كانت دائماً فكرة شاحبة، فالعهد القديم لا يتحدث عن خلود الروح (وعلى كلٍّ، فإن هذا هو الحال دائماً مع المنظومات الحلولية الواحدية). وشدد إسبينوزا على أن الصدوقيين كانوا يُنكرون اليوم الآخر وعقيدة البعث، وأنهم مع هذا لم يُطرَدوا من حظيرة الدين بل كانوا يشكلون الطبقة الكهنوتية القائدة. وكانوا يجلسون في السنهدرين جنباً إلى جنب مع الفريسيين. 
كما أن العهد القديم لا يوجد فيه، على حد قوله، أي شيء عن وجود غير مادي أو غير جسماني للإله (أي أنه اكتشف الطبقة الحلولية التجسيدية المادية في العهد القديم). ولكل ما تقدَّم، فإنه يُعرِّف اليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية حتى ولو لم يؤمن بالإله، فاليهودية خاصية بيولوجيـة مادية وراثية. وإسـبينوزا على حق فيما يقول، بشكل جزئي، فكل الآراء التي ذكرها وردت في التراث الديني اليهودي. ولكن هذه الآراء لا تشكل إلا جزءاً وحسب أو طبقة جيولوجية توجد بجوارها طبقات أخرى متناقضة معها تماماً. وبسبب هذه الخاصية الجيولوجية، ظهر إسبينوزا وولَّد الإلحاد والعلمانية من داخل النسق الديني اليهودي ذاته (وهذه إستراتيجية كثير من المفكرين الإلحاديين في القرن العشرين، فتحت شعار التوفيق بين العقل والدين يتم إحلال العقل محل الدين، ثم المادة محلهما جميعاً). 
ومهما يكن تأثير اليهودية الحاخامية، فإن القبَّالاه اللوريانية (التي تُعَدُّ مكوِّناً أساسياً في فكر اليهود السفارد والمارانو والتي تشبَّع بها إسبينوزا) تركت أثراً حاسماً فيه وشكلت إطاراً لمعظم أفكاره. والقبَّالاه اللوريانية صياغة غنوصية حلولية متطرفة، بل تُعَدُّ من أكثر الصياغات الحلولية تطرفاً، فهي حلولية روحية توحِّد تماماً بين الخالق ومخلوقاته، أي بين الإله والإنسان والطبيعة. والكون ليس مجرد تعبير عن الإله وإنما هو الإله ذاته. 
والخالق حسب القبَّالاه اللوريانية يسري تماماً في الكون متصلاً بمخلوقاته ملتحماً بهم بحيث يصبح المخلوق في قداسة الخالق وتصبح المادة/الطبيعة في قداسته. ويمكن القول بأن وحدة الوجود الروحية شكل من أشكال علمنة الدين من الداخل، فالرؤية الدينية التوحيدية تؤمن، كما هو معروف، بثنائية الدنيا والآخرة، والخالق والمخلوق، والمادة والروح، والكل والجزء، والسماء والأرض، والإله والطبيعة. وتحاول الديانات والفلسفات الدينية التوحيدية كافة الحفاظ على هذه الثنائية حتى وإن حاولت أن تختزل المسافة بين الخالق والمخلوق وتُقرِّب بينهما (بحيث تتحول الثنائية الصلبة إلى ثنائية فضفاضة وتتحول المسافة إلى مجال تفاعل بين الخالق والمخلوق). 
أما الفلسفات الحلولية في لحظة وحدة الوجود فتأخذ شكل رؤية وحدة عضوية كاملة بحيث يسري قانون واحد في كل الكون، ومن هنا النزعة الكونية الموضوعية التي تكتسح الإنسان. وقد أكدت الكنيسة الكاثوليكية هذه الثنائية بشكل حاد. ويُعَدُّ الإصلاح الديني البروتستانتي أولى محاولات كسر الثنائية، ولكن القبَّالاه اللوريانية كانت قد أنجزت ذلك منذ زمن وعلمنت اليهودية، فثمة عالم واحد أحادي يسري فيه قانون واحد ضروري حتمي عام، وهو عالَم يتراجع فيه الإنسان ويختفي، فهو جزء من كل وليس له خصوصية إنسانية.
وعالَم القبَّالاه اللوريانية لا عاطفة فيه ولا أخلاق، فالأمور كلها جزء من نسق هندسي، ومن هنا ظهرت الجماتريا، وهي محاولة تفسير العالم بالأرقام من أجل التحكم فيه لا التوازن معه، وهذا يقابل تماماً فكرة إسبينوزا عن إمكانية فهم العالم، بما في ذلك الإنسان، من خلال المنطق والخطاب الهندسي، وعن إمكانية التحكم في العالم وفي الذات بأن ينظر الإنسان إلى الكون من منظور الإله (الرؤية الكونية الموضوعية). 
وقد قيل عن القبَّالاه اللوريانية إنها ألهَّت الجنس وجنَّست الإله، وهو إنجاز فرويد فيما بعد، ويمكننا أن نقول إن إسبينوزا ألَّه الطبيعة وطَّبع الإله، وتطبيع الإله شكل من أشكال التجسد الدائم والمستمر. وإذا كان التجسد في المسيحية أخذ شكل لحظة تاريخية فريدة في حياة المسيح باعتباره ابن الإله (وهو ما نسميه «الحلول المؤقت»)، فإن حلولية القبَّالاه اللوريانية هي في الواقع تجسد دائم إذ يُصبح الكون بأسره جسد الإله، فالطبيعة هي التجسد الكامل والمستمر للإله، وعلى من يود معرفته أن يدرسها ويستخلص منها كل ما يلزمه من معرفة للخلاص. 
وجاء في القبَّالاه اللوريانية أن " إلوهيم هو هاطيفع " أي أن الإله هو الطبيعة (تماماً كما يقول إسبينوزا)، وأكد القبَّاليون أن طيفع هي المعادل الرقمي لإلوهيم. بل إن إنجازه الفلسفي الأكبر هو اكتشـافه هـذا التقابل المدهش بين وحدة الوجود الروحية (لا موجود إلا هو، أي الإله) ووحدة الوجود المادية (لا موجود إلا هي، أي المادة أو الطبيعة). ومن خلال اكتشافه هذا، جعل إسبينوزا الإنسان الغربي قادراً على أن يتبنَّى الرؤية العلمانية الشاملة دون أن يدري ودون أي إحساس بالحرج. 
وقد أشرنا من قبل إلى تأثير اليهودية الحاخامية في رؤية إسبينوزا للإله باعتباره متجاوزاً تماماً للمادة حالاًّ تماماً فيها. وهذه الرؤية المتناقضة، توجد وبشكل حاد في القبَّالاه اللوريانية، فالسفيروت أو التجليـات النورانية هي تجسـُّد إنساني كامل للإله، فهي الحلول الكامل، ولكن وراءها يوجد الـ «إين سوف»، أي الإله الخفي المفارق تماماً للعالم والذي لا علاقة له به، وهي ثنوية (أو ثنائية صلبة) توجد كذلك في الفكر الغنوصي. 
وبحسب أسطورة تهشُّم الأوعية، فقد تبعثر النور الإلهي في الكون كله، بحيث اختلط الخير بالشر والروح بالجسد وأصبح الشر ملازماً للخير بحيث يصبح التمييز بين الواحد والآخر مستحيلاً. وفي مفهوم الخلاص بالجسد (بالعبرية: عفوداه بجشيموت)، نجد أن الخلاص يتم عن طريق ارتكاب المعاصي أو عن طريق الغوص في المادة. ونظرية القبَّالاه اللوريانية الأخلاقية لا تختلف كثيراً عن نظرية إسبينوزا في الأخلاق حيث يتم الخلاص لا من خلال معرفة الخير والشر، وممارسة الخير وتجنُّب الشر، وإنما يتم من خلال إدراك أن الكون لا غاية له ولا خير فيه ولا شر وإنما ضرورات وحتميات تحدث لأنها يجب أن تحدث، فهو خلاص من خلال معرفة قوانين المادة. كما أن المطلَق الوحيد في منظومة إسبينوزا هو البقاء وبالتالي القوة، وكلما ازداد الإنسان قوة ازدادت مقدرته على البقاء وازداد خيراً. وهذا لا يختلف كثيراً عن طريق الخلاص من خلال المعاصي والغوص في المادة. كما أن النسبية الأخلاقية التي تسم المنظومة الإسبينوزية توجد في المنظومة اللوريانية. 
ومن الأفكار الأساسية في القبَّالاه فكرة أن الإنسان (المايكروكوزم: الكون الأصغر) يشبه الكون (الماكروكوزم: الكون الأكبر) في البنية، وأن ثمة قانوناً واحداً يسري عليهما. وهذه فكرة أساسية أيضاً في فلسفة إسبينوزا حيث نجد هذا التعادل بين الخالق والطبيعة والإنسان، وأن الإنسان إن هو إلا جزء من كل، خاضع تماماً لقوانينه. 
وقد طُرد إسبينوزا من حظيرة الدين اليهودي، إلا أنه يشكل أول تعبير عن نمـط متكرر بعـد ذلك في الحضارة الغربية، وهو اليهودي الإثني، أي اليهودي الذي يترك عقيدته الدينية ولا يعتنق ديناً آخر، ومع هذا يظل يُشار إليه باعتباره يهودياً. وهو اليهودي الذي تستند هويته لا إلى عقيدته وإنما إلى انتمائه للموروث اليهودي. 
ويقف إسبينوزا أيضاً على بداية سلم طويل من المثقفين الغربيين العلمانيين ذوي الجذور اليهودية الذين يقفون على هامش الحضارة لا يشعرون بأية قداسة نحو أي شيء، ويُخضعون كل شيء، بما في ذلك الإنسان نفسه، للقياس الكمي، ويناصبون كل التقاليد السائدة العداء. وهم سلم طويل بدأ بإسبينوزا ويضم لاسال وماركس (إلى حدٍّ ما) وفرويد وتروتسكي وليفي شتراوس. ومعظم هؤلاء المفكرين يرفضون الدين تماماً ولكنهم يقترحون بدلاً منه نموذجاً معرفياً مادياً متكاملاً شاملاً يحمل كثيراً من سمات الدين. 
ويبدو أن إسبينوزا والمفكرين الثوريين مثل ماركس متأثرون بالنزعة المشيحانية في اليهودية وهي نزعة حلولية واحدية معادية تماماً للتاريخ وللحدود وترى أن كل تفاصيل التاريخ والكون تفاصيل مؤقتة، تؤدي جميعاً (في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير) إلى العصر المشيحاني (والفردوس الأرضي عند نهاية التاريخ) الذي سيحدث فيه تغيُّر كامل لكل شيء. 
وهذه النقطة عند إسبينوزا تأخذ شكل الإدراك الكامل لقانون الضرورة والحتمية، وهي المعرفة الشاملة بكل الأمور بحيث يصل الإنسان في معرفته إلى مرتبة الآلهة، وهي معرفته بأنه ليس ثمة حرية ولا معنى خاص له، وأنه جزء من كل مادي يتحرك حسب قوانينه الذاتية التي تستطيع الإرادة الإنسانية التدخل فيها. وتحوَّلت هذه الفكرة عند ماركس إلى فكرة الحتمية التاريخية وقوانين الجدل المادية التي ترتفع بالإنسانية جمعاء إلى المجتمع الشيوعي (في نهاية الأمر) حيث يتم التحكم الكامل في الذات والموضوع. ومع هذا، يجب تأكيد أن هذه النزعة المشيحانية السياسية العلمانية هي تيار واضح بين المفكرين العلمانيين الغربيين سواء كانوا من أصول مسيحية أم كانوا من أصول يهودية. 
هاجم إسبينوزا اليهودية واليهود، وأشار البعض إلى أنه بسبب ذلك لا يمكن أن يكون صهيونياً. ولكننا بيَّنا أن مفهوم الشعب العضوي المنبوذ هو أساس لكل من معاداة اليهود والصهيونية. وينتمي إسبينوزا إلى هذا النمط، فعداؤه الشديد لليهود أدَّى به إلى طرح اقتراح صهيوني حين قال: "بل إنني لأذهب إلى حد الاعتقاد بأنه لو لم تكن مبادئ عقيدتهم [أي اليهود] قد أضعفت عقولهم، ولو سنحت الفرصة وسط التغيرات التي تتعرض لها أحوال البشر بسهولة، فقد يُنشئون مملكتهم من جديد، وقد يختارهم الإله مرة ثانية". 
ويمكن هنا أن نملأ بعض الفراغات الموجودة بين السطور والكلمات، وبين الدال والمدلول، من خلال معرفتنا برؤية إسبينوزا. فالعقيدة اليهودية حسب رأيـه أضـعفت عـقول اليهود بما حوت من غيب وغرض واتجاه وثنائيات، فإن نجحت اليهودية في تطهير نفسها من أية مطلقات أو ثنائيات، أي أصبحت عقيدة مادية علمانية تماماً، تدور في إطار وحدة الوجود المادية لا وحدة الوجود الروحية، لأمكنها أن تنقذ اليهود خصوصاً وسط التغيرات التي تحدث في العالم، وكان التغير الأساسي آنذاك هو صعود القوة الغربية وبداية التشكيل الاستعماري الغربي الذي كان يعني في واقع الأمر علمنة العالم وفرض إرادة القوة عليه. وسيؤدي هذا إلى أن يقوم اليهود بتأسيس مملكتهم الصهيونية بمساندة هذه القـوة الجديدة. وهذا ما يعنيه إسـبينوزا باختيار الإلـه لهم مرة ثانيـة.
والمشروع الصهيوني تنفيذ حرفي للمشروع الإسبينوزي، ذلك أن الصهيونية علمنت اليهودية وطهَّرتها من الغيبيات والثنائيات والغايات الأخلاقية، فوحَّدت بين الخالق والمخلوق والطبيعة (الإله والشعب اليهودي وإرتس أو أرض يسرائيل)، بحيث لا يمكن فصل أيٍّ من هذه الأشياء عن الآخر، تماماً مثلما وحَّد إسبينوزا بين الإله والإنسان والطبيعة في إطار واحديته الكونية المادية. ومع تصفية الثنائية، لم يَعُد اليهودي عضواً في جماعة دينية وعرْقية تتحدد هويتها حسب الموروث الديني والعرْقي (البيولوجي) وإنما عضواً في جماعة عرْقية (أي قومية) فقط تتحدد هويتها حسب موروثها العرْقي (أو الإثني) وحسب، وهو موروث لا يُلزمها بأية أهداف أخلاقية أو غايات إنسانية إذ يصبح الهدف الوحيد بقاء اليهود. 
لكن آلية هذا البقاء تكمن في القوة وفي المقدرة على ضرب كل من يقف في طريق اليهود بيد من حديد، فلهم « حق طبيعي كامل [مطلق]، ولهم من الحق على الطبيعة بقدر ما لهم من القوة ». فحق كل فرد « يمتد بقدر ما تمتد قوته ». وبالتالي، أصبح الشعب اليهودي شعباً مختاراً « مرة ثانية »، شعباً مختاراً لأنه اختار نفسه، شعباً يُشبه في كثير من الوجوه المستوطنين البيوريتان في أمريكا الشمالية الذين اختاروا مصيرهم وركبوا سفنهم و « اكتشفوا » العالم الجديد وطهروه من تاريخه السابق، وحولوه إلى جنة عذراء. وقد أُقيمت في إسرائيل مراسم عودة إسبينوزا لحظيرة الدين مرة أخرى، ويُحتَفل بميلاده وذكرى نشر كتبه، ويوجد معهد متخصص لدراسة كتبه.
يتبع إن شاء الله...


الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية   الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية Emptyالأربعاء 11 ديسمبر 2013, 9:18 pm

الفلاسفة من أعضاء الجماعات اليهودية في القرن الثامن عشر 
Philosophers among Members of the Jewish Communities in the Eighteenth Century 
بعد إسبينوزا لم يظهر داخل التشكيل الحضاري الغربي ولمدة قرنين من الزمان فيلسوف مهم من بين أعضاء الجماعات اليهودية. فجميع الفلاسفة البارزين من أعضاء الجماعات اليهودية وُلدوا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدأوا يكتبون في العقود الأولى من القرن العشرين. هذا لا يعني أنه لم يظهر بينهم فلاسفة، ففكر حركة الاستنارة ترك أثراً كاسحاً فيهم، ففكر موسى مندلسـون (« أفلاطون ألمانيا وسقرّاط اليهود » كما كان يُقال له) هو تنويع مباشر إن لم يكن اشتقاقاً مباشراً من فكر حركة الاستنارة والعقلانية المادية بكل نقطه الإيجابية والسلبية. كما تأثر المفكرون الدينيون والتربويون من أعضاء الجماعات اليهودية بالفكر الاستناري والربوبي وحركة التنوير اليهودية (هسكلاه) وهي ثمرة حركة الاستنارة. 
وترك ظهور الفكر المعادي للاستنارة هو الآخر أثره العميق في المفكرين من أعضاء الجماعات اليهودية فظهر فكر عضوي يتحدث عن «تفرُّد اليهود» وعن «الشعب العضوي (فولك)» و«حركة التاريخ اليهودي» و«الشخصية اليهودية». وتبلور هذا الفكر في نهاية الأمر في الفكر الصهيوني. ولعل الانتقال من فكر حركة الاستنارة إلى فكر العداء للاستنارة يتبدَّى في ظهور اليهودية الإصلاحية (ثمرة حركة الاستنارة والتفكير الآلي) ثم اليهودية المحافظة (ثمرة حركة العداء للاستنارة والتفكير العضوي).ويبدو أن الفلاسفة من أعضاء الجماعات اليهودية يحققون بروزهم داخل الحضارة الغربية في لحظات الانقطاع الحادة.فإسبينوزا ظهر عند ولادة المنظومة العلمانية في إطار العقلانية المادية (وتواري المنظومة المسيحية) وعبَّر عنها أبلغ تعبير. أما برجسون وهوسرل فظهرا بعد ميلاد اللاعقلانية المادية (بعد مقتل العقلانية المادية على يد نيتشه) وهما أيضاً عبَّرا عنها أبلغ تعبير. 
هنري برجسون (1859-1941) واللاعقلانية المادية 
Henri Bergson and Materialist Irrationalism 
أحد أهم الفلاسفة الفرنسيين في مطلع القرن العشرين. وُلد في باريس في 8 أكتوبر 1859. وكان أبوه موسيقياً مشهوراً وسليل أسرة يهودية ثرية هي أسرة «أبناء بيريك» أو «بركسون» التي اشتُق منها اسم «برجسون» بعد أن اندمجت الأسرة في المجتمع الفرنسي (وتغيير الاسم حتى يفقد ملمحه اليهودي أمر مألوف بين أعضاء الجماعات اليهودية). كانت أم برجسون من أصل إنجليزي يهودي، ولكنها كانت هي الأخرى مندمجة في مجتمعها. ولذا، فقد تلقَّى برجسون تعليماً فرنسياً علمانياً، وأظهر نبوغاً في الدراسات الكلاسيكية والرياضيات معاً. 
دخل برجسون مدرسة المعلمين العليا الشهيرة عام 1878، وتجنَّس بالجنسية الفرنسية عام 1880 عندما بلغ سن الرشد. وفي عام 1881، حصل على الليسانس في الرياضيات والآداب معاً، ثم حصل على درجة الأجريجاسيون في الفلسفة عام 1881. وإذا كان تعليم برجسون فرنسياً، فإن حياته المهنية كانت كذلك أيضاً؛ فقد عُيِّن أستاذاً بالكوليج دي فرانس عام 1900، وانتُخب عضواً بأكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية عام 1901، ثم عُيِّن بالأكاديمية الفرنسية، وحصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1908. ومن أشهر مؤلفاته التطور الخلاق (1907)، و منبعا الأخلاق والدين (1932). 
ويمكن توصيف عالَم برجسون بأنه مثل معظم الأيديولوجيات العلمانية يحاول أن يرد العالم بأسره إلى مبدأ واحد، وهو في حالته مبدأ التطور الدارويني، ولكنه يبذل محاولة لتهذيبه (لا لتغيير جوهره). وعالَم داروين عالَم حلقاته متصلة صلبة، كل عنصر فيه يؤدي إلى ما بعده، وتتطور الكائنات في إطاره حسب قوانين برانية صارمة تنضوي تحت رايتها كل الأشياء، فهو عالم لا ثغرات فيه؛ مطلق مصمت ميت. 
وعلى طريقة مفكري عصر ما بعد الاستنارة والصورة المجازية العضوية للكون، أي شأنه شأن نيتشه ووليام جيمس، يحاول برجسون أن يُحيي هذا العالم الميت المغلق بأن يجعله كياناً تطورياً عضوياً مُفعَماً بالحياة التي تنبعث من داخله وتحركه وهي سبب نموه. فهذه طبيعة الأنساق الفكرية العلمانية حيث يتحوَّل المطلق إلى مبدأ حالٍّ في المادة، كامن فيها، ولا يمكنه أن يظهر إلا بأن يتجسد من خلالها. فيصبح الكون عالمَاً تطورياً حيوياً سائلاً حلقاته متصلة، لا ثغرات فيه ولا يستطيع أحد أن ينفلت من قوانينه وحركة نموه. ويمكن القول بأن كل فلسفة برجسون هي محاولة يائسة لإحياء عالم ميت وتأكيد للحرية في عالم السببية المادية الصلب. 
ينطلق برجسون من مفهوم أساسي في كل من الحضارة والفلسفة الغربية وهو مفهوم الشيء، فالشيء هو مقولة نظرية وصل إليها المنظّرون من خلال عملية تجريد طويلة. وفُرضت هذه المقولة على العالَم الذي تم النظر إليه باعتباره مجموعة أشياء محددة صلبة، فالفلسفة الغربية ترى أن العالم هو أساساً شبكة من الجواهر المرتبطة بعضها بالبعض بطرق مختلفة، وهذا هو منطق الأشياء الصلبة، منطق عصر العقل والاستنارة وعالم نيوتن الآلي الصلب. لكن ثمة منطقاً آخر وعالمَاً آخر يتسم بالسيولة والتماوج والتمازج هو عالَم ما بعد الاستنارة، عالَم الصورة المجازية العضوية للكون. 
ويمكن القول بأن ثمة ثنائية صلبة تجري في كل أعمال برجسون تشبه الثنائية التي تسم منظومة نيتشه، مع فارق أن نيتشه يهتم بجانب واحد في الثنائية. أما برجسون، شأنه شأن وليام جيمس، فإنه يهتم بكليهما ويقننهما. كما أن برجسون أحل الحدس محل القوة كوسيلة لتجاوز الواقع المادي. ويمكن أن نورد بعض الثنائيات المتعارضة في منظومة برجسون: العقل/الحدس ـ التحليل/الإدراك المباشر ـ العلم المجرد/العالَم المتعيِّن ـ الامتداد المكاني/الامتداد (أو التمازج) الزماني ـ الكمي/الكيفي ـ الصلب/السائل ـ الموجود/الصائر ـ المتقطع/المستمر ـ البرجماتي (وهو العملي القادر على التعامل مع البراني)/ الصوفي (وهو الذي يستخدم الحدس فيتعامل مع الإنسان والأزلية ويصل إلى الجوهر الجواني للأشياء) ـ مجتمع مغلق/مجتمع مفتوح ـ الامتثال للقوانين والأعراف/تجاوز القوانين والأعراف ـ قانون الضرورة البراني للبشر العاديين/قانون الحدس الجواني للنخبة (الأبطال والمتفوقون). 
والطرف الأول في الثنائية يمثل الجانب العقلي لعالَم الاستنارة الجاف الذي تهيمن عليه صورة مجازية آلية، وهو المجال الخاضع للقياس ولتقييم العقل وقوانين الواقع، أما الطرف الثاني فيمثل عصر معاداة الاستنارة والذي يتمركز حول صورة مجازية عضوية، فهو عالَم الديمومة، عالم مُفعَم بوثبة الحياة الكامنة في المادة، العالَم العضوي الحلولي الذي يتسم بالسيولة والحركية. 
وتدور أعمال برجسون حول هذه الثنائية الصلبة وحول تحيُّزه للطرف الثاني في الثنائية (شأنه شأن كل الفلسفات الحيوية). ولعل أهم المفاهيم الفلسفية التي نظر إليها برجسون من منظور هذه الثنائية هو مفهوم الزمن، فالإنسان الغربي الذي اعتبر الشيء كياناً صلباً حينما نظر إلى الزمن اعتبره خطاً مستقيماً. وهذا هو جوهر الرؤية العلمية للزمن التي تثبت العالم كمقولات جامدة: الحاضر هنا ـ الماضي خلفنا ـ المستقبل أمامنا. إنها رؤية مكانية للزمن تنظر للزمن باعتباره امتداداً للمكان، وهي رؤية جامدة تؤدي إلى الحتمية. 
فنحن هنا وجئنا من هناك في السابق وسنتقدم إلى هناك في المستقبل، ولكن الزمن الحقيقي (الديمومة) هو امتزاج الماضي بالحاضر بالمستقبل، وهو ليس مجرد خط مستقيم يمتد بشكل رتيب من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل. ويرى برجسون أن كثيراً من البشر يفشلون في التمييز بين الزمن الحي المُعاش، كتجربة فريدة حية يدركها الحدس، والزمن كمكان جامد يعيه العقل؛ كمٌّ يقاس بالساعة وهو الزمن الموضوعي الآلي (الشيئي) الذي يستخدمه العلم. ويذهب برجسون إلى أن معظم البشر يخلطون بين الامتداد الزماني (أو الحيز الزماني) والامتداد المكاني، وبين الكيف والكم، وبين التزامن والتعاقب. 
ويذهب برجسون إلى أن العنصر الحيوي في الامتداد الزمني المتدفق هو وحده الذي يتخلل كل الوجود الحقيقي، فالزمن يُلغي الوعي العقلي الجامد. ومن هنا، فإن عنصر الامتداد (الحيز) الزمني يمكن تعريفه باعتباره التغيُّر المستمر الذي يحدث في الزمن، وهو تغيُّر لا ينبع من أية قوى متجاوزة للزمن وإنما ينبع من طاقة داخلية موجودة في أجزاء الوجود (مهما تنوعت أشكالها)؛ قوة كامنة متشابهة في الجميع: هي الحياة. وهذه الحياة الحالَّة في كل شيء تخلق فيما تحل فيه ميلاً خاصاً وتوجيهاً معيناً يؤثران في كل جزئية من جزئياته: وهكذا يظل الجسم المادي يتشكل ويتغير حسب ذلك التوجيه الذي تمليه تلك الحياة الدافعة الكامنة فيه، ويسميها برجسون «الوثبة الحيوية» (بالفرنسية: إيلان فيتال elan vital) التي تنبع من مصدر لا متناه يوجد داخل الكون ذاته. 
واستمرار هذه الوثبة الحيوية وتعبيرها المستمر عن نفسها من خلال الزمان هو العنصر الأساسي في الكون. وينتج عن هذا أن ما يكوِّن الوعي هو الذاكرة، فالذاكرة هي التي تستوعب الامتداد الزمني لأنها تراكم لكل إنجازات الماضي وتستدعي الصور الذهنية التي مرت بنا في التجـارب الماضـية مقرونةً بمـا ســبقها وما تـلاها، فتتمكن بـذلك من الحكم على المواقف المشـابهة التي قد تعرض لنا حكماً صادقاً. فالذاكرة، من ثم، علم. لكن للذاكرة فوق هذا عمل آخر. فمن خلالها ينمو الماضي ليصبح الحاضر، ومن خلال الحدس، الذي هو جوهر الذاكرة، يدرك الإنسان جوهره الشخصي باعتباره (هو ذاته) امتداداً زمنياً وحيوياً، وكذلك يدرك الامتداد الزماني المبدع الذي هو الحقيقة المطلقة. وبواسطة الذاكرة يمكن أن يستوعب الخلود بأسره في لحظة واحدة، وفي ذلك تحرير لنا من قيود الصيرورة الطبيعية التي تخضع لها الأشياء الجامدة، فهي من ثم تحوِّل الإنسان من آلة صماء في يد القوانين المادية ليصبح كائناً مدركاً حرّ الإرادة قادراً على الاختيار.
ولكن برجسون يدور في إطار الواحدية الكونية، أي أنه يرى أن ثمة عنصراً واحداً يُكوِّن العالم بأسره، ولذا فهو يصفي كل الثنائيات. فالكائنات الحية كلها تتصف، في جوهرها، بالصيرورة التي تعني تطور الكائن بانتقاله من مرحلة إلى أخرى وخضوعه لحكم الزمن. والحقيقة الأولى هي الصيرورة لا الوجود، والتغير لا الثبات. وهذه الحياة التي لا تفتأ تخلق وتغير وتبدع والتي تتلمس الحرية من قيود المادة هي الإله، فالإله والحياة اسمان لمسمَّى واحد. وأغلب الظن أن هذه الحياة الدائمة التخلص من أغلالها وأصفادها ستظفر في آخر الأمر بما تريد، فتتغلب على الموت وتتحقق لها الحرية والخلود (وهي لحظة نهاية التاريخ، والفردوس الأرضي، وتحقُّق الفكرة المطلقة في التاريخ ونهاية الدورة الكونية لتبدأ دورة أخرى). 
ومما يجدر ملاحظته أن الوثبة الحيوية في منظومة برجسون تحل محل الإله في كثير من المنظومات الدينية التقليدية. ومن ثم، فإن الإله في فلسفة برجسون كيان متغيِّر متحرك قابل للنمو والتزايد باستمرار. وهو صيرورة كاملة، فهو ليس هنا ولا هناك، وهو ليس موجوداً ولا يتصف بأي كمال من الكمالات التي ننسبها في العادة إلى المبدأ الإلهي، كما أن صفة القدرة المطلقة ليست من صفاته. ولا يوجد هنالك فارق بينه وبين العالم، فالاختلاف بينهما في درجة الشدة والتوتر أو الترقي، كما لا يوجد فارق بين الإله والإنسان. ويمكننا القول بأن مفهوم الإله في فكر برجسون يتأرجح بين فلسفة وحدة الوجود الروحية وفلسفة وحدة الوجود المادية، فهو يُسمِّي المبدأ الواحد الذي يسري في الكون أحياناً «الإله» ويسميه أحياناً «الوثبة الحيوية». ومهما تكن التسمية، فإن العالم بأسره يُردُّ إلى هذا المبدأ الواحد. 
فإذا كان الإله صـيرورة وحركة نحـو هدف، فإن الهدف هو الإنسان، فهو النقطة التي تتحقق فيها الوثبة الحيوية (وهذا يشبه من نواحٍ كثيرة مبدأ الإصلاح [تيقون] في القبَّالاه اللوريانية وفي كثير من المنظومات الغنوصية حيث يبلغ الإله كماله ووحدته بل ووجوده من خلال الإنسان، كما أن الكون حين يصل لحظة الكمال يشبه الإنسان). وكل هذا تعبير عن الواحدية الكونية وعن وحدة الوجود بدون إله، ولكنها وحدة وجود فيضية من نوع خاص تجعل الإله الينبوع الحر الخالق الذي تنبعث منه الحياة والمادة على السواء بمقتضى جهد إبداعي يتجلى في تطوُّر الأنواع الحية وظهور الشخوص البشرية. ويظهر الفكر الأخروي لهذه المنظومة في لحظة الكمال النهائية التي ستتحقق داخل الزمان التاريخي وتلغيه في ذات الوقت. 
هذه هي ركيزة النسق الأساسية: وثبة حيوية تعبِّر عن نفسها من خلال مادة واحدة، والتاريخ الكلي للبشرية إن هو إلا محاولتها التعبير عن نفسها عبر الزمان. ومادام الزمان هو نسيج الواقع، فإن التطور هو الحقيقة الوحيدة الثابتة. والتطور تسلسل منطقي من الأحداث والصور، وهو تحرك ليس آلياً برانياً مدفوعاً من الخارج وإنما هو حيوي مدفوع من الباطن، من داخل المادة نفسها، والتطور يأخذ شكل تزايد في التركيب فتيـار الحياة، التي تدفعه الوثبـة الحيـوية نبـع في وقت ما وفي نقطة من مكان ما، وانتقل من جسم إلى جسم ومن جيل إلى جيل، ويمضي قدماً نحو أعلى صور الحياة وأرفعها. 
ورغم هذه السيولة الكونية، نجد أن برجسون يُقسِّم البشر بصرامة إلى هؤلاء الذين يدركون الزمان كامتداد مكاني وكأنه كادرات فيلم سينمائي يتتابع الواحد تلو الآخر دون حركة أو وصل أو حياة، لا حياة في كل وحدة على حدة، وهم يدركون أنفسهم كتجل صلب في المكان وكوحدة جامدة صلبة باردة، ويستخدمون عقولهم وحسب في إدراك الواقع وتجميده وقتله. لكن هناك أيضاً أولئك الذين ينظرون للزمان باعتباره حيوية متدفقة متموجة، تُولَد وتنمو دائماً وكأنه الشريط السينمائي الذي يُلغي صلابة كل صورة على حدة فيبث فيها الحياة والحركة الدائمة ويربط بين أشتاتها ويكوِّن منها حقيقة واحدة متحركة (والحركة غير قابلة للقسمة، وهي متصلة تأخذ شكل ثبات لا يمكن فصل أولها عن آخرها، وذلك على عكس المسار المكاني فهو قابل للقسمة). وهذا الفريق من البشر يتمتعون بالبصيرة والحدس، ولذا فإنهم يدركون الواقع في كليته وحيويته. وهم يدركون أنفسهم ككيان حركي حي قادر على الوصول إلى جوهر الأشياء. 
ونلاحظ هنا أن التقسيم الثنائي الصلب الذي يوجد في فلسفة نيتشه ووليام جيمس: الأقوياء والضعفاء، المنتصرون والمهزومون، الأبطال والعاديون، والمتصوفون الذين يُولِّدون القوانين التي يُحكم بها عليهم، والمتعبدون والخاضعون لقوانين المجتمع. وعامة الناس هم، بطبيعة الحال، الضعفاء الخاضعون المهزومون الذين تسري عليهم القوانين العادية، أما الآخرون فهم نخبة صغيرة، مجموعة محدودة تتحرر من قيود العادة التي تربط الإنسان بالحقائق الاجتماعية والأخلاقية والإدراكية للواقع، لتحلِّق في عالم السيولة، ذلك الجزء الذي تدفعه الوثبة الحيوية بلا توقُّف، فهم قمة الحرية والإبداع. 
وقد أدَّت الوثبة الحيوية في مجال الأخلاق إلى ظهور ضربين مختلفين منها يقابلان هذين الاتجاهين المتمايزين، اتجاه الغريزة واتجاه العقل، الأول تناسبه الأخلاق المغلقة، وهي أخلاق الجماعات المغلقة على نفسها التي تشبه من بعض الوجوه مجتمع النحل أو النمل، والثاني تناسبه الأخلاق المفتوحة التي تتجاوز حدود الجماعة، وعليه يتوقف مصير الإنسانية لأنه هو الذي يفتح أمام التطور البشري أفقاً واسعاً لا نهائياً. وتقوم الأخلاق المغلقة على الإلزام الذي يفرض على الجماعة نظاماً من العادات يحقق لها وحدتها ويصون كيانها، بينما الأخلاق المفتوحة تصدر عن نزوع عام تتمثل فيه جاذبية القيم وحب الإنسانية؛ الأولى يسميها برجسون الأخلاق الاجتماعية ومَثَلُها الأعلى تحقيق العدالة والتضامن الاجتماعي، والثانية يسميها الأخلاق الإنسانية ومثلها الأعلى المحبة والكمال الأخلاقي. 
ولكن الوثبة الحيوية لم تستطع أن تنتج إلا مجتمعات مغلقة بطريقة أو بأخرى، ولذلك فإنها عندما عجزت عن الاستعانة بالنوع بأكمله لم تجد بُداً من أن تستعين ببضع شخصيات ممتازة اتخذت منها أدوات لتحقيق مقاصدها وأغراضها، وهؤلاء هم الأبطال والأنبياء والمصلحون، رموز الوثبة الحيوية ودعاة المحبة والإيثار، وهم الصفوة المختارة التي تُحقِّق للحياة حركتها الصاعدة. ونحن هنا نواجه السوبرمان، الإنسان المتأله (أو تساديك) قمة التطور وتجسيد المطلق في التاريخ والنقطة التي ينغلق عندها النسق فهو مكتف بذاته لا يشير إلى نفسه. 
وماذا عن البُعد اليهودي في فلسفة برجسون؟ كان برجسون يذهب إلى أن اليهودية ديانة مغلقة من وحي مجتمع مغلق، وأنها دين ساكن إستاتيكي جامد، أخلاقه مغلقة تحمل الفرد على الإخلاص بشكل غريزي للجماعة. أما الكاثوليكية، في رأيه، فهي ديانة عالمية تتجاوز اليهودية، وهي دين منبعه الحدس لا الغريزة وغايته الاتصال بالوثبة الحيوية التي تكمن وراء شتى مظاهر الوجود. وإذا كانت اليهودية تُعلّم اليهودي التشبث بالحياة، فإن الكاثوليكية تعلم المسيحي الانفصال عن كل شـيء (لا التعلق بأهداب الحياة) وهو شـيء يتسم به المتصوفون وحدهم. 
والمسيح في نظر برجسون أكبر شخصية صوفية عرفها التاريخ بحيث يمكن القول بأن كل المتصوفة أتباع له. والصوفي المسـيحي يشـعر بأن الحب يستنفد وجوده كله، وهو ليس حب إنسان للإله، ولكنه حب الإنسانية من خلال الإله وبواسطته. ثم يُعرِّف برجسون إله الصوفية بأنه حياة ومحبة تعبر عنهما تلك الوثبة الحيوية التي تَصدُر عنها ديانة المتصوفين، وهم وحدهم الذين يتلقون عن تلك الطاقة الخلاقة التي هي الأصل في رؤاهم وكشوفهم، وعلى عاتقهم تقع مسئولية توجيه الإنسانية إلى حياة مستقرة مليئة بالمحبة والتعاطف. وإذا ما أردنا أن نحدِّد البُعد اليهودي في فلسفة برجسون، فإننا سنجد أنه أقرب إلى إسبينوزا منه إلى اليهودية الحاخامية. 
فكلاهما يهاجم جمود اليهودية ولكنه يدور في إطار وحدة الوجود (الروحية والمادية)، وكلاهما يُغيِّب الإله بأن يجعله مجرد قوة دافعة للمادة أو للزمان كامنة فيها تتخلل ثناياها وتضبط وجودها. ولكن وحدة الوجود ليست سمة من سمات اليهودية وإنما هي أيضاً السمة الأساسية للرؤية العلمانية المتمركزة حول الإنسان أو المادة أو حول الإنسان باعتباره مادة، فكأن فكرة وحدة الوجود هي الإطار الذي ينتظم كلاًّ من اليهودية والعلمانية وكلاًّ من إسبينوزا وبرجسون، وكذلك كل الفلاسفة اليهود وغير اليهود الذين يتحركون في هذا النطاق. 
ولعل هذا يساهم في كشف النموذج الكامن وراء كثير من الفلسفات العلمانية الحديثة (بل ووراء حركة الحداثة ككل) فهذه الفلسفات شكل متطور من أشكال وحدة الوجود والرؤية الحلولية، فجميعها فلسفات حيوية، مثل فلسفة برجسون، ترى المطلق في النسبي وترى المثل الأعلى باعتباره شيئاً كامناً في المادة أو في الزمان، وتنظر إلى الواقع من منظور عضوي حسب قوانين عضوية كامنة فيه، وإن وُجدت ثغرة فإن النقيض يحدث على الفور: التبعثر الذري. وهي فلسفات تُحلُّ محل الأخلاق مقولات نفسية مثل القوة والتوازن وتحقيق الذات. 
ومما يجدر ذكره أنه رغم إعجاب برجسون الشديد بالكاثوليكية، إلا أنه لم يتخذ الخطوات النهائية للانضمام للكنيسة وقبول التعميد حتى لا يتخـلى عن أولئك الذين سـيقع عليهـم العذاب والاضـطهاد من بني جنسه. وقبل موته بأسابيع، ترك برجسون فراش مرضه ووقف في صف طويل مع أولئك المطالبين بتسجيل أنفسهم كيهود، وذلك حسب مقتضيات القانون الذي أصدرته حكومة فيشي، وقد رفض إعفاءه من هذا الإجراء.
إدموند هوسرل (1866-1938) والفينومينولوجية 
Edmund Husserel and Phenomenology 
فيلسوف ألماني من أصل يهودي، مؤسس المدرسة الفينومينولوجية (يُشار إليها بأنها المدرسة الظاهراتية). وُلد في مورافيا (حينما كانت تابعة لألمانيا) ودرس الرياضة والفيزياء والفلك في جامعة ليبزيج، وتنصَّر (على المذهب البروتستانتي) وهو شاب، مثل العديد من أقرانه اليهود. وازداد اهتمامه بالفلسفة في فيينا تحت تأثير برنتانو. قام بالتدريس في جامعة هال (1887 ـ 1901) ثم في جامعتي جوتنجن وفرايبورج (1906 ـ 1916) حتى تقاعد عام 1929. 
كان هوسرل يتصور أن الفلسفة الفينومينولوجية التي دعا إليها ستكون شيئاً جديداً تماماً. فالأنطولوجيا الغربية تستند إلى ثنائية الذات والموضوع أما هو فكان يرمي إلى تأسيس أنطولوجيا جديدة تفترض ارتباط الواحد بالآخر بل وتجسد الواحد من خلال الآخر، فالطبيعة (الموضوع) حسب تصوره لا تعني شيئاً إلا إذا ارتبطت بالوعي الإنساني (الذات). هذا النسق الفلسفي الجديد سيحل محل كلٍّ من الوحي المسيحي والعلم الطبيعي القديم، وسيحقق ثورة ضد الوضعية والاتجاه التجريبي الطبيعي والاتجاه السلوكي في علم النفس، وكلها اتجاهات تستخدم العلم الطبيعي نموذجاً وتتصور أن المعرفة اتصال مباشر بالحقيقة دون وساطة المفاهيم والوعي. والفينومينولوجية، علاوة على ذلك، ثورة ضد الاتجاه التاريخاني النسبي الذي يؤدي إلى ذاتية متطرفـة تشـكيكية، تُسقط إمكانية قيام علم فلسفي صحيح في ذاته، فهي ثورة ضد التمركز حول الذات أو حول الموضوع، وضد المادية والمثالية، ثورة ستؤدي ـ حسب تصوُّر هوسرل ـ إلى تطوير منهج متماسك وفلسفة شاملة جديدة. 
ونقطة الانطلاق لا هي الذات المغلقة على نفسها ولا هي الموضوع المطلق المغلق على نفسه، بل هي الشعور والوعي الإنساني (الجمعي). وكان هوسرل يرى أن كل حدس كوني مصدر مشروع للمعرفة، بل المصدر الأساسي للمعرفة الإنسانية. فالإدراك الإنساني ليس سلبياً وإنما هو إعادة وعي بشيء فهو يتجه وينطلق ويمتد نحو شيء ما (وهذا ما يُسمَّى «القصـدية» وهو مفهـوم أخذه هوسرل من كتابات برنتانو وطوَّره). 
وبهذا المعنى، فالشعور ليس فيض عواطف ولا انفعالات ذاتية ولا أحاسيس شخصية وإنما هو شيء مركَّب يضم عنصرين لا عنصراً واحداً: الشعور الإنساني، والشيء ذاته. والشيء ذاته مختلف عن مفهوم كانط «الشيء في ذاته» الذي يختفي دوماً عن الشخص الذي يسعى إلى المعرفة، والذي لا يمكن معرفته إلا بالإيمان. ولفهم الشيء ذاته سنشير إلى أن الموضوع عند هوسرل ليس ما يقع خارج الوعي (حسب التعريف المادي) وإنما ما هو في متناول الوعي. والظاهرة ليست شيئاً موضوعياً مادياً يوجد جاهزاً مستقلاً في عالم الطبيعة له حدوده الواضحة، وإنما هي ظاهرة بمقدار ما تكشف عن الوجود كتجربة حية في الشعور فتصبح مرادفة للشيء ذاته وتكشف ما تنطوي عليه معطيات الشعور نفسها. في هذا الإطار تنحل الذات وينحل الموضوع، فالموضوع ليس شيئاً جامداً بل مجموعة من العلاقات الحية، والذات أيضاً ليست شيئاً محدَّداً وإنما علاقة. 
من هنا فكرة الشعاع المزدوج الذي تتم بمقتضاه عملية الوعي بالشيء إذ يخرج شعاع من الموضوع ليصل إلى الذات، ويخرج شعاع من الذات ليصل إلى الموضوع، فالإدراك عملية يلتحم فيها المدرك والمدرَك فيتوحدان في علاقة ويوجدان من خلالها. وهي ليست عملية سلبية من جانب الإنسان يتلقى فيها الأحاسيس المادية (فهو بذلك سيسقط في المادية والموضوعية المحضة التي رفضها هوسرل) وإنما تتَّسم بتركيز الأحاسيس بحيث يُصبح الإدراك انتباهاً (والتفكير يصبح تأملاً وهكذا). والموضوع ذاته ليس مجرد شيء وإنما هو شيء مقصود من الشعور، يحتاج إلى التثبت داخل الوعي الذاتي. إن الذات دائماً ممتلئة بهذا العالم بسبب قصدية الوعي أو الشعور، والموضوع لا يعني شيئاً بدون وعي إنساني. ومن ثم فتحليل الشعور هو تحليل للقصد المتبادَل وتحليل للمعرفة في آن واحد. 
ورغم أن هوسرل يفترض هنا وجود علاقة تبادلية، علاقة مواجهة ندية بين الذات والموضـوع، إلا أن إرادة الموضـوع مسـألة يصعب تصورها، فما هي حاجة الموضوع لأن يتثبت في الوجدان؟ ما حاجة الشيء ذاته للإنسان؟ لماذا لا يُهيمن الموضوع على الذات تماماً، كما تُهيمن الدولة والمؤسسات والشركات متعددة القوميات على الفرد/الذات؟ ولذا، فبدلاً من الوحدة العضوية الكاملة المقترحة بين الذات والموضوع، سنُواجَه في نهاية الأمر إما بثنائية صلبة أو واحدية موضوعية. 
والفينومينولوجيا عند هوسرل لا تبحث عن هذا النوع أو ذاك من المعرفة وإنما عن بنية العقل العميقة، أي عن شروط تحقُّق المعرفة، فهي لا تتعامل مع هذا الأرنب أو تلك القطة وإنما مع الجوهر الثابت للأرانب والقطط (أرنبية الأرانب وقطية القطط - أيدوس الأرانب والقطط) وهي لا تتعامل معهما في ذاتهما وإنما كما ينعكسان لا على وعي الإنسان الفردي، وإنما على الوعي الإنساني الجمعي، والفينومينولوجيا ليست إمبريقية مهتمة بتجارب بعض الأفراد وليست نفسية مهتمة بالعمليات العقلية وإنما هي مهتمة ببنية الوعي ذاته. فالوعي هنا ليس إمبريقياً وإنما متعال، فهو يتعامل مع الواقع المعاش وعالم الحياة (بالألمانية: ليبنزفلت lebenswelt)، عالَم الواقع كما يُنظّمه وجود الإنسان باعتباره إنساناً. 
ويتحدث هوسرل عن عملية الرد الفينومينولوجي (أو الاستبعاد الفينومينولوجي) وهي عملية استبعاد صارمة لكل ما ليس كامناً في الوعي. هي محاولة تطهير النفس من الازدواجيات والاستقطابات وتطهير الوعي من كلٍّ من الواقعية المادية (الموضوعية) والواقعية النفسية (الذاتية). ويبدأ الرد الفينومينولوجي بوضع الصـفات العارضـة بين قوسـين (تعليقها) واســتبعادها من عملية التأمل. هذه الصفات العارضة يمكن أن تكون صفات مادية في الشيء، ليس لها أهمية من منظور الوعي الإنساني، وقد تكون عناصر ذاتية ضيقة داخل الذات، أو حتى مواضيع داخل الذات لا علاقة لها بالذات، فهي عملية استبعاد لكل ما هو تجريبي أو واقعي وكل ما ليس كامناً في الوعي وكل ما ليس جوهرياً من منظوره (كان هوسرل يُعرِّف الفينومينولوجيا بأنها «علم الروح المكتفي بذاته بشكل مطلق»). 
وبعد عملية الرد الذي يتجاوز به الوعي أو الأنا العالم المباشر والذات الضيقة والظواهر العارضة نصل إلى نقطة الالتحام الطوباوية المطلقـة بين الذات والموضـوع وتصبح الأنا متحـررة من أية مصلحة محددة، أو قصدية ضيقة، وتظهر الذات المتعالية (تُسمَّى فلسفة هوسرل «الذاتية المتعالية»)، ولكنها ليست ذاتاً محايدة باردة فهي منشغلة بذاتها الإنسانية العريضة واعية بذاتها. حينئذٍ ينبثق الواقع بوضوح أمام هذه الذات، فهو ليس مجرد أحداث منفصلة وإنما هو المجري الخالص للخبرة المعاشة. 
ويمكن في لحظة الكشف أو الإشراق الفينومينولوجي هذه أن يعود الوعي إلى الأصول أي إلى الأشياء الجوهرية التي أصبحت غامضة أو اختفت أو احتجبت بسبب تراكم أشياء غير جوهرية، وهذه هي نقطة الوعي الخالص؛ الوعي بما هو وعي، نقطة النظر للواقع باعتباره ظاهرة خالصة تظهر داخل الوعي الإنساني الجمعي (فهي نقطة ذاتية/ موضوعية ـ متحركة/ ثابتة).
وبعد عمليات الرد الفينومينولوجي تأتي عملية الوصف الفينومينولوجي، وهو وصف شامل يحيط بالشيء كما يتمثل في الوعي يحاول أن يكشف سماته وأبعاده وماهيته من خلال الإدراك الحدسي وأن يدرك الظواهر الخالصة، أي الثابت وغير المتغيِّر والجوهري والعالمي في الظاهرة، كما تنعكس على الوعي الجمعي. 
وأن يكتشف النمط الثابت المتواتر (وكلمة «نمط» في اليونانية تعني إيدوس eidos)، ومن هنا حديث هوسرل عن الرد الفينومينولوجي باعتباره التجريد الإيديتيكي، وهو التجريد الذي يتم في إطار البحث عما هو جوهري وثابت. لكل هذا يمكن الوصول إلى معرفة غير مؤسَّسة على الخبرات العملية الضيقة وبدون اللجوء إلى عمليات الاستقراء (والوصول إلى القوانين الموضوعية العامة) أو إلى الاستنباط (من بعض المبادئ العقلية أو المثالية العامة)، معرفة تستند إلى الخبرة الإنسانية العامة بأنماطها وأبنيتها (الماهيات والأنماط المثالية) وبنى الوعي الأساسية المستقلة عن معطيات التجربة الشخصية (المتمركزة حول الذات والمستقلة عن الموضوع) أو الموضوعية (المتمركزة حول الموضوع والمستقلة عن الذات) وصولاً إلى أعماق الإنسان ووعيه الخالص لتصبح أساساً لعلم يقيني جديد (منطق الوعي) تستند يقينيته إلى أنه راسخ في الوعي الجمعي للإنسان (بالمعنى الأنطولوجي وليس بالمعنى النفسي الشائع).
أي أننا سندرس الوعي الإنساني كما يَدْرس علم الحساب الخالص الأعداد وكما يَدْرس علم الهندسة الأشكال المكانية. فعلم الحساب الخالص وعلم الهندسة الخالص يهتمان بأنماط معيَّنة من الأبنية والعلاقات الداخلية بينها. وتُعبِّر قضاياها عن الخصائص المميِّزة لهذه الأبنية بدون أية إشارة إلى أية خصائص تجريبية أو تجارب ذاتية. 
تصوَّر هوسرل أنه بذلك قضى تماماً على الاتجاه الطبيعي والذاتي وأن روح الحضارة الغربية (وعيها الخالص) ستستيقظ من حيرتها وستخرج من عدميتها كما تُبعَث العنقاء من رمادها، وهي صورة مجازية عضـوية حلولية كمونيـة وثنية، امتداد لصورة الاسـتنارة المجازية ونورها المتوهج، صورة بروميثيوس المجازية والنار المتقدة التي سرقها من الآلهة، وحسب تضمينات هذه الصورة المجازية عند هوسرل يبدو أن نار العلم الطبيعي أحرقت العالم فأصبح رماداً وأن فلسفة هوسرل هي البلسم. 
ورغم أن إيمان هوسرل كان عميقاً إلا أنه لم يكن هناك ما يسانده في الواقع. فالحضارة الغربية كانت تمارس أقسى أنواع العنف في المستعمرات، وتحرق الأخضر واليابس وتحولهما إلى رماد، وكان هتلر على الأبواب وكان ستالين متربعاً على عرش القياصرة. وما ظهر بعد ذلك لم تكن العنقاء التي تُبعَث من الرماد وإنما ظهرت أفران الغاز ومعسكرات الجولاج التي أحرقت الجسد والروح (بعد التحام الذات والموضوع) وبدلاً من العنقاء التي ترفرف بأجنحتها القوية تساقط مزيد من الرماد على الإنسان والطبيعة. 
ويمكننا الآن أن نتوجه إلى البُعد اليهودي في فلسفة هوسرل. ثمة نزعة حلولية كمونية واحدية (روحية مادية) في فكر هوسرل، ولكن مصادرها ليست بالضرورة يهودية، ففكره امتداد للتقاليد الحلولية الكمونية، المادية الروحية، في الغرب منذ عصر نهضته. ونحن نجد أن ثمة تشابهاً بنيوياً عميقاً بين محاولة تأسيس الحقيقة على أساس تجاوز الذات الفردية والموضوع وصولاً إلى نقطة الواقع، باعتباره ظاهرة خالصة داخل الوعي الجمعي من جهة، ومن جهة أخرى مفهوم الإله في أسفار موسى الخمسة (وهو جزء من تراث اليهودية المسيحية). 
فالإله ليس كياناً حالاًّ تماماً في المادة كامناً فيها ولا هو حالّ كامن في فرد بعينه، ولكنه مع هذا ليس متجاوزاً تماماً للأفراد وللشعوب، فهو يختار الشعب اليهودي ويحل فيه ويوجه تاريخه ويتبدَّى من خلاله، وهذا لا يختلف كثيراً عن تبدِّي الواقع كظاهرة خالصة في الوعي الخالص الجمعي. وقد تأثر هوسرل بفكر العديد من الفلاسفة غير اليهود، كما أنه أثّر في مارلو بونتي وماكس شيلر وجان بول سارتر ومارتن هيدجر، والأخير بالذات دفع المنظومة الفينومينولوجية إلى نهايتها المنطقية وتبنَّى الأيديولوجية النازية ودافـع عن هتلر باعتباره النقطـة التي تلتـحم فيها الذات بالموضوع. ومن ثم فالحديث عن يهودية هوسرل هو حديث لا طائل من ورائه. وعلى كلٍّ، تنصَّر هوسرل في مطلع شبابه كما أسلفنا، فهو ليس يهودياً حتى من الناحية الشكلية. ولعل اسمه لهذا السبب لم يرد في كثير من الموسوعات التي تحدثت عن الثقافة اليهودية، وإن كان قد ورد في بعض منها (الموسوعة اليهودية [جودايكا] على سبيل المثال).
ليف شيستوف (1866-1938) والفلسفة المسيحية 
Lev Shestov and Christian Philosophy 
اسمه الأصلي هو ليف إيزاكوفيتش شوارتسمان. وهو فيلسوف وكاتب ديني وجودي روسي، ويُعدُّ من أهم ناقدي الاتجاهات العقلانية المنهجية باعتبارها وسائل لمعرفة الحقيقة. وُلد شيستوف في كييف لأب ثري كان يمتلك مصنعاً للنسيج، ودرس في الجامعة ليصبح محاسباً لكنه لم يمارس مهنته قط. كما أنه، رغم تحمسه للفكر الثوري، لم تساوره أية أوهام بشأن الثورة البلشفية عند اندلاعها، وهاجر من روسيا وعمل أستاذاً للفلسفة الروسية في جامعة باريس. وتُعَدُّ مقالاته عن تشيخوف ودوستويفسكي وتولستوي من أهم ما كتب. 
يدور فكر شيستوف الوجودي حول موضوع يراه تناقضاً أساسياً بين نسقين فلسفيين أساسيين: نسق يطمح إلى اليقين الكامل، ونسق يَصدُر عن الإيمان بأن الاحتمالات في الواقع غير محدودة، ومن ثم فإن اليقين الكامل مستحيل. ويرى شيستوف أن المشروع المعرفي الغربي إن هو إلا محاولة للوصول إلى نسق تفسير منطقي منهجي كلي وشامل يفسر الواقع بأسره ويجيب على كل الأسئلة عن طريق التوصل إلى القوانين الثابتة التي تحكم الواقع الإنساني والطبيعي. ويتم التعبير عن هذا الاتجاه في فلسفة أفلوطين بل وفي آراء توماس الأكويني، وقمة هذا الاتجاه فلسفة إسبينوزا العقلية. فقد حاول إسبينوزا ألا يضحك وألا يبكي وألا يكره، وركز جل اهتمامه على أن يفهم وحسب، فهو قمة الاتجاه نحو اليقينية الكاملة. 
ويرمز شيستوف لهذا النسق بأثينا التي آمنت بمبدأي عدم التناقض والثالث المرفوع، وحاولت الوصول إلى درجة عالية من الوضوح والثبات تؤدي في نهاية الأمر إلى إلغاء المطلقات (كل المطلقات) واختفاء القداسة كلها. ويضيف شيستوف أن النظم المعرفية المستقرة لا يمكنها في واقع الأمر الحفاظ على وجودها إلا من خلال القوة، فالنظام (المغلق) مثل القلعة المسلحة (وهو في هذه الصورة المجازية لا يُذكِّرنا بفلسفة شوبنهاور ونيتشه وداروين والبرجماتية وحسب وإنما أيضاً بالدولة القومية المركزية وبالفكر الإمبريالي والعنصري وبالفكر الذي يعلن موت الإله وموت الإنسان). 
وفي مقابل كل هذا، يطرح شيستوف فكرة لا محدودية الاحتمالات (النسق المفتوح)، فيذهب إلى أن الفلسفة الحقة، مثل الدين، تَصدُر عن إيمان بأن كل شيء محتمل لا نهائي ومنفتح، وعن احترام الأسرار الكامنة في الإنسان وإدراك قداسته، ذلك لأن الإنسان يتحدى سائر المحاولات العقلانية والمنهجية لفهمه وتفسيره. والفلسفة، مثل الدين، لا يمكنها أن تصبح علماً، وإنما هي معرفة تتعامل مع الأسئلة النهائية التي لا إجـابة منهجية لهـا، والتي لا يملك الإنسان أن يقابلها إلا بصيحة أيوب، أي من خلال تجربة إنسانية وجودية مباشرة. فالتأمل العقلي المحض (مثل أثينا) أفسد الدين تماماً كما أفسد الفلسفة. 
ويرمز شيستوف لهذا الاتجاه بالقدس الذي يصل إلى ذروته وقمته - حسب تصور شيستوف - في أفكار ترتوليان بشأن قبول التناقض باعتباره نقطة انطلاق للإيمان الحق وفي أفكار لوثر الخاصة بالخلاص من خلال الإيمان وحده. وإذا كان النسق العقلاني يعلن موت الإله، ثم موت الإنسان، فإن هذا النسق يعلن مولد الإنسان الذي لا يُردُّ إلى الطبيعة، ومن ثم وجود الإله الذي هو تعبير عن الإمكانيات اللا محدودة وعن سر وجودها وضمان بقائها. ولذا، فإن شيستوف يرى أن التناقض الأساسي ليـس بين الإلحاد والإيمان، وإنما بين التأمل والوحي، وبين أثينا والقدس (أي بين العقل والدين). 
وتقول الموسوعة اليهودية (جودايكا) إن شيستوف كان يهودياً ومسيحياً في آن واحد، وهو تصنيف أقل ما يوصف به أنه غريب للغاية. وفي محاولة شرح هذا التصنيف تقول الموسوعة اليهودية إن اهتمام شيستوف بالتجربة الداخلية الدينية باعتبارها طريق الخلاص جعل من الصعب عليه البقاء داخل حدود اليهودية الحاخامية. ولكنه، مع هذا، وجد أن من الصعب عليه قبول العهد الجديد، فقد كان يحب إله العهد القديم بكل نزواته. ولكن هل كان حب نزوات إله العهد القديم كافياً لأن يجعل من مفكر ما أحد عباقرة اليهود؟ إن مفكراً وجودياً مسيحياً مثل كيركجارد، صاحب التأثير الواضح على شيستوف، جعل هذا العنصر نقطة انطلاقه الفلسفية، كما أن مصادر فكر شيستوف هي مجموعة من المفكرين المسيحيين، مثل: دوستويفسكي ولوثر وترتوليان أو مفكرين متمردين على المسيحية مثل نيتشه. 
وهو يعود دائماً في كتاباته إلى حادثة الصلب والصيحة التي أطلقها المسيح وهو على الصليب (حسب التصور المسيحي) « لم يارب هجرتني؟ ». وحينما يشير شيستوف إلى العهد القديم أو إلى بعض الأحداث والأفكار التي وردت فيه، فهو يؤكد مغزاها النفسي أو الجواني، وينظر إليها من منظور مسيحي أو وجودي يَصعُب تصنيفه باعتباره يهودي حاخامي. بل إن المفكرين اليهود الذين يشير إليهم في كتاباته، مثل إسبينوزا، لا يظهرون باعتبارهم يهوداً وإنما باعتبارهم ممثلين لنزعة التأمل العقلي والنزعة العقلانية الهيلينية في الحضارة الغربية، ومن ثم فهو يرفضهم ويرفض فكرهم. ولكل هذا، يصعب تصنيف شيستوف باعتباره مفكراً دينياً يهودياً. ومما له دلالته أن شيستوف، شأنه شأن بوبر، لم يؤثِّر البته في الفكر الديني اليهودي، ولكنه ترك أثراً في مفكرين إما مسيحيين أو ذوي أصول مسيحية، مثل: ألبير كامو، ونيقولا برديائيف، و د. هـ. لورانس. 
يتبع إن شاء الله...


الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية   الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية Emptyالأربعاء 11 ديسمبر 2013, 9:34 pm

هوراس كالن (1882-1974 ) والبرجماتية 
Horace Kallen and Pragmatism 
مفكر تربوي وفيلسوف برجماتي أمريكي يهودي صهيوني، وأحد تلاميذ وليام جيمس، وأحد أهم المفكرين الصهاينة التوطينيين. وهو ابن حاخام ألماني إصلاحي (من أتباع المتصوف الحلولي السويدي سويدينبورج). هاجر إلى الولايات المتحدة وهو بعد طفل ودرس فيها الفلسفة والتربية واشتغل هناك بالتدريس في عدة جامعات. وهو لا يُعَدُّ من بين كبار المفكرين التربويين، ولكنه يُذكَر بين الفلاسفة البرجماتيين. 
قـام هـوراس ماير كـالن، المفكر الصـهيوني وتلميذ وليام جيمس، بتحرير مختارات من أعمال أستاذه، وأكد في المقدمة التي كتبها لهذه المختارات أن موقف وليام جيمس من الواقع (بل ومن الوجود الأمريكي ككل) يشبه موقف الرائد الأمريكي من عدة وجوه، فالشعب الأمريكي يستجيب للواقع استجابة حرة لم تقررها من قبل عادات اجتماعية أو أية عادات خاصة استجلبوها من أوربا معهم، فقد طرحوا هذا التاريخ جانباً ليدخلوا في علاقة (طبيعية/مادية) مع عالم لم يسبق له مثيل؛ عالم محفوف بالمخاطر ولا يمكن التنبؤ به. فالدخول في تجربة لا تُعرَف نتائجها مقدماً هو جوهر تجربة الرجل الأبيض في أمريكا. فالرجل الأبيض في أمريكا هو الرجل البرجماتي بالدرجة الأولى والسوبرمان الحق والكاوبوي الذي لا يهاب شيئاً ويبني بيته بجوار البركان، يخاطر بكل شيء فيفقد كل شيء أو يربح كل شيء. 
ويُلاحظ كالن، البرجماتي الصهيوني، في كتابه المثاليون في مأزق، العلاقة الوجدانية الوثيقة بين إسرائيل والولايات المتحدة بل والتشابه البنيوي بينهما. فهو في بداية كتابه يؤكد لقارئه أن كلاًّ من إعلان استقلال إسرائيل وإعلان استقلال الولايات المتحدة يعبِّر عن مسيرة الإنسان نحو الحرية ونحو مزيد من التقدم. وهو في كل صفحة من صفحات الكتاب يُعرِّفنا بنفسه باعتباره «أمريكياً» يُلاحظ بعيون أمريكية، ونجده أمام إحدى مستعمرات الناحال في إسرائيل يتذكر كتابات وليام جيمس. والواقع أنه محقٌ تماماً في رصده التشابه بين البرجماتية والصهيونية. فكلتاهما تصدُر عن فكرة الطبيعة السائلة الكونية، وعن تجزؤ الكون وانقطاعه، وعن الإنسان الطبيعي (المادي) الذي يصبح جزءاً مستقلاًّ يتوحد بهذه السيولة، فتسقط كل الحدود التاريخية والقيم المطلقة وأي شكل من أشكال التجاوز، ولا يبقى سوى البقاء كهدف نهائي والقوة كآلية لتحقيق هذا البقاء. 
والإرادة التي لا تكترث بالآخر هي مصدر القيمة والمعنى. والصهيونية، مثل البرجماتية، حلولية بدون إله (وحدة وجود مادية) تصدُر عن فكرة الطبيعة التي استوعبت الإله والإنسان وصهرتهما فتوحدا بها حتى اختفيا ولم تَعُد هناك قداسة أو مركز في الكون، ولا تبقى سوى الحركة الطبيعية المتدفقة والسيولة الكونية والإنسان الطبيعي السائل الذي لا تحده حدود أو سدود والذي لا يخضع لأي قانون وكأنه الطبيعة السيّالة نفسها أو هو الجزء المستقل بذاته. 
وهذا ما تفعله الصهيونية مع فلسطين، فهي تُسقط عنها أية قداسة أو خصوصية أو تاريخية وتحوِّلها إلى مجرد أرض لا تاريخ لها ولا علاقة بالتاريخ الإنساني، مجرد شيء ينتمي إلى عالم الطبيعة/المادة. وتطبيع أرض فلسطين وتطبيع أهلها (أي تحويلهم إلى جزء من الطبيعة) وتغييبهم أول موجة في تيار السيولة الكونية، ولذا ينكر كالن وجود القومية العربية، فالعرب هم أساساً بدو ينظر إليهم كالن باحتراس وحذر شديدين، تماماً مثلما يعامل العالم الأنثروبولوجي القبيلة البدائية التي يدرسها بعد أن يعزلها عن تاريخها وعن إنسانيتها المتعيِّنة. 
ويقول بعض دارسي البرجماتية إن إنكار الأمريكيين قيمة التاريخ مردُّه أنهم نشأوا في العالم الجديد وليس في العالم القديم، وأن الهنود الحمر كانوا يعيشون في اتساق مع الطبيعية، ولذا لم تصل حضارتهم إلى وعي تاريخي بالذات، كما كان محتماً على المستوطنين البيض أن ينكروا التاريخ في بلد لا تاريخ له. ولكننا نعتقد أن لا تاريخية الوجدان الأمريكي تعود إلى البناء الفلسفي البرجماتي ذاته، فالهنود الحمر رغم أنهم لم يكن عندهم وعي بالتاريخ، إلا أنهم كانوا يشكلون نوعاً من الوجود التاريخي، كما أن الاستيطان الإسباني البرتغالي (الكاثوليكي) في أمريكا اللاتينية لم يكن مبنياً على إنكار التاريخ. ولعل الاستيطان الصهيوني في فلسطين أكبر دليل على أن إنكار التاريخ جزء من بناء البرجماتية ذاته، فالصهيوني يذهب إلى فلسطين وهو يعرف أنها بلد عربي وجزء من تاريخ عربي قديم متماسك. ومع ذلك، نجده يصر على القول بأنها « أرض بلا شعب ». 
ويؤكد كالن أنه لا يوجد شعب عربي وإنما شعوب متحدثة بالعربية، وما يُسمَّى بالعروبة إن هو إلا رد فعل للنهضة الصهيونية المباركة، ولم يخلق جامعة الدول العربية سوى الرشوة البريطانية، كما يؤكد أن البلاد العربية لا يوحِّدها سوى كره إسرائيل. أما الفلسطيني فهو أيضاً لا وجود له، فهو خليط لا نهاية له من كل الأجناس. والقومية العربية شيء مُصطنَع اصطنعته طبقة «الأفندية» وهم يستخدمونها كأداة لتحقيق أغراضهم الكريهة (ولكننا نُفاجأ بعدم اتساق واضح في كتابات كالن، إذ نجده فجأة يقتبس مثلاً إنجليزياً يقول « إنك إذا ضربت عربياً في فلسطين فأنت أيضاً تضرب جده في الأردن »، وهو ما يعني أن ثمة وحدة ما تتجاوز ما رصده). 
وحينما يترك كالن العروبة ويتحدث عن العرب أنفسهم، فإن الأمر لا يختلف كثيراً، فالعرب دائماً يبحثون عن البقشيش، وهو حينما يذهب لحي عربي فإنه يُلاحظ أن هذا الحي كان (قبل مجيء الإسرائيليين) حياً للعاهرات ومدمني المخدرات. وهناك شيخ قبيلة في صحراء النقب يلبس هو وأولاده ساعات أجنبية لا تبيِّن الوقت ويحملون أقلام حبر في جاكتات غربية يرتدونها فوق جلاليبهم، وهم يلبسون أحزمة أغمدوا فيها خناجر، ووظيفة هذا الخليط الإنساني هي تهريب الحشيش. ولكن ماذا عن الفدائيين الذين يحلمون ويحملون السلاح دفاعاً عن حقوقهم ويحاولون تحقيق البقاء (ومن ثم فهم مستوفون للشروط البرجماتية: الذاتية والعملية)، هؤلاء يصفهم كالن بأنهم كالديدان. كل هذا التغييب والتهميش والتطبيع وإسقاط القداسة والخصوصية يهدف إلى شيء واحد وهو جعـل العربي خاضـعاً لقوانين السـيولة الكونية؛ جزءاً لا يرتبط بشيء، ولذا يمكن تحريكه ببساطة. 
إن رؤية كالن للطبيعة البشرية برجماتية مخيفة، فالإنسان كيان مطاط ولا ثبات في الطبيعة البشرية. وشخصية الإنسان حدث مستمر وليست مجرد حالة جامدة (تماماً مثل الأفكار والمعرفة)، وكل شيء يتغير ويتبدَّل دائماً (مثل الحقيقة والقيمة). ولذا، فإن حل القضية الفلسطينية في رأيه يتلخص في أن يترك الفلسطيني أرضه وأن يتحول الفلسطيني الثابت في أرضه (الجامد مثل الحقيقة والقيمة) إلى الفلسطيني التائه (المتغير مثل الأفكار البرجماتية الناجحة): يُدفَع له بعض المال ويُعطَى جواز سفر ويصبح العالم كله مجال اختياره، أي أن يتحول إلى إنسان برجماتي مرن يقـبل الحقائق المالية المباشرة (القيمة النقدية «كاش فاليو cash value»، وليس القيمة الثابتة، القيمة الفورية التي تحقق له النجاح الفردي والبقاء الشخصي). 
أما الوجود الإنساني كجماعة، فيجب على الفلسطيني البرجماتي ألا يشغل باله به، على الفلسطيني أن يتحول إلى شيء متحرك يتجاوز القيم الثابتة (مثل حب الأرض والالتصاق بها) ويقبل الترانسفير (التهجير) بصدر رحب، حتى يصبح العالم كله حيزاً مليئاً بالفوضى محفوفاً بالمخاطر. ولتعميق هذه المرونة وهذه الحركية، يؤكد كالن أن العربي عليه أن يُغيِّر معتقداته الدينية (مثلما يغير الفلسطيني وطنه). بل ويرى أن التغير بدأ بالفعل، وعلى هذا فإن الإسلام قد أخذ في الاختفاء، أو في التحول الذي هو مرادف للاختفاء، إذ بدأت تنتـشر البهائية، وهو يرى أن البهائية بمنزلة الإصلاح الديني في الإسـلام.
هذا فيما يتصل بالعرب المستضعفين الذين يخضعون لقانون السيولة الكونية الذي يكتسحهم والذي يوجب عليهم أن يتركوا هويتهم وأرضهم ودينهم ويسبحوا مع التيار أينما يأخذهم، فماذا عن العباقرة (اليهود) الذين يجسدون هذه السيولة التي تتبدَّى من خلالهم، وتصبح إرادتهم وأحلامهم هي النقطة المرجعية ويصبحون هم المطلق؟ يؤسس كالن حق اليهود في فلسطين على أسس برجماتية راسخة وهي ذاتيتهم المطلقة إذ يقول إن هذا الحق يستند إلى الشعور القوي والجارف لدى اليهود بمركزية إسرائيل في حياتهم، فأينما ذهبت في العالم تجد اليهود يتطلعون لإرتس يسرائيل ويحلمون بها. كما يستند هذا الحق إلى خوف اليهود الدائم من أن هتلر قد يجيء في أيِّ مكان. 
وبسبب هذه «الحالة الشعورية»، تصبح فلسطين من حق اليهود وليس العرب، وهذه حالة شعورية ذات قيمة نقدية فورية، وهي منسجمة مع آراء الصهاينة وتطمئن لها نفوسهم ولا تتعارض مع قيمهم العملية، ولذا فإنها تصبح الحقيقة المطلقة. وفكرة الحقوق التي تستند إلى حالة شعورية تستند بدورها لرؤية غريبة للتاريخ، فالتاريخ عنده حالة شعورية وإيمان، ولا تهم أية حقائق خارجية، فالسيولة تكتسحه. ويتفق الفيلسوف البرجماتي مع الرؤية الحلولية اليهودية التقليدية حين يساوي بين عقائد اليهود وتاريخهم المقدَّس وتاريخهم الحقيقي. 
فإن أخبر الإله اليهود في التوراة أنه وعدهم بإرتس يسرائيل، فقد أصبحت هذه الرقعة من الأرض أرضهم عبر التاريخ. فالتاريخ ـ حسب تعريف كالن « هو الماضي كما يتذكره الإنسان ». ولكن التاريخ كوجود ذاتي، أو كذكرى وحسب، هو الأسطورة بعينها. فالتاريخ ليس مجرد تذكُّرنا له وإنما هو كيان موضوعي نحاول نحن استرداده من الماضي، واسترداد الماضي شيء ووجوده في الذهن شيء آخر. ولكن، في عالم السيولة الكونية، تكون كل هذه اعتبارات ثانوية. 
ويحاول كالن أن يشرح لنا فكرته عن التاريخ كذكرى والذكرى كتاريخ فيقول: "تحولت الرغبة إلى نبوءة والنبوءة بدورها تحولت إلى ذكرى، والذكرى أُعيدَ تشكيلها إلى وعد، والوعد تحول إلى مشروع". وهذا يُذكِّرنا بتعريف وليام جيمس للفكرة كمشروع وكمخطَّط، فرغبة العبرانيين تحولت إلى نبوءة مقدَّسة ثم صَدَر الوعد الإلهي الذي تحول إلى مشروع استيطاني، فشرعية المشروع الاستيطاني تستند إلى أحلام اليهود. 
يذوب التـاريخ والواقـع إذن في وجـدان من يرغب، ويصبح بلا حدود، ثم يظهر جيل من حملة التراث اليهودي، المثاليون الذاتيون الذين يحلمون ويفرضون حلمهم دون أدنى اعتبار لأي تاريخ، فالتاريخ هو ما تشاء (!) والطوباويون أو المثاليون الذين يشير إليهم عنوان الكتاب هم الإسرائيليون، كل الإسرائيليين. ويخبرنا كالن أن اليوتوبيا حالة عقلية، وهذا أمر لا جدال فيه. ولكن ما ينساه كالن هو أن اليوتوبيا ـ مثل الحالات العقلية ـ أنواع ودرجات، فهناك الفردوس السماوي الذي نحلم به ونحمله في قلوبنا أينما سرنا ونضع فيه آمالنا، وكل ما لم وما لن يتحقق «الآن» و«هنا»؛ فهو حلم فردوسي كامل نحن في أمس الحاجة إليه رغم استحالة تحقيقه، إذ يساعدنا هذا الحلم على تجاوز الواقع المادي المباشر. 
ولكننا نعلم جيداً، إن لم نكن من الذاتيين البرجماتيين، أن أحلام الآخرين وذكرياتهم ورغباتهم وأشواقهم تضع حدوداً لأحلامنا الفردوسية، كما نعلم أن الفردوس السماويَّ سماويٌ ولذا فنحن لا نتوقع أبداً تحقيقه الآن وهنا. ولكن هناك أيضاً اليوتوبيا التي يتحدث عنها كالن البرجماتي، فاليوتوبيا - كما يقول - هي مادة الأشياء التي نأمل فيها وتقوم شاهداً على أشياء غير منظورة دون أن تحدها الحدود. وفي إسرائيل الموعودة، يكتشف البرجماتي أن كل الرجال والنساء طوباويون وأن أرض بيولاه (وهو اصطلاح قبَّالي يعني الفردوس) هي الرؤية التي لم تتجسد بعد في أي مكان ولا زمان، ولم تتحقق في الواقع في أي مكان ولا زمان على الأرض، ولكنها دائماً على وشك التجسد في هذا الزمان وفي هذا المكان: الآن وهنا. 
إن الفردوس الذي يريده كالن هو فردوس أرضي يتحقق الآن وهنا، وهو بهذا يكون حقاً أمريكياً علمانياً حتى النخاع. وإذا كان هناك أيُّ شك في مكان الفردوس الذي يحلم به كالن، فإنه يزيله تماماً بقوله إن بعض الأديان حددت اليوتوبيا باعتبارها « غداً » سماوياً لن يلحق به الإنسان بتاتاً في يومه الذي يعيشه. ولكن توجد أديان أخرى ترى أن « الغد » إن هو إلا يوم يعمل ويحارب من أجله المؤمنون ويحاولون تحقيقه في أيامهم الأرضية كي يستمتعوا بحاضر فردوسي. هؤلاء المؤمنون يحاولون يوماً بعد يوم أن يشيدوا مدينتهم الفاضلة التي يحلمون بها الآن وهنا. 
إنهم يريدون أن يحيوا فردوسهم وهم أحياء وليس بعد موتهم (وهذا يشبه تماماً الأفكار الأخروية الحلولية اليهودية والعقائد الألفية الاسترجاعية). الفردوس السماوي كما يرى كالن قابل للتحقيق إذن، ونهاية التاريخ ممكنة في أية لحظة. والطوباويون الإسرائيليون ـ حسب تصوُّر كالن ـ يقومون بالفعل بتشييد الفردوس الأرضي (بأموال يهود العالم). وهم، في محاولتهم هذه، لا يفصلون بين المعجزات الإلهية والمنجزات الآلية، ولا بين مبادئ التوراة والتلمود ومبادئ وممارسات رجال العلم في معهد وايزمان. 
وقد قال له أحد الفردوسيين: « إننا بشر عاديون؛ نحارب مثل أي شخص آخر »، ولكن البرجماتي الذي أسقط القداسة عن العرب تماماً يجد الإسرائيليين مفعمين بالقداسة، فسعيهم من أجل لقمة العيش (علاقات الإنتاج) أمر ميتافيزيقي، فلقمة العيش هذه لا تغذي الجسد الذي يكد ويعرق، وإنما تغذي تفرُّد الروح، هذا التفرد الذي تعبِّر عنه كلمات مثل «يهودي» و«إسرائيلي». ثم تتكشف الحلولية بدون إله بشكل واضح وصريح حينما يتحدث كالن عن تحول الخبز الذي يتناوله الإسرائيليون إلى ما يشبه الخبز المقدَّس الذي يتناوله المسيحي في صلواته على أنه جسد المسيح: أي أن المجتمع الإسرائيلي تحول إلى ما يشبه الكنيسة أو التجربة الدينية المطلقة أو حتى الفردوس السماوي.
وبذا يتداخل النسبي والمطلق تداخلاً كاملاً ويصبح المجتمع الإسرائيلي العبد والمعبود والمعبد، أي أن المثل الأعلى البرجماتي تحقق تماماً في إسرائيل حيث أصبح المستوطنون الصهاينة (هؤلاء السوبرمانات المقدَّسون) تجسيد البرجماتية القديمة قدَم الأزل، فقد اشتقوا أسماءهم في بداية التاريخ من الصراع (الواقعي) والقداسة (المثالية)، فاسم يسرائيل كما يخبرنا البرجماتي الحلولي يعني المتصارع مع الرب، فهو شعب نيتشوي دارويني يعيش في صراع دائم مع الطبيعة القاسية من رمال وتلال ومستنقعات يواجهونها بالإيمان نفسه الذي يواجهون به الطبيعة البشرية المعادية لهم، طبيعة جيرانهم (من العرب) الذين يكنون الكره لهم وينوون تحطيمهم ولا يتمتعون بأية قداسة، فالصراع هنا يصبح صراعاً ضد جمادات لا حياة فيها، وبالتالي يسهل اجتثاثها. وحينما كان الكاوبوي يقف أمام أعدائه، فإنه كان يصرعهم، سواء كانوا من الهنود أو من الذئاب أو من رعاة البقر الآخرين. وكذا الحالوتس (الرائد الصهيوني) فكان عليه أن يحارب حتى يمكنه البقاء، مجرد البقاء في أرض فلسطين الجرداء.
إن البيئة الطبيعية، بما في ذلك الإنسان، تقف ضد الحالوتس الذي لم يكن يحارب ضد طبيعتها الحجرية المستنقعية البرية بل ضد طبيعتها الإنسانية المفترسة. والبرجماتي رجل عملي مرن يتعامل مع ما هو قائم بشكلٍّ مباشر دون أن يُصدِّع رأسه بالتاريخ، فعليه أن يذهب للواقع الجديد الذي يفرضه بالمسدس ضد الطبيعة الإنسانية العنيدة (وهذه حقيقة مريحة بالنسبة له تتفق مع آرائه وأحلامه). 
والطوباويون، في صراعهم المستمر ضد الطبيعة والإنسان، أصبحوا تجسيداً كاملاً للقيمة الكبرى، الصراع من أجل البقاء، ولذا فإن السيولة الكونية تكتسحهم فيصبحون برجماتيين طيعين. وقد استجابوا للنداء البرجماتي الدارويني النيتشوي وتحوَّلوا إلى جيش محارب عظيم، أو لم يقل فيلسوف البرجماتية وليام جيمس: « لقد وُلدنا كلنا لنحارب، وإن المجتمع سيصاب بالعقم دون ذلك البذل الصوفي الحلولي للدم »؟ وكأن المجتمع الإنساني آلهة وثنية متعطشة للدماء، وليس الإطار الذي يتجاوز الإنسان من خلاله حالة الطبيعة والصراع! 
ويُلاحظ كالن بقلب برجماتي مبتهج عسكرة المجتمع الإسرائيلي عسكرة كاملة: إن شعب إسرائيل هو جيش إسرائيل، وجيش إسرائيل هو شعبها، وهذا ليس بالمعني المجازي وإنما هو معنى حرفي، فالجيش الإسرائيلي هو المدرسة التي يتعلم فيها الجميع. ومرة أخرى أيضاً، يُلاحظ كالن بقلب برجماتي مبتهج أنه لم يقابل أيَّ فتى أو فتاة لا يتطلع إلى الخدمة العسـكرية. ويخبرنـا بكل سـرور أنه يمكن جمع الاحتياط في ساعات قليلة، أي أن إسرائيل ( « إسرائيل القلعة » كما يسميها خلال الكتاب كله) على أهبة الاستعداد دائماً لملاقاة العدو براً وبحراً وجواً. 
ويمكننا ملاحظة ما يلي على فلسفة كالن: 
1 ـ لا يمكن الحديث عنه باعتباره فيلسوفاً يهودياً أو حتى باعتباره مفكراً يهودياً، فيهوديته أصبحت ملتصقة تماماً بالعقيدة الأساسية للمجتمع (وهي العلمانية في شكلها البرجماتي) أي الحلولية بدون إله. وفلسفته برجماتية تماماً سواء حين يتعامل مع النسق الفلسفي أو حين يتعامل مع المجتمع الصهيوني. ولا يمكن فهم موقف كالن من المجتمع الصهيوني إلا في إطار تطور الفكر الفلسفي الغربي وتصاعد معدلات العلمنة وتزايد هيمنة الفكر الحيوي. 
2 ـ يمكننا الآن إدراك المضمون الحقيقي للدعوة الموجهة للفلسطينيين والعرب بأن يكونوا أكثر مرونة وبرجماتية، فهي تعني الخضوع للعنف. إذ لو كان الأمر مجرد مرونة وتعويضات تُدفَع، فلم لا تدفع التعويضات للإسرائيليين كي يغتنموا الفرصة المتاحة أمامهم في هذا العالم الرحب النيتشوي المحفوف بالمخاطر؟ لم لا يُطبَّق الترانسفير (أعلى درجات الحركية والمرونة) على الإسرائيليين وهم جزء من الحضارة الغربية ويتباهون بذلك، كما أن عودتهم لن تُشكِّل مشكلة كبيرة (خصوصاً أن حوالي ربع الشعب الإسرائيلي موجود بالفعل في الغرب)؟ إن الأمر ليس مجرد مرونة وواقعية، وإنما هو مرتبط بحجم المدفع وبمقدار العنف، فمن لا يملك آليات البقاء وسبل العنف يصبح مستضعفاً وعليه أن يقلع عن الجهاد ويُسلِّم بروح رياضية برجماتية تتجاوز المطلقات والمثاليات والأحلام وكل ما هو نبيل وكل ماهو إنساني في الإنسان. 
ويمكن تصنيف كالن باعتباره من صهاينة الدياسبورا التوطينيين، فهو يرى أن الصهيونية تنبع من الإيمان بالتعددية الحضارية. فالحركة الصهيونية بمنزلة توكيد على ولاء اليهود الأمريكيين لقيمهم الحضارية اليهودية، وهو ما يجعلهم لا يذوبون تماماً في التيار الرئيسي لحضارتهم الأمريكية، ولكنهم مع هذا جزء منه ويقومون بتغذية هذا التيار بعناصر جديدة عليه. وهذا الطرح لدور اليهود يختلف عن الطرح الصهيوني الاستيطاني الذي يطالب اليهودي بالهجرة إلى فلسطين بدعوى أنه لا يمكنه الحياة السوية خارج أرض الميعاد.
جورج لوكاتش (1885-1971) والماركسية الجديدة 
Georg Lukacs and Neo-Marxism 
فيلسوف وناقد أدبي ماركسي مجري يهودي. أثر في الفكر الأوربي الماركسي وغير الماركسي، خصوصاً في النصف الأول من القرن العشرين. وُلد لأسرة يهودية ثرية وكان أبوه يعمل مدير بنك. وتلقى تعليمه في مدرسـة بروتسـتانتية لوثرية في بودابسـت، وفي جامعتي بودابست وبرلين، وانتقل بعد ذلك إلى هايدلبرج. درس على يد جورج زيميل وماكس فيبر وتأثر بكتابات فيلهلم دلتاي (فيلسوف الحياة والتأويل) كما تأثر بأفكار صديقه إرنست بلوخ وبالأفكار الرومانسية وبالاتجاهات المضادة للنزعات الوضعية والطبيعية والمادية (بشكلٍّ عام). 
وانضم إلى الحزب الشيوعي عام 1919 حيث عمل قوميساراً للثقافة والتربية في وزارة بيلا كون، ثم انتقل إلى فيينا حيث بقى لمدة عشرة أعوام. ونشر كتابيه نظـرية الروايـة (1920)، و التاريخ والوعي الطبقي (1923) في هذه الفترة. وعاش لوكاتش في موسكو بين عامي 1930 و1941 وعمل في معهد ماركس وإنجلز، كما عمل بين عامي 1930 و1944 في معهد الفلسفة في الأكاديمية السوفيتية للعلوم. وعاد إلى المجر عام 1945، وأصبح عضواً في البرلمان وأستاذاً لعلم الجمال وفلسفة الحضارة في جامعة بودابست. كان لوكاتش أحد الشخصيات الأساسية في الثورة المجرية عام 1956، وُعيِّن وزيراً للثقافة. 
وقُبض عليه بعد إخماد الثورة ونقل إلى رومانيا، ولكن سُمح له بالعودة إلى بودابست عام 1957 حيث كرس جل وقته لإعداد مجلد ضخم من جزءين في علم الجمال. وكتب لوكاتش ما يزيد على ثلاثين كتاباً ومئات المقالات والمحاضرات. ومن بين دراساته العديدة، دراسات عن كلٍّ من هيجل والوجودية والجمال. ومعظم كتابات لوكاتش بالألمانية. ومن أهم كتبه الأخرى دراسات في الواقعية الأوربية (1948)، وجوته وعصره (1947)، وهو دراسة عن الاستنارة، و هيجل الشاب (1948)، و تحطيم العقل (1954)، و الرواية التاريخية (1962)، و الجماليات (1965)، غير أن محاولته الأخيرة وضع أسس أنطولوجيا ماركسية لم تكتمل: أنطولوجيا الوجود الاجتماعي (1978). 
ويرى لوكاتش (في كتاباته النقدية مثل الرواية التاريخية) أن الفن الواقعي فن يعكس كلاً من اللحظة التاريخية القائمة والإمكانات الكامنة في الواقع التاريخي، ويُقدِّم لنا أنماطاً بشرية تمثل كلاً من اللحظة والإمكانية. وتكمن أهمية الفن في مقدرته على تحـويل أحـداث حـياتنا إلى متتالية قصصـية ذات معـنى، والمــعنى ـ حسب تصوُّر لوكاتش ـ ينبع دائماً من إدراك ما هو قائم وما هو ممكن. 
فالأشكال القصصية الواقعية تعكس الواقع التاريخي وتزيد وعينا بالممارسة الاجتماعية القائمة، ولكنها في الوقت نفسه تجعلنا ندرك أيضاً البدائل الممكنة والغاية وراء المشروع الإنساني. ويرى لوكاتش أن هذه الغاية هي خلق قدر من الوحدة بين الإنسان والطبيعة (والذات والموضوع، والفرد والمجتمع، والوعي والواقع) والفن هو الوسيط بين كل هذه الثنائيات. 
ورؤية لوكاتش، رغم حديثها عن الوحدة النهائية، تستند إلى ثنائية حقيقية بين قطبين سماهما هو نفسه الجوهر (المتجاوز) والحياة (الواقعية)، والحياة المثلى هي الحياة التي يتحد فيها الاثنان. وقد قام لوكاتش بتصنيف الأنواع الفنية إلى ثلاثة أنواع تبعاً لنجاح العمل الفني في تحقيق الوحدة بين الجوهر والحياة: 
أ ) النوع الملحمي: وهو النوع الأول الذي يكون الجوهر والحياة فيه كلاً مستمراً، وتتسم علاقة البطل بجماعته فيه بأنها علاقة عضوية. 
ب) النوع المأساوي: ويستند إلى الإحساس المأساوي بالتعارض بين الجوهر والحياة وبانفصال البطل عن الجماعة. 
جـ) النوع الأفلاطوني: ويستند إلى قبول الانفصال الكامل بين الجوهر والواقع والبطل والجماعة بحيث يصبح الجوهر جزءاً من عالم مثالي ثابت ويصبح الواقع والحياة مجرد أجزاء متناثرة. 
ويرى لوكاتش أن الرواية الواقعية (في عصر البورجوازية) محاولة للعودة إلى الرؤية الملحمية والاستمرارية السردية بين الجوهر الروحي والحياة الواقعية والمادية. ولكن بدلاً من الآلهة التي كانت تضمن الوحدة الكونية وتهدي خُطى أبطال البطل الملحمي الأسطوري تظهر الرؤية الواقعية الحديثة حيث يحدث الشيء نفسه، ولكن مصدر الوحدة هو الإنسان نفسه وبحثه الدائب عن المعنى في عالم لا معنى له. 
وعادةً ما يفشل البطل في الرواية الحديثة، فالعالم الذي يعيش فيه عالم متشيئ، ولذا يعيش البطل منفصلاً عن جماعته منعزلاً عنها. وتعبِّر الرواية عن عزلة الفرد من خلال المثالية (سرفانتس) أو الواقعية (فلوبير) أو الطوباوية (تولستوي). ولكن الرواية ذاتها، كتجسيد سردي وشكلي لعملية البحث عن المعنى والوحدة، تؤكد العلاقة بين الجوهر والحياة وتشير إلى إمكانية الوحدة بين الذات والموضوع. فالعمل الروائي، من ثم، رغم أنه قد يكون على مستوى المضمون السردي المباشر يتحدث عن إحباط البشر، يظل عملاً تبشيرياً طوباوياً متجاوزاً، فالعمل الروائي مثل العمل الثوري في تبشيره بإمكانية وحدة الوعي والواقع؛ أي أن الرواية الواقعية لا تقدم مجرد وصف وتحليل وإنما تقدم لنا عناصر تكوين الواقع والمنظور والبديل، ومن ثم فهي تبشير بعالم متكامل واحتجاج على عالم يسحق الإنسان. 
ويؤكد لوكاتش أن المؤلف البورجوازي قد يصل إلى إدراك العملـية التاريخـية بشـكل واع من خـلال خـلق شـخصيات تتجـاوز ـ على المستوى الخيالي ـ أساسها الطبقي. ويضرب لوكاتش مثلاً بوولترسكوت وتوماس مان ودوستويفسكي وبلزاك وفلوبير باعتبارهم روائيين أدركوا طبيعة التحول التاريخي الاجتماعي في العصر الحديث فقدموا شخصيات هي أنماط إنسانية تعبِّر عن الإمكانية الإنسانية الحقيقية وعن رغبة الإنسان في أن تتحد الذات مع الموضوع، رغم الوضع الطبقي لهؤلاء الكُتَّاب ورغم تذبذبهم. 
والواقعية التي يتحدث عنها لوكاتش ليست الواقعية الاشتراكية التي تتراوح بين الفوتوغرافية والدعاية، ولكنها واقعية تستند إلى إدراك متعين للواقع الاجتماعي ولكيفية تجاوزه، كواقع مباشر متغيِّر من خلال العملية التاريخية التي يُفترَض أنها تحتوي على الإمكانيات الإنسانية والاجتماعية التي سيُقدَّر لها أن تتحقق في نظام اجتماعي وثقافي جديد. من هذا المنظور، وجه لوكاتش نقداً حاداً لكلٍّ من النزعة الجمالية (الشكلانية) والنزعة الرومانسية في الفن وما يُسمَّى بالحداثة. فكلها نزعات واحدية تركز على الشكل أو على جانب واحد من الواقع (الوضع القائم) دون الجانب الثاني (الإمكانية)، أي أنها تُلغي الثنائية. 
ولعل نقده للحداثة (في مقاله الشهير « أيديولوجيا الحداثة ») يوضح لنا وجهة نظره، فالأدب الحداثي هو نتاج وعي كاتب لا يشعر بالكل ولا بالوحدة ولا بالإمكانية بسبب تركيزه على جانب واحد من الواقع (الجزء ـ السطح) وهو ما يجعل وجدان الأديب غير قادر على تجاوز هذا التفتت الذري من حوله وتجاوز التشيؤ والجمود. ويصف لوكاتش الحداثة بأنها تأمُّل متشائم وسقوط في العدمية واليأس، وهي (عنده) تعود بجذورها إلى تشاؤمية هايدجر وكتابات سارتر الأولى حيث يذهبان إلى أن الوضع الأنطولوجي للإنسان يحكم عليه بحالة اغتراب دائم لا يمكن تجاوزه بغض النظر عن التطور التاريخي. والحداثة، بهذا، تقهقر إلى عالم مجرد ميتافيزيقي لا تاريخي، عالم المثالية المجردة (الأفلاطوني). 
فالواقع مرادف للعبث والروح إحباط مستمر ولا يوجد أي بحث عن المعنى (كما هو الحال مع الرواية الواقعية البورجوازية). وقد أصبحت الشخصيات ذاتها أحادية فلم تَعُد تجسّداً لنمط إنساني اجتماعي عام في لحظة تاريخية وفي ظروف اجتماعية محددة تتعامل معها وتؤثر فيها وتتأثر بها، وإنما أصبحت الشخصيات منعزلة غير اجتماعية غير قادرة على الدخول في علاقة مع الآخرين أو على التفاعل مع الواقع الاجتماعي، شخصيات لا تُدرك أية إمكانية ذاتية أو اجتماعية ولذا لا تحلم بالتجاوز وتقنع بالواقع ولا تبحث عن أي شيء، وهي شخصيات مسطحة أحادية البُعد مثل شخصيات قصص الأمثولة (بالإنجليزية: ألجوري allegory) وليست شخصيات مستديرة متعددة الأبعاد.
ويذهب لوكاتش إلى أن الحداثة بهذا المعنى عبادة للفراغ الذي أوجده غياب الإله، فهي تعبير عن الجنون والشذوذ. وقد وجه لوكاتش سهام نقده للمفهوم الحداثي للمحاكاة، فهو لا يركز على الإمكانية الاجتماعية والتاريخية ولا يرى إلا الأمر الواقع ولأن الأديب يأخذ موقفاً نقدياً، فإنه يشوِّه الواقع الذي يحاكيه. ولكن لابد أن يكون هناك معيار حتى نستطيع أن نرى التشويه تشويهاً. ولكن ما يحدث في المحاكاة الحداثية أن عملية التشويه تتم خارج أي إطار وأية معيارية، ولذا يرتبط التشويه بتشويه آخر إلى أن يصبح التشويه جوهر المحاكاة والعنصر الشكلي الأساسي ويصبح هو المطلق أو الحالة العادية، أي إلى أن يتم تطبيع التشويه. فالحداثة تبتعد عن السواء الإنساني والواقع التاريخي والمسئولية الجماعية، ولذا فهي لا تثمر روايات واقعية أو غير واقعية وإنما روايات مضادة. حتى أصبح موضوع الكتابة الوحيد استحالة الكتابة! 
إن وقوف لوكاتش ضد كلٍّ من النزعة الجمالية الشكلانية والرومانسية والحداثة يرتبط ارتباطاً وثيقاً برفضه النسبية في الفكر الاجتماعي، إذ تمثل هيمنتها في رأيه اتجاهاً خطيراً نحو اللا عقلانية والعدمية. وأرخ لوكاتش بشكل شامل لتزايد اللا عقلانية في الأدب والفلسـفة والفكـر الاجتمـاعي في الحضـارة الغربية، بخاصة في ألمانيا، في كتابه تحطيم العقل حيث يرى أن ثمة مفارقة في الحضارة الحديثة هي عقلانية العلم الحديث التي تؤدي إلى توليد اللاعقلانية، فالعلم يحطم أي يقين يتصل بالقيم المطلقة والقواعد العالمية للسلوك، وحينما يتحطم اليقين تصبح الأمور متساوية في حضارة نسبية، ولذا فإن كل شيء يصبح مباحاً. والنسبية تؤدي إلى اللا عقلانية حين يصبح من المستحيل اختيار أسلوب حياة له ميزته الداخلية. ويرى لوكاتش أن هذا الموضوع يشكل حلقة الوصل بين نيتشه ومؤسسي علم الاجتماع الألمان (ماكس فيبر وجورج زيميل). 
ولكن أهم دراسات لوكاش الاجتماعية تتمثل في ثماني مقالات نُشرت في كتاب تحت عنوان التاريخ والوعي الطبقي (كُتبت بين عامي 1919 و1922). ويعكس الكتاب خليطاً متميِّزاً من كلٍّ من الرومانسـية الثـورية والإبسـتمولوجيا الكانطية الجديدة والفلسفـة الماركسية. ويذهب لوكاتش إلى أن العلوم الطبيعية لا يمكنها أن تزودنا بنموذج لتحليل المجتمع، لأن السمة الأساسية في السلوك الإنساني (على عكس السلوك الطبيعي أو الحيواني) أنه واع. فالفعل الإنساني يستند إلى عملية اختيار بين سبل مختلفة، وهو ما يعني أن دراسة الفعل الإنساني تتطلب منهجاً مختلفاً بشكل واضح عن العلوم الطبيعية. ويرى لوكاتش أن مشكلة الماركسية تتحدد في أنها تتصور أنها هي علم المجتمع الذي يحاول أن يكتشف قوانين السلوك الإنساني والتطور الاجتماعي، وأنكرت أن العقل الإنساني يتجه نحو نهاية واعية. ويرفض لوكاتش الحتمية الاقتصادية التي تَرُدُّ كل شيء إلى العوامل الاقتصادية. ويذهب إلى أن المادية الجدلية ليست مجموعة جامدة من القوانين الثابتة الأزلية وإنما هي منهج في البحث. 
يرى لوكاتش أن المنهج الجدلي عند ماركس يؤكد تاريخية الوعي الإنساني، وهذا يعني أن الإنسان ليس كياناً متلقياً للتاريخ وإنما ذات فاعلة، كما أن المجتمع الإنساني ليس مجرد أجزاء مترابطة آلياً وإنما هي كلٌّ اجتماعي متماسك. وجوهر الماركسية في تصور لوكاتش أنها لا تزود الإنسان بقوانين جاهزة ومعايير مفروضة بصورة مسبقة على الممارسة الإنسانية وإنما تزود الإنسان بطريقة للفهم بحيث يستطيع الإنسان التعرف على الأحداث الجزئية والفردية، التي تبدو في ظاهرها منعزلة متفردة. 
ويرى لوكاتش أن مفتاح فهم فلسفة ماركس يكمن في مفهوم «توّثن السلع» (أو تسلّع الإنسان) وفي أهمية تجاوز كل أشكال الوعي المتشيئ، فبينما يبدو العالم الاجتماعي كما لو كان عالماً موضوعياً شيئياً مستقلاً بذاته، برانياً وله قوانينه الموضوعية، فإننا في واقع الأمر نعيش في عالم خلقته الإرادة الإنسانية وصاغته ومن ثم تظهر ثنائية الفكر البورجوازي (الموضوع مقابل الذات، والإرادة مقابل القانون، والمجتمع مقابل الطبيعة) التي هي في واقع الأمر نتاج تناقضات كامنة في علاقات الإنتاج الرأسمالية المبنية على الإنتاج السلعي. 
ولكن التأكيد الماركسي على القوانين الموضوعية التي تتحكم في المجتمع الإنساني هو ذاته سقوط في التشيؤ والتبرجز، وثنائيات الوعي البورجوازي (خصوصاً الفصل الجامد بين الحقيقة والقيمة) لا يمكن أن تُحل عن طريق الفلسفة التأملية وإنما عن طريق الفعل الإنساني المتعيِّن والممارسة الثورية. 
والطبقة المرشحة تاريخياً (أي المقدَّر لها) أن تحطم الوعي المتشيئ للرأسمالية البورجوازية هي الطبقة العاملة التي تمثل الذات الفعالة التي تحقق التغير الاجتماعي وتمثل الكلية والشمول البشري، وهي طبقة ليس لها أية مصالح في استمرار حالة التشيؤ والتفتت، ومن ثم فإن الطبقة العاملة حينما تعي ذاتها نظرياً وتحقق مصالحها الطبقية ستحقق الخلاص الاجتماعي للبشرية وتحل لغز الفلسفة الألمانية، فمعرفتها الذاتية للواقع هي ذاتها الرؤية الشاملة التي تحقق وحدة الذات والموضوع وتحولها إلى ممارسة ثورية وتصل بجدل التاريخ إلى نهايته من خلال تحطيم الرأسمالية. إن الوعي الإنساني لا يعكس الوضع التاريخي بشكل سلبي جاهز وإنما يمكنه تجاوزه ومن ثم تحويله وتغييره. وعلى هذا النحو، يقدم لوكاتش نقداً جذرياً لفكرة الحتمية الحديثة. 
وقد وُجِّهت عدة انتقادات لفكر لوكاتش من بينها: 
1 ـ أنه يبشر برؤية غائية للتاريخ، رؤية لا تقوم فيها البروليتاريا بدور الأداة التي ستحطم الرأسمالية وحسب وإنما تصبح آلية تأتي بعصر جديد خال من الوعي الزائف. وإذا كان الأمر كذلك، فإن هذا يعني في واقع الأمر أن الجدل سينغلق في هذا العهد الجديد (نهاية التاريخ). وهكذا، فلن يكون هناك مجال للعقل النقدي في مجتمع ما بعد الثورة (وهذه هي إشكالية المابعد ونهاية التاريخ الكامنة في الأنساق العلمانية كافة). 
2 ـ اتُهم لوكاتش بأنه حوَّل ماركس إلى منهج ومن ثم وضعه فوق النقد، ولأن الفكر الجدلي لا يدافع عن أي فكر محدد أو موقف محدد لأنه مجرد منهج، فإن الماركسية الجدلية لا يمكن أن تخطئ أبداً. 
3 ـ رؤية لوكاتش للمعرفة نخبوية، فوعي الطبقة العاملة ليس بالضرورة ثورياً، ومن ثم يجب تفسير هذا الوعي وتطويره وتحويره حتى يصبح ثورياً، ومثقفو الحزب الثوري هم النخبة التي ستقوم بهذا الدور حتى يتوصلوا إلى الحقيقة التي تتفق مع المصالح الحقيقية للطبقة العاملة.
4 ـ واتُهم لوكاتش كذلك بأنه زوَّد عدم الاكتراث السياسي بأساس فلسفي، فإذا كان الحزب يحتكر الحقيقة فثمة ضرورة أخلاقية للكذب والتدليس من أجل صالح الحزب. وهنا يظهر عنصر اللا عقل مرة أخرى في فلسفة لوكاتش، فالحزب دائماً على حق حتى ولو كذب، وقد قيل إن حياة لوكاتش ذاتها هي أنصع دليل على ذلك. 
5 ـ اتُهم لوكاتش بالغائية الكاملة بل وبالمشيحانية، فالطبقة العاملة في منظومته هي وسيلة التاريخ في انتصار العقل المطلق أو روح العالم على كلٍّ من التشيؤ والاغتراب والانحراف، وهي كيان يشبه الشعب المختار في المنظومة الحلولية اليهودية. 
ولا يمكن تصنيف لوكاتش باعتباره مفكراً يهودياً. فقد نشأ في بيئة مندمجـة، حيـث كان يهود المجـر من أكثر الجماعات اليهودية اندماجاً، كما كانت أسـرته أسـرة بورجوازية عـادية حريصة على الاندماج. تلقى لوكاتش تعليمه في مدارس وجامعات غير يهودية، كما أن منابع فكره أوربي. ويُضاف إلى ذلك أن اهتمامه بالموضوع اليهودي كان ضعيفاً، فحتى حينما تناول مفكرين اشتراكيين يهوداً، مثل موسى هس وفرديناند لاسال، فإن البُعد اليهودي في فكرهم لم يلق عنده أي اهتمام. 
وإن كانت ثمة حلولية في فكر لوكاتش فهي حلولية كمونية علمانية مادية (حلولية بدون إله، وحدة وجود مادية) لا تختلف كثيراً عن أية منظومة فكرية هيجلية تحاول أن ترى تجليات العقل المطلق في التاريخ والمادة. ومع هذا، يجب أن نشير إلى أن لوكاتش يُدرك تماماً مخاطر الحلولية الكمونية. ولذا، فإن تأكيده أهمية التجاوز وإصراره عليه، باعتبـاره ضماناً وحيداً لإنسـانية الإنسـان واسـتقلاله عن الطبيعة والتاريخ، أو أية كليات أخرى، أمر واضح للغاية. ولعل هذا هو سرّ المشـاكل العديدة التي واجهها عبر حياته مع السـلطات الماركسية اللينينية. 
ورغم كل هذا، فهو يظل يدور في إطار الحلولية الكمونية، لأن مصدر التجاوز يظل كامناً في المادة أو في النفس البشرية. ولعل الحوار بشأن الماركسية الإنسانية في مقابل الماركسية العلمية هو حوار بشأن الحلولية الكمونية. فالماركسية الإنسانية تحاول الحفاظ على الإنسان داخل المنظومة الماركسية باعتباره كياناً مطلقاً مستقلاًّ ذا إرادة مستقلة تعبِّر عن نفسها في اختيارات محددة بين بدائل مختلفة، ومن ثم فإن العلوم الطبيعية (التي تفترض وحدة الإنسان والطبيعة) لا تصلح لدراسة ظاهرة الإنسان. 
أما الماركسية العلمية فتحاول الوصول إلى القوانين العلمية التي تتحكم في كلٍّ من التاريخ والطبيعة على حدٍّ سواء والتي يتحرك التاريخ والبشر وفقاً لها، والتي تفترض وحدة الطبيعة والتاريخ (واحدية كونية)، ولذا فهي تحاول تطهير الماركسية تماماً من المطلقات أو الغائيات كافة وتؤدي في نهاية الأمر إلى الشمولية والأحادية السياسية. وقد رفض لوكاتش هذا النوع من الماركسية ولذا فهو يُعَدُّ واحداً من أهم المفكرين المدافعين عن مقولة الإنسان داخل المنظومة الماركسية. والواقع أننا لو قلنا إن لوكاتش (المدافع عن الماركسية الإنسانية) يهودي، وإن كثيراً من المدافعين عن الماركسية العلمية أيضاً يهود، وإن ماركـس مؤسـس النظرية الماركســية كذلك يهودي، فإن كلمة «يهودي» تصبح مثل الصيغة السحرية التي تُفسِّر كل شيء، ومن ثم فإنها لا تُفسِّر شيئاً على الإطلاق.
يتبع إن شاء الله...


الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية   الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية Emptyالأربعاء 11 ديسمبر 2013, 9:48 pm

كلـود ليفي شتراوس (1898- ) والبنيوية 
Claude Levi-Strauss and Structuralism 
عالم أنثروبولوجي فرنسي وأحد أعمدة الفكر البنيوي. وُلد في بلجيكا ثم انتقل إلى فرنسا. ينتمي إلى عائلة من البورجوازية الفرنسية اليهودية المثقفة المندمجة. ورغم أن أحد أجداده كان حاخام فرساي، إلا أنه نشأ في جو علماني في منزل عائلته في بلجيكا التي وُلد بها أو في منزله في باريس (فيما بعد). 
تلقَّى ليفي شتراوس تعليمه الجامعي في السوربون وتخرَّج في كلية الحقوق عام 1931. ثم التحق بالبعثة الجامعية الفرنسية في البرازيل حيث أصبح أستاذاً لعلم الاجتماع في جامعة ساو باولو في الفترة 1935 ـ 1939، وهي الفترة التي قام فيها بعمل أبحاث حقلية إثنوجرافية بين قبائل البورورو في وسط البرازيل والتي على أساسها أقام نظريته في علم الأساطير. 
خدم في الجيش الفرنسي مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، وبعد سقوط باريس عام 1940. رحل إلى نيويورك حيث عمل كأستاذ زائر لأبحاث علم الاجتماع في جامعة نيو سكول أوف سوشيال ريسيرش New School of Social Research بين عامي 1941 و1945، ثم عاد ليعمل كأستاذ لعلم الأديان في مدرسة الدراسات العليا بالسوربون. ومنذ عام 1959، شغل ليفي شتراوس منصب أستاذ الأنثروبولوجيا الاجتماعية في الكوليج دي فرانس، وانتُخب عام 1973 عضواً بالأكاديمية الفرنسية. 
من أهم كتبه الأبنية الأولية لعلاقات القرابة (1949) الذي بلور فيه نظريته الخاصة بأن التبادل التعاقدي هو العامل الاجتماعي الأساسي. وفي كتاب الأنثروبولوجيا البنيوية (1958)، بلور ليفي شتراوس نظريته الأنثروبولوجية متخذاً اللغويات نموذجاً يُحتذَى. ثم صدرت له مجموعة من الدراسات بعنوان الأساطير أو مقدمة لعلم الميثولوجيا  (1964 ـ 1971) في أربعة أجزاء: النيء والمطبوخ، و من العسل إلى الرماد، و أصل آداب المائدة والإنسان العاري. ولفهم فكر ليفي شتراوس (وظهور ما بعد الحداثة)، لابد من فهم الفكر البنيوي (في سياقه الغربي) باعتباره تجلياً لإشكاليات العلمانية الشاملة والتأرجح بين التمركز حول الذات والتمركز حول الموضوع. 
و«البنيوية» هي المقابل العربي للكلمة الإنجليزية «ستركتشراليزم Structuralism». وهي فلسفة لا عقلانية مادية تشكل ثورة ضد الوضعية وضد تشيؤ الواقع واللغة (والتمركز حول الموضوع) وتحاول في الوقت نفسه ألا تسقط في الذاتية ( والتمركز حول الذات). وهي تدَّعي أنها تتجاوز الميتافيزيقا، ولذا فهي ترفض الوجودية والفكر الإنساني الهيوماني بشكل عام. 
ورغم أن الفلسفة البنيوية ترفض الفلسفة الهيومانية، إلا أنها فلسفة متمركزة حول الإنسان. وبالفعل، تظهر الطبيعة البشرية أحياناً في الفكر البنيوي كمعيار (بل كمطلق ومرجعية نهائية) حينما يتحدث ليفي شتراوس عن رغبة البشر في التواصل باعتبار أن هذه الرغبة إحدى سمات الإنسان الأساسية، وهي رغبة تعزله عن عالم الطبيعة/ المادة وتخلق مسافة بينهما. وتتبدَّى الرغبة في التواصل في واقع أن الإنسان ينتج أنظمة إشارية. 
والإنسان البدائي، رغم بدائيته وبساطته، لا يبحث مثل الحيوان عن طعامه وحسب (كما يتصور النفعيون) ولا يبحث عن لغة طبيعية نفعية مباشرة (كما يتصور الوضعيون)، وإنما يبحث دائماً عن رموز وإشارات للتواصل ولتفسير العالم. فهو حينما يجد شيئاً لا يسأل «هل هذا الشيء صالح للأكل (بالفرنسية: بون آ مانجرييه bon a manger)» كما يتصور دعاة النفعية المادية، وإنما يسأل «هل هو صالح للتفكير من خلاله (بالفرنسية: بون آ بانسيه bon a penser)» أو «صالح لاستخدامه رمزاً (بالفرنسية: بون آ سيمبوليزيه bon a symboliser)». 
وهذا الإنسان البدائي الذي يرغب في التواصل يبحث عن الحقيقة ويصل إليها من خلال منطقه الخاص. ولأن الأساطير ليست مجرد قصص خيالية وإنما لها منطقها الخاص (بالفرنسية: مثيو لوجيك mythologique) الذي يختلف عن منطقنا الخاص (بالفرنسية: لوجيك logique)، فإن الإنسان البدائي قد لا يعرف علمنا المجرد ولكنه يملك علمه الخاص الذي يدركه بمنطقـه الخاص ومن خلال نظامه الإشـاري المتعيِّن ومقولاته المتعيِّنة، ولذا سمى ليفي شتراوس هذا العلم «علم المتعيِّن» (بالإنجليزية: ساينس أوف ذي كونكريت science of the concrete). 
بل إن النزعة الإنسانية تظهر عند ليفي شتراوس بشكل متطرف في قوله إن للعقل الإنساني وظيفة رمزية وإنه يتسم بالقدرة على توليد دوال أكثر من عالم المدلولات، إذ أن الإنسان يجد أن العالم ليس مفعماً بما فيه الكفاية بالمعنى، وأن العقل يحوي من المعاني ما يفوق ما يوجد في الواقع من أشياء. وهذه هي طريقة ليفي شتراوس في الحديث عن أسبقية الإنسان على الطبيعة. ويذهب ليفي شتراوس إلى أن مشكلة الإنسان الحديث هي أنه قد قمع هذا الاتجاه في العقل الإنساني نحو توليد الرموز والإشارات. 
هل هذا يعني أن الإنسان هو المرجعية النهائية في الكون وأن العقل يُولِّد معياريته النهائية من داخل ذاته؟ هنا سنكتشف نمط التمركز حول الذات الذي يؤدي إلى التمركز حول الموضوع، وسنجد أنه قد بدأ يؤكد نفسه بشكل حاد. ولكن التمركز حول الموضوع سيأخذ في حالة البنيوية شكل التمركز حول البنية. 
وكلمة «بنية» لها معنى محدَّد في الفلسفة البنيوية. فهي تُستخدَم في علم اللغة البنيوي للإشارة إلى المنهج الذي يدرس السمات اللغوية المختلفة لا كتفاصيل في حد ذاتها وإنما كجزء من بنية عامة لا يمكن أن تُردَ إلى ما دونها. وقد استُخدمت الكلمة بعض الوقت في علم اللغة للإشارة إلى منهج العالم اللغوي بلومفيلد حيث كان يقوم بتقسيم السمات المباشرة للكلام وتصنيف هذه السمات، وهذا ما سماه تشومسكي «البنية السطحية». ومقابل ذلك، طرح تشومسكي مفهوم «البنية العميقة» أو «البنية الكامنة». ولذا سَمَّى تشومسكي اتجاهه في علم اللغة «النحو التوليدي». ولكن يمكن القول بأن كلمة «توليدي» كما يستخدمها تشومسكي ترادف تقريباً كلمة «بنيوي» كما يستخدمها ليفي شتراوس (في علم الأنثروبولوجيا) أو جان بياجيه (في علم النفس). 
وواضع أساس علم اللغة البنيوي (ورائد الثورة البنيوية) هو عالم اللغة السويسري فرديناند دي سوسير (1857 ـ 1913) الذي ذهب إلى أن علاقة الدال بالمدلول (الاسم والمسمى ـ الكلمة ومعناها ـ الإشارة والمشار إليه) لا تستند إلى أية صفات موضوعية لصيقة بالدال أو كامنة فيه، ومن ثم فالعلاقة بين الدال والمدلول ليست ضرورية أو جوهرية أو ثابتة بل اعتباطية. ويرى دي سوسير أن النظام اللغوي نسق إشاري مبني على علاقة الاختلاف بين الثنائيات المتعارضة، فمعنى كل إشارة ينبع من اختلافها مع إشارة أخرى. والنظام اللغوي ككل يعمل من خلال سلسلة الاختلافات والثنائيات المتعارضة هذه، فالمعنى ـ كما أسلفنا ـ ليس كامناً في الإشارة ذاتها ولا حتى يضاف إليها وإنما هو أمر وظيفي يتحدد داخل شبكة العلاقات داخل النص نفسه، أي أن المعنى يُولَد من داخل اللغة نفسها وليس من الواقع.
وقد بيَّن ليفي شتراوس أن الأساطير، مثل اللغة، نظام يتسم باعتباطية وعشوائية علاقة الدال بالمدلول، فالأسطورة (أو الكلمة) ليس لها معنى في حد ذاتها، فعلاقتها بالواقع (معناها) مسألة عرضية ليست كامنة في الأسطورة أو الكلمة ذاتها أو في الواقع ذاته وإنما هي مسألة عُرفية (اتفاقية). كما أن الكلمة والأسطورة لا يمكن أن يظهر لهما معنى إلا إذا أصبحا جزءاً من شبكة أكبر منهما. هذه الشبكة تتسم بما يُسمَّى «التعارضات الثنائية» (بالإنجليزية: بايناري أوبسيشنز binary oppositions). فما يحدد المبتدأ والخبر ليس خاصية مادية في أي منهما وإنما علاقة تعارض بينهما. واللغة والأساطير ليس لهما وجود موضوعي بل ليس لهما مضمون محدَّد، ولكن لكلٍّ منهما منطقه الشكلي المجرد العام. 
وانطلاقاً من هذا، يمكن أن نُعرِّف البنية بأنها ليست صورة الشيء أو هيكله أو عناصره أو أجزاءه أو وحدته المادية أو شيئيته الموضوعية ولا حتى التعميم الكلي الذي يربط أجزاءه. 
وحدَّد بياجيه خصائص البنية بأنها ثلاث: 
1 ـ الكلية، وتعني أن البنية ليست موجودة في الأجزاء. 
2 ـ التحولات، وهي التي تمنح البنية حركة داخلية وتقوم في الوقت نفسه بحفظها وإثرائها دون أن تضطرها إلى الخروج عن حدودها أو الانتماء إلى العناصر الخارجية. 
3 ـ التنظيم الذاتي، ويعني أن البنية كيان عضوي متسق مع نفسه منغلق عليها مكتف بها، فهي كل متماسك له قوانينه وحركته وطريقة نموه وتغيره ومن ثم فهي لا تحتاج إلى تماسكه الكامن. 
ويرى بياجيه أن المثل الأعلى للبنيوية هو السعي إلى تحقيق معقولية كامنة عن طريق تكوين بناءات مكتفية بذاتها، لا نحتاج من أجل بلوغها إلى الرجوع إلى أية عناصر خارجية. 
والبنية ليست ذاتية ولا موضوعية، ولا هي مادية أو مثالية، وهي ليست كامنة في العقل وليست انعكاساً لشيء في الواقع على عقل الإنسان، وليس لها وجود متعال، وليس لها وجود ذاتي أو تجريبي أو موضوعي أو وضعي. فالبنية، في واقع الأمر، شبكة العلاقات التي يعقلها الإنسان ويجردها ويرى أنها هي التي تربط بين عناصر الكل الواقعي أو تجمع أجزاءه، وهي القانون الذي يتصور الإنسان أنه يضبط العلاقات بين العناصر المختلفة. وهذا القانون هو الذي يمنح الظاهرة هويتها ويضفي عليها خصوصيتها. ويتم التعرف على البنية من خلال علاقة التعـارض والتشـابه بين العناصر المختلفـة (ويُطلَق عليها «قوانين التركيب»). ولا يهم أصول البنية التاريخية ولا عوامل تكوينها ولا مضمونها ولا فاعليتها الوظيفية، فهذه عناصر يجب تعليقها (وضعها بين قوسين) للتوصل إلى البنية المجردة. 
ولكن ما علاقة البنية بالإنسان الفرد؟ تبدأ المنظومة البنيوية في الانتقال التدريجي من تأكيد أسبقية الإنسان على الطبيعة (أو الكل) إلى إعلان المساواة والتسوية بينهما. ولإنجاز ذلك، يلجأ البنيويون إلى الحل الحلولي الكموني التقليدي، وهـو الزعم بأن ثمة تماثلاً (بالإنجليزية: هومولوجي homology) بين العقل والواقع، وأن البنية بهذا المعنى متطابقة مع كل من العقل والواقع.والبنية التي تُماثل الواقع كامنة في العقل الإنساني،لا بمعنى عقل الأفراد وإنما العقل الجمعي للإنسانية بأسرها منذ بداية التاريخ حتى الآن،لا فرق في هذا بين العقل البدائي والعقل المتحضر.وهي بنية ثابتة لا تتغيَّر بتغير الزمان أو المكان ولا تتأثر بتغير الأفراد أو المجتمعات أو التحولات التاريخية،وهي لا تعكس الواقع المادي أو مشاعر الفرد أو التاريخ الإنساني وإنما تُعيد إنتاجها كلها حسب أشكالها الثابتة الكامنة. 
لكن، كما هو الحال دائماً مع النظم الحلولية، يتساقط هذا التماثل بين الإنساني وغير الإنساني. ويتحرك غير الإنساني إلى المركز ليؤكد أن له الأولوية والأسبقية (في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير) ومن ثم يتـحرك الإنساني إلى الهامش ويذوي ويختفي ويذوب في الكل اللاإنساني. وبالفعل، نكتشف أن البنية التي قيل إنها كامنة في عقل الإنسان أمر لا شعوري يقع خارج إرادة الإنسان. فالإنسان داخل المنظومة البنيوية ليست له إرادة مستقلة أو وعي مستقل، هو مجرد مفردة تتشكل منها جُمل لغوية ومنظومات أسطورية. والذات الإنسانية الواعية إن هي إلا جزء من بناء ضخم شامخ يتحرك حسب هواه أو قوانينه، وما الذات سوى حامل ترتكز عليه البنية. 
إن المعنى لا يبدأ وينتهي من تجربة الإنسان الفرد الحر الذي يفرض المعنى على الكون أو يجده كامناً فيه. فالمعنى، إن وُجد، هو شيء يحدث للإنسان وللكون. فما يُنتج المعنى في واقع الأمر هو البنية (النظام الدلالي والعلاقات الإنسانية في حالة اللغة، والمنظومة الأسطورية في حالة الأسطورة). وما حديث الأفراد أو قصصهم أو رؤاهم إلا تجلٍّ لهذا النظام وتلك المنظومة. فاللغة والأسطورة ليس لهما بداية في أي وعي خاص، فهما يسبقان وجود العقل البشري، ولذا فهو يُدرك الواقع من خلال اللغة والأسطورة ويقوم بتصنيف الواقع من خلالهما (دون وعي منه). فالإنسان (بمعنى الذات المتفردة) لا يفكر من خلال الأساطير وإنما الأساطير (كبنية مستقلة) هي التي تفكر من خلاله، وهو لا يتحدث من خلال اللغة وإنما تتحدث اللغة من خلاله، وهي تحرك الإنسان أينما كان وتتبدَّى في كل رسائله (رغم أنفه) وفي أي موضوع ينتجه. 
وذكر ليفي شتراوس أكثر من مرة أن العقل البشري ما هو إلا تعبير عن منطق صارم وحتمي وأن فكرة الإبداع إن هي إلا وهم. كل هذا يعني، في واقع الأمر، أن الذات لم تَعُد ذاتية وأن الواقع لم يَعُد موضوعياً، وأن التفسير ليس ثمرة تفاعل الذات والموضوع، فثمة أسبقية للأداة (اللغة ـ الأسطورة) على الغاية (التواصل الإنساني ـ التفسير). وثمة أسبقية مطلقة للبنية وللعلاقات البنيوية على الوعي الإنساني والذوات الفردية، تماماً كما تفترض المادية القديمة أسبقية المادة على الوعي الإنساني. ولكن المادية الجديدة تضيف أن هذا المطلق الجديد له أسبقية على الواقع الموضوعي ذاته. 
لكل هذا، يركز البحث البنيوي لا على السمات الخاصة المتعينة للظاهرة الإنسانية أو الأهداف والدوافع الإنسانية، ولا حتى على العلاقات المادية التي تحقق الترابط بين عناصر البنية، وإنما يركز على النسق العقلي الذي يزودنا بتفسير البنية وتحولاتها. ولكن هذا النسق العقلي هو في واقع الأمر نتاج بنية أولية قَبْلية تتجاوزه وتتجاوز كل التفاصيل الإنسانية والمادية. ولذا، فإن علم الأنثروبولوجيا بالنسبة لكلود ليفي شتراوس هو علم العلاقات المنطقية بين الظواهر الاجتماعية أو هو علم دراسة البنية الكامنة والعلاقات البنيوية المختلفة. ومهمة عالم الأنثروبولوجيا هي تحويل الكامن إلى ظاهر والأسرار إلى قواعد منطقية عامة ثابتة، وبذلك تتضح العلاقات البنيوية الكامنة في مختلف الأنساق الاجتماعية. 
في هذا الإطار، يحاول ليفي شتراوس أن يثبت أن كل أساطير العالم (وأساطير الأمريكتين بصفة خاصة) إن هي إلا تعبير عن حكمة خفية وما هي إلا أسطورة واحدة في النهاية (على حد تعبيره). وحاول ليفي شتراوس إنجاز ذلك من خلال نسق تحليلي منطقي صارم يتم فيه تحويل رموز الأساطير واستبدال بعضها بالبعض الآخر من خلال مجموعة معادلات رمزية وجبرية. والأساطير في تصوره تتبع قانوناً عاماً ولذا فهي تقبل التحول إلى معادلات جبرية لأنها بنى اختزالية بسيطة، ولكن الأساطير هي أيضاً المنطق الخفي في كل الحضـارات. فهـي بمنزلة اللوجـوس الذي يمنح المجتمع تماسكه ومعقوليته، ولكنه لوجوس علماني ليس له غرض نهائي، فهو لوجوس بلا تيلوس، مطلق بلا غاية، وميتافيزيقا بلا مسئولية أخلاقية (مثل روايات الخيال العلمي).
ويمكن القول بأن البنية تشبه من بعض النواحي المُثُل الأفلاطونية المستقلة عن الظواهر التي تتبدَّى من خلالها وعن الأفراد الذين يعبِّرون عنها، وإن كانت المُثُل الأفلاطونية، رغم استقلالها عن الإنسان وتجاوزها له، تترك له مجالاً كبيراً لحرية الاختيار وفعل الخير والشر، ولذا فهي في واقع الأمر تشبه فكرة العقل الأول في الأفلاطونية المحدثة الذي تصدر عنه كل العقول الأخرى داخل سلسلة صارمة لا تسمح بحرية الاختيار، وتشبه نَفَس العالم (أنيموس موندي) عند الرواقيين، كما تشبه الروح المطلقة (جايست) عند هيجل. وهي لا تختلف كثيراً عن وثبة الحياة (بالفرنسية: إيلان فيتال elan vital) عند برجسون.
أو الايدوس عند هوسرل، أو عالم الحياة عند هوسرل وهايدجر وهابرماس (بالألمانية: ليبنزفلت Lebenswelt)، وقوة الحياة عند كثير من الفلاسفة الحيويين (بالإنجليزية: لايف فورس life force)، وهي قوة تتجاوز الذات والموضوع وإن كانا يحققان اتحادهما من خلالها، وهي مقولة غيبية ميتافيزيقية رغم كل ادعـاءاتها المادية ترتدي مسـوح العقلانية والموضوعية. ولكنها، في واقع الأمر، ليست بعقلانية ولا موضوعية، فهي غير قابلة للقياس أو الرصد أو الفحص أو الملاحظة، ولا يمكن إدراكها بالحواس الخمس. وهذه المقولة هي إفراز الرؤية العضوية الداروينية والنيتشوية للواقع، وهي المعادل الموضوعي (في عصر المادية الجديدة) لفكرة قوانين الحركة المادية (في عصر المادية القديمة). 
ويُفرِّق البنيويون بين التعاقب (بالإنجليزية: دياكرونيك diachronic) والتزامن (بالإنجليزية: سينكرونيك synchronic) ويرون أن البنية خالية من الزمان (ومن هنا معارضتهم النزعة التاريخية والتاريخانية). بل يمكن القول بأن البنية المُثلى هي البنية المجردة تماماً من الزمان، أي البنية الرياضية (فصدق المعادلات الرياضية لا ينبع من أنها متسقة مع واقع خارج عنها وإنما من اتساقها مع نفسها). 
ويتضح الانتقال من الإنساني إلى اللاإنساني في التحليل البنيوي، فرغم أنه يهدف إلى اكتشاف بنية العقل الإنساني عن طريق تحليل نواتج هذا العقل من أساطير ونظم اجتماعية ولغة وطقوس، إلا أنه لا ينتهي في عالم الإنسان وإنما ينتهي في عالم الأرقام والأشكال الهندسية ومعادلات السالب والموجب. فالتحليل البنيوي يأخذ شكل تصاعُد عمليات التجريد، وتعليق متصاعد للمضامين الفردية والإنسانية، واختزال التفاصيل المتعينة وتصفية الثنائيات، بهدف التبسيط من أجل الوصول إلى مقولة أساسية وبناء أساسي كامن وراء كل الأنساق. ويمكن تصوير البنية باعتبارها ذات طابع هرمي، ويسود القانون نفسه الذي يضبط العلاقة بين العناصر على كل المستويات من قاعدة الهرم إلى أن نصل إلى قمته حيث نجد أن المبدأ البنيوي هو أعلى درجات التجريد؛ مبدأ لا يعرف المكان ولا الزمان، ولا الضحك ولا البكاء، ولا الإنسان ولا التاريخ. 
وإذا طبقنا هذا على المفردات المختلفة للحضارة الواحدة (من طعام وطقوس وعادات) فإننا سنكتشف من خلال عملية تجريد متصاعدة أن ثمة لغة كلية واحدة تضمها جميعاً، ويمكننا فهم بنية هذه الحضارة من خلال فك شفرة هذه اللغة. ولكن ثمة تصاعداً لمعدلات التجريد وتعليقاً متزايداً للمضامين الفردية المتعيِّنة للحضارات المختلفة يكشفان لنا أن ثمة لغة كلية شاملة تضم كل لغات الحضارات المختلفة وأن ثمة تماثلاً بنيوياً بين لغات الحضارات المختلفة وأنها في واقع الأمر لغة واحدة. 
وتستمر معدلات التجريد بلا هوادة وبكل صرامة إلى أن نصل إلى الثنائيات البسيطة المتعارضة (التي تُختَزل هي نفسها أحياناً) لنصل إلى بنية البنى وأسطورة الأساطير ونموذج النماذج، أي عالم الواحدية. وعلى حد قول ليفي شتراوس، فإنه « إن كان ثمة قانون في أي مكان، فإن القانون موجود في كل مكان »، وكذلك فهو موجود في كل شيء ويتجاوز كل شيء (الإنسان والطبيعة)، ويتحقق في كل المجتمعات بشكل جزئي رغم وجوده الكلي. وهو قانون يمكن ترجمته رياضياً ويشبه المعادلات الرياضية في تجريديته واختزاليته. 
وعبَّر ليفي شتراوس عن رغبته في أن يتوصل إلى جدول يشبه جدول مندليف لتصنيف المواد، وهو الجدول الذي تم عن طريقه التنبؤ بوجود مواد في الطبيعة لم تكن معروفة للعلماء، ثم تم اكتشافها فيما بعد. كما يحاول كثير من البنيويين أن يصلوا إلى نوع من الجدول الرياضي أو المصفوفة الجبرية التي تغطي كل التحولات والتجمعات: الفعلية والممكنة في الماضي والحاضر والمستقبل. 
ويمكننا أن نرى هنا كيف أن التحليل البنيوي، رغم كل هذا الحديث عن العقل الإنساني، يعيش في ظلال العلوم الطبيعية والرياضية، ومن هنا الرغبة العارمة في تصفية الخصوصية والفردية، ومن هنا العداء للنزعة التاريخية والنزعة الإنسـانية وكل ما يمت بصلة لعالم الإنسان الفرد، ومن هنا الرغبة في الوصول إلى درجة عالية من اليقينـية لا يمكنها أن تتحقق إلا في المنظومات الرياضية والقوانين العلمية. 
ويثير دعاة الاتجاه الإنساني الهيوماني التاريخي الاعتراضات التالية على البنيوية: 
1 ـ التحليل البنيوي يتجاهل كلاًّ من الواقع المادي والإنسان الفرد ويعلقهما (كما يفعل الفينومينولوجيون مع الواقع) ويَردُّ كل شيء إلى مبـدأ واحد لا هو موضـوعي ولا هو ذاتي، لا هو مادي ولا هو عقلي، فالبنيوية من ثم شكل من أشكال التفكيك والتقويض الجذري الذي يهدف إلى إلغاء الذات الفردية (أو على الأقل إزاحتها عن مركز الكون) وفي تعليق الموضوع المباشر (المضمون الحقيقي). وبالفعل، نجد أن فوكو (البنيوي التفكيكي) يتنبأ باختفاء ظاهرة الإنسان كليةً، لأنها ظاهرة غير ذات بال، بل إنها نوع من أنواع التصدع في النسق الكوني الطبيعي. وهو أيضاً يُهاجم سارتر لأنه يُدافع عن الواقع الإنساني التاريخي. ويتحدث ألتوسير عن تاريخ يتحرك دون ذات تاريخية فاعلة، تاريخ كله مبني للمجهول إن أردنا استخدام مُصطلَح بنيوي. 
2 ـ تدور البنيوية في إطار نموذج واحدي تطبقه تطبيقاً شاملاً على كل شيء، ولذا فهي مذهب أحادي تبسيطي (بل وإرهابي على حد قول أحد النقاد الإنسانيين الهيومانيين). 
3 ـ النموذج البنيوي مستمد من أصل علمي (لغوي ـ رياضي) ويميل نحو التجريد المخل الذي يُسقط التجربة الإنسانية المتعيِّنة كما يهتم بشكل متطرف بقواعد البنية دون مضمونها.ومن هنا،فإن البنيوية تصلح لمجتمع تسوده وتحكمه التكنوقراطية،ولا يهتم بالرؤية الكلية، مجتمع سيطر عليه تماماً العقل الأداتي والترشيد الإجرائي والالتزام بالقواعد دون الهدف والغاية. والبنيوية لا تهتم بالتغيير الذي يتطلب إدراك مثل هذه الرؤية الكلية (ويرى ليفي شتراوس أن سارتر وأمثاله من فلاسفة التجربة المعاشة يُصعِّدون مشاغلهم الشخصية إلى مرتبة المشكلات الفلسفية القائمة، أي أنهم يعودون إلى مرحلة ما قبل العلمية ويتناسون العلم بتجريداته ونماذجه الشكلية).
4 ـ البنيوية (خاصةً عند ليفي شتراوس) فلسفة معادية للتاريخ تَغرق في تجريدات شكلية تنصب على حضارات بدائية يصفها ليفي شتراوس بوصفها «خارج التاريخ» (كما يشير ليفي شتراوس إلى المجتمعات الميدانية بأنها مجتمعات باردة مقابل المجتمعات التاريخية المعاصرة الساخنة). ولذا، فإن البنيوية لا تفهم الانتقال التاريخي ولا حركة التاريخ، فهي تتعامل مع التاريخ المُجمَد (ويرد ليفي شتراوس على هذا بأن الوجودية لا تفهم التاريخ بتركيزها على المسـتقبل، كما أنها أيديولوجيـا متمركزة حول الذات وحول الحاضـر، ولذا فإن التاريخ بالنسبة لها ليس الماضي بكل تركيبيته وإنما هو ما يؤدي إلى الحاضر، ولذا فهي لا تفهم الماضي وتغض نظرها عن أشكال أساسية في التجربة الإنسانية مثل الطقوس والأساطير). 
ويثير أنصار ما بعد الحداثة بعض التحفظات بشأن البنيوية ومفهوم البنية. ولابد أن نتوقف هنا لنشير إلى ظاهرة ذات دلالة عميقة من وجهة نظرنا، وهي أنه، بينما يتهم الوجوديون البنيوية بأنها معادية للإنسان، يتهمها أنصار ما بعد الحداثة بأنها مثل الوجودية متمركزة حول الإنسان. ونحن نذهب إلى أن التناقض الظاهري يدل على تصاعد معدلات العداء للإنسان والحلولية الكمونية في الفلسفة الغربية، فما كان معادياً للإنسان، متطرفاً في عدائه، في الخمسينيات والستينيات، أصبح هو ذاته متمركزاً حول الإنسان، متطرفاً في تمركزه في الثمانينيات. 
ويمكن إيجاز تحفظات أنصار ما بعد الحداثة فيما يلي: 
1 ـ البنية، رغم ادعاءات البنيويين عن ماديتهم، ليس لها وجود مادي وإنما هي كامنة في العقل الجمعي للإنسان وفي بنية هذا العقل ذاته، أي أنها تشبه إلى حدٍّ ما مقولات كانط الأولية القبَلْية المستقلة المفطورة في عقل الإنسان، فالبنى برامج تُماثل بناء عقل الإنسان، وثمة إمكانية تَواصُل من خلال العقل الإنساني والأساطير ذاتها تُماثل بناء عقل الإنسان. فالبنية، من ثم، لها وجود ميتافيزيقي سابق على الواقع المادي. 
2 ـ رغم كل ادعاءات البنيويين عن اختفاء الموضوع الإنساني تماماً، إلا أنه يعاود الظهور وبحدة في كتابات البنيويين. بل إن المشروع البنيوي بأسره محاولة لتطوير مفهوم الإنسان وتأكيد لمقدرة البشر على الترميز والتواصل، بينما تحاول ما بعد الحداثة التحرر تماماً من مفهوم الإنسان ومركزيته. 
3 ـ تحاول البنيوية أن تنفي الأصول الربانية أو حتى الإنسانية للإنسان بأن تجعل البنية (بديل المادة) هي الأصل. ولكن البنية (مثل المادة في الفلسفات المادية القديمة) تتسم بشيء من الثبات، ولذا فهي ميتافيزيقا مادية. 
4 ـ البنية، حسب تصور البنيويين، لها قانون واللغة والأسطورة والنصوص الأدبية والأعمال الفنية (مهما بلغت من تجريد) تخبر عن الواقع، أي أن الدال له علاقة أكيدة بالمدلول، وهو ما يشي بإيمان بالثبـات. 
5 ـ وجود البنية يشير إلى وجود مركز وهامش وحقيقة كلية تتجاوز الأجزاء وكذلك أجزاء خاضعة للكل. والحقيقة الكلية تتسم بالثبات وبالاستقلال عن الطبيعة/المادة وتشير إلى وجود جوهر ثابت لا يتغيَّر بتغير الأجزاء، أي أنها شكل من أشكال الميتافيزيقا. 
6 ـ تسقط البنيوية بسبب هذا كله في الثنائيات المتعارضة، وتحتفظ بالثنائية باعتبارهـا طبيعية وحتمية وذات دلالة. ومن هذه الثنائيات ما يلـي: جسد/عقل ـ داخل/خارج ـ كتابة/قراءة ـ حضور/غياب ـ مكان/زمان ـ حرفي/مجازي ـ ذكر/أنثى. وافتراض مثل هذه الثنائيات يعني تجاوز الصيرورة وعالم الحس المادي المباشر. 
7 ـ من أهم الثنائيات المتعارضة في البنيوية ثنائية الطبيعة/الحضارة. فقد حدَّد شتراوس هدفه بأنه الوصول إلى طبيعة الذهن البشري الأساسية، وهو ما يوحي بأن لهذا تركيباً طبيعياً ثابتاً. لكن هذا التركيب الطبيعي ليس مصدره الطبيعة/المادة وإنما النظم الثقافية (اللاطبيعية ومن ثم اللامـادية). فطبيعة الإنسـان مرتبطة بخروجـه عـن الطبيعة (المادة). فالمبادئ الكلية للذهن البشري بوجه عام ليست كامنة في تكوين طبيعي لم يتدخل فيه الإنسان، وإنما هي مبادئ اهتدى إليها الإنسان في ذلك التنظيم الثقافي الذي يتحكم به في حياته والذي يُعبِّر مباشرةً عما هو أساسي في طريقة تفكيره. 
والشائع في النظريات المادية هو النظر إلى الطبيعة التي لم يخلقها الإنسان على أنها الأصل وإلى الثقافة على أنها الفرع أو الناتج، لكن ليفي شتراوس يقلب الآية ويرى الثقافة أصلاً والطبيعة )في حالة الإنسان بالذات) مشتقة منها. وإذا كان من الشائع أيضاً وصف الطبيعة الخام بأنها ثابتة والثقافة بأنها نسبية متغيِّرة، فإن ليفي شتراوس يؤكد أن الثقافة هي العنصر الثابت في تكوين الإنسان ومنها يستمد الإنسان ثبات طبيعته، فالإنسان يصنع طبيعته عن طريق ثقافته. فمنذ اللحظة التي يُحظَر فيها زواج المحارم، يظهر عنصر ثقافي في المجتمع الإنساني (وهو الحظر، أي التنظيم الاجتماعي، والقانون) يشكل الطبيعة متمثلة في غريزة الجنس ويتحكم فيها. ففي هذا الحظر وذلك التحريم، تتجاوز الطبيعة ذاتها وتبدأ في تكوين بناء جديد يحل فيه التنظيم المعقد المميِّز للإنسان محل العفوية والعشوائية المبسطة التي تميز بناء الحياة الحيوانية (فؤاد زكريا(. 
كل هذا يعني أن ثنائية الثقافة والطبيعة تحل مشكلة أصل الإنسان بطريقة غير مادية وتشير إلى أصل الإنسان الرباني بشكل حييّ متعثر. كما يعني ذلك ببساطة أن البنية تفلت من قبضة الصيرورة وتتسم بقدر من الثبات والتجاوز والمعنى، وأنها لا تزال متمركزة حول اللوجوس والتيلوس، وأن البنيوية متمركزة حول الإنسان ككائن ثابت متجاوز لعالم الطبيعة/المادة. وكل هذا يشير إلى عالم وراء عالم الصيرورة والواحدية المادية، أي أن البنيوية لاتزال ملوثة بالميتافيزيقا (حسبما يقول أنصار ما بعد الحداثة). 
وفي الإطار الحلولي الكموني الواحدي، فإن هذا يمثل فضيحة لا يمكن قبولها، فهذا يعني أن الإله لا يزال يُلقي بظلاله على العالم رغم أن الإنسان قد أعلن موته، ومن ثم ظهرت ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة لتحقيق المشروع النيتشوي لا لقتل الإله وحسب وإنما لإزاحة ما يُحتمل أن يكون قد تركه من ظلال على الطبيعة والإنسان ولتطوير نظام حلولي كموني لا يفلت أي عنصر فيه من دوامة الصيرورة اللامتناهية ولا يطفو فوق سطح المادة. وهكذا، فإن ما كان جنينياً متعثراً في البنيوية، يصبح واضحاً متبلوراً في ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة.
ويمكننا الآن أن نتوجه إلى يهودية ليفي شتراوس. 
وقد أرجع هو نفسه أصول فكره ومنهجه إلى ثلاثة مصادر (اليهودية ليست أحدها): 
1 ـ الماركسية التي استمد منها فكرة الجدل ووحدة الأضداد وكذلك فكرة البناء الأساسي أو الركيزة النهائية. 
2 ـ التحليل النفسي الفرويدي الذي استمد منه فكرة اللاشعور والرمز وعملية التحويل. 
3 ـ علم الجيولوجيا الذي وجد فيه الأفكار المتناثرة المتصلة بالتراتبية والطبقات وصولاً إلى القلب النهائي أو ما أسماه أحياناً «أسطورة الأساطير». 
وقد حاول إدموند ليش، وهو من أتباع ليفي شتراوس، تطبيق طريقته في التحليل الأسطوري على اليهودية. ولكن ليفي شتراوس نفسه أبدى عدم اهتمامه بالديانات ككل إلا من حيث اعتبارها نصوصاً إثنوجرافية. وهو يطرح مقابل الفكر الديني نسقه العقلاني المادي الصارم الخالص. 
ورغم كل هذه العقلانية الظاهرة، يرى البعض أن المقولات (الدينية والإثنية) اليهودية تركت أثرها الواضح في مقولات ليفي شتراوس التحليلية العلمية: 
1 ـ يذهب ليفي شتراوس، شأنه شأن البنيويين، إلى أن البنية أهم من الذات وأن القوة البنيوية (التي تأخذ شكل أسطورة الأساطير وقواعد اللغة... إلخ) لها أسبقية على المجتمع. ولكن البنية ليست شيئاً خارجياً وإنما هي مستقرة في الذات الجمعية. والبنية الكامنة في الذات الجمعية لا تختلف كثيراً عن تصور أسفار موسى الخمسة للإله، فهو إله متجاوز للواقع المادي وللأفراد ولكنه حالّ في الشعب بأسره وفي العقل الجمعي اليسرائيلي. وهو الذي يوجهه ويوجه تاريخه، تماماً كما تفعل البنية عند البنيويين والماديين الجدد. 
2 ـ يرى بعض الدارسين أن مقولة الثنائيات المتعارضة تعود إلى التعارض الثنائي الذي يعيشه كل يهودي، أي ثنائية اليهود/الأغيار. 
3 ـ يبدو أن الثنائية في حالة ليفي شتراوس كانت أكثر عمقاً، فهو يهودي/غير يهودي؛ بلجيكي/فرنسي؛ إثنولوجي/عالم؛ جندي في الجيش الفرنسي/أجنبي دائم. وهناك أخيراً ثنائية الأنثروبولوجي مقابل « العالم المتحضر » و » المتقدم.« 
4 ـ يرى البعض أن اشتغال ليفي شتراوس بالأنثروبولوجيا هو في ذاته تعبير عن يهوديته، فالأنثروبولوجي يشبه اليهودي التائه أو المتجول، وهو شخص يوجد في كل المجتمعات ولا يضرب بجذوره في أيٍّ منها، فهو في كل مكان ولا مكان، الغريب الدائم، المغترب عن كل الأوطان. 
5 ـ الأنثروبولوجي هو شخص يترك عالَم الحضارة المتقدمة المستقرة ليذهب إلى عالم الحضارة البدائي ويحوِّل هذا العالَم إلى معياريته الكامنة ويحكم من خلالها على العالم المتحضر. فكأن الأنثربولوجي يُعلن ولاءه للبدائي على حساب الحضاري وللهامشي على حساب المركزي. ولذا، فالأنثروبولوجي عنصر من عناصر التفكيك والتقويض في العالم، فهو من دعاة الاستنارة المظلمة والهرمنيوطيقا المهرطقة، واليهودي لا يختلف كثيراً عن ذلك، فهو أيضاً عنصر تفكيك وتقويض في مجتمع الأغيار الذي أخرجه من وطنه وشتته وأحل آخرين محله وجعله عنصراً بلا جذور، ولذا فنشاطه التفكيكي وإنكاره المركز ودعوته للتشتيت ورغبته في زعزعة الثقافة الغربية (المسيحية) المستقرة تعبير عن رغبته الدفينة في الانتقام من الحضارة المسيحية. 
ورغم وجاهة كل هذه العناصر، إلا أنها في واقع الأمر ليست مقصورة على اليهودي. فالاغتراب والتشتت صفة أساسية لمعظم المثقفين في العصر الحديث بعد انحسار الإيمان الديني واليقين العلمي. ويعيش معظم المثقفين في ثنائيات حادة لعل أهمها أنهم يعيشون في عالم مادي متحرك ينكر المركز والقيمة ومع هذا يظل طموحهم الإنساني الفطـري لمركز وعـالم تحكمـه القيم الإنسانية. ولذا فـلا توجد خصوصية « يهودية » في هذا المضمار. 
وفكرة الذات الجمعية التي تكمن فيها البنية فكرة أساسية في الحضارة الغربية، قد يكون العهد القديم أحد مصادرها. ولكن العهد القديم نفسه ليس مقصوراً على اليهود، فهو كتاب مقدَّس لدى كل من اليهود والمسيحيين ومكوِّن أساسي في الحضارة الغربية ككل. ومهما كان الأمر، فإن فكرة الذات الجمعية التي تحوي داخلها ما يحركها ويكفي لتفسيرها فكرة محورية في الحضارة الغربية الحديثة وقد عبَّرت عن نفسها في مفهوم الشعب العضوي وفي النظرية العنصرية والإمبريالية ككل، ولذا لا يمكن اعتبارها فكرة « يهودية». 
ونحن نرى أن نموذج الحلولية الكمونية ذو مقدرة تفسيرية أعلى في هذا المثال. ويمكن وصف فلسفة ليفي شتراوس (والبنيوية ككل) بأنها شكل من أشكال وحدة الوجود المادية. وهذه الحلولية الشاملة، والتي تسم أيضاً الأنساق الفلسفية عند كلٍّ من إسبينوزا وهيجل وماركس (ومعظم الأنساق الفلسفية العلمانية)، نزعة عامة في الحضارة الغربية الحديثة، ولا يمكن تفسيرها بردها إلى يهودية ليفي شتراوس. ولعل انتماءه اليهودي (أو بقايا هذا الانتماء) يُفسِّر حدة الحلولية وصرامتها، ولكنه لا يُفسِّر بأية حال مركزيتها في فكره، فهذا أمر ليس مقصوراً عليه (هو اليهودي!) وإنما سمة عامة يشاركه فيها معظم المفكرين الغربيين العلمانيين.
يتبع إن شاء الله...


الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية   الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية Emptyالأربعاء 11 ديسمبر 2013, 9:57 pm

هربرت ماركوز (1898-1979) والماركسية الجديدة 
Herbert Marcuse and Neo-Marxism 
فيلسوف وسياسي ماركسي وعضو في مدرسة فرانكفورت. وُلد في برلين ودرس في ألمانيا حيث تأثر بهايدجر، ثم هاجر إلى الولايات المتحدة عام 1934 ودرَّس في عدد من الجامعات الأمريكية. له عدة مؤلفات من أهمها العقل والثورة: هيجل ونشأة النظرية الاجتماعية (1941)، الجنس والحضارة (1955)، والماركسية السوفيتيـة (1958)، و الإنسان ذو البُعد الواحد (1964)، و مقال عن التحرر (1969)، و البُعد الجمالي (1977). ويتجلى في فكره خليط من الأنطولوجيا الوجودية والفكر السياسي الطوباوي وفكر فرويد ونظرية ماركس في الاغتراب وفكر هيجل النقدي. والثمرة هي ما سماه ماركوز «النظرية النقدية»، وهو تحليل نقدي ينفي المؤسسات الاجتماعية السياسية. 
ولعل التجربة الأساسية في حياة ماركوز الفكرية هي فشل اليسار الماركسي في الاستيلاء على السلطة بعد نجاح الثورة البلشفية في أوائل القرن. كما أنه لاحظ تزايد هيمنة النظم الشمولية اليمينية (الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا) واليسـارية (السـتالينية في الاتحاد السوفيتي). ثم لاحظ في الخمسينيات، بعد الحرب العالمية الثانية، تزايُد رسوخ الرأسمالية الاستهلاكية في الولايات المتحدة وأوربا، وهي ضرب من ضروب الشمولية. وحاول ماركوز خلال كل هذه الأعوام أن يُبقى الفكر الماركسي أداة حية وفعالة لتحليل المجتمع وفي نهاية الأمر تغييره. 
ولعل أهم المفاهيم التي طورها ماركوز فكرة: الإنسان ذو البُعد الواحد. وهو إنسان المجتمعات الحديثة الذي تم احتواؤه تماماً وتم تخليق رغباته وتطلعاته من قبل مؤسسات المجتمع، حتى استبطن قيمه كافة وأصبح هذا الإنسان يرى أن الهدف من الوجود تعظيم الاستهلاك والإنتاج والاختيار بين السلع المختلفة. ولكن الاختيار في الأمور المهمة (المصيرية والإنسانية والأخلاقية) تقلص تماماً، وبذا فقد هذا الإنسان مقدرته على التجاوز وآصبح غارقاً تماماً في الأمور الاستهلاكية. 
ووصف ماركوز للإنسان ذي البُعد الواحد هو تطوير لفكرة الإنسان الاقتصادي والجسماني (الإنسان الطبيعي) حيث بيَّن أن نسق الإنسان ذي البُعد الواحد هو نسـق واحديّ مغلق، ولذا فإنه يحـاول أن يفتح النسـق. وكي يفعل ذلك، كان لابد له أن يخرج من الواقع المغلق كي يقوم بتحليل وتقييم الكل الكامن المتجاوز لهذا الواقع الظاهر. وفي كتابه العقل والثورة، يجد ماركوز ضالته في فكر هيجل. لقد أصر هيجل على أن يظل الإنسان عاقلاً رشيداً قادراً على أن يتحرر مما يُسمَّى الحقائق المحيطة به (فالعقل البشري نفسه يصبح المطلق وموضع الكمون وأساس التجاوز، ومن ثم يستعيد الإنسان إنسانيته ومركزيته ومطلقيته). 
وبوسع الإنسان أن يخضع الحقائق التي يقبلها الجميع بالسليقة وباعتبارها أموراً طبيعية لمعايير أعلى، أي معايير العقل. وقد سمِّيت فلسفة هيجل العقلانية النقدية باسم «فلسفة النفي» لأن الفيلسوف، مسلحاً بالمنهج الجدلي، يوجه النقد لما هو كائن (الوصف) باسم ما يجب أن يكون (المعيار) وهو معيار يتجاوز ما هو قائم مستمد من الإمكانيات البشرية بشكل عام. ومن ثم، فإن الإنسان العقلاني بوسعه أن يتجاوز النظام الاجتماعي القائم ويصل إلى مستوى أعلى من خلال عقله الذي يقارن المعطى المباشر (المجتمع الأحادي البعد) بالمعايير الإنسانية العقلانية العالمية. والحقيقي هو ما يتفق مع هذه المعايير، وهي معايير العقل، إذ أن التاريخ نفسه حسب هذه الرؤية يتحرك حسب معايير العقل، أما اللاعقلاني فهو لا تاريخي وغير حقيقـي. 
ويذهب ماركوز ـ شأنه شأن الماركسيين ـ إلى أن المجتمع الفاضل هو المجتمع الذي لا يستغل الإنسان فيه أخاه الإنسان. كما يتفق مع فرويد في أن إرجاء الإشباع وممارسة قدر من الكبت وقمع الغرائز أمر أساسي إن كان للحضارة أن تستمر. وحسب تصور ماركوز وصل التطور التكنولوجي إلى الدرجة التي أصبح القمع الشديد معها ليس ضرورياً بعد أن أدَّى قمع الغرائز وظيفته التاريخية. فالإنسان الغربي طوَّر تكنولوجيا تجعل بإمكان كل شخص أن يعيش في حرية وكرامة وإشباع دونما حاجة لقمع، وأصبح بوسع الإنسان (خصوصاً الإنسان الغربي) أن يعيد تشكيل المجتمع بما يتفق مع معايير العقل بحيث يصبح مجتمعاً مثالياً فاضلاً. ويحاول ماركوز في كتابه الجنس والحضارة أن يعطي صورة لهذا المجتمع الفاضل الجديد (الذي يحمل كل سمات نهاية التاريخ المشـيحانية التي تسـم كل الأنسـاق العلـمانية الثـورية والليبرالية مؤخراً). 
وقد تنبأ ماركس بأن الإنسان في المجتمع الشيوعي سوف يصطـاد في الصـباح ويرعى الأغنام في الظهيرة ويمارس النقد في المساء. ولا تختلف رؤية ماركوز عن ذلك كثيراً، فالإنتاجية في هذا المجتمع المثالي لا تتم من خلال قمع الرغبات والزهد والاغتراب إذ أن الملكية الاجتماعية لأدوات الإنتاج المتطورة ستجعل الطاقة الغريزية تعود لشكلها الأصلي. كما أن وقت العمل الذي يسبب الاغتراب سيصل إلى الحد الأدنى ويختفي، بحيث يصبح اللهو مثل العمل، كما يمكن تنظيم العمل بحيث يتفق مع احتياجات الإنسان الفردية. 
ويسأل ماركوز عن العقبات النفسية التي تقف في طريق تحقق مثل هذا المجتمع. وفي كتابه المذكور يرى ماركوز أن إيروس (مبدأ اللذة والحياة) يبحث دائماً عن التحقق والإشباع من خلال إعادة صياغة النظام الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية فيه (مبدأ الواقع) وهو يرى إمكانية الموازنة بين العقل والحس والسعادة والحرية في مجتمع خال من القمع، أي أن الإيروس (بهذا المعنى) إمكانية كامنة في الإنسان تُمكِّنه من أن يتجاوز عالمه ذا البُعد الواحد. ولكن المجتمع الحديث سيطرت عليه العقلانية التكنولوجية (أو المبدأ الأداتي) التي توظف كل شيء بما في ذلك مبدأ اللذة ذاتها لمصلحتها. ولاحتواء مبدأ اللذة يقوم المبدأ الأداتي بما يلي: 
1 ـ تقوم صناعات اللذة بترشيد أحلام الإنسان الجنسية واستيعابها داخل إطار النظام القائم، فهي تطلق الرغبة الجنسية من عقالها ولكنها تُفرِّغ مبدأ اللذة من محتواه الثوري وتحتويه تماماً، إذ تطرح إمكانية الإشباع الكامل من خلال عالم الخدمات المختلفة مثل السياحة والنوادي الليلية وأحلام الإباحية. أي أن كل شيء يتم تدجينه، وضمن ذلك الرغبة الجنسية نفسها. 
2 ـ يقوم المبدأ الأداتي بتخليق رغبات غير ضرورية (زائفة) جديدة حين يتم إشباع الرغبات الضرورية (الحقيقة) وذلك من خلال الدعاية لآخر الموضوعات والإعلانات وما يُسمَّى «التآكل المخطَّط» (أي إنتاج السلع بطريقة تضمن تآكلها بسرعة)، ويُلاحَظ أن الجنس (العنصر البروميثي في الإنسان) يصبح مجرد خدعة إعلانية. وبذلك يزداد اتساع نطاق الحاجة للسلع كما يزداد إنتاجها وتظهر الوفرة السلعية. ولكن الوفرة هنا هي في واقع الأمر شكل من أشكال القمع لأي اتجاه نحو التساؤل عن الهدف من الوجود والحاجة لتحقيق الذات والبحث عن الحرية، وكلما زادت الوفرة زاد القمع لأن الدولة ومجتمع الوفرة قاما بخنق الفرد واستيعابه تماماً في دورة الحاجات المتصاعدة اللامتناهية غير الضرورية والتي يتم إشباعها بشكل دائم (وهو صدى لجدلية الاستنارة عند هوركهايمر وأدورنو فكلما زادت معدلات الاستنارة وزادت هيمنة الإنسان على الطبيعة زاد ضموره هو).
ويذهب ماركوز إلى أنه بهذا يحل مبدأ الموت (ثانانوس) محل مبدأ الحياة (إيروس) وبذلك يعود الإنسان مرة أخرى للقمع الذي يزيد عن الحد اللازم للاستمرار في خلق الحضارة. 
3 ـ لاحظ ماركوز أن مؤسسات الرفاه الاجتماعي في المجتمعات الحديثة أصبحت إحدى أهم وسائل السيطرة على حياة الذين ينعمون بفوائدها ومزاياها بفضل هيمنتها على مستوى معيشتهم. وهكذا يتحول التحرر من الحاجة المادية، الشرط المسبق لكل أشكال الحرية، ليصبح هو نفسه أساس العبودية. وكلما ازداد استهلاك الناس للسلع، الذي كان من المفروض أن يوسِّع نطاق عالم الحرية، ازداد ادمانهم لهذه السلع واحتياجهم لها، ومن ثم ازداد عالم الضرورة اتساعاً وضَمُر إحساسهم بالحرية وشعورهم بالمسئولية. وكيف يمكن الخروج من هذا المأزق؟ إن آلية الخلاص عند ماركوز ليست الطبقة العاملة (كما هو الحال مع ماركس ولوكاتش)، فقد نجح العقل الأداتي في الهيمنة عليها وتم استيعابها في الرؤية الاستهلاكية السائدة. 
وهنا تظهر مشكلة أساسية: 
إذا كانت الأغلبية (بما في ذلك الطبقة العاملة الثورية) قد تم غسيل مخها وأصبحت ذات بُعد واحد تعيش في السلع وتموت من أجلها، وإذا كانت رؤية الإنسان مادية، فلماذا لا يكون الخلاص في السلعة؟ ومن الذي سيقرر نفي ذلك، واستناداً إلى ماذا؟ إن مشكلة القيمة المطلقة تطرح نفسها هنا مرة أخرى وبقوة، ولذا نجد أن ماركوز يتحدث عن نخبة مثقفة تقوم بتوجيه الجماهير التي فقدت رشدها وتم إغواؤها من قبَل المؤسسات الليبرالية الديموقراطية الاستهلاكية، أي أن النخبة الثقافية صاحبة العقل النقدي والذاكرة التاريخية والمقدرة على إدراك الكل الإنساني المتحقق في التاريخ والتي لم يتمكن المجتمع من استيعابها في رؤيته وبنيته ورفضت هي استبطان رؤيته، والقادرة من ثم على تجاوز الواقع المباشر، هي الآلية التي يمكنها تحقيق الانعتاق للإنسان والعمل على تأسيس مجتمع يسمح بظهور الإنسان المركب متعدد الأبعاد، ولهذا كانت كتابات ماركوز أثيرة لدى الشباب في حركة اليسار الجديد في الستينيات. 
ويتَّسم كتاب ماركوز الأخير البُعد الجمالي بقدر من التشاؤم المفعم بالفرح. وهو يذهب في هذا الكتاب إلى أن الفن هو الملاذ الوحيد المتبقي للتجربة متعددة الأبعاد في مجتمع أحادي البُعد، فثمة مسافة تفصل بين الفن والواقع. ويتَّسم الفن بأن له أبعاداً تجعله يتجاوز العناصر الاجتماعية المحدِّدة له وتجعل العمل الفني قادراً على الانعتاق من العالم الذي ينتمي إليه، ومن ثم فإن الفن يُعبِّر عادةً عن تجربة إنسانية مركبة في مواقف متبلورة، وهو لهذا يذكِّرنا بحقائق إنسانية عادةً ما ننكرها. إن منطق العمل الفني يؤدي إلى ظهور حساسية مركبة جديدة تتحدى كلاً من الحساسية القائمة والعقل الذي يتبدَّى من خلال المؤسسات الاجتماعية السائدة، وهذا هو الدور الذي يمكن أن يلعبه الفن في تغيير الواقع وليس كما يرى الواقعيون الاشتراكيون. 
وماركوز ليس له اهتمام خاص بالموضوع اليهودي. ولكنه أيد إسرائيل عام 1967 في هجومها على الدول العربية باعتبار أن ذلك دفاع عن النفس. وإن بحثنا عن البُعد اليهودي في فكره، فإن من العسير أن نعثر عليه، فهو مفكر متأثر بالتقاليد الألمانية في الفلسفة خاصةً هيجل وماركس. أما موقفه من إسرائيل، فهو موقف سياسي ينم عن جهل شديد، وربما عن انتهازية شخصية لا علاقة لها بالبنية العميقة الكامنة لفكره الفلسفي.
نعــوم تشومســكي (1928-) والثـورة التوليــدية 
Naom Chomsky and the Generative Revolution 
عالم لغويات أمريكي يهودي من أصل يديشي، ويُعَدُّ من أهم المفكرين اللغويين والسياسيين النشيطين في العالم في النصف الأخير من القرن العشرين. ويضعه البعض في مصاف كبار المفكرين مثل جان بياجيه وكلود ليفي شتراوس (وربما ماركس وفرويد) بالنظر إلى ما أحدثه من ثورة في علم اللغويات والعلوم الإنسانية ككل، فهو جزء مما يُسمَّى «الانقلاب البنيوي التوليدي» (وما يُسمَّى أيضاً «الثورة الإدراكية أو المعرفية») الذي تصدى للاتجاه التجريبي الوضعي. وتشير بعض الدراسات إلى «الثورة التشومسكية» في ميدان علم اللغة والإنسانيات. وقد قورن بفرديناند دي سوسير عالم اللغويات السويسري الذي بدأ هو وبروب، عالم الأساطير الروسي، هذه الثورة البنيوية (لا يعترف تشومسكي نفسه بفضل سوسير في مجال اللغويات). 
وُلد تشومسكي في الولايات المتحدة الأمريكية لأبوين من يهود اليديشية (من أوكرانيا). وكان أبوه لغوياً متخصصاً في العبرية الأندلسية وله كتاب عن أحد نحاة العبرية في الأندلس، والتي كانت دراستها تدور في إطار الأنساق المنهجية التحليلية عند نحاة العربية. ولهذا، فإن ثمة عناصر من النظرية العربية في التحليل النحوي تَعرَّف عليها تشومسكي في مقتبل حياته الفكرية من خلال أبيه. 
وكانت رسالة تشومسكي للدكتوراه بعنوان « التحليل التحويلي أو التوليدي » والتي نُشرت فيما بعد في كتابه الأول الأبنية التركيبية (1957). ويُعدُّ هذا مجرد جزء من عمل أشمل وأكثر تفصيلاً هو كتاب البنية المنطقية للنظرية اللغوية (1975). قضى تشومسكي فترة في إسرائيل حيث كان يؤمن بأن الكيبوتس تجربة اشتراكية مثالية، لكنه سرعان ما عاد إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث عمل بعض الوقت في هارفارد، ثم انتقل إلى معهد ماساشوستس للتكنولوجيا ومازال يعمل به حتى الآن. 
ومن الصعب تلخيص فكر تشومسكي اللغوي والسياسي، أو تلخيص سماته الأساسية وتناقضاته الحادة، والأكثر صعوبة محاولة توضيح العلاقة بينهما. ويمكننا أن نقول إن فكر تشومسكي ينطلق من الثنائية الأساسية (ثنائية الإنسان والطبيعة) التي تُشكِّل جوهر الرؤية الإنسانية (الهيومانية) للعالم وللفكر العقلاني المادي (المتمركز حول الإنسان). ولكن، هذا الفكر، صدوراً عن ماديته الصارمة وحلوليته الكامنة المادية، يحاول إنكار هذه الثنائية ومحوها وتأكيد الواحدية العلمية المادية. ومن هنا التأرجح الشديد لفكر تشومسكي بين التمركز الكامل حول الذات والتمركز الكامل أيضاً حول الموضوع، بين الحرية المطلقة، والحتمية المطلقة، وبين الإبداع الإنساني والحتمية البيولوجية. 
ولنبدأ بإحدى الأفكار المحورية في النسق الفكري لدى تشومسكي وهي فكرة البنية السطحية والبنية العميقة. 
يرى تشومسكي أن أية ظاهرة مكوَّنة من مستويين: سطحي ظاهر، وعميق كامن. فوراء كل البنَى السطحية الظاهرة تُوجَد بنية أكثر عمقاً وتركيباً. ولكن البنية السطحية رغم انفصالها عن البنية العميقة، إلا أنها على علاقة وثيقة بها، ومن خلال تحليل المكونات الشكلية للبنية السطحية (الملموسة) وطريقة تنظيمها وتفاعلها، يمكن الوصول إلى البنية العميقة. المهم هو أن ندرك أن البنية السطحية مُكوَّنة من مجموعة من العلاقات تحكمها شفرة إن توصلنا إليها أمكننا أن نفهم البنية العميقة. ويمكن أن يتم هذا من خلال تحويل تركيب إلى تركيب آخر. 
وهذه الفكرة فكرة محورية في العلوم الإنسانية الغربية منذ عصر النهضة يحاول عن طريقها الفكر الغربي في عصر العقلانية المادية تَجاوُز ثنائية الروح والمادة. فالروح هنا هي البناء الفوقي (عالم الأفكار والأشكال) ورغم استقلاليته الظاهرة إلا أنه (في التحليل الأخير وفي نهاية الأمر) إن هو إلا تعبير عن البناء التحتي (المادة ـ علاقات الإنتاج ـ الدوافع الغريزية)، وحينما يُردُّ الأول للثاني نصل إلى عالم المادة والواحدية المادية وتُصفَّى الثنائية الظاهرية. ولعل إبداع تشومسكي (والثورة البنيوية التوليدية ككل) يكمن في أنه لم يجعل البناء التحتي مادياً وإنما علاقات وأفكاراً كامنة في العقل ذاته تعبّر عن نفسها من خلال أشكال وظواهر كثيرة، أي أن عالم الأشكال الإنسانية الظاهر يُردُّ لا إلى حركة المادة اللاإنسانية وإنما إلى عالم العقل والعلاقات الكامنة فيه (التي تستعصى على الدراسة التجريبية الكمية). 
العقل الإنساني، إذن، هو أعمق البنَى عند تشومسكي. وهذا العقل ليس عقلاً سلبياً ولا صفحة بيضاء، كما يرى السلوكيون والتجريبيون، وهو لا يكتسب أفكاره تدريجياً (بشكل تراكمي) من البنية المحيطة به ويدور في إطار أنساق مغلقة مصمتة اختزالية، وإنما هو عقل نشط فعال إذ توجد فيه إمكانات إبداعية وملكات مفطورة كامنة فيه هي أشكال وبنَى قَبْلية تتبع قواعد معيَّنة ذات مقدرة توليدية وتلعب دوراً أساسياً في عملية اكتساب المعرفة. وهذا يعني أن الإنسان لا تتحكم فيه الدوافع الخارجية أو البيئية وأن قدراته الإبداعية التوليدية تمنحه قدراً كبيراً من الاستقلال والحرية. وهذا يعني أن الإنسان يدور في إطار أنساق مركبة مفتوحة. 
لهذا نجد أن نقطة الانطلاق عند تشومسكي عقلانية جوانية استدلالية، وليست تجريبية برانية استقرائية، فهو يبدأ من العام والبنية والنمط ومن المعطيات القَبْلية الكامنة في عقل الإنسان ولا يدع العقل يقف على عتبات البيانات والمعطيات الحسية والبراهين الجزئية والبيئة المادية وكأنه شحاذ فقير عاجز، بل يقف كالأمير القوي الذي يعطي أكثر مما يأخذ. ولذا، فإن صياغة الفروض العلمية والنماذج التفسيرية ـ حسب تصوُّر تشومسكي ـ أمر منوط بالعقل والخيال، وليس أمراً خاضعاً للحواس. لكن هذا لا يعني بطبيعة الحال أن الحواس قد تم إلغاؤها، فهي مسألة أسبقية، ونحن هنا أمام ثنائية هرمية يسبق الإنسان فيها الطبيعة، ويسبق العقل فيها الحواس، ويسبق الخيال الفعال فيها التلقي السلبي للمعطيات الحسية. 
ويرى تشومسكي أن أهم الإمكانات الكامنة في عقل الإنسان هي مقدرته اللغوية. فاللغة تمثل لحظة فارقة في تاريخ الكون، فهي ما يُميِّز الإنسان عن الكائنات الأخرى التي تعيش معه في هذه الأرض، ولكنها ليس لها الفطرة اللغوية. ولغة البشر مختلفة بشكل جوهري عن لغات الحيوانات وطرق التواصل بينها. ولذا، فإن تشومسكي يتحدث عن «معجزة اللغة»، فبها يُكوَّن المجتمع وتتقدم الحضارة ويظهر الفكر (وتشومسكي في هذا ينهج منهج سابير الذي كان يذهب إلى أن اللغة تستحق الدراسة لأنها ظاهرة إنسانية فريدة ولا يستطيع الإنسان التفكير بدونها). وإن أردنا استخدام مُصطلَحنا لقلنا إن ظهور اللغة يعني تَراجُع الإنسان الطبيعي (المادي) وظهور الإنسان الإنسان أو الإنسان الرباني. 
ويُعرِّف تشومسكي اللغة بأنها المقدرة التي يمتلكها كل المتحدثين بلغة ما لإنتاج وفهم عدد لا محدود من الجُمل المفهومة، لكلٍّ منها بناؤها الصحيح وذلك من خلال النحو، وهو مجموعة من القواعد والمبادئ الكامنة يربط من خلالها الإنسان بين الأصوات والمعاني بطريقة محددة (نحو تحويلي توليدي). وهذه المقدرة ليست مجرد عادة يكتسبها الإنسان من العالم الخارجي وإنما هي ملكة فطرية موروثة يُولَد بها (والقدرة الموروثة سمة لا يمكن دراستها تجريبياً، إذ لا يمكننا عزل فرد ومراقبة نمو هذه الفعالية عنده).
وكدليل على رؤيته (الثورية التوليدية) للغة باعتبارها مفطورة في العقل، يشير تشومسكي إلى الزمن الذي يقضيه الطفل البشري (الذكور منهم والإناث، الأذكياء منهم والأغبياء) لتعلم لغته الإنسانية، فهذا الطفل يتعلم لغته بسرعة وبلا جهد وبكفاءة عالية، رغم أنه محاط بكم كبير من الكبار الذين كثيراً ما يكسرون قواعد اللغة ويُصدرون أصواتاً لا معنى لها ظناً منهم أنهم بذلك يقلدون لغة الطفل ويتواصلون معه. ورغم كل هذا، يتعلم الطفل الإنساني أسس لغته بيُسْر من خلال هذه العينات العشوائية غير المثالية خلال عام (وهو وقت أقصر من الوقت الذي يستغرقه بعض الرجال في تعلُّم قيادة سيارة) مع أن وصف قواعد أية لغة قد يستغرق عدة سنوات من الباحثين. ويصل الطفل إلى مرحلة امتلاك ناصية اللغة بين سن الخامسة والسادسة، أي أنه يتملك ناصية نظام لغوي متكامل، مُكوَّن من مجموعة هائلة ومركبة من القواعد ويتطلب استخدامه كثيراً من قواعد المنطق (الاستقراء والقياس) وقواعد التحويل وقواعد الترتيب التي لو تعلمها الطفل لاستغرق في ذلك عشرات السنين. 
ويضرب تشومسكي مثلاً بإحدى قواعد التحويل التي يتعلمها الطفـل في اللغـة الإنجليزية. فصيـاغة السـؤال في اللغـة الإنجليزية يكـون عن طـريق وضع فعل الكينونة (تو بي to be) في أول الجملة. فمثـلاً عبـارة « ذا مان إز تول The man is tall" تصبح « إز ذا مان تول؟ Is the man tall ?". ولكن في جملة أخرى مثل "ذا مان هو إز هير إز تول The man who is here is tall" تصبح "إز ذا مان هو إز هير تول؟ Is the man who is here tall? ". ولو الأمر كان آلياً ومكتسباً لقام الطفل بتحريك «إز is» الأولى ولأصبح السؤال "إز ذا مان هو هير إز تول؟ Is the man who here is tall?" وهي صيغة سليمة من الناحية الميكانيكية ولكنها خطأ من الناحية اللغوية. ويُفسِّر تشومسـكي بأن عقـل الطـفل بإمكاناته الكامنة فيه يعــرف أن عـبارة "who is here" مرتبطة باسم الفاعل في وحدة واحدة لا يجوز أن تُقسَّم عند الإتيان بصيغة السؤال عن الجملة كلها. ولذلك فهو ينقل is الثانية في هذه الجملة وليس is الأولى إلى بداية الجملة. 
واللغات البشرية كافة، رغم تنوعها وتعددها، تشترك في بنيانها العميق. فهي كلها تعبير عن القوالب أو البنَى اللغوية أو الأشكال الثابتة والعالمية نفسها. ونقط التشابه بين اللغات أكثر أهمية من مواطن الاختلاف. ولا يمكن تفسير العناصر العالمية للغة (بالإنجليزية: لنجوستيك يونيفرسالز linguistic universals) إلا بالقول بأن العقل يُوجَد كامناً فيها (يستخدم تشومسكي أحياناً تعبيرات مثل: «مُبرمَج فيه» أو «مُشفَّر فيه»، وثمة اختلاف عميق بين الكامن والمُشفَّر)، وأن هناك برنامجاً محدداً موروثاً يحوي البنَى كافة. وهذا يُذكِّرنا بموقف كانط من الصفات المجردة المنطقية لأنماط الفكر، وهي أنماط حادثة ولكنها مستقلة عن التجربة. 
ورغم الصلة الواضحة بينه وبين كانط، إلا أن تشومسكي نفسه يشير إلى كل من ديكارت وروسو وفلهلم فون هومبولت باعتبارهم أسلافه الفكريين. ومع هذا، تجب الإشارة إلى أن كانط لم يستخدم كلمات مثل «مُبرمَج» أو «مُشفَّر»، فالمقولات القَبْلية عنده محاطة بالأسرار. ولعل هذا سر إنكار تشومسكي كون كانط سلفه الحقيقي وإصراره على ديكارت، بسبب النزعة الرياضية المنطقية عند الأخير، أي الشكلية الصارمة التي تنتهي إلى الواحدية الصارمة، والبحث المحموم عن تفسيرات بيولوجية (الغدة الصنوبرية) حتى لا يكون هناك أيُّ مجال للميتافيزيقا! ويتحدث تشومسكي عما يسميه «النحو العالمي» وهو تعبير عن الثوابت اللغوية العالمية، ولذا يُنكر تشومسكي وجود لغات بدائية، تماماً كما يُنكر كلود ليفي شتراوس وجود نظم معرفية بدائية أو ما يُسمَّى «قبل المنطقي». 
واللغة الإنسانية أفضل مرآة تعكس العقل، فثمة تَماثُل بين بنيتي العقل واللغة، أي أن اللغة هي بمنزلة البناء السطحي لبنية أكثر عمقاً هي العقل الإنساني. وهذا، في الواقع، هو منهج البنيويين والتوليديين كافـة: أن يـروا بنـية ظاهرة مـا (الأساطير ـ طريقة الطهي ـ اللغة ـ الرموز) ويحاولون من خلال دراستها أن يدرسوا بنية العقل البشري. وهم في هذا يدافعون عن العقل البشري وإبداعه ضد هجوم دعاة وحدة العلوم والنماذج التجريبية الطبيعية المادية. 
في إطار هذا تتحدد وظيفة علم اللغة بأنها « دراسة النحو » أو بمعنى أدق « دراسة أبنية الجملة » (بناء الجملة هو ترتيب كلمات الجملة في أشكالها وعلاقاتها الصحيحة، وكذلك تركيب واستعمال الكلمة أو العبارة في جملة). ومهمة اللغوي كشف مجموعة القواعد والمبادئ التي يمكن أن تُفسِّر الجُمل الممكنة (grammatical - permssible) كافة للغة ما، أي أنه يحاول الوصول إلى البنية الكامنة للغة بكل علاقاتها وتحويلاتها المتشابكة. 
وهو جهد أقرب إلى البحث المنطقي الرياضي وأبعد ما يكون عن المهمة التقليدية عند اللغوي في إعداد المعاجم وتعريف المعاني وتَطوُّرها التاريخي. ولكن علم اللغة، بذلك، وبسبب تماثل بنية اللغة مع بنية العقل، يصبح « علم اكتشاف قدرة الإنسان على الإدراك ونمو هذه القدرة من خلال اللغة » و« علم إدراك خصائص العقل الإنساني وتركيبه والسلوك الإنساني الحر الذي تحكمه القواعد وإمكانيات العقل الحر والمبدع داخل إطار نسق من القواعد التي تعكس الخواص الداخلية لعقل الإنسان ». 
وهذه هي النقطة التي يلتقي فيها علم اللغة بعلم السياسة بالفنون، أي أن هذه هي النقطة التي تشكل القاعدة الأساسية في فكر تشومسكي وهي مصدر الثنائية لديه. ومشروع تشومسـكي لعلم اللـغة هو تأسـيس نظـرية عامة عن بنية اللغة الإنسانية، نظرية تتسم بالعمومية بالقدر الذي يكفي لأن تنطبق على جميع اللغات، ولكنها ليسـت من العمـوم بحيث تنطبق (أي النظرية) على أي نظام اتصالي، أي أن علم اللغة يجب أن يحدد الصفات العامة والأساسية للغة الإنسان بطريقة تُبقي الإنسان وتستبعد الكائنات الأخرى. 
وكما أن نظرية تشومسكي في اللغة تؤكد الوحدة، فإن هناك التنوع فيها والذي يجب أن تُفسِّره أية نظرية لغوية. ولإنجاز هذا، يُقدِّم تشومسكي ثنائية أخرى: الكفاءة المثالية أو المقدرة الموروثة (البنية العميقة)، وهي مقدرة الفرد على إنتاج وفهم عدد غير محدد من الجُمل وتحديد الخطأ وتَلمُّـس الغمـوض من جهة، والأداء الفعلي (البنية الظـاهرة)، أي عملية استخدام هذه القدرة في نسق محدد، من جهة أخرى. والمقدرة « المثالية » تتحقق في كل لغة بشكل جزئي (يرى تشومسكي أن دور الجماعة يقتصر على تشخيص النظام اللغوي إذ تقوم الجماعة بتحديد المقدرة اللغوية عن طريق استبعاد بعض الإمكانات اللغوية، أي فرض حدود على المقدرة اللغوية الكامنة التي تحوي الثوابت اللغوية العالمية كافة).
ورغم أهمية الأداء اللغوي الفعلي، فإن علم اللغة لابد أن يُركز على الكفاءة المثالية وحسب، وعلى الثوابت اللغوية التي تتمثل في قواعد وتراكيب اللغة. هذا لأن دراسة الأداء الفعلي والاستخدامات المختلفة للغة بكل ما يكتنف ذلك من المصاعب والتفاصيل والتعقيدات الفعلية للواقع، يَصعُب التعامل معه على نحو رياضي علمي صارم (وهنا يبدأ الجانب الآخر الخاص بالبرمجة والتشفير في منظومة تشومسكي يُطل برأسه). وقد اكتشف كثير من علماء الإنسانيات والاجتماع إمكانية تطبيق منهج تشومسكي التوليدي البنيوي على العـلوم الإنسـانية كافة، بل وعلى الإبداع الفني. 
إن النظام المعرفي (الكلي والنهائي) عند تشومسكي يستند إلى ثنائية الإنسان والطبيعة وإلى الإيمان بأن البشر مختلفون عن كل من الحيوانات (النموذج العضوي) والآلات (النموذج الآلي)، وأن هذا الاختلاف لابد أن يُحترَم، فهذا هو أساس كرامة الإنسان وإخوة البشر. هذا الإيمان باستقلالية العقل عن البيئة المحيطة به وإبداعه، هو أساس هجومه على الفلسفة الوضعية والتجريبية، فهي فلسفات لا تكترث بالبنَى العميقة، أي ما يُميِّز الإنسان عن بقية الكائنات. فالمدرسة السلوكية تكتفي بوصف البنية السطحية في أشكالها المادية المنطوقة (المسموعة) والمكتوبة ولم تتجاوز ذلك إلى التعرف على البنية العميقة. 
ويرى السلوكيون أن الإنسان يجب أن يبتعد عن دراسة ما يُسمَّى «الأفكار» (بالإنجليزية: أيدياز ideas أو ثوتس thoughts) وأن يركز على المثيرات والاستجابات، أي على العناصر البرانية التي يمكن وَصفُها كمياً. كما أن السلوكيين ركزوا على مبادئ أنماط السلوك التي تنطبق على الأنواع كافة (الإنسان والحيوان) وعلى أنواع السلوك كافة (من الاكتشاف إلى التواصل إلى كسب الرزق). أي أن السلوكيين ركزوا على البراني والعام واللاشخصي (وهذه هي صفات الطبيعي/المادي) وأنكروا الجواني والخاص والفريد. ومن ثم، قضى السلوكيون عشرات السنين يدرسون سلوك الفئران وغيرها من الحيوانات ويُعمِّمون النتائج على الكائنات الأخرى بما في ذلك الإنسان ـ بل وخصوصاً الإنسان ـ (سمَّى تشومسكي هذا «بلاي آكتنج آت ساينس play-acting at science» أي «اللعب بالعلم»). 
وقد ركز اللغويون الوصفيون على وصف البنية السطحية للغة أو لهجة ما مع عدم تَجاوُز ذلك إلى ما وراء المستوى السطحي الظاهر. ويركز علماء المقارنات على مقارنة ظواهر جزئية مثل مقارنة الصوت الواحد أو الصيغة الواحدة أو النمط الواحد في اللغات. واهتم علم اللغة التاريخي بمتابعة التغيرات اللغوية في اللغة الواحدة وربطها بتاريخ الحضارة. كما اهتم علم اللغة الاجتماعي بعلاقة اللغة بالتغيرات في المجتمع. لقد اهتمت هذه المدارس كافة بعملية رصد البيانات كمياً دون تقديم نموذج تفسيري يُفسِّر قدرة المتكلم وحدسه اللغوي. فكل هذه المدارس والاتجاهات ترى الإنسان آلةً صماء تُخزَّن فيها الأنماط التحويلية، وهي غير قادرة على إدراك الكل بشكل مبدع. 
ولذا، فإن العقل اللغوي ـ بالنسبة للسلوكيين على سبيل المثال ـ يقوم على أساس استدعاء النمط اللغوي المُختزَن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وعلى هذا، يرى تشومسكي وجوب تأسيس علوم اجتماعية تدرس الطبيعة البشرية باعتبارها كياناً مستقلاً عن الطبيعة/المادة لضمان حرية الإنسان وتعميقها، وهذه العلوم لابد أن تكون ذات أسس راسخة في الطبيعة البشرية ذاتها. ولابد أن ينبع العمل الاجتماعي من تَصوُّر لطبيعة المجتمع في المسـتقبل وأن يسـتند إلى بعض الأحكام الواضحة بشأنه، وهي أحكام تستند بدورها إلى رؤية للطبيعة البشرية. فمفهوم الطبيعة البشرية مفهوم محوري عند تشومسكي، وهو يشير إلى كيفية التوصل إليها من خلال الدراسة الإمبريقية إذ أن هذه الطبيعة تتبدَّى في سلوك الإنسان وإبداعاته المادية والفكرية والاجتماعية. 
يتبع إن شاء الله...


الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية   الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية Emptyالأربعاء 11 ديسمبر 2013, 10:07 pm

ولكن مفهوم الطبيعة البشرية بالنسبة لتشومسكي ليس مفهوماً إمبريقياً محضاً، ففي حوار له مع بيل مويرز طرح عليه هذا الأخير الإشكالية الهوبزية بطريقة ماكرة إذ سأله: « هل تعتقد أن البشر يحنون بطبيعتهم للحرية... أم أنهم على استعداد لأن يخضعوا للنظام مقابل الأمن والأمان؟ »فكان رد تشومسكي قاطعاً: « هذه مسائل خاصة بالإيمان لا المعرفة، تُوجِّه آمالك نحو ما تؤمن به.. وأنا أحب أن أؤمن بأن الناس قد وُلدوا أحراراً، ولكنك إن طلبت مني دليلاً على ذلك لما أمكنني أن أعطيك إياه». 
فسأله مويرز في دهشة: "أنت تتحدث عن الإيمان، فهل «تؤمن» بالحرية؟" فأجابه تشومسكي: "أحاول ألا يكون إيماني غير عقلاني، فنحن يجب أن نسلك على أساس معرفتنا وفهمنا مع تمام العلم بأن معرفتنا محدودة... ولكنه، على أية حال، إيمان خاضع لاعتبارات الحقائق والعقل". وتشومسكي، بهذا، قد طبَّق على الطبيعة البشرية نفسها المنهج العقلاني الذي طبقه على البحث اللغوي، وهو أمر منطقي أن نبدأ بما نتصوره المقدرة المثالية ثم ندرس الأداء الفعلي: المثالي قبل المادي، والعقلي قبل الحسي، والإنساني قبل الطبيعي. 
وفي ضوء هذه الأولويات يمكننا أن نتوصل إلى أن المنظومة الأخلاقية عند تشومسكي تستند إلى الثنائية المبدئية (ثنائية الإنسان والطبيعة) وتتفرع عنها ثنائيات أخلاقية الشق الأول منها هو الإنساني الإيجابي والثاني هو السلبي (ويمكـن أن نقـول بشيء من التحـفظ «الطبيعي »)، وفيما يلي بعض هذه الثنائيات: حرية /تَحكُّم ـ إبداع /تنميط ـ تضامن وجماعية /تعظيم الربح وأنانية وطمع ـ مبدئي /برجماتي ـ تَوازُن بيئي/استغلال بيئي ـ تلقائية /اتجاه نحو الترشيد والتحكم ـ مساواة /هرمية ـ الديموقراطية /الشمولية ـ الاشتراكية /الرأسمالية ـ الفوضوية /هيمنة الدولة ـ الإمبريالية /التحرر ـ البقاء بطريقة جديرة بالاحترام/البقاء بأي ثمن (يستخدم تشومسكي كلمة «ديسنت decent» الإنجليزية فيقول " ديسنت سيرفايفال decent survival» وكلمة «سيرفايفال survival» في الإنجليزية تستدعي إلى الذهن مباشرةً العبارة الداروينية القبيحة «سيرفايفال أوف ذا فيتسيت survival of the fittest» أي «البقـاء للأصلـح». 
والأصلـح هـنا هو الأقوى، ومن ثم فهو بقاء يمكن أن نسميه «إن ديسنت indecent» أي «بطريقة غير لائقة» (ومن الواضح أن استخدام تشومسكي لهذه الكلمة الضعيفة في هذا السياق، وهو عالم اللغة، يدل على محاولته تحاشي كلمات أشد قوة. ويمكن ترجمة كلمة «ديسنت decent» بكلمات مثل: مهذب ـ لائق ـ مُرضي ـ مقبول ـ جدير بالاحترام. وكلها كلمات تشير إلى وجود معيارية ما ومرجعية ما دون الإفصاح عنها، فهي كلمات تشي بالثنائية وتتحاشاها في آن واحد).
في هذا الإطار، يعارض تشومسكي الرؤية الهوبزية الداروينية النيتشوية ومنطق القوة الصماء، فالتضامن الإنساني (خلافاً للصراع المادي) هو آلية البقاء الجديرة بالاحترام. وهو، لهذا، يرفض التفسيرات الآلية (مثل تفسيرات السلوكيين) لأنها تفشل في تفسير طبيعة البشر التي تميل نحو الحرية والإبداع وتفشل في تفسير وعي الإنسان. 
وهي تفسيرات تُلغي ثنائية الإنسان والطبيعة، فالإنسان، من منظور سلوكي، شأنه شأن الكائنات الأخرى، ليست عنده مقدرة توليدية تضمن حريته، وإنما هو مجموعة من العادات المكتسبة من خلال عملية تطويع (وتكييف). ولذا يكون هدف المجتمع، من منظور سلوكي، زيادة التحكم في الفرد وتطويعه، فالسلوكية والإمبريقية مرتبطتان تماماً بعملية التحكم. وكل هذا يؤدي إلى ظهور « الخبراء » الذين يدَّعون أنهم خبراء في حقل لا تُوجد فيه بالضرورة خبرة علمية إذ يجب أن تسود فيه الاعتبارات الخلقية الإنسانية العامة. 
وانطلاقاً من هذه الثنائية، يطرح تشومسكي صورة المجتمع الإنساني المثالية، فهو مجتمع يتكون من تجمعات طوعية تلقائية تقضي على البنَى الهرمية القمعية. وهو يذكر باستحسان كبير مقولة ماركس عن العمل في المجتمع المثالي، حيث يصبح العمل لا مجرد وسيلة للحياة وإنما تعبيراً عن حاجة إنسانية كبرى، فيصبح العامل مدفوعاً للعمل بنزعته الجوانية التلقائية (لا القسر الخارجي البراني). ورغم مثالية هذه الصورة، إلا أن تشومسكي يبيِّن أن هناك دلائل إمبريقية عليها. فالأسرة، على سبيل المثال، كيان اجتماعي يعبِّر بشكل جيد عن الإمكانات الكامنة عند الإنسان إذ لا يحاول أفراد الأسرة تعظيم الربح وإنما يتعاملون مع بعضهم البعض داخل إطار من التضامن والتعاون. 
وينادي تشومسكي بما يسميه «الاشتراكية التحررية». وهي نزعة فوضوية (بالمعنى الفلسفي) معادية لا للرأسمالية وحسب وإنما معادية أيضاً للتنظيم المركزي للدولة الاشتراكية. كما ينادي بما يُسمَّى «النزعة النقابية الفوضوية» (« ارتباطات حرة لمنتجين أحرار») وهو يرى أن الكيبوتس في الدولة الصهيونية من أهم التجارب التي يتحقق فيها هذا المثل. ورغم هذه الفوضوية والنزوع الشديد نحو الحرية والتلقائية، لا يجد تشومسكي أية غضاضة في أن يُمجِّد دور العلم الحديث والتكنولوجيا باعتبار أنها آليات يمكنها أن تريح الإنسان من ضرورات العمل وتُحقّق له أساساً لنظام اجتماعي يستند إلى الترابط الحر والتحكم الديموقراطي («إن كان لدينا الإرادة في أن نفعل ذلك»)
في مقابل هذه الصورة الوردية، يضع تشومسكي النظام الرأسمالي الذي يستند إلى مفهوم الإنسان الطماع التنافسي الذي يُعظّم الثروة والقوة، الخاضع لعلاقات السوق، وهو مفهوم معاد للطبيعة البشرية كما يراها تشومسكي (وفي سياق آخر، يقول « معاد لقوانين الطبيعة » دون أن يبيِّن ما المقصود: الطبيعة البشرية أم الطبيعة المادية بعامة؟ وهو غموض له مدلوله العميق الذي يشبه التأرجح بين الكمون والبرمجة كما سنبين فيما بعد). 
فحفنة من الرجال يُتخَمون بالسلع الاستهلاكية التي لا حاجة لهم بها، بينما الملايين الجائعة تحتاج الضروريات. والرأسمالية، بحكم بنيتها، لا يمكنها أن تفي باحتياجات البشر، لاستحالة الوفاء بها إلا من خلال قنوات اجتماعية. ولا يمكن أن يحل محل الرأسمالية التقليدية رأسمالية الدولة الشمولية أو رأسمالية الدولة المسلحة (التي بدأت تظهر في الولايات المتحدة) أو دولة الرفاه البيروقراطية المركزية ولا حتى الدولة الاشتراكية المركزية. فالدولة آلية كبرى للتحكم والهيمنة، بنية قوة وليست كياناً إنسانياً أخلاقياً. وتشومسكي يعارض، بطبيعة الحال، السوق الحر ويرى أنه من أهم آليات التحكم والهيمنة. 
ويُلاحظ تشومسكي أن عملية الهيمنة لم تَعُد تتم من خلال القمع وإنما تتم من خلال الإغواء، ومن هنا يلعب الإعلام دوراً أكثر خطورة من دور الدولة، كما أن للشركات التجارية الضخمة دوراً يفوق دور الدولة، كما يلعب الخبراء دوراً مهماً في عملية القمع من خلال الإغواء (والخبراء هم أشخاص يعتقدون أن عندهم إجابات علمية تستند إلى خبرتهم العلمية في مجالات لا تحتاج، في واقع الأمر، إلا للرؤية الأخلاقية. وقد عرَّف كيسنجر الخبير بأنه الشخص القادر على الإفصاح بوضوح ودقة عن إجماع أهل القوة) فيتكاتف كل هؤلاء لتخليق الإجماع والرأي العام الحر. ومن هنا تأكيد تشومسكي دور اللغة والمفردات والأسلوب، فهي آلية أساسية لتخليق الإجماع ومن ثم كَبْت الإبداع والحرية. 
فيُلاحظ تشومسكي أن المُصطلَحات في اللغة السياسية تُستخدَم بشكل مختلف ومعكوس تماماً بحيث تُظهر الكلمات نقائض ما يُضمر القائلون، بحيث تُعطي الكلمات مدلولات تختلف عن مقصودها اللغوي وتُجرِّدها من معناها الأصلي. ففي القرن التاسـع عـشر سُمِّي الاحتلال «حماية»، والهيمنة « انتداباً »، والنهب الاستعماري « عبء الرجل الأبيض ورسالته »، ثم استُبدلت بهذه التسميات المضللة تسميات أخرى لا تقل عنها ضلالاً وتضليلاً إنما تتفق مع ما يُسمَّى «روح العصر». فدخلت إلى المعجم السياسي المتداول كلمات جديدة مثل: «المعونات الدولية » ـ « القروض » ـ « نقل التكنولوجيا » ـ « الاعتماد المُتبادَل »، وكل هذه المُصطلَحات لا تخرج عن مضمون الاحتلال والتبعية والاستنزاف بصور جديدة. 
ومن بين هذه الكلمات ذات المدلول المضلل في الاستعمال السياسي الدولي كلمة « الإرهاب » بحيث أصبحت القوى الاستعمارية والمنظمات الدوليـة الخادمــة لها تسـتخدم الكلمة «الإرهـاب الدولي » كمرادف لتعبير « الحرب المشروعة » التي هي حرب الضعفاء ضد الأقوياء بحيث أصبح من يقذف حجراً أو يُطلق رصاصة على من يحتل أرضه ويسلبه كرامة المواطن « إرهابياً مدفوعاً»، على عكس المحتل الذي يبدو وكأنه بالاحتلال يؤدي حقاً تُقِّره الأعراف.
فقد تبلور كل هذا في اتجاهين أساسيين: 
1 ـ أصبح القتل والنهب بالجملة يُسمَّى «حرباً مشروعة» ويُسمَّى من يمارسها «إمبراطوراً»، أما القتل والنهب بالتجزئة فتُسمَّى «إرهاباً» ويُسمَّى من يمارسها «لصًّآ أو قرصاناً». 
2 ـ ما تمارسه الولايات المتحدة يُسمَّى «حرباً» وما يُمارَس ضدها «إرهاب». 
فمُصطلَح «إرهابي» مثلاً تستخدمه كلٌّ من إسرائيل وأمريكا والإعلام « العالمي » للإشارة إلى الفدائيين الفلسطينيين أو أي شخص يقف ضد مصالحهم مع أنهما أكبر دولتين إرهابيتين في العالم. وكلمة «توازن» هي الأخرى أصبحت تعني « حماية المصالح الأمريكية »، فحينما تظهر قوة قومية محلية تحاول الدفاع عن مصالحها تُوصَف بأنها تخل بالتوازن، بينما كل ما فعلته هو محاولة فرض توازن جديد يفي بمصالح الشعب على عكس التوازن القديم.
كما أن عملية تخليق الإجماع التي تقوم بها المؤسسات الحكومية وغير الحكومية قد حققت نجاحاً منقطع النظير، إذ تَحوَّل المواطن العادي في الغرب إلى إنسان مُنمَّط مُدجَّن مطوَّع لا توجد في عقله أية بنَى داخلية ثابتة ولا حاجات جوانية ذات صفة ثقافية أو اجتماعية، ولذا فهو إنسان مرن طيِّع تماماً؛ قادر على التَحوُّل والتلون يسهل تشكيل سلوكه من خلال سلطة الدولة أو مدير الشركة أو التكنوقراطية أو اللجنة المركزية (إنسان يذكرنا بالإنسان ذي البُعد الواحد عند ماركوز وغيره من فلاسفة مدرسة فرانكفورت)، وبذا يتم تهميش الجماهير وتبقى السلطة في يد الدولة والشركات والخبراء. 
ويؤمن تشومسكي، شأنه شأن فلاسفة مدرسة فرانكفورت، بنظرية التلاقي. فهو يرى أنه لا يوجد فارق كبير بين الاتحاد السوفيتي (سابقاً) والولايات المتحدة الأمريكية. فالخلاف الوحيد بينهما أن الإمبريالية السوفيتية كانت تمارس نشاطها داخل حدودها (فالاتحاد السوفيتي كان دولة مترامية الأطراف)، بينما ذراع الولايات المتحدة تمتد خارج حدودها في أرجاء العالم كافة. وفي إطار هذا التلاقي، يشير تشومسكي إلى النظام الذي نشأ في العالم الغربي بعد عصر النهضة باعتبـاره « نظـام ما بعـد كولومبـوس» (مكتشف أمريكا) أي أنه نظام واحد، ويصفه بأنه نظام مبني على القرصنة والنهب. 
وبعد أن عرضنا المنظومات المختلفة عند تشومسكي (المعرفية واللغوية والأخلاقية والسياسية)، وقبل أن نعرض لآرائه في الأداء السياسي في أنحاء العالم، قد يكون من المفيد أن نتوقف عند بعض التناقضات العميقة التي تسم فكره. فتشومسكي فوضوي ملتزم بالعلم والتكنولوجيا (ولهما منطقهما الرياضي الحتمي الصارم الذي يتجاوز حرية الأفراد وأغراضهم). وهو يؤمن بأن عقل الإنسان حر بسبب الأنساق الكامنة فيه ولكنه يعود ويسميها « برنامج » و«شفرة». 
وهو يقف بشدة ضد الرأسمالية والسوق الحر باسم الدفاع عن الحرية، ويتعاطف مع التخطيط العقلاني الذي يعني ضرورة اكتشاف القواعد وتطبيعها كما يعني المزيد من الترشيد. وهو يرى أن الأسرة مؤسسة يتم فيها تلاقي الإنسان بأخيه الإنسان في إطار من التراحم، ولكنه يرى أن الكيبوتس (المبني على تصفية الأسرة لصالح التنظيم الجماعي) أكثر المؤسسات مثالية. وهو فوضـوي يؤمن بالتلقـائية الكاملة وبصوت الشعب، ولكن حين سألته ماذا لو أخطأ الشعب، رد قائلاً: "لابد إذن من توجيهه" (فقلت له: "من أي منظور؟ ومن يعطينا هذا الحق؟"). 
هذا التناقض يضرب بجذوره في تَناقُض عميق في فكر تشومسكي. وأثناء زيارته للقاهرة عام 1994 طرحت عليه قضية العلم النازي والتجريب النازي وقضية الطبيعة، وهو مُصطلَح يستخدمه كما أسلفنا بشكل مبهم أحياناً. سألت تشومسكي: ما الطبيعة؟ وهل هناك داخل البشر ما يُميِّزهم عن الطبيعة أم أنهم جزء لا يتجزأ منها لا يتجاوزها قط؟ وأشرت إلى بعض آرائه التي عرضت لها من قبل، ولعبارة « معجزة اللغة » على وجه التحديد وسألته ألا تعني هذه العبارة خرقاً لقوانين الطبيعة والمادة في حالة الإنسان، أو على الأقل انقطاعاً وعدم استمرار. 
ومضمون سؤالي كان، في واقع الأمر، عن الثنائية العميقة التي تسم رؤيته وعن التمركز حول الذات في نسقه المعرفي. ولكن تشومسكي، شأنه شأن كل الفلاسفة الغربيين العلمانيين، يحاول أن يُنكر أية ثنائية حينما يُواجَه بالتضمينات الفلسفية لنسقه المعرفي. ولذا ضاق تشومسكي ذرعاً بسؤالي وأجاب إجابة تنم عن الضيق وقال: الطبيعة هي كل ما هناك، والطبيعة لا تُردُّ إلى شيء خارجها (نيتشر إز إرديوسابل Nature is irreducible). 
وقد عُدت إلى كتاباته أبحث عن إجابة أكثر تفصيلاً وإفاضة، فوجدت أن تشومسكي الذي يؤكد كمونية الأفكار يرى أنها في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير إن هي إلا جزء من بيولوجيا الإنسان (شأنها في هذا شأن الجوانب الفسيولوجية التشريحية). ولذا، لا يتردد تشومسكي في أن يصف مَلَكة اللغة (معجزة اللغة) في مُصطلَح بيولوجي مادي حتمي صرف. فاكتساب الطفل للغة لا يختلف عن تغييره أسنانه من الأسنان اللبنية إلى الأسنان الناضجة، وكالمراهق حين تتغيَّر خصائصه التشريحية. 
فاللغة تنمو فسيولوجياً، تماماً مثل أية صفات تشريحية أخرى، من تلقاء نفسها، أي أن كلمة «كامن» تصبح «فسيولوجي» أو «فيزيائي»، والبنَى العقلية الكامنة هي بنَى فيزيائية. والكمون لا يعني في واقع الأمر سوى البرمجة البيولوجية أو التشفير (بالإنجليزية: بروجرام program وكود code)، وهي كلمات تشير إلى نظم مغلقة حتمية. ولا يتردد تشومسكي في أن يصف نظمنا العقيـدية بأنهـا النـظم التي يقـوم العقل (باعتباره بنية بيولوجية) بإنتاجها. ويرى تشومسـكي أن العقل قد « صُمم » لتوليدها (بالإنجليزية: ديزاينيد designed] وهي كلمة تعني « تصميم » ولكنه تصميم هندسي لآلة، أي أن الكلمة التي تشير إلى الإبداع تستدعي في الوقت نفسه نظاماً مغلقاً حتمياً). 
ويبدو أن هذه ليست مجرد صور مجازية لوصف شيء يصعب وصفه باللغة المباشرة وإنما هو وصف حرفي إذ أن تشومسكي يشير إلى العقل باعتباره عضو التفكير (بالإنجليزية: منتال أورجـان mental organ) أو وحـدة قياسية (بالإنجليزية: موديول module)؛ فالعبارة الأولى وصف عضوي للعقل، والثانية وصف آلي، وكلاهما مغلق وحتمي. وكل النظريات العلمية التي تم تطويرها عبر تاريخ البشرية مستمدة من حصيلة محدودة من النظريات الممكنة وفرتها لنا الجينات (النظام البيولوجي) وتتناقلها الأجيال. وهكذا توارى الإبداع وحلت محله الحتمية البيئية والاجتماعية (التي نادى بها السلوكيون والتي هاجمها تشومسكي) وهي حتمية بيولوجية. 
إن تشومسكي قد رفض في إحدى المناظرات العامة (عام 1975) أية مفاهيم برانية مثل «سياق» و «تَفاعُل»، فبينما كان بياجيه يرى أن تَطوُّر الطفل يتم من خلال تفاعله مع سياقه، أصر تشومسكي في تفسيره تَطوُّر لغة الطفل على عدم وجود أي مبرر لتَبنِّي مفاهيم التعليم التدريجي عن طريق الاكتساب، ورفض استيعاب اللغة في أيٍّ من نظم التمثيل الإدراكي الأخرى مثل تصنيف الأشياء وتَخيُّل الصور حتى تحتفظ اللغة بتفرُّدها كلحظة فارقة. وهو، بذلك، يصل إلى قمة تمجيد الحرية والإبداع. ولكنه يُفسِّر اللغة بعد ذلك على أساس برنامج شفرة كامنة في نظام الإنسان البيولوجي، وأن ما هو بيولوجي هو حتمي صارم مطلق. بل ويرى البعض أن الحتمية البيولوجية (المسوغ النظري للنظريات العرْقية والهيمنة الإمبريالية) أشد ضراوة ولا إنسانية من الحتميات البيئية والاجتماعـية. فبإمكان البشر التحكم في البيئة وتغيـيرها، ولكنهـم يعجزون (حتى الآن على الأقل) عن التحكم في الجينات وتغييرها. 
ولكن تشومسكي يرى العكس، فالحتمية البيئية والاجتماعية مرتبطة في نظره باستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، على عكس الحتمية البيولوجية، فهي مصدر الحرية لأنها نابعة من داخل الإنسان كامنة في عقله لا تحدها حدود برانية، ولذا فإن الحتمية البيولوجية تُولِّد في نفسه قدراً كبيراً من التفاؤل والالتزام بالقيم الأخلاقية والإيمان بالمستقبل. ورغم تفاؤله بشأن الحرية، إلا أن نسقه الحتمي البيولوجي يؤدي به (من حيث لا يشعر) إلى العداء للتاريخ ثم إعلان نهايته. ويمكن القول بأن ثمة عداء للتاريخ في منظومة تشومسكي يتبدَّى في موقفه من اللغويات الاجتماعية والمقارنة، وفي تبجيله المتطرف للعلم والتكنولوجيا وعقيدة التقدم (والعداء للتاريخ إحدى سمات الموقف البنيوي الأساسية وكذلك تفسيراته الكمونية العقلية التوليدية). 
أما فيما يتصل بنهاية التاريخ، فإن تشومسكي ـ كما أسلفنا ـ يرى أن النظريات العلمية والرؤى الإنسانية مستمدة من حصيلة محددة من الرؤى (البرامج الوراثية) وفرتها لنا الجينات ويتناقلها البشر عبر الأجيال من خلالها. ولكن هذه النظريات (الشفرات ـ البرامج) العلمية قاربت على النضوب لأن العصر الحديث يضم أناساً كثيرين يُوفِّر لهم المجتمع وقت الفراغ اللازم والتسهيلات اللازمة لعملية البحث العلمي وكشف البرامج الكامنة. وما تبقى من موضوعات ليس بإمكان العقل إدراكها، فهي قد تبقى كذلك إلى نهاية الزمان لأنها تقع خارج نطاق النظريات (البرامج) المتاحة للإنسان بيولوجياً (أي أن تشومسكي قد أحل البيولوجوس محل اللوجوس).
هنا سألت تشومسكي مجموعة من الأسئلة: ما الفرق إذن بينه وبين السلوكيين إذا كان كل شيء بيولوجياً فيزيائياً مُشفَّراً في الجينات؟ وإذا كان علينا أن نتبع الطبيعة (البرامج الطبيعية التي صُـمِّمت مسبقاً) أفلا يمكن إذن دراسة الإنسان كما تُدرَس الفئران (وهذه خطيئة السلوكيين الكبرى)؟ ألا يمكن لهؤلاء الخبراء أن يوفروا علينا الكثير من العناء ويدرسوا الموضوع (الإنساني) بآلاتهم العلمية الدقيقة؟ ثم دفعت السؤال إلى ناحية حساسة وسألته: كيف يمكن التصدي لمجموعة من العلماء (النازيين) الذين يرون أن بإمكانهم إسعاد البشر إن قَبل البشر أن يخضعوا للتجريب ويُذعنوا للنتائج العلمية، فهؤلاء الخبراء بوسعهم أن يستخلصوا لنا قوانين الطبيعة التي يمكن على أساسها تأسيس المجتمع وتحديد ما هو خير وما هو شر وما هو نافع وما هو ضار؟ وماذا لو قال هؤلاء الخبراء إن المسنين والمعوقين واليهود يقفون ضد قوانين الطبيعة (الإنتاجية - السعادة المادية)؟ ماذا يمكن أن نقول لهؤلاء الخبراء؟ أي أنني ألمحت إلى أن هذه العقلانية المادية تؤدي إلى الواحدية والعقلانية التكنولوجية والتي تؤدي بدورها إلى التجريبية والوضعية والسلوكية والهيمنة والتحكم. 
فبيَّن تشومسكي أن كلمة «فيزيائي» (أي مادي) حسب تَصوُّره قد تم توسيع مدلولها تدريجياً لتغطي أي شيء يمكن فهمه، ولذا فالكلمة لا تُعرَّف بمعزل عن العقل. ومضمون الكلمة سيتسع ليغطي كل الخصائص التي يكتشفها العقل، فأشرت إلى أن المرجعية النهائية في هذه الحالة ستظل هي العالم المادي والفيزيائي، أي أن الإنسان يُستوعب في الطبيعة وذكَّرته بالعبارة التي استخدمها «الطبيعة لا يمكن أن تُردُّ لأي شيء خارجها »، وهذا هو الافتراض السلوكي الأساسي، ثم أشرت إلى أحد أهم الأنماط الفكرية العامة في الحضارة الغربية: محاولة التجاوز من خلال المادة. ثم أشرت إلى أن الأفكار الكامنة يمكن أن تكون إيجابية أو سلبية، وأنه في إطار الحتمية البيولوجية التي يتحرك في إطارها لا يوجد مجال لقبول البعض ورفض البعض الآخر، فالطبيعة هي كل ما هناك وعلينا قبولها والإذعان لها! 
وقد طلبت من تشومسكي أن يُفسِّر لي ظاهرة ما بعد الحداثة في الغرب، وهي فلسفة تقف على طرف النقيض من فلسفته، فهو يؤمن بمعجزة اللغة ومقدرة الإنسان على توليد نظم اتصالية تستند إلى إنسانية مشتركة، أما ما بعد الحداثة فتؤدي إلى انفصال الدال عن المدلول وإلى عطب اللغة واستحالة التواصل ومن ثم إلى انسحاب العقل واستحالة إقامة العدل. وكان الهدف من السؤال أن أُبيِّن له أن النظم الفلسفية المادية يمكن أن تؤدي إلى أي شيء، وأن إيمانه بالإنسان، النابع من إيمانه بمعجزة اللغة، هو إيمان نابع من شيء كامن في الإنسان، ولكنه مُتجاوز للنظام الطبيعي (أي نابع من ثنائية مبدئية). فكان رده هذه المرة جافاً وصارماً إذ قال: إن ما بعد الحداثة نتاج ثرثرة المثقفين الفرنسيين الذين يجلسون على المقاهي يضيِّعون وقتهم فيما لا يفيد! 
وأخيراً، أثرت مع تشومسكي قضية الدين والأدب والفن، وأنه رغم حديثه المستمر عن الإبداع لا يعالج إلا السياسة (وبشكل مباشر) في كتاباته السياسية، أما كتاباته اللغوية فهي لا تتعرض أبداً لأية نصوص أدبية، والنص الأدبي نص لغوي مكثف يبيِّن معجزة اللغة عن حق. فقال إنه قد سمع هذا النقد من قبل ولعل انشغاله بالسياسة هو السبب (وهو تفسير غير كاف في تصوري). أما فيما يتصل بالدين فقد قال إنه لم يمكنه قط أن يتعامل مع فكرة الإله أو ما وراء الطبيعة ولا يمكنه أن يفهمها، وأن مناقشة مثل هذه الأمور أمر لا طائل من ورائه. وأعتقد أن إهماله الدين والأدب والفن نابع من حتميته البيولوجية الواحدية، ولذا فهو يؤثر الابتعاد عن الحقول المعرفية التي يمكن أن تثير له أسئلة تقع خارج نطاق نموذجه المعرفي. 
ويمكن أن نعرض الآن لآراء تشومسكي في بعض القضايا السياسية المعاصرة. أهم إسهامات تشومسكي هو تسليطه الضوء على دور الولايات المتحدة في إدارة العالم الحديث وإفساده والهيمنة عليه، وهو دور مرتبط تمام الارتباط ببنية الولايات المتحدة السياسية. فهو يذهب إلى أن الولايات المتحدة هي الدولة التي يصل فيها نظام ما بعد كولومبوس (المبني على النهب والقرصنة) إلى الذروة، وتتبلور حقيقة هذا النظام مع ظهور المركَّب الصناعي العسـكري. ولهذا النظــام ضحاياه داخل الولايات المتحدة وخارجها. 
أما في الداخل، فإن مؤسساته تتجه نحو المزيد من السيطرة والهيمنة والمركزية حتى نجح النظام السياسي في الولايات المتحدة في أن يخلق جواً غير سياسي (يلائم الإنسان المرن ذا البُعد الواحد المفرغ من الداخل). فعلى سبيل المثال، اختفى الوعي الطبقي تماماً حيث لا يُوفِّر مكتب الإحصاءات الاتحادي البيانات عن الطبقات الاجتماعية. والصحافة بدورها تعطي انطباعاً بأن معظم أعضاء الشعب الأمريكي ينتمون إلى الطبقة الوسطى. هذا على عكس الطبقة الرأسمالية التي تتسم بوعي طبقي حاد وتخوض حرباً طبقية صريحـة. ولكن الإشـارة إلى هـذا الأمر تقتصر على الصحافة الاقتصادية. 
ويبيِّن تشومسكي أن الفرد في المجتمع الأمريكي يتمتع بقدر عال من الحرية لا مثيل له في العالم. ولكن الشرائح الاجتماعية الرأسمالية قد سيطرت على ذهن الجمهور من خلال الإعلام الذي يتمتع بميزانيات ضخمة ليس لها نظير في العالم. وقد تم استيعاب المثقفين تماماً داخل هذا النظام. ويتميَّز النظام الأمريكي، إلى جانب كل هذا، بغياب مؤسسات الرفاه الاجتماعي ووهن المنظمات النقابية. ونظام ما بعد كولومبوس (في حالة الولايات المتحدة) لا يبقى داخل حدوده وإنما يمتد ليشمل العالم بأسره. 
وعدو الولايات المتحدة الأساسي هو النظم القومية الراديكالية التي تستجيب للجماهير المطالبة بتحسين مستوى المعيشة وتنويع الاقتصاد وما يُسمَّى «الوطنية الاقتصادية» (أي العمل على تنمية البلاد ضمن إطار من الاستقلالية)، فهذا يتناقض مع مصالح الولايات المتحدة ورغبتها في الحصول على المواد الخـام وفي توسـيع نطـاق اقتصاديات السـوق الحرة. والمفترض في العالم الثالث أن تكون مصدراً للمواد الخام ومنطقة تصريف وخدمات وحسب. وللتغلب على مثل هذه الحكومات، تلجأ الولايات المتحـدة لعـدد من الإستراتيجيات، فوكالة الاستخبارات الأمريكية، على سبيل المثال، قامت ضمن النشاط التخريبي للولايات المتحدة بترويج المخدرات، إذ قامت هذه الوكالة بإعادة تأسيس نشاط مافيا الهيروين في فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية حتى يتم تقويض الحركة العمالية والنقابية وحركة مقاومة الفاشية. والشيء نفسه حدث في أفغانستان إذ قامت المخابرات الأمريكية بتمويل حكمتيار من خلال المخدرات (يُقال إن محصول الأفيون في أفغانستان الآن أكبر محصول شهده العالم). 
ويشير تشومسكي كذلك إلى الانقلابات العسكرية المباشرة كما حدث في حكومة مصدق التي كانت حكومة قومية صرفة ذات أهداف قومية محددة. وهناك، كذلك، التدخل العسكري المباشر كما حدث في فيتنام وفي أرجاء العالم المختلفة. 
ولكن الولايات المتحدة بدأت تتخلى عن أشكال المواجهة المباشرة وتلجأ إلى الهيمنة من خلال آليات جديدة من أهمها عمليات ما يُسمَّى «التكامل الاقتصادي»، وهو تكامل يتم في واقع الأمر بين المصالح الأمريكية وبعض النخب الحاكمة، وبالتالي فهي تؤدي إلى مزيد من إفقار الجماهير وتؤدي إلى الهيمنة الأمريكية كما يحدث في أمريكا اللاتينية. وفي هذا الإطار،يمكن فهم السوق الشرق أوسطية،فهي أساساً محاولة لإنشاء حلف بين عملاء الولايات المتحدة (إسرائيل ـ تركيا ـ مصرـ بلاد الخليج) على حساب المنطقة ككل (وهذا ما فشلت الولايات المتحدة في تحقيقه قبل حرب الخليج). وهدف السوق الشرق أوسطية الأخير هو إلغاء القضية الفلسطينية تماماً. 
ويرى تشومسكي أن الولايات المتحدة، في الوقت الحاضر، تعتبر الشرق الأوسط منطقة نفوذ أمريكية، حكر عليها، ومحظوراً على الدول الأخرى، بما في ذلك حلفاء الولايات المتحدة، التدخل فيها. وهي لا تحتاج لبترول العرب كمصدر طاقة وإنما كمصدر قوة للضغط على اليابان وأوربا، وهذ سر عداء الولايات المتحدة للحركات الإسلامية، فهذه الحركات قد أصبحت أصدق تعبير عن الحركة الوطنية المستقلة والوطنية (الاقتصادية) في العالم الثالث، وهي لا تزال تتصدى للولايات المتحدة وعملائها. وقد أشار تشومسكي في أحد تصريحاته أنه قابل مجموعة من المفكرين الإسلاميين أثناء زيارته للقاهرة حيث ذكَّره هؤلاء بأعضاء النخب المستقلة في العالم الثالث الذين يؤمنون بنماذج التنمية المحلية المستقلة.
وقد وجَّه البعض النقد لتشومسكي باعتبار أنه حتمي يتجاهل عديداً من التغيرات، وبخاصة في العالم الثالث، وأنه أطلق من التنبؤات ما ثبت عدم دقته. ولكن تشومسكي، رغم أنه يبيِّن شراسة الولايات المتحدة وقوتها، لا يرى أن القضية منتهية. فثمة أمل يتبدَّى في التقلص المستمر لقوة الولايات المتحدة، فقد أصبحت مقيدة بالسوق العالمية، كما أن ثمة 14 تريليون دولار من الأموال غير خاضعة للسلطات الحكومية في العالم اليوم، وهذا يجعل دفاع الدول الأوربية والولايات المتحدة عن عملاتها عقيماً. كما أن الولايات المتحدة لم تتمكن من تحقيق المكاسب في كثير من المناطق (في الشرق الأوسط وغيره) وهذا دليل آخر على أن قدرتها محدودة. 
ويُلاحظ تشومسكي كذلك أن هناك من المؤشرات ما يدل على أن النظـام الأمريكي لم ينـجح تماماً في إحكام قبضـته على الشـعب الأمريكي، وعلى أن هناك تزايداً للسخط في صفوف الجماهير غير المُسيَّسة المُدجنَّة عن طريق وسائل الإعلام. ففي استطلاعات الرأي العام عادةً ما يذهب 50% إلى أن الحكومة يديرها رجال الأعمال لصالحهم وليس لصالح الشعب، كما يُلاحَظ أن 50% من الشعب الأمريكي لا يذهبون للانتخابات، وهو ما يعني أن الانسحاب هنا هو احتجاج على ما اكتشفه الناخبون. 
ويرى تشومسكي أن ثمة انفصاماً شبه كامل بين الجماهير الأمريكية والحكومة الأمريكية منذ بداية الثمانينيات، كما أن كل استطلاعات الرأي تثبت هذه الفكرة حيث تعارض الجماهير المغامرات العسكرية والإنفاق على التسلح وتطالب بمزيد من الإنفاق الاجتماعي. وهو يرى أن الرأي العام يجبر الحكومة على اتخاذ خطواتها في السر أو بمعزل عن الرأي العام. ورغم سقوط الاتحاد السوفيتي، إلا أن الولايات المتحدة كثيراً ما تتردد في التدخل في مختلف أرجاء العالم لتعاظم المعارضة الداخلية في الولايات المتحدة. 
وتشومسكي يؤمن بعقيدة التقدم: فإطار الحرية والعدالة يتسع دائماً، وهذه صفة نماذجية عامة تنطبق على عموم الحقب التاريخية. فالاتجاه العام هو نحو التقدم (وإن كان الأمر لا يخلو من بعض الانتكاسات!). ويضرب تشومسكي أمثلة على انتصار التقدم (والعدالة والحرية)، فالاسترقاق لم يعد مقبولاً والتجارب المعملية على البشر أصبحت تُعتبَر أمراً وحشياً (بعد أن كانت أمراً مقبولاً) وبدأت النساء يحصلن على مزيد من حقوقهن. 
وفيما يتصل بالقضية الفلسطينية، فمن المُلاحَظ أن تشومسكي ليست له آراء معلنة في اليهودية واليهود، ولكن موقفه من الصهيونية يتسم بنوع من الازدواجية واللاتاريخية. فهو يرى أن الصهيونية حركة قومية ذات وجه إنساني لكن لها وجهاً آخر، فهي أيديولوجيا يتنازعها عنصران: أحدهما إيجابي والآخر سلبي. أما الجانب الإيجابي فهو مؤسسة الكيبوتس وهي الجانب الاشتراكي العالمي. وقد طوَّر المُستوطَن الصهيوني (يشير له تشومسكي بالمُصطلَح العبري «يشوف» وهو أمر له دلالته وينم عن النزعة اللاتاريخية) أكثر المؤسسات الاشتراكية نقاءً في العالم. وتُعدُّ نموذجاً مصغراً (مايكروكوزم) للبقاء الإنساني الذي يستحق الاحترام. 
ولكن الصهيونية لها أيضاً جانبها السلبي، وهو الجانب القومي الاستبعادي الرجعي الذي يُنكر وحدة البشر، ويؤكد بدلاً من ذلك وحدة الأمة وضرورة فصل اليهود عن بقية العالم بدلاً من دمجهم. وفي هذا الإطار يرى تشومسكي أن ثمة حقاً صهيونياً وأن الصراع العربي الإسرائيلي هو صراع حق في مواجهة حق آخر، وأن إسرائيل (في حدود ما قبل 1967) تُجسِّد الحق المشروع لليهود الإسرائيليين في تقرير المصير. ولذا، فإن قيام الدولة الصهيونية الاستيطانية وحروبها عام 1948 هي "حرب استقلال"، وهو يصف سياسات الدولة الصهيونية بأنها عنصرية شديدة التعصب، إلا أنه عارض قرار الأمم المتحدة بإدانة الصهيونية كشكل من أشكال العنصرية. 
ويمكن القول بأن تشومسكي لا يعارض المثال الصهيوني (الإمكانية الكامنة) وإنما الأداء الصهيوني وحسب، وهي رؤية أقل ما توصف به أنها ساذجة لأن الإمكانية المثالية لابد أن تتحقق بشكل جزئي. والأداء الصهيوني عبر تاريخه الطويل (منذ عام 1882) عنصري استبعادي إحلالي بشكل واضح، ونقطة البدء الصهيونية ذاتها (أي الاستيطان وإعلان الدولة) مبنية على اغتصاب الآخر.. أفلا يدل هذا على أن طبيعة الصهيونية هوبزية داروينية نيتشوية وأن الصهيونية لا يمكنها أن تحقق البقاء إلا بطريقة غير جديرة بالاحترام؟ أو لا يدل هذا على أن المثل الصهيوني الكامن قد يكون في واقع الأمر أكثر عنصرية وشراسة من الأداء الصهيوني؟ 
مهما يكن الأمر، فإن موقف تشومسكي من إسرائيل يتسم بالرؤية النقدية الصارمة، فهو يقبل حق تقرير المصير للفلسطينيين في الضفة والقطاع ويبذل جهداً غير عادي في كشف السياسات العدوانية والتوسعية والعنصرية من جانب إسرائيل وعمالتها للولايات المتحدة. وقد وقف تشومسكي ضد اتفاق أسلو ووصفه بأنه استمرار طبيعي لمشروع آلون (وهو مشروع يوافق عليه كلا الحزبين الأساسيين في إسرائيل ويدور في إطار عدم الإقرار بالحقوق الوطنية للفلسطينيين وألا تُرغَم إسرائيل على الانسحاب إلى حدود 1967، كما أنه يعطي إسرائيل الفرصة في الوقت نفسه كي لا تدير بنفسها المناطق ذات الكثافة السكانية الفلسطينية). وكان المطروح في الماضي أن تقوم السلطة الأردنية بذلك، والتعديل الوحيد هو إحلال السلطة الفلسطينية محل السلطة الأردنية. وكل هذا يعني في واقع الأمر تقليل الاحتكاك بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال دون الإخلال بالأساس القمعي الإسرائيلي. 
ولتشومسكي مؤلفات عديدة تغطي علم اللغة وعلم السياسة ومن أهم كتاباته اللغوية: علم اللغة الديكارتي (1966)، و موضوعات في نظرية النحو التوليدي (1966)، و اللغة والعقل (1968)، و دراسات سيمانطيقية دلالية في النحو التوليدي (1972)، و مقالات عن الشكل والتفسير (1977)، و اللغة والمسئولية (1979)، و القواعد والتمثيلات (1980)، و اللغة ومشاكل المعرفة (1987)، و اللغة والسياسة (1989). 
أما دراساته السياسية فيمكن تقسيمها إلى قسمين: القسم الأول يُعنَى بشئون الشرق الأوسط، من بينها: السلام في الشرق الأوسط (1974)، و الثالوث الخطر: أمريكا وإسرائيل والفلسطينيون (1983)، و قراصنة وأباطرة (1986)، و ثقافة الإرهاب (1988)، و أوهام ضرورية (1989)، و الديموقراطية المعوقة (1991). أما القسم الثاني من دراساته فيعبِّر عن موقف نقدي جذري للولايات المتحدة، ومن أهمها: القوة الأمريكية والســادة الجــدد (1965)، و إعـلان الحرب على آسـيا (1970)، و من أجل صالح الدولة (1973)، و حقوق الإنسان والسياسة الخارجية الأمريكية (1978)، و الاقتصاد السياسي لحقوق الإنسان (1979)، و نحو حرب باردة جديدة (1982). 
ومما يجدر ذكره أن تشومسكي، رغم أصوله اليهودية الإثنية الواضحة، إلا أنه نادراً ما يُذكَر في الموسوعات والمراجع الصهيونية باعتباره فيلسوفاً أو عالماً لغوياً يهودياً. وتشير له بعض المراجع الصهيونية باعتباره يهودياً كارهاً لنفسه. ولعل هذا يعود لمواقفه المعادية للصهيونية وإسرائيل. وهذا يثير تساؤلاً: هل اتخاذ مفكر يهودي موقفاً معادياً من الصهيونية (أو بعض جوانبها) أو إسرائيل يُسقط يهوديته؟


الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
الباب الثانى عشر: الفلاسفة من أعضاء الجـماعات اليهودية
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الباب الحادى عشر: المفكرون من أعضاء الجـماعات اليهودية
» الباب العاشر: لهجات أعضاء الجـماعات اليهودية ولغاتهم
» الباب الثانى: موقف الجـماعات اليهودية من الصهيونية
» الباب الثالث عشر: علماء الاجتماع من أعضاء الجماعات اليهودية
» الباب الرابع عشر: علماء النفس من أعضاء الجماعات اليهودية

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الـثـقــافـــــــــة والإعـــــــــلام :: مـوسـوعة الـيـهـــود-
انتقل الى: