الباب السابع: الأدب اليهودي والصهيوني
الأدب اليهودى
Jewish Literature
«الأدب اليهودي» عبارة تُستخدَم لتصنيف بعض الأعمال الأدبية، إما من منظور مضمونها أو من منظور الانتماء الإثني أو الديني (الحقيقي أو الوهمي) لكاتبها إذ تُصنَّف الأعمال الأدبية التي تتناول موضوعاً يهودياً أو مُستمَّداً من حياة أعضاء الجماعات اليهودية (بغض النظر عن لغة العمل أو التقاليد الفكرية أو الحضارية التي يدور في إطارها) باعتبارها «أدباً يهودياً». ويمكن تصنيف الأعمال الأدبية من منظور انتماء كاتبها، فإن كان يهودياً صُنِّف ما كتبه على أنه «أدب يهودي». وهذا التعريف الأخير يستبعد الأدباء غير اليهود الذين تناولوا موضوعات يهودية في أدبهم.
والمقدرة التفسيرية والتصنيفية لهذا المصطلح محدودة للغاية لعدة أسباب:
1 ـ إن أخذنا بالتصنيف الذي يستند إلى مضمون العمل الأدبي، فنحن بذلك نكون قد تجاهلنا لغة الأدب والتقاليد الحضارية والأدبية والشكلية التي يَصدُر عنها وصرنا نختزله تماماً في بُعْد واحد. فالأعمال الأدبية التي كتبها أدباء مثل برنارد مالامود وسول بيلو وفيليب روث هي أدب يهودي (بالمعنى الإثني لا بالمعنى الديني، فهم لا يؤمنون باليهودية) إذ يتناولون فيها موضوعات وشخصيات يهودية في أدبهم. ولا شك في أن تصنيفنا لأدبهم على هذا النحو سيحد من توقعاتنا، وسييسر علينا فهم أعمالهم الأدبية اليهودية وتفسيرها. ولكن هذا التصنيف رغم فائدته قاصر عن أن يحيط بأدبهم بكل تركيبيته، فهو أدب مكتوب بالإنجليزية وينتمي إلى التقاليد الأدبية الأمريكية. والموضوعات والشخصيات التي يتناولونها ليست يهودية بشكل عام ومجرد، وإنما هي أمريكية يهودية تحددت هويتها داخل التشكيل الحضاري الأمريكي، بل إن البُعْد الأمريكي في نهاية الأمر أكثر أهمية من البُعد الإثني اليهودي.
2 ـ يربط مصطلح «الأدب اليهودي» بين أعمال أدبية كُتبت داخل تقاليد أدبية مختلفة باعتبار أنها جميعاً «أدب يهودي»، وكأن ثمة موضوعات متواترة وأنماطاً متكررة تبرر تصنيف هذه الأعمال الأدبية داخل إطار واحد. فقصيدة كتبها شاعر روسي يهودي عن اليهود باللغة الروسية، ورواية كتبها مؤلف فرنسي يهودي عن اليهود باللغـة الفرنسية، وقصة قصيرة كتبها كاتب أمريكي يهودي عن اليهـود باللغـة الإنجليزية، ومقال أدبي كتبه أديب من ليتوانيا باليديشية، ودراسة نقدية كتبها أديب إسرائيلي بالعبرية، تُصنَّف كلها باعتبارها «أدب يهودي». أي أنه مصطلح يفترض وجود أطر ثقافية وفكرية يهودية عالميـة. ومثل هذا الافتراض لا يسانده الكثير في واقع أعضاء الجماعات اليهودية، وهو يؤكد الوحدة والتجانس والعمومية على حساب التنوع وعدم التجانس والخصوصية، وفيه تأكيد للمضمون اليهودي للعمل الأدبي على حساب أبعاده الفكرية والشكلية الأخرى، أي أنه مصطلح يُفقد الأدب ما يُميِّزه كأدب. ويمكن أن يُقال إن هناك موضوعات مثل الإحساس بالغربة أو انتظار الماشيَّح تربط بين هذه الآداب. ولكن سيُلاحَظ أن هذه الموضوعات من العمومية بحيث نجد أن ما يربط بينها هنا ليست يهودية المؤلف، وإنما أحاسيسه الإنسانية، أي أن المرجعية النهائية هي إنسانيتنا المشتركة، أو البُعْد الإنساني في تجربة عضو الأقلية في مجتمع الأغلبية، بكل ما يحيق بهذه التجربة من مخاطر.
3 ـ إن أخذنا بالتصنيف الذي يستند إلى خلفية الكاتب اليهودية، نكون قد أخذنا بأساس تصنيفي ليس له مقدرة تفسيرية عالية. فكثير من الأعمال الأدبية التي يكتبها مؤلفون يهود (مثل الناقد الأمريكي ليونيل تريلنج) ليس لها مضمون يهودي.
ونحن نرى ضرورة عدم استخدام هذا المصطلح بسبب قصوره عن الإحاطة بشكل ومضمون الأعمال الأدبية التي كتبها مؤلفون يهود عن موضوعات يهودية، فالبُعْد اليهودي ليس هو المحدِّد الأساسي للعمل الأدبي، كما أنه لا يوجد بُعْد يهودي عالمي واحد. وبطبيعة الحال، يثير مصطلح «أدب يهودي» مشكلة بشأن أديب مثل هايني الذي تمرَّد على يهوديته ليدخل الحضارة الغربية، فتنصَّر. ولكنه بعد تنصره بدأ يحن ليهوديته! أو أديب مثل نيثان وينشتاين الذي رفض انتماءه اليهودي تماماً وغيَّر اسمه إلى «ناثانيل وست» وكَتَب أدباً عدمياً يهاجم فيه المسيحية واليهودية ومختلف العقائد الدينية.
ونحن في هذه الموسوعة نرفض التعميمات التصنيفية الكاسحة مثل «أديب يهودي» ونُصنِّف كل أديب حسب الأبعاد الحقيقية لأعماله الأدبية، ولهذا نستخدم مصطلحات مثل « الأدباء من أعضاء الجماعات اليهودية»، و«الأدب الصهيوني»، و«الآداب المكتوبة بالعبرية»، و«الأدب اليديشي». ولتصنيف أي كاتب من أعضاء الجماعات اليهودية لابد من استخدام مصطلح مُركَّب. فمثل هذا الأديب لا يعيش خارج التاريخ، حتى ولو توهَّم هو نفسه ذلك، بل يعيش داخل حضارة معينة ويكتب أدباً بلغة معيَّنة. لكل هذا، يُستحسَن وصف تشرنحوفسكي، على سبيل المثال، بأنه شاعر روسي يهودي يكتب بالعبرية. ورغم أنه يَصدُر عن التقاليد الأدبية الروسية والغربية، فهو صهيوني النزعة في معظم قصائده، ولذا فهو يكتب أدباً يمكن أن يُسمَّى «أدباً صهيونياً». أما سول بيلو فهو كاتب أمريكي يهودي يكتب أدباً ذا طابع أمريكي باللغة الإنجليزيـة، ويتعرض أحياناً للموضوعات اليهـودية وأحيـاناً أخرى يهملها، وأعماله الأدبية لا تنم عن نزعة صهيونية، وإن كانت إحدى أعماله الصحفية تعبِّر عن هذه النزعة. وبهذا نكون قد وصفنا الانتماء الحقيقي للأديب قومياً وحضارياً وأدبياً (وهذا هو الإطار العام)، ثم ذكرنا الأداة اللغوية والتقاليد الأدبية التي يدور في إطارها (أي انتقلنا إلى الخاص وحددنا الأداة التي يستخدمها)، ثم ذكرنا موقفه السياسي بعد انتمائه الحضاري واللغوي.
الأدب الصهـــيوني
Zionist Literature
«الأدب الصهيوني» عبارة يمكن استخدامها للإشارة لبعض الأعمال الأدبية ذات المضمون الصهيوني الواضح، بغض النظر عن الانتماء القومي أو الديني أو الحضاري أو اللغوي للمؤلف. فرواية دانيال دروندا، التي ألَّفتها الكاتبة المسيحية جورج إليوت بالإنجليزية، تنتمي إلى هذا الأدب الصهيوني، بينما نجد أن بعض الروايات التي كتبها يهود عن الحياة اليهودية لا تنتمي إلى الصهيونية من قريب أو بعيـد، بل إن بعضـها يتبنى رؤية معادية للصهيـونية بـل ولليهودية. وما يُسمَّى «الأدب الصهيوني» هو عادةً أدب من الدرجة الثالثة (أو كما نقول «أدب صحفي»، أي أنه كُتب ليُنشَر في الصحافة كما أنه ذو توجُّه دعائي واضح. ومن أهم أعمال الأدب الصهيوني رواية الخروج للكاتب الأمريكي اليهودي ليون أوريس وأعمال الكاتب الأمريكي اليهودي مائير لفين). والأعمال الأدبية المكتوبة بالعبرية أو اليديشية أو التي كتبها أدباء يهود في مختلف أرجاء العالم نجد أن منها ما هو صهيوني - وهو القليل - ومنها ما هو معاد للصهيونية، وغالبيتها غير مكترثة بها. ولا يصف مصطلح «الأدب الصهيوني» شكل الأدب ولا محتواه ولا حتى لغته، وإنما يصف اتجاهه العقائدي العام، تماماً مثل عبارة «الأدب الرأسمالي» أو «الأدب الاشتراكي». ولذلك، فهو مصطلح عام ومجرد مقدرته التفسيرية والتصنيفية ضعيفة للغاية ولا يُعَدُّ تصنيفاً أدبياً، شأنه في هذا شأن مصطلح «الأدب اليهودي».
الأدبـــاء مـن أعضــاء الجماعــات اليهوديـة
Men of Letters from Jewish Communities
«الأدباء من أعضاء الجماعات اليهودية» مصطلح نستخدمه بدلاً من مصطلحات مثل «الأدب اليهودي» أو حتى «الأدباء اليهود» (انظر: «الأدب اليهودي» ـ «الأدب الصهيوني»). وقد أشرنا في المداخل الخاصة بهؤلاء الأدباء إشكالية البُعْد اليهودي في أدبهم، فبعضهم تنصَّر والبعض الآخر وُلد مسيحياً وبعضهم هاجم اليهودية بعنف والبعض الآخر لم يكترث بها، وهناك من تناول يهوديته باعتبارها موضوعاً إنسانياً (وحسب)، أما خصوصيته اليهودية فهي مسألة عرضية تشكل جزءاً من الكل الإنساني. وكل أديب من هؤلاء ينتمي إلى التشكيل الحضاري الذي يعيش في كنفه بشكل شبه كامل، ومن ثم أمكنه أن يبدع من خلاله.
هاينريش هـايني (1797-1856)
Heinrich Heine
واحد من أشهر شعراء ألمانيا الرومانسيين، وُلد لأب يهودي ثري يعمل بالتجارة. تلقَّى هايني تعليماً بروتستانتياً ثم التحق بمدرسة ابتدائية يهودية ثم بمدرسة ثانوية كاثوليكية. كما أن المدينة التي وُلد فيها (دوسلدورف) تغيَّر انتماؤها بحيث أن هايني غير جنسيته ست مرات دون أن يغيِّر مكان إقامته. وربما ساهم هذا في إضعاف هويته وتقـوية عـدم انتمائه إلى وطـنه ألمانيا وحماسـه لفرنسا وللثقافة الفرنسية. كان هايني ينوي الالتحاق بخدمة نابليون ولكن هزيمة الجنرال الفرنسي قضت على هذه الآمال، فاشتغل بعض الوقت في أمور المال والتجارة ولكن لم يحالفه النجاح. ثم درس القانون وتأثر بفلسفة هيجل. وقد تنصَّر، وهو أمر كان شائعاً بين يهود ألمانيا، وعلى وجه الخصوص بين دارسي القانون، إذ أن الوظائف في السلك القانوني كانت مقصورة على المسيحيين. ولكن لم تكن الاعتبارات العملية وحدها هي السبب في تنصُّره، فكما أشرنا لم يكن هناك انتماء محدَّد لهايني. ويمكن القول بأن هايني أدرك تماماً أن الحلولية (الكمونية) هي المدخل الحقيقي لفهم الفلسفة الغربية. فالحلولية بالنسبة له هي تقديس (تأليه) الطبيعة وهي أيضاً تأليه الإنسان وهو تَناقُض أساسي: إذ كيف يمكن لإله أن يُقدِّس الأشياء المتألهة، وأيهما يسبق الآخر: الإنسان المتأله، أم الطبيعة المتألهة؟
ويرى هايني أن إسبينوزا هو نبي الحلولية، وأن الفلسفة الألمانية المثالية هي الوريث الحقيقي لهذه الحلولية، ولذا فهي فلسفة «هدَّامة» ولكن ديباجاتها أكاديمية ضبابية تُخبِّئ معناها الإلحادي العميق، بل وأحياناً تظهرها بمظهر إيماني. وقد قام كانط - حسب تصوُّر هايني ـ باستكمال ما بدأه إسبينوزا فأسقط فكرة الألوهية في ألمانيا (تماماً كما أسقط الثوار النظام القديم في فرنسا). بل إن كانط في تصوُّر هايني أكثر إرهابية من روبسبير، فالثورة الفرنسية لم تقتل سوى ملك، أما كانط (وتلاميذه) فقتلوا إلهاً. ودفاع شلنج عن فلسفة الطبيعة هو ذاته حلولية إسبينوزا. أما في حالة جوته فإن القشرة الرياضية الصلبة التي تحيط بفلسفة إسبينوزا قد سقطت، وظهرت روح إسبينوزا الحقيقية ترفرف في شعره في فاوست وآلام فرتر.
وهيجل هو أيضاً وريث إسبينوزا. وإذا كان إسبينوزا قد ساوى بين الطبيعة والتاريخ أو بين الطبيعة والإنسان وجعل للطبيعة تاريخاً دون أن يجعل منه روحاً، فإن هيجل أعلى من شأن التاريخ وجعل منه روحاً. ويقف هايني مع إسبينوزا في إلغاء أية ثنائية وفي الإصرار على المساواة الكاملة بين الطبيعة والتاريخ وبين المادة والروح. هذه الحلولية تعبِّر عن نفسها في شعر هايني العميق، فهو شاعر نيتشوي (قبل ظهور نيتشه) يحتفي بالحياة، حياة تخبئ نفسَها بنفسها. وكما يقول في إحدى قصـائده « الحيـاة الحمراء تنبـض في عروقـي، وتحت قدمي تذعن الدنيا، وفي توهُّج الحب أعانق الأشجار والتماثيل، وتعيش هي في عناقي ». وهذا عالم عضوي يشير إلى ذاته؛ مات فيه الإله، ولذا فالإنسان هو سيد نفسه، خالق قيمه وعالمه.
وفي قصيدة « ألمانيا: قصة شتاء » يصل هايني إلى ألمانيا ليسمع فتاة صغيرة (رمز ألمانيا):
كانت تغني عن الحب وأحزان المحبين
عن التضحية، حتى نلتقي
في يوم آخر في عالم أفضل
لا يعرف الألم أو الأحزان.
غنت في وادي الدموع الدنيوي هذا
عن الحب الذي لا يُمسك به إنسان
عن العالم الآخر العظيم حيث تعيش الأرواح في غبطة
وقد تحوَّلت إلى نشوة أزلية.
ويدرك هايني أن هذا إن هو إلا الأفيون الديني الذي يُعطَى للجماهير (هذا العملاق الأحمق)، فيغني للفتاة أغنية أخرى:
أغنية جديدة، أغنية أفضل
يجب أن نلدها الآن يا رفاقي،
ولنبدأ على التو في بناء
مملكة السماء على الأرض،
فالتربة تعطينا خبزاً يكفي
لإطعام بني الإنسان كلهم،
وتعطيهم الزهرة والآس، والجمال والفرح،
كما تعطيهم البازلاء الخضراء.
ثم يضيف قائلاً:
بوسعنا أن نترك السماء بلا تردُّد للملائكة والطيور.
والنزعة الحلولية المشيحانية واضحة في هذه الأبيات. فالأرض هي مصدر كل القيم المادية والمعنوية، وثمة نزوع نحو الفردوس الأرضي ونهاية التاريخ. وتتضح نفس الحلولية في أفكار هايني السياسية. فقد كان ثورياً وارتبط اسمه بعض الوقت بالسان سيمونية (التي أسماها «المسيحية الجديدة»). ورحَّب بثورة 1830 في فرنسا (واستقر في باريس). ومن هنا عداوته للمسيحيين، بل لكل الأديان بما في ذلك اليهودية، فقد كان يكرهها بعمق. وقد كتب مرة يقول إنه يوجد أمراض ثلاثة شريرة: الفقر والألم واليهودية. بل كان يعتبر اليهودية قوة معادية للإنسانية، فهي « مصيبة وليست ديناً»، على حـد قوله. ورغـم احتقـاره لليهودية الحاخامية، أي الأرثوذكسية، فإنه كان يحتقر أيضاً اليهودية الإصلاحية التي ستقضي على اليهود.
وفي عام 1847 أصيب هايني بمرض في عموده الفقري بسبب أحد الأمراض السرية، وهو ما أقعده في الفراش. وهكذا أصبح شاعر المادة يعيش في « مقبرة المادة » على حد قوله. ولا ندري هل هذا هو الذي أدَّى به إلى إعادة النظر في حلوليته الإلحادية؟ إذ بدأ يُعبِّر عن مخاوفه من أن الشعب قد يتحوَّل إلى غوغاء يعبد المادة. وواكبت ذلك مراجعة لموقفه من كانط، إذ اكتشف أن كانط تَرك مسألة الإله دون اتخاذ قرار، أي أنه لم يَعُد كانط الملحد الذي بشَّر به هايني من قبل. وعبَّر هايني عن احتقاره لفلسفة هيجل التي أشار إليها بأنها " جدلية برلين العنكبوتية " التي لا يمكنها أن تقتل قطاً أو إلهاً. أما البروتستانتية التي كان يراها في الماضي بداية الإلحاد فقد أصبحت حينئذ بداية الإيمان، وأعلن تراجُعه عن عملية التسوية الحلولية بين الإنسان والطبيعة، وبدأ يحن إلى اليهودية كجزء من حنينه الديني العام. كما كان يوقع خطاباته برسم نجمة داود السداسية. وقد ازداد صيت هايني ذيوعاً بعد موته، ولحَّن شوبرت وشوبان وبرامز قصائده. والحديث عن البُعْد اليهودي في شعر هايني سيكون حديثاً عن أمور هامشية ليس لها مقدرة تفسيرية. إذ أن القضية الكبرى في حياته هي نفسها القضية الكبرى التي شغلت المفكرين في عصره وهي قضية الحلولية. ولذا فمحاولة فهم رؤية هايني وأشعاره في إطار يهودي لن تفيد كثيراً، فمثل هذا الإطار قد يُفسِّر لنا تطرفه الحلولي المشيحاني وعلمانيته الشرسـة في المرحلـة الأولى، ولكنه لن يُفسِّر لنا جوهر الإشكالية، ولذا سيكون الإطار الألماني الغربي هو الأجدى والأكثر تفسيرية.
إمــــا لازاروس (1849-1887)
Emma Lazarus
شاعرة أمريكية يهودية، وُلدت في نيويورك لأبوين ثريين من يهود السفارد المندمجين. ولم تكن لازاروس ذات موهبة أدبية كبيرة. وهي تتناول في أعمالها موضوعات يهودية. قامت لازاروس بترجمة بعض قصائد ابن جبرول ويهودا هاليفي إلى الإنجليزية (عن الألمانية لأنها لم تكن تعرف العبرية(. وفي عام 1883، كتبت لازاروس قصيدة «التمثال الضخم الجديد» من أجل جمع التبرعات لإقامة قاعدة لتمثال الحرية، وألهبت بقصيدتها هذه حماس الكثيرين. وحُفرت القصيدة على لوحة برونزية ووُضعت على مدخل التمثال عام 1903. والقصيدة من طراز السونت وتتحدث عن المثل الأعلى الأمريكي، ويتذكرها معظم الأمريكيين باعتبارها قصيدة وطنية أمريكية تُعبِّر عن رؤيتهم لأنفسهم. وبعد موتها، رفضت اختها أن تضم أعمالها الكاملة «أي شيء يهودي » (على حد قولها(.
مارسيل بروست (1871-1922)
Marcel Proust
روائي فرنسي، وُلد في باريس لأب كاثوليكي وأم يهودية، نشأ نشأة كاثوليكية ليبرالية وإن اختلط من خلال أمه بأعضاء الطبقة الوسطى من اليهود وغير اليهود. تخرَّج في إحدى مدارس الليسيه الفرنسية المرموقة كما درس في السوربون، وعاش حياة اجتماعية واسعة مختلطاً بالطبقة الراقية التي شكلت مادة خصبة لكتاباته الروائية. صدرت أول أعماله عام 1896 تحت عنوان الملذات والأيام. أما أهم أعماله على الإطلاق فهي رواية البحث عن الزمن المفقود التي صدرت في 15 جزءاً و7 مجلدات في الفترة ما بين عامي 1913 و1927، وهي تُعتبَر واحدة من أهم الأعمال الروائية المعاصرة. وهذه الرواية، وإن لم تكن سيرة ذاتية، إلا أنها تستمد كثيراً من شخصياتها وأحداثها من تجارب بروست وذكرياته الشخصية ويتخللها عدد من الأفكار المحورية التي تتكرر في أشكال مختلفة عبر جميع الأجزاء، مثل الإغراء الدائم للأرستقراطية الفرنسية، والشذوذ الجنسي (بروست نفسه كان شاذاً جنسياً)، وفكرة الحب التي اعتبرها بروست نوعاً من المرض أو الوهم، ثم موضوع الزمن الذي اعتبره بروست السيد النهائي للإنسان والكون. فالحياة في مجراها ليست إلا زمناً مفقوداً وأوهاماً زائلة، والذاكرة والفن هما السبيل الوحيد لاستعادة هذا الزمن المفقود وتحويل الأوهام إلى أشكال ملموسة من الجمال الأبدي. ويتميَّز أسلوب بروست الأدبي بانتمائه إلى التراث الأدبي الفرنسي الكلاسيكي، فقد تأثر بفلوبير وسان سيمون كما تأثر بالأدب الإنجليزي، وخصوصاً أدب ديكنز وجورج إليوت وراسكين، ويُقال أيضاً إنه تأثر بوردزورث ومفهوم الذاكرة عنده.
ورغم أن بروست كان كاثوليكي النشأة فرنسي الثقافة لا يرتبط عقائدياً أو وجدانياً باليهودية، فإن كثيراً من الأدبيات والمراجع اليهودية تُصنِّفه باعتباره يهودياً، بل حاول البعض التلميح بوجود مسحة من اليهودية التلمودية في أسلوبه الروائي الغريب الذي هو في الواقع أسلوب ينتمي إلى التراث الأدبي الفرنسي. بل ويشيرون إلى تأثره البالغ بقضية دريفوس والتي تناولها في بعض رواياته، وأنه كان أول من أقنع أناتول فرانس بالتدخل في هذه القضية. ومن ناحية أخرى، فإن تناول بروست للشخصية اليهودية في روايته البحث عن الزمن المفقود دفعت البعض لوصفه بمعاداة اليهود. فروايته تضم ثلاث شخصيات يهودية رئيسية، إحداها شخصية عدوانية متفردة تُجسِّد أسوأ الصفات الاجتماعية، أما الشخصية الثانية، فقد تناولها بروست بشكل أفضل وهي ليهودي مندمج يعيش في الأوساط الراقية ويكتشف هويته عقب حادثة دريفوس وينفصل عن حياة البرجوازية. وقد اعتبر البعض أن هذه الشخصية تجسيد لبروست نفسه. وتتميَّز شخصياته اليهودية بالتَكبُّر الشديد ولكنه تكبُّر يخفي وراءه شعوراً عميقاً بعدم الأمان، فاليهود في نظر بروست أقلية مضطهدة يتملكها جنون الإحساس بالاضطهاد والارتياب الشديد في الآخرين، وهم « جنس ملعون » أشبه بالشواذ جنسياً، على حد قوله. وهذا الربط بين اليهود واللبيدو أو الطاقة الجنسية أو الانحراف أو قوى الظلام هو موقف متجذِّر في الحضارة الغربية يعود إلى الرؤية المسيحية للكون، حيث يلعب اليهودي دور قاتل الرب وحيث لا يمكن خلاص العالم بدون تنصيره.
فرانــز كافكـا (1883-1924)
Franz Kafka
روائي ألماني يهودي، وُلد ونشأ في تشيكوسلوفاكيا لأسرة يهودية مندمجة. درس القانون وعمل في أحد مكاتب المحاماة، ثم في شركة تأمين تابعة للحكومة، ولذلك فإنه لم يكن يكتب إلا في أوقات فراغه. كان أبوه شخصية متسلطة تركت أثراً عميقاً فيه. وكان كافكا يعاني طيلة حياته من الصداع النصفي والأرق. وتم تشخيص مرضه في عام 1917 على أنه السل، فقضى بقية حياته في مصحة. وكان كافكا قد عهد بمخطوطاته لصديقه وكاتب سيرته ماكس برود، ولكنه أوصى وهو على فراش الموت بأن تُحرَق أعماله بعد وفاته، ولكن برود لم يُنفِّذ رغبته.
وكثيراً ما تُطرَح قضية يهودية كافكا: فهناك من يرى أنه كان يهودياً بل وصهيونياً حتى النخاع، وهناك من يذهب إلى أنه كان غير مكترث بيهوديته بل معادياً للصهيونية، ويورد كل فريق من الشواهد ما يدل على صدق رؤيته. كما أن هناك تناقُضاً عميقاً بين مذكراته من ناحية ورواياته من ناحية أخرى. ففي المذكرات اهتمام شديد بالموضوع اليهودي، على عكس رواياته التي يلتزم فيها الصمت حياله. وهناك، في المذكرات، إشارات إلى المدينة اليهودية القديمة والجيتو والمشروع الاستيطاني الصهيوني (بل قيل إن كافكا حضر أحد المؤتمرات الصهيونية). أما رواياته فلا تكاد تشير إلى الموضوع اليهودي، ففي رواية أمريكا (1927) توجد شخصيات من كل الجنسيات (ألمان ومجريون وأيرلنديون وفرنسيون وروس وسلاف وإيطاليون) ولا يوجد سوى يهودي واحد. ونعرف أنه يهودي من اسمه، إذ لا تحمل شخصيته أية سمات من تلك التي تُسمَّى «يهـودية». ومع هـذا، فإننا لا نعـدم من يُقدِّم قـراءة صهيونية لأعماله. ففي دراسة للكاتب العربي كاظم سعد الدين بعنوان «حل رموز كافكا الصهيونية»، يذهب الكاتب إلى أن رواية المحاكمة (1925) تسعى إلى كشف فساد دار الحاخامية، سليلة السنهدرين، أي المجمع الديني الأعلى. ورواية المسخ أو التحول (1927) إنما تشير إلى التاجر اليهودي المتجول. والقلعة (1926) هي حصن صهيون، وترمز وظيفة المسَّاح إلى الحياة الدنيا لليهود، كما تشير إلى ضرورة معرفة قوانينها وعاداتها وإيجاد نوع من العلاقة الجيدة بينها وبين القلعة التي ترمز إلى السلطة الدينية اليهودية العليا. ويرى كاظم سعد الدين أن كافكا أسقط رمز سور الصين على حدود الدولة المُرتقَبة، وأراد أن يقول إن سور الصين سيُشكِّل لأول مرة في تاريخ العالم أساساً راسخاً لبرج بابل جديد!! وأن بدو الشمال هم الشعب العربي، وأن أبواب الهند هي أبواب فلسطين، وسيف الملك هو سيف داود!
ويشير الكاتب أيضاً إلى أن كافكا عارض اندماج اليهود في الشعوب الأخرى ذاهباً إلى أن المدينة اليهودية القديمة غير الصحية، أي الجيتو، حقيقة أكثر رسوخاً بالنسبة إلى اليهود من الشوارع العريضة للمدينة المبنية حديثاً!! ويشير أيضاً إلى أن كافكا ذكر أن أرض كنعان هي أرض الأمل الوحيد.
وأوضحت الدكتورة بديعة أمين في كتابها هل ينبغي إحراق كافكا؟ أن هذين الاقتباسين الأخيرين قد نُزعا من سياقهما، إذ يتبع الاقتباس الأول الخاص بالجيتو عبارة « إننا لسنا سوى شبح زال، أما أرض كنعان فهي ليست بأرض على الإطلاق، وإنما حلم وحسب». ووصفت الدكتورة بديعة تفسيرات الأستاذ كاظم سعد الدين بأنه استنبطها من الكتب الدينية والتاريخية، ثم اعتبرها معادلات موضوعية مادية حسيَّة للرمز الكافكاوي استناداً إلى بعض العوامل الخارجة عن كتابات كافكا. ثم أضافت الدكتورة تحليلها لرؤية كافكا مبيِّنة استحالة أن يتبنى مثل هذا الكاتب رؤية صهيونية، فموضوعات أدبه هي الإحساس العميق بالغربة والعزلة الروحية حتى وسط الأهل والأصدقاء، والوعي بالذات وما يؤدي إليه هذا الوعي، وعلاقة الإنسان بالسلطة وبيروقراطيتها القاتلة، والانسحاب والانسلاخ الاجتماعيان، واختفاء الهدف والإحساس بالهزيمة. وقد عبَّر كافكا عن هذه الموضوعات بأسلوب غامض مغلق لا يسمح بتسرب قطرة ضوء. والواقع أن أدباً يتناول مثل هذه الموضوعات بمثل هذا الأسلوب لا يمكن أن يكون صهيونياً، لأن الأدب الصهيوني أداة أيديولوجية ووسيلة إلى هدف واضح بطريقة واضحة، ولذا فإن مثل هذا الأدب لابد أن يتسم بالوضوح والإيجابية. كما أن الأدب الصهيوني يهدف إلى الدفاع عما يُسمَّى حقوق الشعب اليهودي الذي يحمل خصائص عرْقية وإثنية خاصة ثابتة عبر الزمان والمكان، بل ويُركِّز على تقديس هذا الشعب. وغني عن القول أن رؤية كافكا للطبيعة البشرية مختلفة تماماً، فهي بالنسبة له طبيعة متقلِّبة كالغبار غير مستقرة ولا تحتمل أية قيود. كما أن اليهودي بالنسبة له شخصية هامشية تقف بين عوالم مختلفة ولا تنتمي إلى أي منها. أما كافكا ذاته، فهو يؤكد عدم انتمائه إلى أي عالم، وهو لا يخلع القداسة على أحد، يهودياً كان أو غير يهودي، فعالمه عالم حداثي تماماً، خال من أية مطلقات أو مرجعيات أو مقدَّسات. هذا فيما يتصل بموقف كافكا من الصهيونية. ولكن ماذا عن المضمون اليهودي في أدبه؟ إن مثل هذه المسألة يمكن أن تُحسَم إن قبلنا التحليل السياسـي والمباشـر للمضمـون ثم أضفنا إليه مستويات أكثر عمقاً، ولعلنا لو قبلنا صيغة تفسيرية مُركَّبة تقبل المستويات المتناقضة المختلفة، لفهمنا كافكا حق الفهم.
ولنبدأ بكافكا الإنسان والكاتب. كان كافكا يهودياً مندمجاً، ولذا فإنه لم يكن في البداية مدركاً للكتابات الدينية اليهودية أو كتابات المؤلفين اليهود، ولكنه بالتدريج بدأ يهتم بها وبالموضوع اليهودي. وهو أمر طرحته عليه عدة عناصر من أهمها أنه رغم الرغبة الصادقة لقطاعات كبيرة من يهود وسط أوربا في الاندماج، بل والانصهار في الحضارة الغربية، ورغم محاولة كثير من المجتمعات قبولهم ودمجهم وصهرهم، إلا أن عملية مثل هذه لم يكن من الممكن أن تتم في جيل واحد أو جيلين، فقد كان الجيل الأول والثاني من اليهود المندمجين يشعر أنه فقــد الجيتو والأمن الذي كان اليهودي يشعر به داخله، بل ووجد نفسه في عالم معاد له. ولا شـك في أن حركات معاداة اليهـود التي تصاعد نفوذها وازدادت شعبـيتها عمَّقت هذا الإحساس لدى كثير من المثقفين اليهود. كما أن هجرة يهود اليديشية (أي يهود شرق أوربا)، الذين كان يتزايد عددهم داخل الإمبراطورية النمساوية المجرية، ساهم في خلخلة وضع اليهود المندمجين، وهو الوضـع الذي فُــرضَ على يهودي مندمج مثل هرتــزل أن يبحث عن حل للمسألة اليهودية، أي مــسألة يهود شرق أوربا، وأن يصوغ الحل الصهيوني. ويعني هذا أن الموضـوع اليهودي قد فُرضَ على كافكا فرضاً. فبدأ يقرأ في الكتابات الدينية اليهودية وفي كتابات المؤلفين اليهود العلمانيين. قرأ في كُتب القبَّالاه والحسيدية، ودرس العبرية، وقرأ كتابات صهيونية أو شبه صهيونية (بل يُقال إنه كتب دراسات يُفهم منها تأييده للمشروع الاستيطاني الصهيوني).
وعلى أية حال، فإن المصادر الغربية لفكره كانت أكثر تنوعاً وعمقاً وشمولاً، فقد تأثر بكلٍّ من كيركجارد ودوستويفسكي وفلوبير وتومـاس مان وهيـس وجـوركي، وبالفكر الاشتراكي والفوضوي في عصره. ويبدو أنه كان معادياً للرأسمالية ولاقتصاديات السوق التي تحوِّل الإنسان إلى شيء.وهذه الازدواجية (اليهودي/غير اليهودي) تُعبِّر عن نفسها في مختلف المستويات. ولنأخذ موقفه من الدين؛ من الواضح أن كافكا كان رافضاً للدين كحل لمشكلة المعنى، ومن هنا كانت حداثة رواياته وإحساسه بالضياع الشامل. وهو في هذا، يُعبِّر عن موقف كثير من يهود عصره، حيث كانت اليهودية الحاخامية تعاني من أزمتها العميقة، إذ أخذت تحل محلها العقائد العلمانية المختلفة، مثل الصهيونية والداروينية والماركسية والنازية. ولكن موقف كافكا في هذا كان لا يختلف كثيراً عن موقف كثير من المثقفين الغربيين الذين ابتعدوا عن عقيدتهم وعن مجتمعهم بسبب تَصاعُد معدلات العلمنة وبسبب تآكل المجتمع التقليدي. لقد اندفعوا نحو المجتمع الجديد، ولكنهم لم يجدوا فيه المعنى، ولم تتحقق لهم الطمأنينة. بل إن أزمة اليهودية الحاخامية، لم تكن إلا جزءاً من أزمة العقيدة الدينية في الحضارة الغربية، كما أن كلتا الأزمتين نتاج حركيات واحدة: الانتقال من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث، ولكنه انتقال لا يأتي بالسعادة، وإنما يؤدي إلى عدم الاستقرار والغربة. ومعنى هذا أن الظاهرة نفسها يمكن أن تُفسَّر على أساس يهودي خاص، وعلى أساس غربي عام، ثم نكتشف أن كلاًّ من الأساسين اليهودي الخاص والغربي العام هما شيء واحد.
ولكن موقف كافكا الديني يتجاوز مجرد الرفض، ذلك أن كافكا كان يمارس إيماناً دينياً عميقاً من نوع خاص. فكان يرى أن فعل الكينونة لا يعني الوجود المادي وحسب، وإنما يعني أيضاً الانتماء إلى الإله، فالإله كامن في أعماق الذات البشرية. وهذا الجزء في الإنسان هو الجزء غير القابل للدمار، وهو ذاته عالم المُطلَق والكمال، المتجرد من الخطيئة والنقص، وهو العالم الذي يُسمِّيه المؤمن «الإله». ولكن قُرْب الإنسان من الإله يعني أن يعيش حياة صحيحة، وهذا الموقف يَنتُج عنه رفض العالم المحسوس (عالم السببية والمادة). وإذا كان الموقف السابق الرافض للدين يعبِّر عن أزمة اليهودية الحاخامية الخاصة وأزمة المعنى في المجتمع الغربي ككل، فإن هذا النوع من الإيمان الديني يعبِّر هو الآخر عن رؤيتين متشابهتين: إحداهما يهودية (القبَّالاه)، والأخرى غربية عامة (الغنوصية). وكلتا الرؤيتين تطرح فكرة الإله الخفي (الديوس ابسكونديتويس في الغنوصية، والإين سوف في القبَّالاه) الذي تبعثرت شراراته، فاختلطت الشرارات بالمادة بحيث أصبح الإله موجوداً داخل البشر، مع أنه بعيد عنهم تماماً. ويحاول الإنسان جاهداً عبر حياته أن يتجه نحو الالتحام به والعودة إليه، ولكنها عودة أصبحت مستحيلة (ولذا يستحيل فهم «المحاكمة»، كما يستحيل دخول «القلعة»). والتراث القبَّالي والغنوصي تراث منتشر في الحضارة الغربية بين اليهود وغير اليهود. فهناك قبَّالاة يهودية، وهناك قبَّالاة مسيحية (من أصل يهودي)، وهناك غنوصية يهودية وأخرى مسيحية. ومن ثم، فإن من الممكن تفسير هذا الجانب أيضاً على أساس يهودي خاص وأساس غير يهودي أو غربي عام. وسنُلاحظ نفس الشيء في أهم جوانب روايات كافكا،أي شخصياتها الأساسية.فأبطال كافكا رجال بلا تاريخ، رجال يعيشون خارج الزمان والمكان في فراغ لا اسم له، وفي زمان لا يمرُّ به تاريخ، يوجدون في كل الأوطان ولا وطن لهم، شخصيات تبحث عن شيء ما لا تعرف هويته، ويسقطون ضحايا شر لا يفهمون كنهه.
وتبدأ رواياته عادةً خارج نطاق التجربة اليومية. فافتتاحية المحاكمة تقدم لنا البطل جوزيف ك. وقد قُدِّم للمحاكمة بسبب جريمة لا يعرف ما هي، كما أنه لا يعرف شيئاً عن طبيعة هيئة المحكمة التي تقرر إعدامه، وتنتهي المحاكمة نهاية عبثية. وفي الروايات الأخرى لكافكا، لا توجد نهاية على الإطلاق، ففي القلعة مثلاً لا يصل البطل إلى أي هدف. ويمكن تفسير هذه العزلة من منظور يهودي خاص، فشخصيات كافكا ليسوا بعيدين عن تجربته كيهودي مندمج، فهم أيضاً تركوا حيِّز الشتتل والزمان الشعائري اليهودي ودخلوا في وجود بلا زمان ولا مكان، وهي حالة الدياسبورا بلا خلاص، أو المصير اليهودي الذي يُلحق باليهود الأذى دون ذنب اقترفوه، فكأن حالة النفي والعزلة هي مصير دائم بالنسبة إليهم. ولكن يمكن القول بأن مأساة أبطال كافكا هي أيضاً مأساة كل الشخصيات في الأدب الغربي الحديث التي تشعر بحالة النفي والغربة، فهي شخصيات فقدت الإيمان، إذ وجدت نفسها في مجتمع متناثر ذري لا يربط أجزاءه رابط، مجتمع تعاقدي، الإنسان فيه منفيٌّ دائماً، مجتمع ازدادت فيه معدلات الترشيد حتى أصبح كل شيء آلياً أو شيئاً شبه آليّ تم التحكم فيه، ولكنه ترشيد إجرائي لا هدف له. ومن ثم، ورغم تزايد تحكم الإنسان، إلا أنه يشعر بإحساس عميق بالاختناق وبأنه لا حول له ولا قوة.
ويمكننا القول بأن الموضوعات الأساسية في أدب كافكا هي موضوعات أساسية متواترة في الأدب الغربي الحديث بصفة عامة، وبالتالي فإن أصولها غربية، ولا يمكن فهمها إلا على مستوى الحضارة الغربية ككل. ولكننا في حالة كاتب من أصل يهودي فَقَدَ يهوديته مثل كافكا، نجد أن وضعه هذا يخلق عنده قابلية غير عادية لاكتشاف هذه الموضوعات وتطويرها، فهي تكتسب حدة خاصة في أدبه، وبعبارة أخرى، فإن يهودية كافكا ليست مصدر الرؤية العبثية عنده (فهي رؤية تضرب بجذورها في حضارته الغربية) والأدب الغربي. ومع هذا فانتماؤه اليهودي يُعمِّق هذه العبثية ويزيد من حدَّتها. وقد ترك كافكا أثراً عميقاً للغاية في الأدب الغربي الحديث (مسرح العبث). ويُستخدَم مصطلح «كافكاوي» أو «كافكوي» لوصف الإحساس بالضياع والسقوط في شبكة متداخلة من الأحداث العبثية. ولعل عمق أثره على الحضارة الغربية يُبيِّن مدى تجذُّره في التشكيل الحضاري الغربي، كما يُبيِّن مدى هامشية خصوصيته اليهودية، اللهم إلا إذا كانت هذه اليهودية نفسها تعبيراً عن شيء جوهري في الحضارة الغربية.
يتبع إن شاء الله...