الباب الثانى: اللوبي اليهودي والصهيوني
اللوبي اليهودي والصهيوني (أو جماعات الضغط الصهيونية)
Jewish and Zionist Lobby
»لوبي« Lobby كلمة إنجليزية تعني «الرواق» أو «الردهة الأمامية في فندق»، ولذا يُقال مثلاً: "سأقابلك في لوبي الفندق"، أي في الردهة الأمامية التي توجد عادةً أمام مكتب الاستقبال. وتُطلَق الكلمة كذلك على الردهة الكبرى في مجلس العموم في إنجلترا، وعلى الردهة الكبرى في مجلس الشيوخ في الولايات المتحدة، حيث يسـتطيع الأعـضاء أن يقابلوا الناس وحـيث تُعقَد الصـفقات فيها، كما تدور فيها المناورات والمشاورات ويتم تبادل المصالح. وقد أصبحت الكلمة تُطلَق على جماعات الضغط (الترجمة الشائعة للمعنى المجازي لكلمة «لوبي lobby») التي يجلس ممثلوها في الردهة الكبرى ويحاولون التأثير على أعضاء هيئة تشريعية ما مثل مجلس الشيوخ أو مجلس النواب. وفعل «تو لوبي to lobby» يعني أن يحاول شخص ذو نفوذ (يستمده من ثروته أو مكانته أو من كونه يمثل جماعة تشكل مركز قوة) أن يكسب التأييد لمشروع قانون ما عن طريق مفاوضة أعضاء المجلس التشريعي في ردهته الكبرى، فيعدهم بالأصوات أو بالدعم المالي لحملاتهم الانتخابية أو بالذيوع الإعلامي إن هم ساندوا مطالبه وساعدوا على تحقيقها، ويهددهم بالحملات ضدهم وبحجب الأصوات عنهم إن هم أحجموا عن ذلك. ويوجد في الولايات المتحدة أكثر من لوبي أو جماعة ضغط تمارس معظم نشاطاتها في العلن بشكل مشروع، وإن كان هذا لا يستبعد بعض الأساليب الخفية غير الشرعية (مثل الرشاوي التي قد تأخذ شكل منح نقدية مباشرة أو تسهيلات معيَّنة أو منح عقود أو التهديد بنشر بعض التفاصيل أو الحقائق التي قد تسبب الحرج لأحد أعضاء النخبة الحاكمة وصانعي القرار... إلخ).
وتوجد أشكال وأنواع من جماعات الضغط، فهناك جماعات الضغـط الإثنيـة: مثل اللوبي اليوناني أو اللوبي الأيرلندي، كما يوجد الآن لوبي عربي. وهناك كذلك جماعات الضغط الدينية، فهناك لوبي كاثوليكي وآخر علماني. ويوجد جماعات ضغط مهنية وجيلية ونفسية واقتصادية، فيوجد لوبي للمصالح البترولية وآخر لمنتجي الألبان وثالث لمنتجي البيض ورابع لزارعي البطاطس وخامس لنقابات العمال وسادس لمنتجي التبغ وسابع لصانعي السجائر وثامن لمن يحاربون التدخين وتاسع للعجائز وعاشر للشواذ جنسياً (وهناك بالطبع لوبي لمن يحاربون الشذوذ الجنسي ويدافعون عن قيم الأسرة). وقد أصبحت جماعات الضغط على درجة من الأهمية جعلت النظام السياسي الأمريكي أصبح يُسمَّى «ديموقراطية جماعات الضغط»، أي أنه لم يَعُد هناك نظام ديموقراطي تقليدي يعبِّر عن مصالح الناخبين مباشرةً حسب أعدادهم (لكل رجل صوت)، بل أصبح النظام يعبِّر عن مقادير الضغوط التي تستطيع جماعات الضغط أن تمارسها على المشرِّعين الأمريكيين لتحديد قرارهم بشأن قضية ما بحيث تَصدُر تشريعات وقوانين معيَّنة وتُحجَب أو تُعدَّل أخرى. فالمواطن الأمريكي لم يَعُد يمارس حقوقه الديموقراطية مباشرةً وإنما أصبح يمارسها من خلال هذه الجماعات.
ويُقال إن أهم جماعات الضغط في الولايات المتحدة جماعة المدافعين عن حق المواطن الأمريكي في اقتناء الأسلحة النارية (دون ترخيص) واستخدامها للدفاع عن النفس، وهو حق يعود للجذور الاستيطانية الإحلالية للولايات المتحدة، ويشبه "حق" المستوطنين الصهاينة في الضفة الغربية في استخدام الأسلحة لقتل العرب "دفاعاً عن النفس". وتشير كلمة «لوبي»، بالمعنى المحدَّد والضيق للكلمة، إلى جماعات الضغط التي تسجل نفسها رسـمياً باعتبارها كذلك. ولكنها، بالمعنى العام، تشير إلى مجموعة من المنظمات والهيئات وجماعات المصالح والاتجاهات السياسية التي قد لا تكون مسجلة بشكل رسمي، ولكنها تمارس الضغط على الحكام وصناع القرار.
وعبارة «اللوبي اليهودي الصهيوني» في الأدبيات العربية والغربية (في كثير من الأحيان) تشير إلى معنيين اثنين:
1 ـ اللوبي الصهيوني بالمعنى المحدَّد: تشير كلمة لوبي في هذا السياق إلى لجنة الشئون العامة الإسرائيلية الأمريكية (إيباك)، وهي من أهم جماعات الضغط. ومهمته، كما يدل اسمه، الضغط على المشرعـين الأمريكيين لتأييد الدولة الصهــيونية. ويتم ذلك بعـدة سبل، من بينها تجميع الطاقات المختلفة للجمعيات اليهودية والصهيونية وتوجيه حركتها في اتجاه سياسات وأهداف محددة عادةً تخدم إسرائيل. كما أن اللوبي يحاول أيضاً أن يحوِّل قوة الأثرياء من أعضاء الجماعات اليهودية (وخصوصاً القادرين على تمويل الحملات الانتخابية)، وأعضاء الجماعات اليهودية على وجه العموم (أصحاب ما يُسمَّى «الصوت اليهودي») إلى أداة ضغط على صناع القرار في الولايات المتحدة، فيلوح بالمساعدات والأصوات التي يمكن أن يحصل المرشح عليها إن هو ساند الدولة الصهيونية والتي سيفقدها لا محالة إن لم يفعل.
2 ـ اللوبي الصهيوني بالمعنى العام الشائع للكلمة: وهو إطار تنظيمي عام يعمل داخله عدد من الجمعيات والتنظيمات والهيئات اليهودية والصهيونية تنسق فيما بينها، من أهمها: مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الكبرى، والمؤتمر اليهودي العالمي، واللجنة اليهودية الأمريكية، والمؤتمر اليهودي الأمريكي، والمجلس الاستشاري القومي لعلاقات الجماعة اليهودية.
وكل هذه المنظمات لديها ممثلون في واشنطن للتأثير على عملية صنع السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط. ورغم أن هذه المنظمات لديها أنشطة مختلفة ترتبط بالموضوعات الاجتماعية، فإنها أيضاً تعمل بشكل مباشر في الموضوعات التي ترضي إسرائيل حيث تسعى إلى الضغط على الكونجرس من خلال إرسال الخطابات إلى أعضائه، وغير ذلك من أشكال الضغط.
وهناك أيضاً عدد من الجماعات الصهيونية التي تسعى إلى كسب تعاطف الرأي العام الأمريكي مع إسرائيل، والتي ظهرت في بداية الأمـر من أجـل السعي لإنشاء دولة إسرائيل ثم تأييدها بعد ذلك. ومن هذه المنظمات: المنظمة الصهيونية لأمريكا، والتحالف العمالي الصهيوني، والهاداساه، ومنظمة النساء الصهاينة في أمريكا. وتعمل هذه الجماعات على كسب الرأي العام عن طريق مشروعات متعددة تتراوح بين إنشاء المدارس التي تعلِّم العبرية وإنشاء المستشفيات وإنتاج الأفلام الموالية لإسرائيل وتمويل رحلات الباحثين والسياسيين الأمريكيين إلى إسرائيل.
ومن الناحية التنظيمية، تتميَّز هذه الجمعيات والمنظمات عن نظيراتها الأمريكيات بكونها تضم عضوية كبيرة، كما أن أجهزتها تتميَّز بوجود موظفين متميزين ومدربين على العمل في مجالات جماعات الضغط والتأثير. كذلك فإنها قادرة حالياً على تشجيع برامج سياسية واجتماعية غير مرتبطة دائماً بالبرنامج الصهيوني، كما أنها تملك جماعات متخصصة وقادرة على معالجة مشاكل بعينها وتنمية شبكات للاتصال. وكذلك فإن لديهم بيروقراطية مركزية لها القدرة على الربط الدائم بين اليهود النشيطين سياسياً على مستوى أمريكا كلها عن طريق كل من مؤتمر الرؤساء ولجنة الشئون العامة. هذا بدوره يجعل لدى الجمــاعات الصهيونية القدرة على الرد الفوري والتعبئة السريعة وبشكل منسق على المستوى القومي، وذلك عندما تظهر موضوعات تستحق التدخل من جانب هذه الجماعات.
وفي مجال الدعاية والتأثير على الرأي العام الأمريكي، فإن اللوبي الصهيوني بالمعنى المحدد للكلمة، وبالمعنى العام، نجح في جعله موالياً لإسرائيل بصورة عامة. وهذا النجاح لا يرجع فقط إلى الدعاية المنظمة والمؤتمرات وإنما يرجع أيضاً لقدرة اللوبي الصهيوني على عقد تحالفات دائمة مع جماعات المصالح الأخرى مثل العمال والمرأة والمنظمات الدينية وتلك التي تمثل الأقليات الأخرى وجمعيات حقوق الإنسـان، واسـتخدام هذه الجماعات للتأثير على الرأي العام والكونجرس.
ولا يعمل اللوبي الصهيوني (بالمعنى العام الشائع) بشكل مستقل عن الحركة الصهيونية وإنما ينسق معها. وعندما يُثار موضوع مهم، فإن قادة مؤتمر الرؤساء ولجنة الشئون العامة يحتفظون باتصال وثيق مع العاملين في السفارة الإسرائيلية في واشنطن ومع المستويات العليا في الحكومة الإسرائيلية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن كلتا المنظمتين لديها القدرة على تنسيق أنشطتها مع الجماعات الصهيونية على المستوى العالمي من خلال المنظمة الصهيونية.
هذا هو المعنى الشائع، ولكننا سنطرح معنى ثالثاً غير شائع إذ أننا نذهب إلى أن اللوبي الصهيوني لا يتكون من عناصر يهودية وحسب وإنما يضم عناصر غير يهودية أيضاً، وهو يضم كل أصحاب المصالح الاقتصادية الذين يرون أن تفتيت العالم العربي والإسلامي يخدم مصالحهم، وأعضاء النخبة السياسية والعسكرية ممن يتبنون وجهة نظرهم. كما يضم اللوبي الصهيوني كثيراً من الليبراليين ممن كانوا يدعون إلى اتخاذ سياسة ردع نشيطة ضد الاتحاد السوفيتي (سابقاً)، وكثيراً من المحافظين الذين يرون في إسرائيل قاعدة للحضارة الغربية وقاعدة لمصالحها، كما يضم جماعات الأصوليين (الحَرْفيين) ممن يرون في دولة إسرائيل إحدى بشائر الخلاص.
ولا يُوظِّف اللوبي اليهودي الصهيوني عناصر اليهودية والصهيونية وحسب، وإنما يُوظِّف عناصر ليست يهودية ولا صهيونية (بل قد تكون معادية لليهود واليهودية) ولكنها مع هذا تُوظِّف نفسها دفاعاً عنه وعن مصالحه، بسبب الدور الذي تؤديه الدولة الصهيونية في الشرق الأوسط وبسبب تلاقي المصالح الإستراتيجية الغربية والصهيونية.
اللــوبي اليهــودي والصهيــوني: الأطروحـة الشائعة
Jewish and Zionist Lobby: The Dominant Hypothesis
يُعَدُّ اللوبي اليهودي والصهيوني (بالمعنى الشائع) أداة ضغط فعالة في يد من يمثلون مصالح الدولة الإسرائيلية.
ولا يستطيع أي دارس أن ينكر قوة اللوبي الذاتية التي يمكن تلخيص مصادرها فيما يلي:
1 ـ يستند اللوبي اليهودي والصهيوني إلى قاعدة واسعة من الناخبين من أعضاء الجماعة اليهودية.
2 ـ توجد بين هؤلاء الناخبين نسبة عالية من الأثرياء يُقدَّر أنهم يتبرعون بأكثر من نصف مجموع الهبات الكبرى للحملة الانتخابية للحزب الديموقراطي، إضافة إلى مبالغ ضخمة لحملات الحزب الجمهوري (انظر: «الصوت اليهودي»).
3 ـ ازدادت أهمية هؤلاء الناخبين بعد الزيادة الهائلة في كلفة الحملات الانتخابية.
4 ـ من أسباب قوة اللوبي اليهودي والصهيوني ارتفاع المستوى التعليمي لأعضاء الجماعات اليهودية.
5 ـ يوجد عدد كبير من المثقفين الأمريكيين اليهود الذين أصبحوا جزءاً عضوياً من النخبة الحاكمة، فهم أبناء حقيقيون للمجتمع الأمريكي لا يعيشون على هامشه أو "في مسامه" وإنما في صلبه، وهو ما يجعلهم قادرين على ممارسة الضغط والتأثير بشكل مباشر.
6 ـ الجماعة اليهودية جماعة منظمة لدرجة كبيرة، وهذا يجعلها قادرة على مضاعفـة قوتـها وزيادة نفوذها لدرجة لا تتناسب مع أعداد أعضائها.
7 ـ ساعد نظام الانتخابات في الولايات المتحدة على أن يلعب اليهود دوراً ملحوظاً في الانتخابات بسبب تركُّزهم في بعض أهم الولايات التي تقرر مصير الانتخابات الأمريكية (نيويورك ـ كاليفورنيا ـ فلوريدا).
8 ـ لا يهتم الناخب الأمريكي كثيراً بقضايا السياسة الخارجية ولا يفهمها كثيراً، ولذا فإن أقلية مثل الجماعة اليهودية عندها هذا الاهتمام بإسرائيل وسياسة الولايات المتحدة تجاهها يمكنها أن تمارس نفوذاً قوياً في تحديد السياسة الخارجية الأمريكية.
والافتراض الكامن في كثير من الأدبيات العربية أن اللوبي اليهودي الصهيوني (بالمعنى الشائع) هو الذي يؤثر في صناع القرار الأمريكي، بل يرى البعض أنه يسيطر سيطرة تامة على مراكز صنع السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، وأنه يدفع هذه السياسة في اتجاه التناقض مع المصالح القومية الأمريكية الحقيقية بما يخدم مصلحة الدولة الصهيونية (وينسب البعض للوبي مقدرات بروتوكولية رهيبة). وهذا يعني بطبيعة الحال أن اللوبي الصهيوني هو لوبي يهودي وأن اليهود يشكلون قوة سياسية وكتلة اقتصادية موحدة خاضعة بشكل شبه كامل للسيطرة الصهيونية ويتحركون وفق توجيهاتها، وأن بإمكان أقلية قوامها 4.2% من السكان أن تتحكم في سياسة إمبراطورية عظمى مثل الولايات المتحدة.
كما يفترض المفهوم أن العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة علاقة عارضة متغيرة وليست إستراتيجية مستقرة، وأن تأييد الولايات المتحدة لإسرائيل ناجم عن عملية ضغط عليها "من الخارج" تقوم به قوة مستقلة لها آلياتها المستقلة وحركياتها الذاتية ومصلحتها الخاصة، وليس نابعاً من مصالح الولايات المتحدة أو من إدراكها لهذه المصالح.
ويستند إدراك كثير من المنادين بمقولة قوة اللوبي الصهيوني إلى مجموعة من المقدمات المنطقية المعقولة التي تكاد تكون بدهية، ومن وجهة نظرهم. فنحن إذا حكَّمنا العقل ودرسنا الواقع بشكل موضوعي لتوصلنا إلى أنه ليس من صالح الولايات المتحدة الأمريكية أن تدخل في معركة مع الشعب العربي، بل من صالحها أن تتعاون معه في كل المجالات الممكنة، لأن مثل هذا التعاون سيؤدي إلى استقرار المنطقة العربية وسيعود على الولايات المتحدة بالفائدة. فالعالم العربي يشغل موقعاً إستراتيجياً مهماً، فهو يقع في وسط أفريقيا وآسيا، وله امتداد حضاري وسكاني في كليهما، وهو شريك أوربا في حوض البحر الأبيض المتوسط، ويشكل نواة العالم الإسلامي. ولذا فمن صالح الولايات المتحدة أن تكون علاقاتها جيدة مع شعب يشغل مثل هذا الموقع الإستراتيجي، وألا يزاحمها أحد في مثل هذه المكانة. علاوة على هذا، يضم العالم العربي نسبة ضخمة من بترول العالم ومن مخزونه الإستراتيجي المعروف، وهذا البترول ـ كما هو معروف ـ أمر حيوي بالنسبة للمنظومة الصناعية في الغرب. كما أن الأسواق العربية من أهم الأسواق من منظور تسويق السلع وكذلك استثمار رأس المال. والعلاقة الطيبة بين الدول العربية والولايات المتحدة ستؤدي حتماً إلى تحسين صورتها لا في العالم العربي وحسب بل في العالم الثالث بأسره.
ولكن الولايات المتحدة، هذا البلد العقلاني الذي تحكمه معايير عملية عقلانية مادية باردة، لا تسـلك حسـب هـذه المعايير المعقولة البديهية، فهي تتمادى في تأييد إسرائيل وتقف وراءها بكل قوة وتستجلب على نفسها عداء العرب. مثل هذا الوضع شاذ وغير عقلاني لا يمكن تفسيره إلا بافتراض وجود قوة خارجية، ذات مقدرة ضخمة، قادرة على أن تضغط على الولايات المتحدة بحيث تتصرف، لا بحسب ما تمليه عليها مصالحها الموضوعية، وإنما حسبما تمليه عليها مصالح هذه القوة، أي المصالح اليهودية والصهيونية والإسرائيلية التي يمثلها اللوبي اليهودي والصهيوني (بالمعنى الشائع).
ولكن ما لم يطرأ لمثل هؤلاء على بال هو أن من المحتمل أن الولايات المتحدة لا تدرك "مصالحها" بهذه الطريقة التي يتصورون أنها عقلانية بل لعلها ترى أن "عدم الاستقرار أو عدم الاستقرار المحكوم" (بالإنجليزية: كونترولد إنستابيليتي Controlled instability) أفضل وضع بالنسبة لها، وأن وضع التجزئة العربية هو ما يخدم "مصالحها"، وأن إسرائيل هي أداتها في خلق حالة عدم الاستقرار المحكوم هذه، والخادم الحقيقي "لمصالحها".
اللوبي اليهودي والصهيوني: تلاقي المصالح الإستراتيجية بين العالم الغربي والدولة الصهيونية
Jewish and Zionist Lobby: The Convergence of the Strategic Interests of the Western World and the Zionist State
مفهوم «المصلحة الإستراتيجية» ليس مفهوماً بسيطاً أو عقلانياً. ومما لا شك فيه أن عملية اتخاذ القرار السياسي في العالم الغربي مركبة لأقصى حد، فهي تتم من خـلال مؤسسات يديرها علماء متخصصون (تكنوقراط) بطريقة "رشيدة"، بمعنى أنها تتبع إجراءات معروفة ومحددة لا تخضع للأهواء الشخصية، ولذا لا يُتخذ القرار إلا بعد توفير المعلومات اللازمة وإشراك المستشارين والمتخصصين. ثم بعد ذلك تتم عملية موازنات صعبة ودقيقة بشأن حساب المكسب والخسارة وجدوى القرار وقوة العدو ونقط ضعفه. وعلى سبيل المثال، حينما قرَّر كيسنجر التخلص من حكم الليندي في تشيلي الذي كان قد وصل إلى سدة الحكم من خلال انتخابات نزيهة، وأحل محله حكماً عسكرياً شرساً.
وحينما قررت الولايات المتحدة دعم الكونترا وهو ما يعني التدخل في الشئون الداخلية لنيكاراجوا وإثارة حفيظة دول أمريكا اللاتينية التي كانت تعلم تماماً أن نظام الساندنيستا ليس نظاماً شيوعياً كما تزعم الولايات المتحدة وإنما نظام وطني ينحو منحى يسارياً. نقول، حينما قررت الولايات المتحدة أن تفعل ذلك، فإنها كانت مدركة تماماً أن ثمة خسارة ما ولكن حساب المكسب والخسارة كان واضحاً، فالعائد السياسي (القضاء على نظم قومية تحاول أن تحرز نمواً اقتصادياً خارج نطاق المنظومة الرأسمالية والهيمنة الأمريكية والغربية) كان أعلى كثيراً من العادم (تدعيم صورة اليانكي القبيح المستغل وترسيخها في الوجدان اللاتيني). والشيء نفسه ينطبق على قرار غزو بنما والقضاء على عميل مهم للولايات المتحدة، فنروييجا كان مخلوق أمريكا القبيح. وحينما أرسلت الولايات المتحدة قوتها للقيام بعملية الغزو فإنها كانت مدركة أن العائد الاجتماعي السياسي (القضاء على واحد من أهم مصادر المخدرات، وبالتالي حل مشكلة المخدرات التي تهدد نسيج المجتمع الأمريكي وأمنه القومي ودعم صورة المؤسسة الحاكمة أمام جماهيرها، على أنها مؤسسة جادة في عملية محاربة المخدرات) كان أعلى كثيراً في تصوُّرها من العادم (تدخُّل قوة عظمى في شئون دولة صغيرة والقضاء على عميل نافع مفيد).
ولكن، إذا كان التكنوقراط يتخذون القرار حسب إجراءات موضوعية ومعايير محسوبة تضمن توظيف الوسائل على أحسن وجه في خدمة الأهداف، فإن الأهداف الإستراتيجية نفسها لا تحددها اللجان التكنوقراطية، فهذه العملية تتم على أعلى المستوىات وتصبح جزءاً من العقد الاجتماعي الذي يستند إليه المجتمع ككل، كما أن تغيير هذه الأهداف لا يتم إلا بثورة اجتماعية شاملة. وحساب المكسب والخسارة والعائد والعادم يتم في إطار ما يُسمَّى «مصلحة الدولة العليا». وهذه المصلحة ليست قضية بسـيطة يمكن تحديدهـا موضوعياً ورياضياً وبشكل إجرائي غير شخصي، فرؤية أعضاء النخبة الحاكمة لمصالحهم، والمصالح الفعلية التي يحاولون الحفاظ عليها، والإطار الرمزي الذي يدركون من خلاله هذه المصالح، والعقيدة السياسية والدينية التي تستند إليها شرعية النخبة، تساهم كلها، بشكل أو بآخر، في تحديد «مصلحة الدولة العليا»، فما يرى أعضاء النخبة أنه مصلحة الدولة العليا قد يكون مصلحتهم هم كجماعة أو طبقة ولا يمثل بالضرورة صالح الدولة ككل أو صالح أغلبية أعضاء المجتمع. وما قد يكون رشيداً من وجهة نظر إنسانية عامة قد لا يكون رشيداً من وجهة نظر أصحاب القرار.
وما نود تأكيده هنا أن سلوك دولة عظمى مثل الولايات المتحدة ليس مسألة تتم حسب قواعد رشيدة بسيطة، وإنما هو نتيجة عملية مركبة تدخل فيها عناصر "ذاتية" وعقائدية ومادية وغير مادية، قد لا تنضوي بالضرورة داخل إطار الرشد كما نتخيله (وهنا يأتي دور الصور الذهنية وعالم الرموز والتراث المسيحي اليهودي والذاكرة التاريخية... إلخ). وإن لم يكن الأمر على هذا النحو، فكيف نفسِّر دخول الولايات المتحدة حرباً ضروساً في فيتنام (بعد هزيمة فرنسا فيها)، وتورطها في هذه الحرب لعشرات السنين، وإنفاقها بلايين الدولارات وإهدارها دماء عشرات الألوف من الأمريكيين والفيتناميين، في حرب كان يعرف الجميع أنها خاسرة، واعترف بذلك ـ فيما بعد ـ مهندس الحرب الحقيقي روبرت ماكنمارا؟ ولماذا لم تخرج هذه الدولة العقلانية من الحرب إلا بعد تصاعُد المظاهرات في الولايات المتحدة لما يزيد عن عشرة أعوام؟
وأعتقد أن الغرب قد عرَّف مصلحته الإستراتيجية منذ بداية القرن التاسع عشر بطريقة تجعله ينظر للمنطقة العربية باعتبارها مصدراً هائلاً للمواد الخام (الرخيصة) ومجالاً خصباً للاستثمارات الهائلة (التي تعود عليه وحده بالربح) وسوقاً عظيمة لسلعه (التي ينتجها ويصرفها فيزداد هو ثراءً)، أو قاعدة إستراتيجية شديدة الخطورة والأهمية (بالنسبة لأمنه هو) إن لم يتحكم فيها قامت قوى معادية (مثل الاتحاد السوفيتي في الماضي) باستخدامها ضده، ويعبِّر هذا الموقف عن نفسه في مصطلح مثل «الفراغ» الذي كثيراً ما يُستخدَم للإشارة إلى شرقنا العربي وكأن وطننا رقعة أرض أو مساحة لا يقطنها شعب عريق له امتداده الحضاري، وكأن أوطاننا هي وجود جغرافي رحب مجرد من التاريخ، أي أننا في الإدراك الغربي مجرد شيء قد يصلح للاستخدام أو الاستعمال.
وحتى حينما نتحول إلى أكثر من مجرد مساحة، فإن الإدراك الغربي للمنطقة (وهو إدراك تحدده مصلحته كما يراها هو أو كما تراها نخبته الحاكمة ومؤسسات صنع القرار فيه) يرى وطننا العربي على أنه منطقة مأهولة بشعوب وقبائل وأقليات معظمها يتحدث العربية وتدين بديانات مختلفة لا يربطها رابط حضاري أو اجتماعي واحد لكلٍّ مصلحته الاقتصادية ومستقبله السياسي المستقل (وتفتُّتها يُسهِّل عملية تحويلها إلى مادة استعمالية) وتكمن مصلحة الغرب (كتشكيل حضاري نهم يود استغلال الشرق والاستثمار فيه بما يعود عليه هو بالربح وبتوجيهه لما يخدم أمنه) في الحفاظ على عدم الترابط الحضاري أو الاجتماعي في عالمنا العربي. وهذه هي مصلحة الغرب كما يدركهـا أهله، وهذا هـو الإطـار الذي يتم اتخـاذ القـرار من خلاله.
والمفهوم الصهيوني لعالمنا العربي يتفق تمام الاتفاق مع المفهوم الغـربي، فالصـهاينة يشـيرون إلى فلسطين باعتبارها «أرضاً بلا شعب»، وإلى الضفة الغربية باعتبارها «يهودا والسامرة»، وهي مصطلحات تلغي التاريخ العربي تماماً. وهم يشيرون إلى الشرق الأوسط على أنه «المنطقة» وهو اصطلاح يشبه في كثير من الوجوه اصطلاح «الفراغ»، فكلاهما يؤكـد فكرة أن عالمنا العربي مكـان بلا زمان، وجغرافيا بلا تاريخ، أو مساحة تسكنها شعوب عديدة متفرقة متناثرة، والصهيونية في نهاية الأمر وليدة التراث الفكري الاستعماري الغربي في القرنين التاسع عشر والعشرين، وهي أداته في المنطقة، وقد بدأ الاهتمام الغربي بالصهيونية كفكرة منذ القرن السابع عشر، ولكن الاهتمام الفكري تحوَّل إلى فكر سياسي ثم إلى خطاب سياسي ثم إلى مُخطَّط استعماري ثابت بعد ظهور محمد علي الذي كان يهدد المصالح الغربية لأنه كان قادراً على ملء «الفراغ» في المنطقة إما عن طريق طرح نفسه على أنه القوة الجديدة، أو عن طريق إدخال العافية على رجل أوربا المريض. ومن هنا كانت فكرة الدولة الصهيونية التي وُلدت داخل الخطاب السياسي الغربي، ومن هنا الدعم الغربي الحاسم للمشروع الصهيوني، أداة الغرب في خَلْق الفراغ والحفاظ عليه كوسيلة للدفاع عن أمـن الغرب لا عن أهل المنطقة، وعن مصـالح الغرب لا مصـالح العرب. ولا يمكن إنكار دور الصهاينة في ترسيخ هذا الإدراك الغربي للشرق الأوسط، ولكن تظل العلاقة بين الصهيونية والتشكيل الاستعماري الغربي تدور في إطار المصالح الإستراتيجية الثابتة التي تشكلت داخل الحضارة الغربية قبل ظهور الجماعات اليهودية كقوة سياسية فاعلة في الغرب.
هذا هو السر الحقيقي للنجاح الصهيوني في الغرب، فهو لا يعود إلى سيطرة اليهود على الإعلام، أو لباقة المتحدثين الصهاينة، أو إلى مقدرتهم العالية على الإقناع والإتيان بالحجج والبراهين، أو إلى ثراء اليهود وسيطرتهم المزعومة على التجارة والصناعة، وإنما يعود إلى أن صهيون الجديدة جزء من التشكيل الاستعماري الغربي، وإلى أنه لا يمكن الحديث عن مصالح يهودية وصهيونية مقابل مصالح غربية، وإلى أن الإعلام واللوبي الصهيونيين يمثلان أداة الغرب الرخيصة: دولة وظيفية عميلة للولايات المتحدة تؤدي كل ما يوكل إليها من مهام بنجاح وتنصاع تماماً للأوامر، ولا توجد سوى مناطق اختلاف صغيرة بينها وبين الولايات المتحدة (لا تختلف كثيراً عن الاختلافات التي تنشأ بين الدولة الإمبريالية الأم والجيوب الاستيطانية التابعة لها، كما حدث بين فرنسا والمستوطنين الفرنسيين في الجزائر، وبين إنجلترا من جهة والمستوطنين الإنجليز في روديسـيا والمسـتوطنين الصهاينة في فلسطين من جهة أخرى).
وتنصرف هذه الاختلافات أساساً إلى الأسلوب والإجراءات لا إلى الأهداف النهائية، اختلافات يمكن حسمها عن طريق الإقناع والضغط كما يحدث عندما تطلب السعودية صفقة أسلحة ولا ترضى إسرائيل عن ذلك، أو عندما تريد إسرائيل توسيع رقعة استقلالها قليلاً عن طريق إنتاج سلاح مثل طائرة اللافي ولا ترضى المؤسـسة العسـكرية الصناعيـة الأمريكيـة عن ذلك. فالاختلاف ينصرف إلى التفاصيل لا إلى "المصلحة" وإدراكها، ومن هنا يمكن إدارة الحوار حسب قوانين اللعبة المتعارف عليها وتتم ممارسة الضغط داخل إطار من التفاهم بشأن المبادئ الأساسية ومن داخل النسق لا من خارجه. ويجب ألا يثير هذا الوضع دهشتنا فتاريخ الحركة الصهيونية ليس جزءاً من «تاريخ يهودي عالمي وهمي» ولا هو جزء من التوراة والتلمود (رغم استخدام الديباجات التوراتية والتلمودية) وإنما هو جزء من تاريخ الإمبريالية الغربية. ولذا فالصهيونية لم تظهر بين يهود اليمن أو الهند أو المغرب وإنما ظهرت بين يهود العالم الغربي، وهي لم تظهر في العصور الوسطى ، على سبيل المثال، وإنما في أواخر القرن السابع عشر مع ظهور التشكيل الاستعماري الغربي وبدايات استيطان الإنسان الغربي في العالم الجديد وفي بعض المدن الساحلية في أفريقيا وآسيا.
ويدرك الساسة الإسرائيليون هذه الحقائق إدراكاً كاملاً، ولذا فهم لا يكفون عن الحديث عن أهمية إسرائيل كقاعدة عسكرية وحـضارية وأمنيـة للغرب، وأنها، علاوة على ذلك، قاعدة رخيصة، أرخص بكثير من 10 حاملات طائرات تبلغ تكاليفها 50 بليون دولار، كانت الولايات المتحدة ستضطر لبنائها وإرسالها للبـحر الأبيض المتوسـط وللبحـر الأحـمر لحـماية "المصالح" الأمريكية. إن إسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة "كنز إستراتيجي" (أو دولة وظيفية في مصطلحنا)، وهذا ما يؤكده المتحدثون الإسرائيليون في واشنطن، قبل الدخول في أية مفاوضات. وقد جاء في إحدى إعلانات النيويورك تايمز (الذي مولته إحدى الهيئات الصهيونية) أنه إذا ما تهددت مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط فإن وضع قوة لها شأنها هناك يحتاج إلى "أشهر، أما مع إسرائيل كحليف فإنه لا يحتاج إلا بضعة أيام". إن هذه العبارة تتحدث عن إجراءات القمع والتأديب ضد العالم العربي وتبين مدى كفاءة الدولة الوظيفية في إنجاز مهمتها، ولا تتحدث عن نقطة الانطلاق ولا عن الأسباب الداعية للقمع والتأديب وهي أن مصلحة الغرب تتطلب مثل هذا القمع لأنها مسألة مستقرة مفروغ منها في الفكر الإستراتيجي الغربي.
اللوبي اليهـودي والصهيوني: أوربــا الغربيـة
Jewish and Zionist Lobby: Western Europe
نذهب إذن إلى أن "سر" نجاح اللوبي اليهودي والصهيوني هو أنه يدور في إطار المصالح الإستراتيجية الغربية وأنه يعرض دولته الصهيونية باعتبارها أداة، أي أن مصدر نجاحه لا يعود لقوته الذاتية أو لعناصر كامنة فيه، وإنما بسبب اتفاق مصلحته مع مصلحة الغرب الإستراتيجية. والنموذج السائد في الخطاب التحليلي العربي (الرسمي والشعبي) هو عكس هذا، فهو يفترض أن نجاح الصهاينة يعود لقوتهم الذاتية ومن ثم يُفسِّر تزايُد الدعم الغربي لإسرائيل على أساس تعـاظُم النفـوذ اليهـودي والصهـيوني، فإن زاد الثاني زاد الأول.
ولاختبار هذه الأطروحة الشائعة، ولتوضيح ضعف مقدرتها التفسيرية، سنورد بعض الشواهد والقرائن التاريخية والحديثة:
1 ـ أول من دعا لإنشاء دولة يهودية في فلسطين في العصر الحديث هو نابليون بونابرت، وهو أيضاً أول غاز غربي للشرق العربي في العصر الحديث. ومما يجدر ذكره أن نابليون كان معادياً لليهود، كما يدل على ذلك سجله في فرنسا. ولا يمكن الحديث عن وجود لوبي يهودي أو صهيوني قوي أو ضعيف حين أطلق نابليون دعوته، فقد كانت نابعة من إدراكه لمصالح فرنسا الإستراتيجية.
2 ـ هناك حشد من الساسة البريطانيين (بالمرستون ـ شافتسبري ـ أوليفانت ـ لويد جورج ـ بلفور) دعوا لإقامة دولة يهودية في فلسطين، إما قبل ظهور الحركة الصهيونية بين اليهود أو في غياب لوبي يهودي أو صهيوني. ومما يجدر ذكره أن كل هؤلاء الساسة كانوا ممن يكرهون اليهود، وبخاصة بلفور، الذي كان وراء استصدار قانون الغرباء عام 1950 لمنع اليهود من دخول إنجلترا، والذي اعترف بعدائه للسامية، والذي كان يرى أن اليهود يشكلون عبئاً على الحضارة الغربية ولكنهم جميعاً وجدوا أن ثمة فائدة إستراتيجية تعود على إنجلترا لو أسست دولة صهيونية.
3 ـ لا شك في أن صدور وعد بلفور هو أهم حدث في تاريخ الصهيونية ودراسة الظروف المحيطة بصدوره. ولذا فهو يزودنا بلحظة نادرة لاختبار نموذج الضغط اليهودي والصهيوني.
ولإنجاز هذا سنعقد مقارنة بين "قوة" الجماعتين اليهوديتين في ألمانيا وإنجلترا من منظور مقدرتهما على الضغط:
أ ) فمن المعروف أن الوجود اليهودي في ألمانيا قبل الحرب العالمية الأولى كان قوياً جداً، وكان اليهود يشغلون مناصب حكومية مهمة، ويوجدون في مواقع اقتصادية ذات طبيعة إستراتيجية، فكان أهـم ثلاثة بنوك يملكـها بعض أعضـاء الجماعــة اليهودية في ألمانيا، كما كانوا متغلغـلين في الإعــلام وقيادات الأحـزاب السياسية، وكان منهم كثير من المؤلفين والفنانين. وقد حققوا معدلات عالية للغاية من الاندماج، وهو ما يسَّر لهم عملية التحرك داخل المجتمع الألماني، كما أن اليهود الألمان اشتركوا بأعداد كبيرة في الحرب تفوق نسبتهم القومية. والحركة الصهيونية حتى ذلك الوقت كانت حركة ألمانية في توجهها الثقافي، فكانت لغة المؤتمرات الصهيونية هي الألمانية، كما كانت برلين مقر المنظمة الصهيونية العالمية. وكان الصهاينة على أتم استعداد لأن يجعلوا مشروعهم الصهيوني جزءاً من المشروع الألماني الاستعماري.
ب) مقابل هذا كانت توجد في إنجلترا جماعة يهودية صغيرة للغاية ليست لها القوة المالية أو الثقافية للجماعة اليهودية في ألمانيا، وكانت جماعة مندمجة تماماً ومعادية للصهيونية (كان وايزمان والقيادات الصهيونية من شرق أوربا).
مع هذا نجح الصهاينة في إنجلترا في استصدار وعد بلفور، رغم ضعفهم وعزلتهم، بينما فشل صهاينة ألمانيا في ذلك رغم قوتهم وارتباطهم بالمجتمع. ولا يمكن العودة إلى الصورة الإعلامية أو اللوبي الصهيوني وما شابه من نماذج تفسيرية. وإنما علينا أن نعود إلى المصالح الإستراتيجية الإمبريالية الإنجليزية مقابل المصالح الإستراتيجية الإمبريالية الألمانية. أما الإمبريالية الألمانية فكانت متحالفة مع الدولة العثمانية، ولذا لم يكن هناك مجال لإعطاء أي وعود للصهاينة على حساب هذه الدولة. لكن الوضع كان مختلفاً بالنسبة للإمبريالية الإنجليزية فقد ظل التحالف قائماً بينها وبين الدولة العثمانية حتى اندلاع الحرب، ولذا حينما صدر أول وعد بلفوري إنجليزي وهو الخاص بمشـروع شـرق أفريقيا فقد كان وعداً بقطعـة أرض خارج الدولة العثمانية. ولكن بعد أن قررت الإمبريالية الإنجليزية تقسيم الدولة العثمانية أصبح من الممكن إصدار وعد بلفور لمجموعة من الصهاينة ليسوا من الإنجليز. وكان على الموجودين في إنجلترا أن يقطعوا علاقتهم مع المنظمة الخاضعة لنفوذ ألمانيا آنذاك، وكان الوعد هذه المرة وعداً بقطعة أرض داخل الدولة العثمانية. إن وعد بلفور والدعم البريطاني للمشروع الصهيوني لا علاقة لهما بأي لوبي يهودي أو صهيوني قوي أو ضعيف.
4 ـ إذا نظرنا إلى سياسة كل من إنجلترا وفرنسا في الوقت الحالي تجاه الشرق الأوسط لوجدنا أنها تتفق مع السياسة الأمريكية والتوجه الإستراتيجي الغربي بشكل عام مع اختلافات طفيفة. ويستطيع الباحث المدقق أن يجد أن سياسة إنجلترا أكثر اقتراباً من السياسة الأمريكية وأكثر دعماً لإسرائيل، وأن السياسة الفرنسية أكثر ابتعاداً وربما اعتدالاً (من وجهة نظر غربية).
ولو حاول تفسير هذا الاختلاف على أساس النفوذ الصهيوني لباءت محاولته بالفشل:
أ ) فالجماعـة اليهـودية في إنجلترا ضعيفة لأقصى حد من الناحية الكمية، أما من الناحية الكيفية فهي من أكثر الجماعات اندماجاً وهي آخذة في التناقص (إن لم يكن أيضاً الاختفاء). وعند وقوع مذبحة صبرا وشاتيلا لم يجد التليفزيون البريطاني مفكراً بريطانياً يهودياً واحداً يدافع عن الموقف الصهيوني، فاضطروا إلى إحضار نورمان بودوريتس رئيس مجلة كومنتاري من الولايات المتحدة لتقديم وجهة النظر الصهيونية.
ب) أما في فرنسا فتوجد جماعة يهودية يبلغ تعدادها 700 ألف، وهي جماعة اكتـسبت لوناً يهودياً قوياً نوعاً ما بعـد هـجرة يهـود المغرب العربي، وهي جماعة ذات نفوذ قوي في الإعلام وغيره.
وأعتقد أنه لتفسير موقف كلا البلدين يجب ألا نعود إلى قوة أو ضعف الجماعة اليهودية في كلٍّ منهما وإنما إلى موقف كليهما من التحالف الغربي وإلى رؤية كل منهما له. فإنجلترا أكثر ارتباطاً بالولايات المتحدة من فرنسا داخل هذا التحالف، بينما تحاول فرنسا أن تحافظ على مساحة من الاستقلال الأوربي لا تهتم بها إنجلترا بالدرجة نفسها، ولعل هذا هو مصـدر اختلاف سـياسة البلدين تجـاه قضية الشرق الأوسـط.
5 ـ وإذا نظرنا إلى دول مثل هولندا وبلجيكا فلا يمكن تفسير تأييدها لإسرائيل استناداً إلى مقولة اللوبي اليهودي الصهيوني، فالوجود اليهودي في كثير من هذه البلدان يكاد يكون منعدماً.
يتبع إن شاء الله...