فحينما يتأمل الإنسان نفسه التي هي أقرب شيء إليه ، ويتفكر ما أودع الله فيها من الأسرار والعجائب فإن ذلك سوف يوصله إلى معرفة أن الله الإله الحق ، وأنه خالقه وأنه قادر وأنه محي وأنه مميت فإذا عرف ذلك الإنسان عبد ربه ، وتوجه إلى خالقه يستلهم منه الهدى والتوفيق .
ويتفكر في النفس ، وأنه خلق زوجها منها ليسكن إليها ، وجعل بينهم مودة ورحمة ليحصل بهما الوئام السكني إذ لو كان من غير جنسها لحصل التنافر ، فسبحان الله العظيم ، قال تعالى : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إنفي ذلك لآيات لقوم يتفكرون .
( والناس يعرفون مشاعرهم تجاه الجنس الآخر ، وتشغل أعصابهم ومشاعرهم تلك الصلة بين الجنسين ، وتدفع خطاهم ، وتحرك نشاطهم تلك المشاعر المختلطة الأنماط والاتجاهات بين الرجل والمرأة ولكنهم قلما يتذكرون يد الله التي خلقت لهم من أنفسهم أزواجاً ، وأودعت نفوسهم هذه العواطف والمشاعر ، وجعلت تلك الصلة سكناً للنفس والعصب ، وراحة للجسم والقلب ، واستقراراً للحياة والمعاش ، وأنساً للأرواح والضمائر ، واطمئناناً للرجل والمرأة على السواء .
إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون فيدركون حكمة الخالق في خلق كل من الجنسين على نحو يجعله موافقاً للآخر ملبياً لحاجته الفطرية نفسية وعقلية وجسدية ، بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار ، ويجد أن في اجتماعها السكن والاكتفاء ، والمودة والرحمة ، لأن تركيبهما النفسي والعصبي والعضوي ملحوظ فيه تلبية رغائب كل منها في الآخر ، وائتلافهما وامتزاجهما في النهاية لإنشاء حياة جديدة تتمثل في جيل جديد ) .
ويتفكر في ظاهرة النوم واليقظة التي تعتري النفس الإنسانية، وأنها تشبه حال الموت الحقيقي، وهذا مدعاة للتفكر فيه، وأمر يحتاج إلى وقفة تأملية لتذكر ت الموت حتى يحصل في النفس المتفكرة أخذ العبرة والعظة من ذلك .
قال تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويمسك الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون .
يقول الإمام الشوكاني عند قوله تعالى من هذه الآية إن في ذلك لآيات أي لآيات عجيبة بديعة دالة على القدرة الباهرة ، ولكن ليس كونه ذلك آيات يفهمها كل أحد بل لقوم يتفكرون في ذلك ويتدبرونه ويستدلون به على توحيد الله وكمال قدرته ، فإنه هذا التوفي والإمساك والإرسال موعظة للمتعظين وتذكرة للمتذكرين ).
ولا ريب أن التفكر سبيل لرفع الغفلة عن النفس وطريق من طرق الاستبصار لأهل التقوى قال تعالى : إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ذلك أن التذكر ( ... هو ضد النسيان وهو حضوره صورة المذكور العلمية في القلب ).
فقوله تذكروا ورد فيها ثلاثة أقوال :
أحدها : تذكروا الله إذا هموا بالمعاصي فتركوها – قال مجاهد .
الثاني : تفكروا فيما أوضح الله لهم من الحجة – قاله الزجاج .
الثالث : تذكروا غضب الله فأمسكوا فإذا هم مبصرون لمواقع الخطأ بالتفكر.
إذاً التفكر يعود بالمرء إلى المسار الصحيح من التوبة والرجوع إلى الله وترك المعصية والاستقامة على أمره فتفكر أخي المسلم ولا تكن من الغافلين .
قال سفيان بن عيينه : ( التفكر مفتاح الرحمة ألا ترى أنه يتفكر فيتوب ).
سادساً : التفكر في النحلة تلك الحشرة العجيبة الصغيرة كيف علمها وألهمها ربها أن تأكل من كل الثمرات لتجمع رحيقاً يخرج من بطنها شراباً مختلفاً ألوانه يكون شفاء للناس.
ما أعظم خلق الله وما أعجبه ! فتعال معي نتأمله :
قال تعالى : وأحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون (68) ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذلل يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ( ) . في صنع الله ، فيستدلون على ألوهيته وتوحيده بهذا التفكر في عجائب صنعه ( فنبه على أن الإنسان حقه أن يقتدى بالنحل في مراعاته لوحي الله فكما أنها لا تتخطى وحي الله في تحري المصالح طبعاً لذلك يجب على الإنسان أن لا يتخطى وهي الله اختياراً ) .
ويقول الشيخ السعدي :
( في خلق هذه النحلة الصغيرة ، التي هداها الله هذه الهداية العجيبة ، ويسر لها المراعي ، ثم الرجوع إلى بيوتها التي أصلحتها بتعليم الله لها وهدايته لها ثم يخرج من بطونها هذا العسل اللذيذ مختلف الألوان ، بحسب اختلاف أرضها ومراعيها ، فيه شفاء للناس من أمراض عديدة فهذا دليل على كمال عناية الله تعالى ، وتمام لفظه بعباده ، وأنه الذي لا ينبغي أن يحب غيره ويدعي سواه ).
وقد ذكر الإمام ابن القيم الجوزية من عجيب صنع هذه النحلة فقال : ( ومن عجيب شأنها أن لها أميراً يسمى اليعسوب لا يتم لها رواح ولا إياب ولا عمل ولا مرعى إلا به ، فهي مؤتمرة لأمره سامعة له مطيعة وله عليها تكليف وأمر ونهي ، وهي رعية له منقادة لأمره متبعة لرأيه يدبرها كما يدبر الملك أمر رعيته حتى إنها إذا أوت إلى بيوتها وقف على باب البيت فلا يدع واحدة تزاحم الأخرى ولا يتقدم عليها في العبور ، بل تعبر بيوتها واحدة بعد واحدة بغير تزاحم ولا تصادم ولا تراكم كما يفعل الأمير إذا انتهى بعسكره إلى معبر ضيق ولا يجوزه إلا واحد واحد .
ومن عجيب أمرها أن فيها أميرين لا يجتمعان في بيت واحد ولا يتأمران على جمع واحد بل إذا اجتمع منها جندان وأميران قتلوا أحد الأميرين وقطعوه على الأمير الواحد ، من غيره معاداة بينهم ولا أذى من بعضهم لبعض بل يصيرون يداً واحدة وجنداً واحداً ).
ويواصل ابن قيم الجوزية معدداً عجائب النحل فيكشف لنا عن طريقة التوالد عند النحل فيقول ( وإنما نتاجها بأمر من أعجب العجيب فإنها إذا ذهبت إلى المرعى أخذت تلك الأجزاء الصافية التي على الورق من الورد والزهر والحشيش وغيره ، وهي الطل فتمصها وذلك مادة العسل ، ثم إنها تكبس الأجزاء المنعقدة على وجه الورقة وتعقدها على رجلها كالعدسة فتملأ بها المسدسات الفارغة من العسل ، ثم يقوم يعسوبها على بيته مبتدئاً منه فينفخ فيه ، ثم يطوف على تلك البيوت بيتاً بيتاً وينفخ فيها كلها فتدب فيها الحياة بإذن الله فتتحرك وتخرج طيوراً بإذن الله ، وتلك إحدى الآيات والعجائب التي قل من يتفطن لها ، وهذا كله من ثمرة ذلك الوحي الإلهي أفادها وأكسبها هذا التدبير والسفر والمعاش والبناء والنتاج ) .
سابعاً : التفكر في الآيات الحاثة على السير والنظر في عواقب الأمم ، وما حصل لهم من جراء مخالفة أمر الله وأن هذا السير ورد في أحد معانيه أنه ( إجالة الفكر ومراعاة أحواله كما روي في الخبر أنه قيل في وصف الأولياء : أبدانهم في الأرض سائرة وقلوبهم في الملكوت جائلة ).
ويكون السير في الأرض أيضاً بالبدن والقلب وسؤال العالمين .
قال تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغني عنهم ما كانوا يكسبون .
( يحث تعالى المكذبين لرسولهم على السير في الأرض بأبدانهم وقلوبهم وسؤال العالمين فينظروا نظر فكر واستدلال ، لا نظر غفلة وإهمال .
كيف كان عاقبة الذين من قبلهم من الأمم السالفة ، كعاد وثمود وغيرهم ، ممن كانوا منهم وأشد قوة وآثاراً في الأرض من الأبنية الحصينة ، والفرش الأنيقة ، والزروع الكثيرة فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون حين جاءهم أمر الله فلم تغن عنهم قوتهم ، ولا افتدوا بأموالهم ولا تحصنوا بحصونهم ).
وكقوله تعالى : قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين .
وكقوله تعالى : قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين .
فما دام أن السير في الآيات التي نحن بصددها تدل على أنواع من السير بالبدن فإن الإنسان إذا مر على ديار المعذبين كقوم صالح ولوط وغيرهم من المغضوب عليهم ، فإنه سوف ينظر إليها فيأخذ بنظرة تذكر حالهم في المعصية التي كانت سبباً في عذابهم من التكذيب للرسل والشك فيهم ومخالفة أمر الله والكفر والإشراك به ، وكذلك يحصل تذكر حالهم بالتفكر بقلب واع غير غافل في حالهم ، وتحصل هذه الفائدة بدراسة التاريخ وأخذ العبرة منه ، فإن هذا سوف يثير في نفسه وعقله إدراك العوامل التي أدت إلى هلاكهم إدراكاً مبصراً يؤدي إلى ترك أفعالهم وبغضها والتحذير منها فبهذا يكون قد أخذ العبرة من السير في الأرض وهذه أهم قضية يريدها الله من إيراد هذه الآيات ليحصل بذلك تقواه وطاعته سبحانه ، وتوحيده ومجانبة أفعال أولئك القوم .
وكذلك نجد في كتاب الله آيات تحث على أخذ العبرة مما حصل لمن كان قبلنا أو ما يحصل لحاضرنا ، فقد ورد الاعتبار بمعنى ( النظر في الأمور ليعرف بها شيء آخر من جنسها ) .
ففي سورة الحشر لما أجلى الله بني النظير من ديارهم عندما غدروا بالرسول بعد معاهدته فحاصرهم الرسول حتى أجلاهم من المدينة ، وقذف الله في قلوبهم الرعب ففي تأمل حالهم عبرة لمن أراد أن يعتبر .
قال تعالى : هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولى الأبصار .
( أي البصائر النافذة والعقول الكاملة فإن في هذا معتبراً ، يعرف به صنع الله في المعاندين للحق ، المتبعين لأهوائهم ، الذين لم تنفعهم عزتهم ، ولا منعتهم قوتهم ، ولا حصنتهم حصونهم ، حين جاءهم أمر الله ، فوصل إليهم النكال بذنوبهم والعبرة بعموم المعنى ، لا بخصوص السبب فإن هذه الآية ، تدل على الأمر بالاعتبار وهو اعتبار النظير بنظيره وقياس الشيء على ما يشابهه والتفكر فيما تضمنته الأحكام ، من المعاني والحكم ، التي هي محل العقل والفكرة , وبذلك يكمل العقل ، وتتنور البصيرة ، ويزداد الإيمان ، ويحصل الفهم الحقيقي ).
وأيضاً ما حصل لفرعون الطاغية الذي كذب رسول الله موسى عليه السلام ، وما حصل منه من ادعاء الألوهية حيث أخذه الله فأغرقه ، وجعله عبرة لمن بعده يحصل له به العبرة مما يجعله يجانب فعله . هل أتاك حديث موسى ، إذا ناداه ربه بالوادي المقدس طوى ، اذهب إلى فرعون إنه طغى , فقل هل لك إلى أن تزكى , وأهديك إلى ربك فتخشى , فأراه الآية الكبرى , فكذب وعصى , ثم أدبر يسعى , فحشر فنادى , فقال أنا ربكم الأعلى , فأخذه الله نكال الآخرة والأولى, إن في ذلك لعبرة لمن يخشى .
ثامناً : التفكر في آيات الله الكونية الكثيرة التي هي الآيات العظيمة في كتاب الله التي تجول بالفكر في صنع الله تعالى من سماء عالية وحكمة في صنعها بغير عمد ترونها وأودع فيها الكواكب المنيرة ، وجعل فيها الشمس والقمر اللذين بهما قوام هذه الحياة .
والأرض العظيمة وما أودع فيها من الخيرات والجبال والأشجار والإنس والجن وأنواع المأكولات ، وجلها مخزن الماء وسهلها لمنافع الناس إلى غير ذلك من الحكم الإلهية العظيمة التي تلفت المخاطب إلى أن يفكر فيها ، ويتأملها ليدرك عظمة الله في تسخيرها للإنسان قال تعالى : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون .
وقال تعالى موجهاً أنظار المخاطبين ، ومستحثاً لهم على تأمل عظيم صنعه في السماء والأرض ليستدلوا بها على ألوهيته واستحقاقه للعبادة دون سواه وذلك بالنظر إليها وتأملها أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض .
وقوله تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب .
وأيضاً قوله تعالى موجهاً الأنظار إلى ما أودع في الأرض من الجبال الرواسي التي بها حفظ توازن الأرض : أن تميد بكم وما جعل فيها من الثمرات المختلفة الألوان والمذاق ، وأنها مخلوقة من زوجين . وإغشاء الليل النهار .. ففي هذا من قدرة صنع الله ما يحرك العقول للتفكر والقلوب للتدبر أن الله لم يخلق هذا باطلاً ، إنما هو بالحق فهو الحق الذي يعبد وحده دون سواه .
قال تعالى مخاطباً ذوي البصائر النيرة للتفكر في إنزال المطر ، وما يحصل بعد إنزاله من إخراج أنواع النباتات التي يتغذى عليها الإنسان وكيف جعلها متنوعة وهي تسقى بماء واحد فإن في ذلك من الآيات ما يثير التفكر فيها ليستدل بها على توحيده سبحانه .
قال تعالى : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون , ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون .
وقوله تعالى حيث يستحث الإنسان على أن يستعمل فكره في العقل ليستفيد بهذا التعقل وذلك حتى لا يكون مثل البهائم التي لا تمييز لها ولا عقل تدرك به الأشياء : وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآية لقوم يعقلون .
فقوله يعقلون أي لمن لهم عقول يستعملونها في التدبر والتفكر فيما هي مهيأة ، له مستعدة ، تعقل ما تراه ، وتسمعه لا كنظر الغافلين الذي حظهم من النظرة حظ البهائم التي لا عقل لها ) .
وإننا نجد أن الله تعالى كرر في آيات من سور النحل الحث على التفكر في خلق السماوات والأرض والإنسان وأنواع الأنعام ، وأنه سخرها للإنسان ليقضي منها حاجته ، وإنزال المطر ، وما يحصل منه من إنبات أنواع الزروع رزقاً للعباد ليكون لهم متاعاً في حياتهم ليشكروا الله عليه .
وتسخير الليل والنهار يتعاقبان والشمس والقمر والنجوم كلها مسخرات بأمر الله لمصالح العباد ، وأنه ذرأ في الأرض من كل الألوان ، وأنه سخر البحر ليأكل منه الإنسان لحماً طرياً وحلية يلبسها . فكل ذلك من آيات دالة على القدرة الإلهية فهل من مدكر ؟ وكذلك التفكر في قدرة الله على تسخير البحر لتجري السفن على ظهره تنقل عليها أنواع البضائع ففي ذلك آية لمن أراد أن يشكر الله عليها .
وأيضاً التفكر في جعل الأرض مبسوطة عليها الجبال تثبتها . أن تميد بكم والتفكر في الأنهار ، وكيف أجراها الحي القيوم ، وما جعل الله في الأرض من السبل ليتحرك الإنسان على الأرض بسهولة وبدون مشقة ، ففي ذلك آية ، والتفكر في النجوم التي وضعت لمصالح العباد من الاهتداء بها ، وما فيها من الزينة ، كل ذلك من تسخير الله للعباد ليشكروا الله على هذا ويتفكروا فيها بقلوب واعية مبصرة ليدركوا عظمة الإله الحق سبحانه ، ويشهدوا أنه الخالق دون سواه وأن غيره من الخلق مفتقر إليه عبد خاضع له لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً فكيف يعبد غير الله ؟ فبذلك يحصل التوحيد لله ، عند ذلك يحقق الإنسان لنفسه العبودية التي من أجلها خلق .
قال تعالى : خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون ، خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين , والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون , ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون , وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم , والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين , هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منة شراب ومنه شجر فيه تسيمون , ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات أن في ذلك لآية لقوم يتفكرون , وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون , وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون , وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منة حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون , وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون , وعلامات وبالنجم هم يهتدون , أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون , وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم .
إلى غير ذلك من الآيات التي تحث على التفكر فبا لجملة فأن كل الآيات التي تحث على التفكر والاعتبار والاستبصار والنظر والسير والتذكر والتعقل الغرض منها ربط القلب البشري بالله ليحصل بهذا استشعار عظمة الله الحق وقدرته ، وجبروته ، وهيمنته على أرجاء هذا الكون الفسيح ، وأن كل شيء في هذا الكون على اتساعه تحت تصرفه وحده بلا شريك ، فيحصل بذلك للمتفكر الخوف والخشية والافتقار إلى الله فلا يرجو غيره ولا يعبد غيره ، ولا يستعين بغيره ، ولا يستغيث بغيره ، ولا يطلب من غيره ولا يذل رقبته لغيره فيسهل على المتفكر طاعته وامتثال أمره في كل ما يأمره به ربه ورسول ربه ، فيحصل بذلك سعادة الدنيا ونعيم الآخرة .
وقفات للتفكر :
إن مما ينبغي أن يفكر فيه المسلم مستفيدا في كل لحظات حياته هو ما يعود به عليه التفكر من العظة والعبرة والعمل والحركة والتوجه الصحيح المؤدي إلى الفوز في الآخرة برضوان الله تعالى،
ومن الأمثلة على ذلك :
1-يفكر في قوة الحق وشرفه ،وما ينبغي تجاهه من اعتقاده ،والتزامه وذلك بالتفكر في (آلاء الله ونعمه وأمره ونهيه وطرق العلم به وبأسمائه وصفاته من كتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما والا هما وهذا الفكر يثمر لصاحبه المعرفة والمحبة فإذا فكر في الآخرة وشرفها ودوامها وفي الدنيا وخستها وفنائها أثمر ذلك له الرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا،وكل ما فكر في قصر الأمل وضيق الوقت أورثه ذلك الجهد والاجتهاد وبذل الوسع في اغتنام الوقت ،وهذه الأفكار تعلي همته وتحييها بعد موتها وسفولها وتجعله في واد والناس في واد.
2-يفكر في ضعه الباطل وأهله وخستهم ،وما ينبغي تجاههم من بغضه ، وبغض أهله ، ومقاطعتهم والحذر منهم .
3-يفكر في الطاعة ،وما يحصل لأهلها من الطمأنينة والسعة والتقوى والسعادة في الدنيا، وما أورثته هذه الطاعة من خشية الله،والخضوع له ،والذل له سبحانه وتعالى وما يحصل لهم بعد موتهم بإذن ربهم من دخول الجنة وحلول رضوان الله عليهم .
4-يفكر في المعصية ،وما يحصل لأهلها في الدنيا من عدم الطمأنينة وعدم الاستقرار وصفاء الفكر ، وضيق النفس والحزن والكآبة ومما يحدو ببعضهم إلى الانتحار مع ما يترتب إلى ذلك من الخزي في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة .
5-يفكر في أسباب ضعف المسلمين اليوم حتى يكون حافزا له على الاهتمام بقضاياهم والعمل على تغير واقعهم المرير بالسبل المشروعة من تقوية هذا الضعف بالدعوة إلى الله ،وذلك بتفكير جاد في العوامل التي تنهض بالأمة وتعيدها إلى ما كانت عليه من عزة وقوة والله المستعان .
6-يفكر فيما يناسق إليه هواه هل يكون انسياقه مع الشهوات ونيل الملذات ورد الحق لأنه يخالف ما يهواه ؟ أم يكون هواه منساقا مع قوله عليه الصلاة والسلام (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ).
7-يفكر فيما يعرض عليه فإن كان حقا بادر إليه واعتقده ،وإن كان باطلا رده فيحصل بهذا التفكر البعد عن الباطل والقرب من الحق .
8- يفكر في الدنيا والآخرة ويقارن بين هذا التفكير فيفكر في حقارة الدنيا وأنها لا تستحق الاحتفاء بها إلا بقدر ما يطيع الإنسان بها ربه وأن يجعلها قنطره يصل من خلالها إلى رضوان الله تعالى ويفكر في الآخرة وما فيها لمن أطاع الله حتى يتحرك لفعل الخيرات وترك المعاصي (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ).
9-يفكر في الأحداث فيما حوله من وقوع المصائب ومسبباتها،وحصول النعم ومسبباتها مما يحرك القلب إلى سلوك طريق حصول النعم ، وترك الطرق الموصلة للمصائب فيحصل النفع بإذن الله للنفس .
10- ومما ينبغي أن يقف عنده المسلم ويفكر فيه (الفكر في مصالح المعاد وفي طريق اجتلابها وفي دفع مفاسد المعاد وفي طرق اجتنابها فهذه أربعة أفكار هي أجل الأفكار ويليها أربعة . فكر في مصالح الدنيا وطرق تحصيلها ، وفكر في مفاسد الدنيا وطرق الاحتراس منها، فعلى هذه الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء ..) .
فبالجملة ينبغي أن يوجه المسلم طاقته الفكرية فيما يصلح دنياه وآخرته وأن يوجهها الوجه الصحيحة، وذلك أن القلب لا يخلو من الفكر فأصلح شيء أن يشغل فكره فيما يعود عليه بالنفع وأن لا يستجيب للشيطان في وساوسه وأفكاره ، فيحصل له الفساد بذلك .
هذه المجالات التي إذا فكر فيها المسلم فإنها بإذن الله تعالى تجعله يعود إلى المسار الصحيح الذي ينبغي أن يسلكه ليكون في حياته على استقامة ،وعلى وعي وبصيرة لما يصلح له ومالا يصلح له ، فيكون وهو في هذه الأرض قلبه وشعوره وإحساسه وخلجاته الداخلية تراقب الله سبحانه وتعالى في كل لحظة من لحظات حياته ،وتصبح أفكاره وخواطره كلها تراقب الله فبذلك يكون المسلم الفاعل الذي قد حرك فكره وقلبه فيما ينفعه فيخرج عن أهل الغفلة ممن عطل عقله عن التفكر وقلبه عن التبصر وسمعه عن السمع .
قال تعالى ذاما لهؤلاء الذين عطلوا هذه الحواس عن تدبر هذه الآيات : ((و كأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون )).
قال تعالى ( ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والأنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل ) .
ولا تكن أيضا ممن عرض نفسه يوم القيامة للندم والحسرة :
(وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير (10)فاعترفوا بذنوبهم فسحقا لأصحاب السعير ) .
قال ابن عون (الفكرة تذهب الغفلة , وتحدث للقلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النماء وما جليت القلوب بمثل الأحزان ، ولا استنارت بمثل الفكرة ).
وقال الحسن عن عامر بن عبد قيس قال : ( سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون إن ضياء الإيمان ونور الإيمان التفكر ) .
فيكفيك أخي المسلم أن يكون التفكر ضياء المسلم ونور له ،وذلك لأهمية القلب لأن في صلاحه صلاح الجسد كله كما أخبر بذلك رسول الهدى صلى الله عليه وسلم بقوله : (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ).
على هذا يتضح مما سبق أن التفكر من العلوم التي ينبغي أن يعنى بها ، وأن توجه الوجهة الصحيحة المثمرة لسعادة العبد في الدنيا والآخرة ،وما ذلك إلا لشرفها لأن التفكر يوصلك إلى الحقيقة الإيمانية في الله سبحانه وتعالى عن طريق إمعان الفكر في آثار أفعاله من المخلوقات ، ليدرك المتفكر بذلك قدرة الله فيبعده ويوحده، إذا فعلى ذلك يجب إحياء هذه العبادة التي نسيها المسلم اليوم ،وانشغلوا بما هم فيه من ملاذ الدنيا والسعي وراء التحصيل الدنيوي الرخيص .
( فأنفع الدواء تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون مالا يعنيك ، فالفكر فيما لا يعني باب كل شر ومن فكر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه واشتغل عن انفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه فالفكر والخواطر والإرادة والهمة أحق شيء بإصلاحه من نفسك فإن هذه خاصتك وحقيقتك التي تبتعد بها ، أو تقرب من إلهك ومعبودك الذي لا سعادة لك إلا في قربه ورضاه عنك ، وكل الشقاء في بعدك عنه وسخطه عليك ، ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئا خسيسا لم يكن في سائر أمره إلا كذلك ، وإياك أن تمكن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك فإنه يفسدها عليك فسادا يصعب تداركه ،ويلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضرة ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك وأنت الذي أعنته على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك ...).
وقفات وتوجيهات في دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام في الحث على التفكر
من المعلوم أن رسل الله مأمورون من قبل الله بتبليغ ما أرسلوا به إلى خلقه من الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده بل شريك ، لذلك سلكوا مسلك عظيما ، وأسلوبا قويما في تقرير التوحيد لله الحق ،وذلك بربط المدعوين إلى التوحيد بالأدلة التفصيلية الحاثة على التفكر في صنع الله في هذا الوجود الكبير ليدركوا بهذا التفكر عظمة الخالق سبحانه لهذا الكون المستحق للعبادة وحده بلا شريك فبالنظر إلى دعوات الرسل وتوجيهاتهم لمن يدعونهم نجد هذا الأسلوب يتجلى واضحا .
فهذا نوح عليه الصلاة السلام سلك في دعوته لقومه طرقا عديدة محاولا أن يفتح بها قلوب و عقول قومه المغلقة على عبادة الأصنام فنجده يلفت نضر قومه المعاندين المستكبرين إلى قدرته سبحانه وتعالى في الخلق فهو يستحثهم على التفكير في خلق أنفسهم من تلك النطفة الحقيرة (مالكم لا ترجون لله وقارا (13 ) وقد خلقكم أطوارا) وإلى عظم خلق السموات .وما فيها من قمر وشمس تضيء لكم لمنافعكم ( ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا(15) وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا) وذكرهم بخلق آدم عليه السلام ، وأنهم سوف يعودون بعد موتهم إلى التراب الذي خلقوا منه (والله أنبتكم من الأرض نباتا (17)ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا ) ثم لفت أنظارهم إلى الأرض التي يعيشون عليها ويستعملون ما فيه من الخيرات إن الله جعلها لكم مبسوطة ليسهل الاستفادة منها في معاشكم ( والله جعل لكم الأرض بساطا (19 ) لتسلكوا منها سبلا فجاجا ) هذا الأسلوب من نوح عليه السلام نجده ينبه بتحريك عقول قومه للتفكر والتأمل والتدبر لهذه المخلوقات العظيمة لكي يدركوا بتفكرهم فيها عظمة الخالق العظيم لها حتى إذا ما أدركوا هذه العظمة وانكشف لهم سر القدرة الإلهية فيها تحول ذلك في قلوبهم إلى هيبة وخشية وخوف فحصل بذلك توقيره وتوحيده وعبادته دون شريك كل ذلك بشرط أن يكو ن التفكر بعقل واع مجرد من الهوى والعصبية والاستكبار قال ابن كثير: ( وكل هذا مما ينبههم به نوح عليه السلام على قدرة الله وعظمته في خلق السموات والأرض ونعمه عليهم مما جعل لهم من المنافع السماوية والأرضية فهو الخالق الرازق جعل السماء بناء والأرض مهادا وأوسع على خلقه من رزقه ،فهو الذي يجب أن يعبد ويوحد ولا يشرك به أحد لأنه لا نظير له ولا عديل له ولا ند له ولا كفؤا له ولا صاحبة له ولا ولد ولا وزير ولا مشير بل هو العلي الكبير ).
لكن بعد هذه الدعوة المشتملة على الأساليب المقنعة التي هي حجج واضحات على المعاندين لم يؤمنوا بهذا الرسول العظيم الكبير إلا نفر قليل،بعد ذلك طلب نوح من ربه أن يهلك قومه جزاء كفرهم وتكذيبهم.
قال تعالى: (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ) وقال تعالى قال رب إن قومي كذبون (17) فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني من معي من المؤمنين ) فاستجاب الله لرسوله الكريم فأغرق قومه ، ونجاه هو ومن آمن معه .
قال تعالى مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا ) .
هكذا أغرقهم الله بذنوبهم وأهلكهم جزاء أفعالهم فإنهم لما تركوا تدبر دعوته عليه السلام وأقفلوا عقولهم عن التفكير فيها ولم يستدلوا بآياته على وحدانيته حصل لهم الكفر به سبحانه فكان الهلاك لهم فهو مصير الظالمين المكذبين بالمرسلين ، ونصر الله المؤمنين الذين استعملوا عقولهم وتفكروا في ما جاء به رسول ربهم فهداهم تفكرهم بإذن ربهم إلى أن الله هو المستحق للعبادة وأن ما جاء به الرسول حق وصدق وعدل ونور وهدى فكان إيمانهم بالله فحصل بذلك نجاتهم برحمة الله (وكان حقا علينا نصر المؤمنين ).
دعوة موسى عليه الصلاة السلام
يرسل الله موسى عليه السلام إلى طاغية متكبر جبار فيأمره أن يدعوه إلى التوحيد وعبادة الله بلا شريك .
قال تعالى وَقَالَ مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عََلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل .
قابل فرعون هذه الدعوة بالتكذيب والرد والجحود والتشكيك قال فمن ربكما ياموسى
(أي الذي بعثك وأرسلك من هو فإني لا أعرفه وما علمت لكم من إله غيري ).
هنا نجد موسى عليه السلام يرد عليه بلفت نظره وفكره إلى أن ربه هو الذي خلق كل شيء فهو مليكه والمتصرف فيه ، وأنه هو الذي هدى كل مخلوق إلى ما خلق له قال تعالى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ( ). فأن هذا الطاغية كان يكفيه استشعار هذه الحقيقة العظيمة و الآية الواضحة البينة في إعطاء الله الخلائق كل ما تحتاجه ، وهدايتهم إلى الانتفاع كلاً على ما خلقه الله له فإن ذلك سوف يحدث في قلبه الخشية لله لأن هذه الحقيقة في إهداء كل شيء لما خلق له برهان ساطع ودليل قاطع على توحيد الله سبحانه وتعالى وقدرته على كل شيء ، وأنه المستحق للعبادة وحده بلا شريك لكن لما لم ينتفع بهذا الدليل الواضح قال فما بال القرون الأولى ؟ .
[قد سبقونا إلى الإنكار والكفر والظلم والعناد ولنا فيهم أسوة فقال موسى عليه السلام علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى أي قد أحصى أعمالهم من خير وشر وكتبه في كتابه وهو اللوح المحفوظ ، وأحاط به علماً وخيراً فلا يضل عن شيء منها ولا ينسى ما علمه منها] لكن نجد هذا الاعتراض من فرعون لا يثني من عزيمة موسى عليه الصلاة السلام في إقامة الأدلة والبراهين التوحيدية على استحقاق الله للعبادة وحده لا شريك له ، وذلك بلفت انتباه فرعون إلى صنع الله في الوجود العظيم [فيعرض على آثار تدبير الله في الكون وآلائه على بني الإنسان فيختار بعض هذه الآثار المحيطة بفرعون ،المشهودة له في مصر ذات التربة الرخيصة والماء الموفور والزروع والأنعام ].
قال الله تعالى : الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نباتا شتى (53)كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لأيات لأولي النهى .
فموسى عليه الصلاة والسلام يلفت نظره وعقله ليتدبر ويتفكر ويتأمل صنع الله في تمهيد الأرض ، وجعلها قرار ليحصل النفع بها وبما شق فيها من السبل لكي يستطيع الإنسان التحرك على وجهها لقضاء مصالحه .
كما لفت نظره إلى إنزال المطر من السماء ، وكيف إذا اختلط بالأرض يخرج به نباتات من أنواع مختلفة منها يأكله الإنسان وبعضه الأخر ترعاه الأنعام وكيف أخرج وكون سبحانه من ذلك المطر تلك الأنهار التي تشق الأرض تعبرها تسخيراً منه تعالى لعباده ليشكروه على نعمه ولكي يتفكروا في هذا الصنع البديع الذي لا يقدر عليه أحد حتى فرعون المدعي للربوبية إن في ذلك لأية لأصحاب العقول المتفكرة في هذا الصنع التي تستدل به على قدرة الإله الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء .
ويواصل موسى عليه السلام دعوته لفرعون موجها عقله إلى أن الله هو خالق السموات والأرض والمشرق والمغرب وما بينهما ، كي يتواصل بهذا التعقل إلى التفكر في عظمة الخالق ومن ثم يستدل على الحي الذي لا يموت .
((قال فرعون وما رب العالمين (23) قال رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين (24) قال لمن حواه ألا تستمعون (25) قال ربكم ورب آبائكم الأولين (26) قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون (27) قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون )) .
فمع هذه البراهين الساطعة والأدلة القاطعة لذوي العقول المتفكرة الواعية والقلوب المتفتحة نجد فرعون الطاغية لا يؤمن ولا يلين قلبه ولا يخشع ، فعاقبه الله وقومه ممن اتبعه بالهلاك في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة ( النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلو آل فرعون أشد العذاب).
هكذا مصير الطغاة المعطلين عقولهم عن التفكر والتأمل في ما جاء به رسولهم من البينات ،
والحجج الواضحات الدالة على وحدانية الله واستحقاقه للعبادة دون سواه وفي المقابل نرى حصول النجاة لمن تعقل وتفكر في أمر الرسول واستفاد من تفكره واستدل به على صدقه ومن ثم دله ذلك على استحقاق الله للعبادة وحده دون شريك .
يتبع إن شاء الله...