عوائق في طريق العبودية
كتبـــــــــــــــــــــــــــــه:
عبد الكريم بن صالح الحميد
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
******************
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
أما بعد:
فإن من أعظم أسباب الإعراض عن الله عدم معرفة حقيقة العبودية وسرَّها وأنها مجرد تكليف ومشقة وخلاف مطلب القلب ومُتَعلَّقِة.
فالشاب ينشأ وفي قلبه ميل ومحبة للجمال وتعلّق بالصُّور الجميلة هذا أعظم ما يصبوا إليه قلبه في الغالب ثم قد تثبت محبته لصورة واحدة وقد ينتقل من صورة إلى غيرها والإرادة واحدة وهي طلب اللذة فلولا أنه يجد لذة عظيمة بهذه الصورة لما تعلق قلبه بها، وطلب اللذّة والنعيم ليس أمراً مذموماً وإنما الشأن في سرِّ هذه اللذة والنعيم ما هو إذا كان حاصلاً من التعلق بالصور، كذلك هل هذا هو متعلَّق القلب الحقيقي الذي يحصل به نعيمه وسعادته وسروره أم لا؟.
لابد من معرفة أمور مهمة لتظهر الإجابة على هذا الكلام واضحة جلية منها:
الأول: معرفة الفطرة التي فطر عليها الإنسان.
اعلم أن الفطرة التي فطر عليها كل إنسان هي إرادة خالقه ومحبته فمهما تعلقت هذه الإرادة والمحبة والطلب بغيره مهما يكن سواء إرادة الدنيا أو عشق الصور أو غير ذلك مما يتوهم الإنسان أنه بحصوله له ينال نعميه وسروره ولذته فإن هذا انحراف عن الفطرة ثم لابد من حصول الألم والهمّ والغمّ سواءً حصل هذا المحبوب المزعوم أم لم يحصل لأن ذلك خلاف الفطرة والخِلْقة لكن السرور واللذة التي تحصل بذلك هي من جنس لذة الطعام الشهي المسموم.
الثاني: معرفة العبودية.
وهي خلوص المحبة للإله الحق سبحانه بحيث لا يُشاركه فيها غيره فلابد إذاً من التخلص من المحبوب المشارك والمنازع لهذه المحبة.
الثالث: معرفة حقيقة المحبوب المشارك المنازع لهذه المحبة: وهو في الغالب طلب المال والعز والشرف كذلك المحبة والعشق والتلذذ برؤية الصور الجميلة وطلب وصالها.
أما الأول وهو ما نسميه طلب الدنيا فهذا ليس مذموماً مطلقاً لكن المذموم منه إذا كان غاية الكائن الحي ومبلغ علمه، أما إذا كان وسيلة لغيره فلا بأس به، يعني أن يكون وسيلة للغاية الحقيقية التي من أجلها أُوجِدَ هذا الكائن فيكون كالمركب الموصل، أو مثل الكنيف الذي يقضي فيه الإنسان حاجته ولا يحتاج أن يقال ولا يتعلق قلبه فيه فهذا معلوم كذلك تكون هذه الوسيلة من طريق طيب.
والفكرة بالموت والعبرة بالأموات تهَوِّن هذا التعلّق، وأيضاً الفكر في مفارقة هذا المحبوب قبل الموت حيث أن ذلك يحصل كثيراً يهون التعلق به.
كذلك التعب في تحصيله والهم والغم الحاصل عند حصوله لأنه لابد من ذلك، ثم تَبِعاتُه في الآخرة وليس أشفى لهذا الداء من تدبر نصوص الكتاب والسُّنَّة الواردة بهذا الشأن، وهي كثيرة جداً.
أما عشق الصور الجميلة وطلب وصالها فهذا أيضاً يُهونه التفكر في المحبوب وأنه مَحْشُوٌّ من الأنجاس والأقذار فكيف يتعبد القلب مَنْ هذه صفته وكما يقال:
لو فكّر العاشق في مُنْتَهى ***** حُسْنِ الذي يَسْبِيهِ لم يَسْبِه
كذلك تحول هذا المعشوق وتغير جماله في وقت قصير وأيضاً تجنِّيه على عاشقه وإدلاله مع أنه ليس هنالك مهما بلغ من الحسن وإنما المسألة كما يقال:
هَوَيتك إذْ عيني عليها غشاوةٌ ***** فلما انجلتْ قَطَّعْتُ نفسي ألُومُها
والرغبات تسْتر العيوب فمن أعمل فكره فيما وصفت سهل عليه التخلص إن كان أسيراً واستمر في الحرية من رِقِّ العبودية لقطاع الطريق إن كان طليقاً.
ولولا سعة خيال الإنسان بتصوره الشيء على غير حقيقته كذلك الأماني التي هي مركب النفس الفارغة والشهوة والأغاني المهيجة والقصص المثيرة والغفلة أو الإعراض جملة عن الوعد والوعيد لما حصل من ذلك شيء كما يقال:
وما الحبُّ لَوْ لم تَجْلُهُ كَفُّ بارعٍ ***** سِوَى الهمِّ والغَمِّ المُبَرِّحِ والخُسْرِ
محبوب القلوب الحق:
الرابع: معرفة المحبوب الحق وما يتصف به من صفات الكمال والجمال والجلال.
ويكفي في هذا أن أهل الجنة بعد ما يباشرون نعيمها الذي هو فوق الوصف إذا رأوا ربّهم وسمعوا كلامه وَدُّوا ألاَّ يعودوا إلى نعيمهم فيها وأن يدوم لهم قُرْب محبوبهم ورؤية وجهه الكريم وسماع كلامه حيث أن هذا مُتعلق القلب الحقيقي، الذي لذته فيه أعظم من لذة النعيم المخلوق في الجنة، فضلاً عن محبوبات الدنيا ونعيمها، لكن لابد من التّخْلية قبل التحْلية، فتفريغ القلب من المحبوبات المتصوَّرة المتخيَّلة المنقوشة صورها في القلب لابد منه، لتبقى المحبة الحقيقية بلا مُزَاحم، بانجلاء هذه الحجب الكثيفة، لِتُفْضي المحبة للمحبوب الحق.
وتأمل هذه الأبيات التي تبين خلوص الود للمحبوب الحق ونسخ محبة كل مَن سواه من القلب:
لقد كان يَسْبي القلب في كلِّ ليلةٍ يهيمُ بهذا ثم يألَفُ غيرَهُ
وقد كان قلبي ضائعاً قبل حُبكمْ فلما دعا قلبي هواك أجابَهُ
حُرِمْتُ منائي منكَ إن كنتُ كاذباً وإن كان شيء في الوجود سواكموا
إذا لعبت أيدي الهوى بمحبكم فإن أدركته غُرْبْةٌ عن دياركمْ
وكمْ مُشْتَرٍ في الخلق قدْ سَام قلبَهُ هوى غيركم نار تلظَّى ومحبسٌ
فيا ضَيْم قلبٍ قدْ تعلَّق غيركمْ ثمانونَ بل تسعونَ نفساً وأرْجَحُ
ويَسْلوهموا من فَوْرهِ حين يُصبح فكان بحب الخلق يَلْهُو ويمرح
فلستُ أراهُ عن خبائك يبرح وإن كنتُ في الدنيا بغيركَ أفرح
يُسَرُّ به القلب الجريح ويفرح فليس له عن بابكم متزحزح
فحبكموا بين الحشا ليس يبرح فلم يَرَهُ إلا لحبكَ يصْلُحُ
وحبكموا الفردوسُ بل هو أفسح ويا رحمة مما يجول ويكدح
إذا تبيّن هذا فعلى المعشوق أيضاً الموهوب مسحة من جمال ووضاءة ألاَّ ينخدع ويغتر بنفسه ويغرَّ غيره وأن يتفكر في حاضر حاله ومستقبله ولا يتصنع لعاشقه رِضىً بما يصنع فإنه يشاركه في الإثم والانقطاع عن الله.
أما حب الرجل لزوجته فمحمود مالم يتعد الحدود: "وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً".
عبــادة المعشــوق:
ومن الأمور الواضحة أن المعشوق في هذا الزمان قد صار ندّاً لله في المحبة وكثير من العاشقين نسي محبة ربّه لامتلاء قلبه من محبة معشوقه، وأعظم ما يُوري هذه النار الغناء، حيث أنه يُسكر الروح فتهيم في أودية الضلالة وقد قال تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ".
وإذا كان الغناء في كلام السلف رُقية الزنا فهو في هذا العصر رُقية الشرك.
حيث يقول بعضهم:
أحبه حبيبـي وأعبد حبيبـي.
والآخر يقول:
وركعتُ ساعات على قَدَمَيْهِ.
ونحو ذلك كثير.
الرجوع إلى الله:
والعشق حركة قلب فارغ، يعني من محبّة الله التي هو مفطور عليها، فالمطلوب هنا التوبة والرجوع إلى الله عزَّ وجلَّ من مثل هذه الأمور العظيمة، التي قد لا يخطر على قلب المبتلى بها أنها آثام، وهي من عظيم الإجرام، وقد يتصور الكثير أن التوبة فقط من ترك الطاعة وفعل الفاحشة، ولا يرى أن العشق مثل ذلك، فقد لا يتوب منه مع أنه لُبّ العبودية، لأن تعلق القلب بغير المحبوب الحق من أعظم الحجب.
هذا كالمدخل والتنبيه لأمور جليلة عظيمة، الإسهاب فيها يطول ويطول ومفتاح ذلك التفكر، ومَن أراد التزود من هذا بل وأحسن منه وأجمل وأوفى للمقصود فعليه بكتاب (طريق الهجرتين) لابن القيم، و(الجواب الكافي) له و (روضة المحبين) له، و (ذم الهوى) لابن الجوزي، و (استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس) لابن رجب، رحمهم الله أجمعين، وعسى الذين مَنَّ علينا بهذا معرفة أن يمنَّ علينا به حالاً.
ومن أسمائه الحسنى (الجميـــــــــل):
قال ابن القيم رحمه الله:
ومن أسمائه الحسنى: الجميل، ومَنْ أحقُّ بالجمال ممَّن كل جمال في الوجود فهو من آثار صُنْعه، فله جمال الذات، وجمال الأوصاف، وجمال الأفعال، وجمال الأسماء، فأسماؤه كلها حسنى وصفاته كلها كمال، وأفعاله كلها جميلة، فلا يستطيع بشرٌ النظر إلى جلاله وجماله في هذه الدار، فإذا رأوه سبحانه في جنَّات عدن أنْسَتْهم رؤيته ما هم فيه من النعيم فلا يلتفتون حينئذٍ إلى شيء غيره. انتهى.
وقال الحسن:
إذا نظر أهل الجنَّة إلى الله تعالى نسوا نعيم الجنَّة.
وقال مالك بن دينار:
جنَّات النعيم بين الفردوس وبين جنَّات عدن فيها جوارٍ خُلقن من ورْد الجنة يسكنها الذين هَمُّوا بالمعاصي فلما ذكروا الله عزَّ وجلَّ راقبوه فانثنت رقابهم من خشية الله عزَّ وجلَّ.
نماذج من التقوى والعفاف:
والآن نذكر بعض القصص في هذا المعنى من (روضة المحبين) لابن القيم رحمه الله.
قال يحيى بن عامر التيمي:
خرج رجل من الحي حاجّاً فَوَرَدَ بعض المياه ليلاً، فإذا هو بامرأة ناشرة شعرها، فأعرض عنها فقالت له: هلمّ إليَّ فلِمَ تعرض عني؟ فقال: إني أخاف الله رب العالمين فَتجَلْبَبَتْ ثم قالت: هِبْتَ والله مُهاباً، إن أولى من شَرَكَكَ في الهيبة لَمَنْ أراد أن يشركك في المعصية، ثم ولَّتْ فتبعها، فدخلت بعض خيام الأعراب، قال فلما أصبحتُ أتيتُ رجلاً من القوم فسألته عنها وقلت: فتاة صِفتُها كذا وكذا فقال: هي والله ابنتي، فقلت: هل أنت مُزَوَّجي بها؟ فقال: على الأكفاء فمن أنت؟ فقلت: رجل من تيم الله، فقال: كفوٌ كريم، فما رُمْت حتى تزوجتها ودخلت بها، ثم قلت: جهزوها إلى قدومي من الحج، فلما قدمنا حملتها إلى الكوفة وها هي ذي ولي منها بنون وبنات، قال: فقلت لها: ويحك ما كان تعرُّضكِ لي حينئذِ؟ فقالت: يا هذا ليس للنساء خيرٌ من الأزواج، فلا تعجبنَّ من امرأة تقول هَوَيْت، فو الله لو كان عند بعض السودان ما تريده من هواها لكان هواها.
وقال يحيى بن أيوب:
كان بالمدينة فتى يُعجب عمر بن الخطاب رضي الله عنه شأنه، فانصرف ليلة من صلاة العشاء فتمثّلت له امرأة بين يديه فعرَّضت له بنفسها ففُتن بها ومضت فاتبعها حتى وقف على بابها فأبصر وجلا عن قلبه وحضرته هذه الآية: "إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ" فخرَّ مغشياً عليه، فنظرت إليه المرأة فإذا هو كالميت فلم تزل هي وجارية لها يتعاونان عليه حتى ألقياه على باب داره فخرج أبوه فرآه مُلقى على باب الدار لِما به فحمله وأدخله فأفاق فسأله ما أصابك يا بني؟ فلم يخبره، فلم يزل به حتى أخبره فلما تلا الآية شهق شهقة فخرجت نفسه، فبلغ عمر رضي الله عنه قصته فقال: ألا آذنتموني بموته؟ فذهب حتى وقف على قبره فنادى: يا فلان: "وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ" فسمع صوتاً من داخل القبر: قد أعطاني ربي يا عمر.
وقال أبو عمران الجوني:
كان رجل من بني إسرائيل لا يمتنع من شيء، فجَهِدَ أهل بيت من بني إسرائيل، فأرسلوا إليه جارية منهم تسأله شيئاً، فقال: لا أو تمكنيني من نفسك، فخرجت فجهدوا جهداً شديداً فرجعت إليه فقالت: أعطنا فقال: لا أو تمكنيني من نفسك، فرجعت، فجهدوا جهداً كثيراً فأرسلوها إليه فقال لها ذلك فقالت: دونك، فلما خلا بها جعلت تنتفض كما تنتفض السعفة، قال لها: مالك؟ قالت: إني أخاف الله رب العالمين، هذا شيء لم أصنعه قط، قال: أنت تخافين الله ولم تصنعيه وأفعله؟ أعاهد الله أني لا أرجع إلى شيء مما كنت فيه، فأوحى الله إلى نبي من أنبيائهم أن فلانًا أصبح في كتاب أهل الجنة.
وقال حصين بن عبد الرحمن:
بلغني أن فتى من أهل المدينة كان يشهد الصلوات مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان عمر يتفقده إذا غاب، فعشقته امرأة من أهل المدينة، فذكرت ذلك لبعض نسائها، فقالت: أنا أحتال لكِ في إدخاله عليك، فقعدت له في الطريق، فلما مرَّ بها قالت: إني امرأة كبيرة السن ولي شاة لا أستطيع أن أحلبها، فلو دخلت وحلبتها لي، وكانوا أرغب شيء في الخير، فدخل فلم يَرَ شاةً، فقالت: اجلس حتى آتيك بها فإذا المرأة قد طلعت عليه، فلما رأى ذلك عَمَد إلى محراب في البيت فقعد فيه فأرادته عن نفسه فأبى وقال: اتقي الله أيتها المرأة فجعلت لا تكف عنه ولا تلتفت إلى قولـه، فلما أبى عليها صاحت عليه فجاءوا فقالت: إن هذا دخل عليَّ يريدني عن نفسي، فوثبوا عليه وجعلوا يضربوه وأوثقوه، فلما صلّى عمرُ الغداة فَقَدَه، فبينا هو كذلك إذ جاءوا به في وثَاق، فلما رآه عمر قال: اللهم لا تخلف ظني به، قال: ما لكم؟ قالوا: استغاثت امرأة بالليل فجئنا فوجدنا هذا الغلام عندها فضربناه وأوثقناه، فقال عمر رضي الله عنه: أصْدُقني، فأخبره بالقصة على وجهها، فقال له عمر رضي الله عنه: أتعرف العجوز؟ قال: نعم إن رأيتها عرفتها، فأرسل عمر إلى نساء جيرانها وعجائزهن، فجاء بهن، فعرضهن فلم يعرفها فيهن، حتى مرّت به العجوز فقال: هذه يا أمير المؤمنين، فرفع عمر عليها الدرَّة وقال: أصدقيني، فقصَّت عليه القصة كما قصها الفتى، فقال عمر: الحمد لله الذي جعل فينا شبيه يوسف. انتهى.
وهذه قصيدة عبارة عن محاورة بين شابين تبين توبتهما وتركهما ما يلهيهما عن الحق.
توبة شابَّيْن:
قال شابٌ مُنْهَمِكٌ في المعاصي لِصاحبه:
يا صاحبي ما لي أراكَ تغيرت عهدي بقلبك سالياً من هَمِّهِ
قُمْ كي نُشَاهِدَ ما يَسُرُّ قلوبنا صُوَرٌ حِسانٌ مع سماعٍ شائقٍ
من شاشةٍ تأتي بكل عجيبةٍ ماذا تقولُ وَهَلْ بهذا كلّهِ
منك الطَّباع كأنَّ عقلُك ذاهلُ واليوم أصبح فيك هَمُّ واغِلُ
ودَعِ الهُمومَ وكلَّ ما هو شاغل في مشهدٍ إمتاعُهُ مُتَواصِلُ
ألْهَمُّ للإنسان داءٌ قاتل بأسٌ يَصُدُّكَ أو حِجابٌ حائلُ
قال صاحبه وكان قد تاب مما كان عليه:
إني أقولُ لَعَلَّ قلبكَ حاضرٌ هذا الذي زَيَّنْتَ لي أوصافهُ
هُوَ شُغْلُ قلبٍ فارغٍ مِمَّا لَهُ اسمعْ مقالة ناصح لك مُشْفِقٍ
إني علمتُ بأنَّ هذا كُلَّهُ لِلرُّوحِ يُسْكِرُ مثل سُكْر مَدَامَةٍ
إني علمتُ بأنَّ ربي سائلي ماذا أقولُ إذا وقفتُ بِمَوْقِفٍ
قَضَّيْتُ وقتي لاهِياً بِمشاهِدٍ قَضَّيْتُ عمري بالغواية لاهياً
ماذا أقول إذ الجحيم تَسَعَّرتْ والأرضُ رُجَّتْ والسماء تشَقَّقَتْ
والمُتقونَ بِرَوْضَةٍ في جَنَّةٍ والحُورُ تُسْمِعُهُمْ بِصَوْتٍ ناعِمٍ
هذا النَّعيمُ وفوقهُ ما جَلَّ عَنْ نَظَرُ العبادِ لِرَبِّهِمْ مِنْ فَوْقهمْ
إني علمتُ بأنَّ قلبي مَوْطنٌ حُبُّ الجليلِ وَكُلُّ حُبٍّ قاطِعٍ
أصلُ العبادةٍ لُبُّها هُوَ حُبُّهُ إنَّ المُحِبَّ لِغيْرهِ مُتَعَلِّقٌ
لا تُخْدَعَنَّ فما بِدُنْيانا سِوَى حُبُّ الإلهِ نعيمنا وَعَذابُنا
اقْدَحْ زِنادَ الْفِكْرِ تعلمُ أنَّما تَزْيينُ شَيْطانِ مُضِلٍ ماكِرٍ
والآدَمِيُّ عُيُوبُهُ إنْ أُبْصِرَتْ قال ابنُ مسعودٍ مَقالاً صائباً
أو ألْقِ سمعا لِلَّذي أنا قائلُ وتقولُ فيه لنا سرورٌ عاجل
خُلِقَ العبادُ وأنتَ غِرٌّ جاهل لا يُلْهِيَنَّكَ عن هُدَاكَ الباطل
داء القلوب وغمُّها المُتواصِلُ لا تَسْتَفِيقُ وكل شر حاصل
عمَّا رأيتُ وكلُّ ما أنا فاعلُ فيهِ الشَّفِيقَةُ عَنْ رَضيعٍ ذاهلُ
هِي فِتنةٌ ما اغْتَرَّ فيها عاقل وبكل ما هو بالضلالة كافل
يا حسْرتا فالأمر حقاً هائل والأمْرُ أصبحَ لَيْسَ فِيهِ تَحايُلُ
فيها النَّعيمُ الدَّائمُ المُتَكامِلُ ما لَذَّ للإسماعِ وَيْحَكَ غافِلُ
دَرَكِ العقولِ وكُلِّ ما يُتَخَايَلُ وكلامُهُ هذا النعيم الكامِلُ
لِلْحُبِّ فهو شفاء دائي الواغل عَنْهُ وَبَالُ أوْ حِجابٌ حائِلُ
فَلَهُ البقاءُ وَكُلُّ حُبٍّ آفِلُ فيمَا يَضُرُّ وَهَمُّهُ مُتَوَاصِلُ
هَمٌّ وَغَمٌّ أوْ نعيمٌ عاجِلُ في حُبِّ غيرِ الله وهوَ الباطِلُ
أحْبَبْتَ لولا الجهل شيءٌ عاطل وهو العدوُّ وكيْدهُ مُتَوَاصِل
بِالقَلبِ هانَ الحُبُّ أوْ هُوُ زائِلُ إفْهَمْهُ لا يَصْرَعْكَ سَهْمٌ قاتِلُ
إنْ أعْجَبَتْكَ الْخَوْدُ(1) فاذكُرْ نَتْنَها أما الغُلامُ إذا عَشِقْتَ فلا تلُمْ
سَمَّاهُمُ العقلاءُ أنتاناً فما هذي الشرورُ وغيرُها مِفْتاحُها
صَوْتُ المُغنِّي والمعازفُ كلها تَجِدُ الْعَفِيفَ إذَا حَوَتْهُ شِبَاكُها
هذا الذي حَسَّنْتَ لي أوْصَافهُ هذا جَوابي إنِّما لَكَ صُغْتُهُ
ماذا تقولُ وما عَسَاكَ تَظُّنني لا تَسْبِينَّك فَهْيَ شيء نازِلُ
إِلاَّ هواكَ بكلِّ ما هوَ حاصل تَطْلُبْهُ مِنْ حُسْنٍ فَقُبْحٌ سافِلُ
حُبُّ الغناء وكُلُّ ما هُوَ باطل وكذا المشاهدُ كُلُّ ذاكَ حَبائل
أَلِفَ الفجورَ ولِلْعَفافِ يُزَايلُ وتقولُ فيهِ لنا سرورٌ عاجل
فاقْبَلْ لِنُصْحي فِعْل مَنْ هوَ عاقل أرْجو بِنُصْحِكَ غَيْرَ ما هو فاضل
بعد ذلك قال الشاب الأول وقد تَبَيَّنَ له الحق وانقشعتْ عن قلبه غشاوة الباطل:
إني أقولُ لَقَدْ صَدقتَ وَكلَّما يا صاحبي قَدْ كُنْت عَنْ ذا غافِلاً
ضيَّعتُ عمري والمصيبةُ أنني تَالله قَدْ كُنَّا بِلَيْلٍ مُوحِشٍ
وعَلِمْتُ أنَّ عَدُوَّنا قَدْ غَرَّنا لا بَأسَ في هذا وهذا جائزٌ
حتى ولجنا في ظلامٍ حالِك ما ضَرَّنا إلا الذين تساهلوا
وَرَسُولُنا قد قال نهييَ جَنِّبوا رُحْماك ربي أنتَ أرحم راحمٍ
قَدْ قلتَهُ فَهْوَ الطريق العادِلُ أيْقَظْتَني إني لِنُصْحِكَ قابِلُ
أدْري بِأنَّ العُمْرَ ظِلٌّ زائِلُ والآنَ بَانَ لِيَ الضِّياءَ الكامِلُ
بِزَخَارِفِ الأقوالِ صار يُجادِل هذا مُفِيدٌ لا يَضُرُّ الفاعِلُ
قَدْ كُنْتُ أحْسِبُ أنَّه مُتَضَائِلُ فَتَحُوا لَنَا الأبوابَ وَهْيَ حَوَائِلُ
والأمرُ فَأْتوا ما استطاعَ العامِلُ ما خابَ عبدٌ جاء بابكَ سائل
فائدة عظيمة القدر:
في كتاب (الزهد) لابن المبارك(1) رحمه الله قصة طائر وقع بالقرب من نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام وعنده الحواريين فيها مثال حي وعِبْرة ناطقة مَن تأملها انكشف له سر العبودية بسهولة فيعمل أعماله على مقتضى هذا الشهود الذي من أجَلّ ثماره سقوط الإعجاب بالنفس والعمل، ومعرفة حكمة التشريع التي ضَلّ عن معرفتها كثير من الخلق.
والقصة هي:
بينما المسيح في رهْط من الحواريين بين نهر جارٍ وحَيّةٍ مُنْتِنة اقبل طائرٌ حَسَنَ اللون يتلوَّن كأنما هو الذهب فوقع قريباً فانتفض فسلخ عنه مِسْكَه فإذا هو أقبح شيء، أقَيْرِع أحَيْمر.
"وفي الحلية" فخلع مسْلاخه فخرج أقرع أحمر كأقبح ما يكون فأتى بركة فتلوث في حمأتها فخرج أسود قبيحاً.
فاستقبل جرية الماء فاغتسل ثم عاد إلى مسلاخه فلبسه فعاد إليه حُسْنه وجماله حين رجع إلى مسْكه فتدرّعه كما كان أول مَرَّة.
فكذلك عامل الخطيئة حين يخرج من دينه ويكون في الخطايا، وكذلك مثل التوبة كمثل اغتساله من النتن في النهر الضحضاح ثم راجع دينه حين تدرّع مسْكه، وتلك الأمثال.
وفي الحلية:
فقال عيسى عليه السلام: إن هذا بُعِثَ لكم آية، إن مَثل هذا كمَثل المؤمن إذا تَلَوّث في الذنوب والخطايا نُزِع منه حسْنه وجماله وإذا تاب إلى الله عاد إليه حسنه وجماله. انتهى.
مَن عرف هذا عَلِمَ أن تأثير الحسنات والسيئات على الروح مباشرة فأثر الحسنات حُسْناً وجمالاً وكمالاً ونوراً وعكس ذلك أثر السيئات.
إن هذا حاصل في الدنيا مَوْضع الإعداد وتيسير كل مخلوق لِما خلق له، ويتجلى ذلك ظاهراً بيّناً في القيامة قال تعالى: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ" هذا أثر الحسنات، وقال تعالى: "وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ" هذا أثر السيئات، وفي مواضع من القرآن بيَّن اللهُ ذلك غاية البيان، مثل قوله تعالى: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ" وقوله تعالى: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ " وقولـه تعالى: "يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ" هذا وغيره من القرآن وكلام الرسول يُبين أثر الحسنات، ومقابلة وضدّه أثر السيئات مثل قوله تعالى: "كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمـا" وقوله تعالى: "وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ" وقوله تعالى: "وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّة" وقوله تعالى: "وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ".
وهذه الآثار هي حاصلة وُجوداً في الدنيا، ومن هنا جاء وصف رائحة روح المؤمن ونورها عند الموت وضدّ ذلك الكافر والفاجر، فالرائحة الطيبة طبيعية لروح المؤمن كالنور والجمال كل ذلك خِلْقة ملازمة وبضد ذلك الكافر والفاجر، ومن هنا يظهر سِرّ التعبّد للإله الحق سبحانه وحكمة العبادة.
ولنرجع الآن إلى الطائر فهو حين أقبل حَسَن اللون جميل المنظر يتلوّن كأنما هو الذهب، وهكذا الفطرة الأولى والْخِلقة الأولى للإنسان في الغاية من الحُسن والكمال وهذه الخلقة تكملها الشِّرعة نور على نور وجمال على جمال وكمال على كمال.
ثم إن الطائر سلخ جمالهُ فصار كأقبح شيء منظراً أقيرع أحيمر، ومع هذا المنظر أتى إلى بركة فيها حمأة مُنْتنة فتلوّث في حَمْأتها فخرج أسود قبيحاً.
فكذلك الإنسان تماماً إذا كفر أو فسق فإنه ينخلع عنه ما وَهَبه بارؤه سبحانه من جمال الخِلقة الأولى والشرعة المكمِّلة كحال هذا الطائر في تغيّر حاله، قال تعالى: "وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْر" وقال تعالى: "وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" وقال تعالى: "أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ" أعلم أنهم لا يستوون لا في الدنيا ولا في القبر ولا في القيامة، وذلك على مقتضى ما تقدم بيانه، وقال تعالى: "إِنَّ اللَّـهَ لا يُغَيِّـرُ مَا بِقَـوْمٍ حَتَّـى يُغَيِّـرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" إنه بانحطاط العبد في الذنوب والمعاصي يباشره التغيير إلى قبح وعكس ذلك بتوبته وإقباله على طاعة ربه يكون التغيير.
قال الله تعالى: "أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ".
ثم إن الطائر استقبل جِرْية ماء النهر فاغتسل ثم عاد إلى مسلاخه الذي قد خلع فلبسه فعاد إليه حُسنه وجماله باطناً وظاهراً.
كل جُمَل هذا المثل مطابقة تماماً لحال الإنسان ولذلك قال في وصْف الحالتين:
فكذلك عامل الخطيئة حين يخرج من دينه ويكون في الخطايا.
وكذلك مثل التوبة كمثل اغتساله من النّتَن في النهر الضحضاح ثم رَاجَعَ دينه حين تَدَرّعَ مِسْكه. وانظر قوله: (كمثل اغتساله من النّتَن).
يظهر لك أن رائحة روح الكافر والفاجر منتنة طبيعة ملازمة بسبب العمل بمعاصي الرحمن والقرب من الشيطان كلٌ بحسبه وضدّ ذلك المؤمن، وكذلك الصورة إما قبيحة موحشة مظلمة أو جميلة بهيّة.
الأنــس بالله تعالى:
إذا تبين ما تقدم فاعلم أن هناك آثاراً أخرى يجدها الإنسان في نفسه ملازمة له كلزوم صفاته وهي انشراح الصدر والأنس الذي يحصل للمؤمن نتيجة خلوّ القلب من التعلق بغير مُتَعَلّقة الحق ونتيجة الشفاء والعافية من أدواء القلب الموجبة مُلاَزَمَة الألم والهم المتواصل والغم الذي ينغمر في بحره قلب المُعرض عن إلهه الحق، لكن ليس المعنى أن المؤمن لا يغتم ولا يصيبه الهم فلابد من ذلك لكنه عارض ويزول إذ الأصل الأنس والسرور، كما أنه ليس المعنى أن الكافر والفاجر لا يُسَرّ وإنما سروره عارض ليس كما في قلب المؤمن، فَيُسَرّ بدنياه وشهواته وثمار غفلاته وجهله، وهذه كلها تفعل فعل المخدّر الذي يُوَاري الألم والغم والهم مع وجوده وثباته بل وزيادته، وهذه الأحوال لا فكاك منها.
عبادة القلب لغير الإله الحق:
في صحيح البخاري عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شِيكَ فلا انتُقش، إن أُعطي رضي وإن مُنِعَ سخط).
تأمَّل كيف جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- هؤلاء عبيداً لهذه الأشياء المخلوقة القاطعة لهم عن عبوديتهم لمعبودهم الحق سبحانه وتعالى حيث لم يُخلقوا لتتعلّق قلوبهم بهذه الأشياء ولا فُطِروا على ذلك بل فُطرت القلوب على محبة المحبوب الحق سبحانه وتعالى وإرادة وجهه الكريم، فهذه أشياء طارئة دخيلة أثرها في القلوب بليغ بقدر تعلقها بها.
قال ابن القيم رحمه الله:
فسمى هؤلاء الذين إن أُعطوا رضوا وإن مُنِعوا سخطوا عبيداً لهذه الأشياء لانتهاء محبتهم ورضاهم ورغبتهم إليها، فإذا شُغِف الإنسان بمحبة صورة لغير الله بحيث يُرضيه وصوله إليها وظفره بها ويسخطه فوات ذلك كان فيه من التعبّد لها بقدر ذلك. انتهى.
إنّ شغف القلب ومحبته الزائدة عن الحد هو العشق وهو مرض وَسْوَاسي ولا يقوم بناؤه إلا على الخيال والتصورات الذهنية المُباعدة لحقائق الأمور وصورها الطبيعية الحقيقية.
وَوَلي هذه الأحوال هو الشيطان بمقارنة النفس الأمارة، وهو نوع من الشرك بحسب تأثيره على القلب قال ابن القيم رحمه الله: فأصحاب العشق الشيطاني لهم من تولي الشيطان والإشراك به بقدر ذلك ولِما فيهم من الإشراك بالله ولِما فاتهم من الإخلاص له، ففيهم نصيب من اتخاذ الأنداد. انتهى.
والقلوب مجبولة على الميل للصور الجميلة، ومن هنا الابتلاء فإن المراد من العبودية مع فعل الأوامر الكف عن النواهي مما تميل إليه النفس، قال تعالى: "وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى. وقال تعالى: "وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ".
حبك الشيء يُعمي ويُصم:
إذا تعلق القلب بشيء سوى الله يرى أن فيه أُنسه وسروره وشفاء قلبه، بل ولذّته وتنعّمه فإنها تعمى عينه عن النظر إلى مساويء هذا المحبوب، وتصم الأذن عن سماع العذل فيه.
وكما قيل:
وكذّبتُ طرفي فيك والطرف صادقُ ***** وأسْمَعْتُ أذْني منك ما ليس تسمعُ
ولذلك يقال:
العشق لا يكون إلا مع فساد التصور للمعشوق وإلا فمع صحة التصور لا يحصل إفراط في الحب، وتأمل الآن ما يقوله من بُليَ بعشق جارية سوداء.
أُحِبُّ لِحبّها السودانَ حتى ***** أُحِبُّ لِحبّها سود الكلابِ
يتبع إن شاء الله...