المجتمعات العلمانية والعلاقات الوظيفية (التعاقدية)
ثمة علاقة بين سمات الجماعة الوظيفية (التعاقدية ـ الغربة والعزلة والعجز ـ الانفصال عن الزمان والمكان والإحساس بالهوية الوهمية ـ ازدواجية المعايير والنسبية الأخلاقية ـ الحركية ـ التمركز حول الذات والتمركز حول الموضوع) والرؤية المعرفية العلمانية. ونحن نذهب إلى أن المجتمع العلماني الحديث يستند إلى فكرة القانون الطبيعي/المادي والتعاقد ومبدأ المنفعة (واللذة).
وتظهر الدولة القومية العلمانية المركزية التي تضطلع بدور الجماعة الوظيفية وتقضي على كل الجماعات والمؤسسات الوسيطة والجماعات الوظيفية وتحوِّل كل أعضاء المجتمع إلى مواطنين يتم توظيفهم وحوسلتهم لصالح الدولة القومية ولأي هدف يقرره القائمون عليها، ومن ذلك تحقيق المنفعة واللذة لأعضاء المجتمع. ولذا، يتحول كل البشر إلى بشر وظيفيين يشبهون، في كثير من الوجـوه، المتعـاقدين الغـرباء الذين لا تربطهم علاقات جوانية تراحمية وإنما يدخلون في علاقات رشيدة محسوسـة.
ولعل هذا هو مصير الإنسان العلماني الذي يُعمل عقله في كل شيء وينزع القداسة عن كل شيء (وضمن ذلك ظاهرة الإنسان ذاته) فيَرُدّ كل الظواهر والأشياء إلى المبدأ المادي الواحد ويحطم كل العلاقات الكونية ويخضعها للتفاوض والترشيد المادي المتزايد، فتختفي كل الأسرار ويصبح العالم عارياً تماماً ونصبح كلنا غرباء متعاقدين: نتوهم أننا نعرف كل شيء ونتحكم في كل شيء، فتزداد غربتنا وتعاقديتنا بسبب ازدياد تَحكُّمنا أو تَوهُّم مثل هذا التحكم. وحين يزداد تَحكُّمنا في الواقع، سنحاول إعادة إنتاجه كله مستخدمين عقولنا المحايدة على هيئة مادة متجانسة وحداتها متشابهة، بحيث لا يصبح الحب شيئاً آخر غير الجنس، والترابط ليس سوى الدوافع الاقتصادية، والمشاعر السامية ليست إلا تفاعلات كيماوية معروفة ومفهومة ومحسوبة ستكون في المستقبل مضبوطة ومحكومة تماماً مع تقدُّم العلم، وبذا يجابهنا عالمنا إما كغابة من الدوافع الدنيئة الواضحة أو كعـدد هـائل من المعـادلات الرياضية الأكثر وضـوحاً.
وعلى كلٍّ، فإن هذا هو ميراث عصر الاستنارة: أن يكون هناك قانون واحد للإنسان والطبيعة وألا تكون هناك استثناءات أو فراغات. والجماعة الوظيفية في عزلتها وعلاقتها التعاقدية، وحساباتها الدقيقة، كانت قريبة جداً من هذه الحالة. ولذا، ليس من الغريب أن تصبح هي النموذج الكامن الذي يأخذ في الانتشار.
ويمكن أن نضـع يدنا على بعض آليات تحـويل الإنسـان التراحمي (أو الإنسان الربـاني متعدد الأبعاد) إلى إنســان تعاقـدي وظيفـي علمـاني ذي بُعـد واحد (طبيــعي مـادي)، إنسـان متشيِّئ يشــبه عضو الجماعة الوظيفية.
1 ـ ثورة التوقعات المتزايدة:
لعل أهم هذه الآليات ثورة التطلعات المتزايدة، فهذه الثورة أساسها أن الإنسان مجموعة من الرغبات (المادية) التي لا تُشبَع وأن النمو مرتبط تماماً بهذا الافتراض. ومهمة هذه الثورة هو تصعيد توقعات الإنسان وتطلعاته وترشيده في اتجاه الإفصاح عنها من خلال قنوات مادية حتى لا يتطلع إلى الآخرة أو الروحانيات أو أية أمور مركبة أخرى غير خاضعة للقياس أو التحكم، ويظل تَطلُّعه متجهاً دائماً إلى تعظيم المنفعة واللذة من خلال الحصول على مزيد من السلع، وهي سلع لا يستطيع الحصول عليها إلا بمزيد من العمل وبذل الطاقة، أي أنه لابد أن يُحوسِّل نفسه، أي يتحول إلى إنسان وظيفي حركي غير منتج (مجرد) ينظم استهلاك نفسه ليُولِّد أكبر قدر من الطاقة يحصل مقابله على أكبر قدر ممكن من السلع والخدمات حتى يمكنه إشباع رغباته.
ولكن الرغبات متجددة متطورة (أو بالأحرى يتم تجديدها وتطويرها دائماً). ولذا، يصبح التَحوسُل حالة نهائية ورؤية للكون، وتظهر التعاقدية والوظيفية والتَشيُّؤ. ويساعد على هذا أن ثورة التطلعات نفسها، من خلال آليات مختلفة، ولا سيما استخدام الدافع الجنسي، تحطِّم كل المؤسسات الوسيطة (مثل الكنيسة أو الأسرة الممتدة) التي تشجع التراحم والترابط، الأمر الذي يترك الفرد وحيداً أمام الدولة ووسائل الإعلام التي تُعمِّق عملية الحوسلة وتجعلها حالة نهائية مقبولة: جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة البشرية!
2 ـ النماذج البشرية الوظيفية والأحلام المستحيلة:
يُلاحَظ في المجـتمعات العـلمانية الحديثة الترويج لنماذج بشرية مختلفة يَكمُن وراءها نموذج الإنسان الوظيفي، أحادي البُعد، الذي تم اختزاله إلى مبدأ واحد وتم تجريده من كل خصائصه الإنسانية المركبة المُتعيِّنة بحيث يمكن تعريفه في إطار وظيفته التي يضطلع بها. ففي النظم الاشتراكية، كان هناك دائماً بطل الإنتاج الذي كانت كفاءته وإنتاجيته تفوق كفاءة وإنتاجية أي إنسان سويّ، فهو إنسان تَوحَّد تماماً مع وظيفته وأصبح إنساناً وظيفياً يكتسب معنى وجوده من الكم الذي ينتجه من سلع. أما في المجتمعات الرأسمالية، فقد ظهرت أسطورة الإنسان العصامي الذي يصعد من الأسمال إلى الثروة الرأسمالية. وهذا العصامي هو إنسان نجح في ترشيد حياته تماماً في إطار الربح الاقتصادي والتراكم الرأسمالي، فراكم الثروات الهائلة وقمع ذاته تماماً.
ويُلاحَظ أن الشخصية القدوة هنا شخصية مستحيلة من الناحية الإنسانية، ومع هذا يستمر الترويج لها مع عدم ذكر أي شيء عن التكلفة النفسية والأخلاقية لعملية اختزال الإنسان إلى وظيفة. والحلم الأمريكي تعبير عن نفس الظاهرة، فهو حلم مستحيل بالنسبة للغالبية الساحقة من الشعب الأمريكي، ومع هذا فإن أجهزة الإعـلام تروج له، كما تروج لمعـدلات كفــاءة الأداء التي لا علاقة لها بالإمكانيات الحقيقية للإنسان وإنما تتجاوزها، وتفترض إنساناً بلا أسرة ولا أبناء ولا جيران، إنساناً متجرداً مما هو إنساني.
وتُلاحَظ الظاهرة نفسها داخل قطاع اللذة، مع اختلاف طفيف. فالشخصية التي تُقدَّم كقدوة، هي شخصية كانت هامشية في المجتمعات التقليدية ولكنها تصبح شخصية رئيسية في المجتمع الحديث. ففي المجتمعات التقليدية، كان لاعب السيرك والمهرج والغانية شخصيات لها وظيفة محددة، ولكنها كانت تُهمَّش دائماً، فهي شخصيات متحوسلة تُعرَّف في ضوء وظيفتها، ولذا كانت تُعَزل عن المجتمع بأسره. أما في المجتمع الحديث، فقد أصبحت هذه الشخصيات كثيرة ومركزية، وأُعيدت صياغة الهرم الوظيفي بحيث أصبحت هذه الشخصيات الوظيفية المجردة في قمة الهرم.
ولنأخذ المقابل الحديث للمهرج أو لاعب السيرك وهو الرياضي: المفترض أن الرياضة شكل من أشكال اللعب والتسلية، ولكنها تفقد مضمونها هذا وتصبح نشاطاً مركزياً يخضع لعملية ترشيد كاملة وتتبعها عملية تسويق، ويتم تجريد الرياضي تماماً من إنسانيته بحيث يصبح لاعباً وحسب (واحدية وظيفية) يكرس جل وقته للتمرين ويخضع لتدريبات قاسـية ليحقـق معدلات في الكفاءة والأداء غير إنسانية. ويتوحد كل الشباب والصبية مع هذه الشخصية المجردة، هذا النشاط الرياضي المحض الذي لا علاقة له بأية إنسانية متعينة.
ويمكن أن نقول الشيء نفسه بشأن ملكات الإغراء الجنسي (بالإنجليزية: سكس كوينز sex queens)، إذ يتم تجريدهن تماماً من إنسانيتهن ليصبحن جسداً محضاً (واحدية وظيفية) تماماً مثل الرياضي، ويُروَّج لهذا الجسد ويُنشَر في كل مكان. وهو يطرح معدلات للجاذبية الجنسية تتجاوز كثيراً أية معدلات إنسانية، فملكة الإغراء قد تكرس حياتها لجسدها وللحفاظ عليه ولإبراز مفاتنه، وهكذا.
وتُعَد شخصية البلاي بوي المعادل الذكوري لملكة الإغراء، فهو يستهلك النساء والسلع بكفاءة عالية جداً تتجاوز كفاءة واحتياجات أي إنسان عادي. ويحلم الرجال والنساء بملكات الإغراء والبلاي بوي الذين يصبحون معياراً تُقاس به الأمور ومبدأ واحداً يُرد إليه الكون، الأمر الذي تنجم عنه عمليات تجريد غير إنسانية للذات، فهذا المعيار ليس مستمداً من أي كيان إنساني حقيقي. وعلى كلٍّ، فإن هذا ليس مستغرباً على حضارة حققت معدلات من التقدم والاستهلاك غير إنسانية لأن تكرارها مستحيل، ولذا فهي تطرح أحلاماً مستحيلة على الجميع لا يمكن تحقيقها ولكنها تجعل البشر قادرين على السعي نحوها، وفي سعيهم هذا يتحولون بصورة كاملة إلى مادة وظيفية، ويتراجع العنصر الرباني والتراحمي فيهم ويظهر الإنسان الطبيعي/المادي الوظيفي التعاقدي.
3 ـ الانتقال والهجرة (الترانسفير)
من أهم الآليات الأخرى لتحويل الإنسان التراحمي إلى الإنسان التعاقدي الوظيفي، الانتقال والهجرة، إذ أن الإنسان المقتلع من زمانه ومكانه، أي من تاريخه ووطنه، هو إنسان يُردُّ إلى حاجاته المباشرة ويصبح البقاء بالنسبة له هو الهدف الأوحد، وتصبح الوظيفة آلية البقاء الأساسية. والعصر الحديث هو عصر الهجرات والانتقال (والترانسفير). وينطبق هذا على الحضارة الغربية الحديثة بشكل كامل، فهي تشكيل حضاري يستند إلى فكرة أن الإنسان مادة محضة يمكن نقلها وتوظيفها بشكل كفء. وقد بدأت هذه الحضارة بما يُسمَّى «حركة الاستكشافات»، أي انتقال بعض العناصر البشرية الغربية لاستكشاف أماكن جديدة والاستيلاء عليها.
وقد كانت هذه الأماكن الجديدة، من منظور غربي، أماكن لا تاريخ لها، ومن ثم فهي مجرد مكان يُوظَّف، والسكان الأصليون كانوا مجرد مادة بشرية خاضعة للتوظيف أو الإبادة. وتتبع ذلك عملية الاستيلاء. وقد تم ذلك عن طريق نقل كتلة بشرية من العالم الغربي إلى هذه الأماكن الجديدة، وتم توظيفها بدرجة عالية من الكفاءة. وهذا هو ما يُسمَّى «التشكيل الاستيطاني الاستعماري الغربي» الذي حقق إنجازاته الضخمة بسبب حركية العنصر البشري المزروع في البيئة الجديدة، فهو لا يحمل أية أعباء تاريخية أو أخلاقية أو مطلقات، اللهم إلا الديباجات اللازمة للقيام بعملية الإبادة (عبء الرجل الأبيض).
ثم نُقلت بعد ذلك مادة بشرية من أفريقيا السوداء حتى يمكن توظيفها في المزارع وفي كل الأعمال اليدوية والشاقة. وكانت هذه المادة البشرية على درجة عالية من الكفاءة لأن أفريقيا تتكون من تشكيلات حضارية جميلة صغيرة ولم تتمتع بفترات طويلة من حكم الإمبراطوريات المركزية القوية، ولذا فقد كان الأفارقة يتحدثون مئات اللغات ويؤمنون بمئات العقائد. وحينما تم نقلهم، لم يحدث بينهم تَواصُل وبدأوا يفقدون لغتهم الأصلية وتراثهم الحضاري، ولم يكتسبوا اللغة الإنجليزية ولم يتملكوا ناصية الخطـاب الحـضاري الغربي لعـدة سـنوات، بل لم يكن يُسمَح لهم في بادئ الأمر بالانخراط في الكنائس المسيحية، وذلك حتى يظلوا مادة وظيفية محضة. وحينما تنصروا، أصبحت لهم كنائسهم الخاصة، أي أن الكنائس أصبحت أدوات عزل لا أدوات دمج، فظلوا غرباء متعاقدين رغم مرور عشرات السنين على استقرارهم في الأرض الجديدة، ورغم أنهم فقدوا علاقتهم تماماً بالوطن الأصلي.
ومازالت حركة الهجرة مستمرة في العالم، سواء من أوربا إلى أمريكا أو من العالم الثالث لأوربا وأمريكا. والآن، نشاهد هجرة شعوب شرق أوربا (ومن بينها يهود الجمهوريات السوفيتية سابقاً). كما أن حركة السياحة الضخمة التي تضم الملايين هي جزء من نفس النمط، بل يمكن القول بأن الإنسان الحديث، لا سيما الإنسان الغربي الحديث، إنسان مهاجر دائماً مقيم مؤقتاً، علاقته واهية بالزمان والمكان، ولعل من أهم آليات زيادة الحركة تحويل المنزل إلى عملية استثمارية، فيعيش الإنسان في منزله وهو يفكر في بيعه، ومن ثم لا يضرب جذوراً في أي زمان أو مكان ويصبح وطنه الحقيقي هو منفعته ولذته. فالهجرة والحركة سمة بنيوية في الحضارة الغربية الحديثة وهي إحدى أهم آليات تفتيت أواصر القربى والتراحم وتعميق عدم الانتماء وعدم الاتزان وعدم الاستقرار، الأمر الذي يزيد قابلية المرء للتحوسل ويزيد إنتاجيته (على الأقل في المراحل الأولى) بشكل مدهش.
4 ـ ازدياد عدم الطمأنينة:
في الماضي كانت كل المجتمعات تهدف إلى إدخال قدرٍ معقول من الطمأنينة على أفرادها حتى يمكنهم الاستمرار في حياتهم اليومية، على خلاف المجتمعات الحديثة التي لا تهدف إلى إدخال الطمأنينة بقدر ما تحاول أن تولِّد الإحساس بعدم الاستقرار وعدم الانتماء لدى الفرد حتى تتصاعد درجة حرارته ويزيد عدم اتزانه وشكوكه وتربصه بمن حوله ومقدرته على التنافس، فتزداد حركيته ومن ثم إنتاجيته واستهلاكيته، وتزداد معدلات التقدم (الهدف النهائي من الوجود في المجتمعات العلمانية). فالإنسان المطمئن المستقر الذي يعيش داخل شبكة من العلاقات التراحمية هو ولا شك أقل إنتاجية وإن كان أكثر اتزاناً، أما الإنسان غير المتزن فهو شخصية إمبريالية تُحوسل ذاتها وتُحوسل الآخر والعالم.
5 ـ تفكيك الأسرة:
يمكن القول بأن الأسرة أهم المؤسسات التي تُدخل الطمأنينة والسكينة على قلب الإنسان، وهي الإطار الذي يتعلم فيه الإنسان كيف يصبح كائناً اجتماعياً مركباً، عضواً في الجماعة وفرداً منفرداً في الوقت نفسه، ذلك لأن العلاقات داخل الأسرة علاقات مادية اجتماعية مفعمة بالحب والمودة. والمجتمعات العلمانية تضرب كل المؤسسات الوسيطة (وأهمها الأسرة) وتفكِّكها حتى أصبحت الأسرة (كمؤسسة) لا تختلف عن بقية المجتمع: مكاناً للصراع والتناحر لا المأوى الذي يهجـع إليه الإنسان. فالجمـيع داخل الأسرة الحـديثة لهم علاقة بالسـوق، فالأب يعمل والأم تعمل، وفي الدول المتقدمة يعمل الصبية أيضاً. وقد أصبحت الأسرة ترتيباً مؤقتاً، فحين يصل الأطفال إلى سن السادسة عشرة، فإنهم يتركون المنزل، وحينما يصل الآباء إلى سن التقاعد فإنهم ينتقلون إلى بيوت المسنين.
وفي أغلب الأحيان، يعيش أعضاء الأسرة في منزل سيتركونه بعد عدة سنوات إما لتحقيق الربح (فهو الاستثمار الأكبر لأعضاء الطبقات المتوسطة في الغرب) أو من أجل الانتقال إلى مكان آخر للحصول على فرص عمل أفضل وتحقيق الحراك الاجتماعي. أما احتمال أن تنحل هذه الأسرة نفسها من خلال الطلاق احتمال قوي جداً (60 % . واحتمال تكوين أسرة لا يرتبط أعضاؤها برباط مباشر (زوج وأطفال من زواج سابق مع زوجة وأطفال من زواج سابق... إلى آخر التنويعات التي ذكرناها في مدخل «الترانسفير»)، فقد أصبح عالياً بشكل مذهل. وفي واقع الأمر، فإن كل هذا يعني مزيداً من التمركز حول الذات ومزيداً من الإحساس بالعزلة ومزيداً من الانغماس في الآليات اليومية المادية التي تقضي على الدفء والحب والمودة والتراحم.
ويُلاحَظ أن العلاقة الزوجية، هي الأخرى، تنضوي تحت النمط الحركي التعاقدي الوظيفي نفسه. وقد أشرنا إلى ارتفاع معدلات الطلاق، ويمكن أيضاً أن نشير إلى ظهور علاقات تعاقدية بين الذكر والأنثى تحل محل علاقة الزواج، فالزوجة في الإطار التقليدي شريكة جوانية في السراء والضراء، ولكنها في الإطار العلماني الوظيفي الرشيد تصبح رفيقة برانية تتواجد ما دامت تؤدي وظيفة: تحقيق اللذة والمنفعة وحسب (تماماً مثل السكرتيرة أو العشيقة أو المضيفة).
ومن هنا، بدأت تتزايد ظاهرة التعايش (بالإنجليزية: كوهابيتيشان co-habitation)، أي أن يتعايش شخصان معاً فترة من الزمان (تتراوح طولاً أو قصراً حسب الظروف) دون أن يتزوجا، فالتعايش يعني الحركية والتعاقدية والنفعية (ومن ثم العزلة والغربة) بحيث يكون متاحاً لأي طرف في العلاقة أن يقطعها بشكل هادئ ومحايد إن ثبت له أنها لم تعد تأتيه بالمنفعة أو اللذة (على عكس العلاقة الزوجية التي يجب أن تستمر في السراء والضراء)، أي أن كل طرف في العلاقة يُحوسل الطرف الآخر ويعرِّفه في ضوء وظيفته ونفعه وكأنه عضو في جماعة وظيفية!
6 ـ النسبية المعرفية والأخلاقية:
قد يكون تَزايُد معدلات النسبية المعرفية والأخلاقية من أهم آليات تحويل الإنسان الرباني إلى إنسان وظيفي تعاقدي. فمع اختفاء القيم الأخلاقية المتجاوزة لذات الإنسان، يتمركز الإنسان حول ذاته ويصبح هو المعيار الأوحد، وهو ما يؤدي إلى ظهور إرادة القوة وإنسان نيتشه والحرية الكاملة. ولكن تمركزه حول ذاته دون وجود منظومات معرفية وأخلاقية تحظى بقبول المجتمع ككل، ومع ظهور فكرة القانون الطبيعي/المادي العام الذي يتجاوز كل الغائيات الإنسانية ولا يمكن تجاوزه، فإنه ينتهي إلى أن يفقد ذاته ويتمركز حول الموضوع ويقع ضحية لأية منظومة أخلاقية قوية سائدة، فيُذعن لكل ما يَصدُر إليه من أوامر، الأمر الذي يؤدي إلى ظهور أخلاقيات التكيف البرجماتي والإنسان البيروقراطي والجبرية الكاملة. وهذا هو الاستقطاب بين التمركز حول الذات والتمركز حول الموضوع الذي يسم المنظومات الحلولية الكمونية، وضمن ذلك العلمانية، بميسمه.
7 ـ الهجوم على الطبيعة البشرية:
لعل الهجوم على الطبيعة البشرية، كمرجعية نهائية للإنسان، من أهم آليات تحويل رؤية الإنسان لنفسه بحيث يرى نفسه مادة وظيفية (انظر: «فشل النموذج المادي في تفسير ظاهرة الإنسان» ـ «العقلانية المادية واللاعقلانية المادية» ).
8 ـ عمليات الترشيد المادية:
(انظر: «الترشيد في إطار العلمانية الشاملة [العقلانية التكنولوجية أو المادية[ »)
لكل ما تقدَّم، تَحوَّل الإنسان في المجتمعات العلمانية إلى ما يشبه عضو الجماعة الوظيفية: إنسان متحوسل حركي منعزل مغترب لا وطن له، إنسان ذي بُعد واحد متمركز حول ذاته متكيف مع الواقع وتسيطر عليه شبكة من العلاقات التعاقدية الصارمة التي تُحوِّله إلى مادة متسلِّعة مُتحوسلة (ظاهره مثل باطنه). ولعل هذا ما عناه ماكس فيبر حينما تحدَّث عن أن زيادة عملية الترشيد، أي إخضاع كل العلاقات،وضمنها العلاقات الإنسانية، إلى حسابات دقيقة تنتهي بنا إلى تحويل العالم بأسره إلى حالة المصنع الذي سيفضي بنا إلى القفص الحديدي التعاقدي، حيث لا تراحُم ولا دفء وإنما حسابات دقيقة باردة، وهذه هي نفسها عملية «تهويد المجتمع» على حد قول ماركس.
أشكال جديدة من الجماعات الوظيفية فى المجتمعات الحديثة:
بيَّنا أن المجتمع العلماني الحديث (المبني على القانون الطبيعي/المادي والتعاقد ومبدأ المنفعة واللذة) تظهر فيه الدولة القومية العلمانية المركزية التي تضطلع بأدوار ووظائف الجماعات الوظيفية، فتقوم هي بتوظيف وحوسلة كل أعضاء المجتمع. ومع هذا، يمكن القول بأن الجماعات الوظيفية لم تختف تماماً رغم سيادة العلاقات الوظيفية وإن كانت تختلف درجات الحوسلة من حيث حدتها، كما أن درجات التحييد والموضعة تكون متفاوتة، ولذا تأخذ الجماعات الوظيفية أشكالاً جديدة أقل تبلوراً وأكثر كموناً. وقد بيَّنا أيضاً أن أعضاء الجماعات الوظيفية يتسمون بمعظم سمات الجماعات الوظيفية.
ولكن من النادر أيضاً أن نجد جماعة وظيفية نماذجية تتسم بكل سمات الجماعة الوظيفية.
1 ـ جماعات المهاجرين:
ثمة اتفاق على أن أهم أشكال الجماعات الوظيفية في القرن العشرين هو جماعات المهاجرين الذين يتركزون في وظائف بعينها دون غيرها ويتخصصون فيها ثم يحتكرونها. وموقف المجتمع منهم لا يختلف كثيراً عن موقف المجتمع التقليدي من جماعات الغرباء المتعاقدين. ولكن لابد من الإشارة إلى أن وضع هذه الجماعات من المهاجرين يتسم بالسيولة إذ أن الدولة القومية الحديثة تحاول دمجهم ولا تُوصد دونهم باب أية وظائف. كما أن مؤسسات الدولة متغلغلة في كل مجالات المجتمع، ولذا فإنهم إما أن يختفوا تماماً أو تبقى أصداء باهتة لأصولهم الإثنية والوظيفية كما حدث لكثير من جماعات المهاجرين في الولايات المتحدة، مثل الأيرلنديين واليهود واليابانيين.
ومع هذا، تُوجَد جماعات من المهاجرين يحاول المجتمع أن يعطيها صفة المقيم الدائم المؤقت ولا يطلب ولاءها، بل يبذل قصارى جهده لعزلها وتحويلها إلى جماعة وظيفية على الطريقة التقليدية. ومن أهم الجماعات الوظيفية التي تتبع هذا النمط المهاجرون من العالم الثالث الذين يقومون ببعض الأعمال المشينة التي تُسمَّى «العمل الأسود» في أوربا، مثل: جمع القمامة أو بيع الجرائد أو غير ذلك من المهن. وهي أعمال أساسية، ولكن المجتمعات الأوربية تكون مضطرة لاستيراد بعض العناصر البشرية الأجنبية للاضطلاع بها نظراً لأن العناصر المحلية تعاف القيام بها إما لضعف المردود المالي أو لأن المجتمع يعتبرها مشينة لسبب أو آخر.
ومن أهم الجماعات الوظيفية المهاجرون الأتراك في ألمانيا، والمغاربة والجزائريون في إسبانيا وهولندا وفرنسا، والإيطاليون في سويسرا، والأسبان في إنجلترا. وفي تصورنا أن شرق أوربا قد تصبح مصدراً أساسياً للمادة البشرية اللازمة للاضطلاع بمهام الجماعات الوظيفية، التي قد تحل محل العناصر العربية والإسلامية في أوربا، فهم سلافيون (الأمر الذي يحقق قدراً لازماً من العزلة)، ولكنهم مسيحيون غربيون (الأمر الذي يحقق قدراً من الألفة لوجودهم داخل المجتمعات المضيفة دون توليد توترات اجتماعية وثقافية تهدد نسيج المجتمع).
2 ـ المتعاقدون في البلاد العربية:
يمكن أن نصنف العاملين الأجانب في دول الخليج (ممن يُسمَون «المتعاقدين») من العرب وغير العرب، المسلمين وغير المسلمين، كجماعات وظيفية من المتعاقدين الغرباء والمقيمين الدائمين والمؤقتين، يحرص المجتمع على عزلهم والاحتفاظ بهم على مسافة تختلف طولاً وعمقاً باختلاف المجتمع ووظيفة المتعاقد. فإن كان المتعاقد في أعلى السلم الاجتماعي والوظيفي، حاول المجتمع أن يختزل المسافة، ولكنه مع هذا يبقيه خارج المجتمع. ومما يساعد على ذلك أن المتعاقد نفسه يحاول الاحتفاظ بالمسافة ويبرز انتماءه الإثني الأصلي.
أما إذا كان المتعاقد في أدنى السلم، فإن المجتمع يجعل المسافة أطول والثغرة أعمق، ويكون هذا عن طريق الأزياء فيرتدي عمال النظافة مثلاً زياً رسمياً ملوناً خاصاً بهم، ويصر سكان الخليج بدورهم على ارتداء الزي العربي التقليدي في بلادهم فهو يحقق المسافة بينهم وبين المتعاقدين العرب الذين يرتدون الزي الغربي (المصريون مثلاً) أو يرتدون الأزياء الخاصة بهم (السودانيون مثلاً). كما يتم العزل عن طريق المناطق السكنية، فيُوطَّن عمال النظافة الآسيويون في معسكرات (جيتوات فقيرة) أما أساتذة الجامعة مثلاً، فيُوطَّنون في مساكن خاصة (جيتوات فاخرة). وهناك رموز أخرى عديدة للإبقاء على المسافة، من بينها اللغة وأرقام السيارات وطريقة تَناوُّل الطعام ونوعه والإصرار على وجود " كفيل" خليجي حتى تظل المسافة واضحة، فالكفيل يوجد عادةً في قمة المجتمع أما المكفول فيعيش في أسفله.
ويُلاحَظ أن المسافة في المملكة العربية السعودية أقل حدة بسبب إقامة الصلوات في مواقيتها إذ يفرض هذا جواً من التراحم والتساوي بين الجميع بشكل يتجاوز ما يمكن أن تفرضه الآليات الاجتماعية غير الواعية. هذا على عكس الوضع في الكويت، على سبيل المثال، حيث تأخذ عملية العزل شكلاً أكثر حدة وضراوة بسبب تَصاعُد معدلات العلمنة في المجتمع. كما أن صغَر عدد السكان عادةً ما يزيد مخاوف أعضاء المجتمع المضيف من أن يكتسحهم المتعاقدون وأن يقوضوا هويتهم ويصبحوا جزءاً لا يتجزأ من مجتمعهم.
3 ـ قطاع اللذة:
وقطاع اللذة شكل جديد من أشكال الجماعات الوظيفية في العصر الحديث وهو جزء من قطاع تزجية أوقات الفراغ. ولفهم وضع هذه الجماعات، لابد أن نشير إلى أن النموذج العلماني للمجتمع يدور حول مفهومين أساسيين هما المنفعة واللذة، ولكن المفهومين متداخلان منذ البداية إذ أن ما يُدخل اللذة على أكبر عدد ممكن من الناس يُعدُّ خيِّراً ونافعاً. بل إن المنفعة واللذة يكادان يكونان مترادفين لأن كليهما عُرِّف داخل إطار المرجعية المادية. ومع هذا، يبدو أن جانب المنفعة العملية هو الذي ساد في الفترة التقشفية التراكمية الرأسمالية حتى نهاية القرن التاسع عشر، ثم بدأ جانب اللذة يسود بالتدريج في الفترة الاستهلاكية أو الفردوسية، إلى أن أصبح مفهوماً أساسياً وهدفاً أسمى للإنسان في المجتمعات العلمانية. وقد عُرِّفت اللذة بشكل حسي إلى أن أصبح العنصر الجنسي تدريجياً أساساً فيها.
وقد نشأت الصناعات المختلفة للذة التي تهدف إلى إشباع الرغبات وإلى إثارتها في آن واحد، بل نجد أن عنصر اللذة بدأ يصبح عنصراً أساسياً في كثير من الوظائف العملية (إذ يُعرَّف نفع الوظيفة بمقدار إدخالها اللذة على المستهلك). ويُلاحَظ أن قطاع الإعلانات في المجتمعات الاستهلاكية من أهم القطاعات التي تلتقي فيها المنفعة باللذة، ولذا يُستخدَم الجنس للإعلان عن سلع نفعية محضة ليست لها علاقة باللذة مثل صابون الحمام والسفر على الطائرة، وتُستخدَم أجمل الفتيات بأكثر الطرق إثارة للإعلان عن أكثر السلع نفعاً! وبعد أن كانت البغيّ في الماضي تقوم بإشباع اللذة بمعزل عن المنفعة، بدأت تظهر شخصيات أخرى تُعَدُّ تنويعات حديثة على شخصية البغي (تختلف في قربها وبُعدها عنها) تمزج المنفعة واللذة.
ويمكن النظر إلى السكرتيرة الخاصة في المجتمعات الغربية المتقدمة كوريثة للبغي التقليدية بعد ترشيد دورها، فهي لم تَعُد تُقدِّم الخدمات الجنسية وحسب (اللذة) بل أصبحت تقدم خدمات فنية أخرى مثل الكتابة والاختزال والاتصالات التليفونية (المنفعة). فالجنس، هنا، إن هو إلا جزء من كل، فالسكرتيرة تقدم خدمات شاملة للمدير، فهي بديل الزوجة والعشيقة والبغي دون أن تكون زوجة أو عشيقة أو بغياً، فوظيفتها تحقق المنفعة واللذة في آن واحد. والإصرار على العنصر التعاقدي الواضح، في هذه الحالة، يهدف إلى خلق مسافة بين السكرتيرة ومخدومها حتى يمكن ضمان سير العمل وحتى يتم ترشيد عنصر اللذة.
والسكرتيرة ترتدي أزياء خاصة (جونيلات قصيرة ـ فساتين ذات صدر مفتوح مثلاً) تبرز جاذبيتها الجنسية حتى يتلذذ مخدومها وزواره أثناء أدائها عملها، ولكن يجب ألا تكون ملابسها فاضحة حتى لا يتوقف سير العمل؛ إنها تمتع رئيسها وتكتب له على الآلة الكاتبة في الوقت نفسه. وعلاقة السكرتيرة الحسناء برئيسها تشبه، من بعض النواحي، علاقة المرتزقة بالنخبة الحاكمة، فهي تقوم على خدمته (نفعياً وحسياً) وتقترب منه (حرفياً ومجازياً) حتى يعتمد عليها، وقد تصل درجة الاعتماد إلى حد أنها قد تهيمن عليه، فهي تعرف كل أسراره (ومع هذا يُوجَد ما يُسمَّى «السكرتيرة التي لا تجيد الكتابة على الآلة الكاتبة» وهي تُعيَّن لجمالها وحسب، وتكون مصدراً للذة والمتعة فقط)
ومن أهم التنويعات الحديثة على هذا النمط (حيث يصبح النفع الأساسي للوظيفة هو اللذة التي تمنحها للمستهلك) نجمات السينما، وخصوصاً ملكات الإغراء الجنسي (بالإنجليزية: سكس كوينز sex queens). فالنجمة السينمائية هي العنصر الأساسي في استثمار ضخم هو صناعة الأفلام التي تهدف إلى إشباع رغبة المتفرجين في اللذة، ولذا تضع النجمة السينمائية نفسها (قلباً وقالباً، روحاً [إن كان هناك مثل هذا الروح داخلها] وجسداً) تحت تَصرُّف المجتمع: مخرج الفيلم ووسائل الإعلام والجمهور الذي يحلم بنجمته. ولذا، يتعين عليها أن تربي أردافها وأن تظهر دائماً في أحسن صورة وأكثرها خلاعةً وترتدي آخر الموضات.
ولابد أن يكون الماكياج فاقعاً وكذلك الأصباغ وأن تعطي إشارات حسية واضحة (فالاحتشام يشوه صورتها الإعلامية التي يروج لها وكيل أعمالها). كما يتعيَّن عليها ألا تظهر "على الطبيعة" وإلا أصبحت بشراً عادياً مثلنا وانفض المعجبون عنها (ولذا، نجد أن رؤية النجمة "على الطبيعة"، تُعدُّ دائماً مسألة نادرة تثير الدهشة وخيبة الأمل، وعادةً ما يُقال "إن النجمة فلانة عادية جداً في الحياة الواقعية"!). كما أن حياتها الخاصة لابد أن تكون جزءاً من الصورة الإعـلامية، تُوظَّف في خـدمة النجومية. وحـينما ترتكب فضائح أخـلاقية، فهذه مسألة طريفة ومسلية. وتظهر مجلات كاملة مهمتها تزويد الجمهور بآخر الأخبار المسلية عن فضائح النجوم وزيجاتهم وطلاقهم ومغامراتهم وصورهم العارية وغير العارية، وهذه عملية حوسلة تعاقدية كاملة.
وتُعَد المضيفة أيضاً استمراراً لنفس النمط، فمهمتها إسعاد الركاب لا مجرد خدمتهم. ولذا، فلابد أن تكون جميلة وصغيرة ولابد أن تكون أنثى (وكم ستكون خيبة أمل الركاب لو أن شاغل هذه الوظيفة ذكر له شوارب)، ولابد أن تبتسم المضيفة للجميع وأن تكون ظريفة معهم ومع أولادهم وأن تقول في نهاية الرحلة ذات الهدف العملي النفعي (الانتقال من مكان لآخر) " أرجو أن تكونوا قد استمتعتم برحلتكم ". ومع هذا، لابد أن تظل العلاقة تعاقدية باردة، ولذا فهي ترتدي زياً يفصلها عن الركاب، كما ينبغي ألا تقضي وقتاً طويلاً مع راكب بعينه، أي لابد أن توزع وقتها بطريقة تعاقدية باردة (ولذا، فإن نصيب راكب الدرجة الأولى من وقت المضيفة يزيد عن نصـيب راكب الدرجـة الثانية).
ولعـل ما يلخـص الموقف هو العبارة الإنجليزية «كوفي، تي، نوت مي coffee, tea, not me» (أي: أطلب ما شئت، قهوة أو شاياً، وليس المضيفة نفسها)، وفي رواية أخرى «كوفي، تي، أور مي coffee, tea, or me» (أي: أطلب ما شئت، قهوة أو شاياً، أو حتى المضيفة نفسها). والمسألة على كلٍّ خاضعة للتفاوض، كما هو الحال في معظم العلاقات الوظيفية، فهي موجودة في بقعة رمادية، ولكن البنية الأساسية لهذه العلاقة تظل تعاقدية تماماً. وتنضوي العاملات في المطاعم والملاهي تحت نفس النمط حيث تختلط المنفعة باللذة.
4 ـ قطاع السياحة:
ويمكننا أن نُصنِّف السائحين باعتبارهم جماعات من متعاقدين غرباء مؤقتين (يشبهون من بعض الوجوه العمالة المهاجرة إلى أوربا) يدعون أنهم يبحثون عن المنفعة (رؤية الأنا والتعرف على الآخر)، ولكنهم في غالب الأمر باحثون شرهون عن اللذة (الملاهي الليلية ـ التجول في مجتمع الآخر المباح). وطبيعة علاقة السائح بالمجتمع لا تختلف كثيراً عن علاقة الجماعة الوظيفية بالمجتمع التقليدي، فهي علاقة نفعية محايدة كل طرف فيها ينظر للآخر باعتباره مصدراً للنفع وشيئاً مباحاً. فالسائح يأتى للاستمتاع وحسب حتى لو أدَّى هذا إلى دمار المجتمع المضيف، والمجتمع يرحب بالسائح لا بسبب قيمته الإنسانية وإنما لأنه يحمل نقوداً ولأنه على استعداد لدفعها نظير المتعة التي سيحصل عليها، فالحسابات مادية غير أخلاقية. والسائح لا يدين بالولاء للمجتمع المضيف، كما أن المجتمع المضيف بدوره لا يُكن له أي احترام إنساني أو حب أو مودة. ولكن العلاقة التعاقدية هنا علاقة مؤقتة تماماً وليست جزءاً من بنية المجتمع، وإن كانت تؤثر فيه حينما يزيد عدد السائحين ويتضخم قطاع السياحة.
5 ـ النخب العسكرية:
ويمكن القول بأن القطاعات العسكرية في كثير من دول العالم الثالث يُعاد إنتاجها على هيئة جماعات وظيفية ُجنِّد أعضاؤها من داخل المجتمع. ويتم عزل هذه الجماعات عن طريق المزايا والرموز المختلفة، بل يتم أحياناً عزل هذه الجماعات داخل أحياء سكنية متميزة تتمتع بعدد من الخدمات، وقد تُخصَّص مستشفيات ومدارس مقصورة على أعضائها وعلى أولادهم. وبعد إنجاز عملية العزل، يصبح للقطاع العسكري وقيادته "مصالح" مختلفة عن مصالح المجتمع، ومن ثم يكون بوسع هذه الجماعات أن تنظر لهذا القطاع بشكل محايد، ويكون بوسع القوى الأجنبية أو النخب الحاكمة أن تُوظِّف هذه الجماعات لصالحها. كما يمكن لهذه الجماعات أن تسيطر على المجتمع وتديره لصالحها وتصبح مثل المرتزقة والمتعاقدين الغرباء رغم أن خطابها السياسي قد يكون قومياً وثورياً واشتراكياً.
6 ـ النخب الثقافية والسياسية المرتبطة بالإمبريالية الغربية:
يمكن أن يتحول بعض قطاعات النخب الحاكمة والمثقفين في العالم الثالث إلى جماعات وظيفية (عميلة) تعمل لصالح الإمبريالية أو النظام العالمي الإمبريالي الجديد. فهؤلاء يمكن استيعابهم من خلال الشبكة الاقتصادية والثقافية الضخمة (شركات متعددة الجنسيات ـ مؤسسات بحوث ـ مؤتمرات علمية ـ مشاريع بحثية مشتركة... إلخ). وهذه القطاعات يتم عزلها عن مجتمعاتها بحيث تصبح غريبة، فتكون داخلها ولكنها ليست منها. ويمكن أن تكون العزلة فعلية كأن يعيش أعضاء هذه القطاعات في منازل توجد على أطراف المدينة أو في أحياء خاصة ذات طُرُز معمارية معينة (عادةً غربية) أو يرتدون أزياء غربية ويتحدثون بالإنجليزية أو العربية المطعمة بالإنجليزية. كما أن شبكة المصالح العالمية تستوعبهم فتصبح مصالحهم الاقتصادية مرتبطة بالآلة العالمية وباستمرارها وباستمرار مؤسساتها الثقافية.
ولكن العزلة يمكن أن تتم بشكل أكثر تبلوراً وتركيباً فتأخذ طابعاً نفسياً فيحس المثقف بالعزلة عن مجتمعه وبعدم التجذر فيه وبالغربة عنه، ويحس عضو النخبة السياسية بعدم الانتماء لبلده، كما أنهما ينظران إلى أهليهما نظرة دونية حيث يشعران بتخلف المجتمع الذي يعيشان فيه وبحاجته إليهما (مركب الشعب المختار). كما أنهما يمارسان هذا الشعور عادةً بسبب إيمانهما بأيديولوجيا تُجسِّد نماذج معرفية وأخلاقية مستوردة متحيِّزة ضد واقعهما. ورغم أنهما قد يتحدثان بلغة بلدهما، إلا أن خطابهما السياسي يبدأ في التحول التدريجي حتى لا يفهمه سواهما ويصبح أداة للعزلة عن الجماهير لا للتواصل معها.
ولا شك في أن أعضاء هذه الجماعة يتسمون بحركية شديدة. كل هذا يجعلهم كيانات مجردة وأدوات قمع في نظر مجتمـعاتهم، تماماً كما أنهـم لا ينظرون إلى مجتمعـاتهم باعتبـارها كيانات حية ينتمون إليها. فهم ينظرون إلى الفلاح الذي يرتدي جلبابه، مثلاً، باعتباره عبئاً لابد من التخلص منه ومشكلة تحتاج للحل. وهؤلاء المثقفون يشبهون في كثير من الأحيان يهود البلاط الذين كانوا يشكلون جماعة وظيفية تقف بين عالمين (عالم اليهود وعالم الأغيار) جماعة تتعامل مع كليهما بكفاءة دون أن تنتمي لأي منهما. ولذا، فإن أعضاء هذه الجماعة يعيشون في عدم طمأنينة، يحاولون إرضاء أسيادهم قدر استطاعتهم عن طريق الخضوع لقوانينه، ولكنهم في الوقت نفسه لا يمكنهم الانضمام له تماماً لأن وظيفتهم تتطلب منهم أن يطوروا مجتمعاتهم حتى يمكن إدخالها إلى النظام العالمي. ولكن شرعيتهم وقوتهم تظلان مستندتين إلى القوة الإمبريالية.
وقد وصف أحد علماء الاجتماع يهود البلاط بأنهم "مخصيون لم يتم خصيهم" وهو وصف دال أيضاً لأعضاء النخب الثقافية والسياسية في العالم الثالث الذين تم إعادة إنتاجهم على هيئة جماعة وظيفية عميلة تخدم النظام الإمبريالي العالمي الجديد. ونحن نرى أن النظام العالمي الجديد ينطلق من إدراك الدول الغربية صعوبة المواجهة العسكرية والأيديولوجية الواضحة مع شعوب العالم الثالث (وخصوصاً الشعوب الإسلامية)، وإدراكها أيضاً ظهور نخبة ثقافية محلية على استعداد كامل للتعاون معها والقيام على خدمتها، فقررت أن تلجأ إلى التفكيك الداخلي (من خلال النخبة المحلية العميلة) بدلاً من المواجهة المباشرة من خلال الجيوش وآليات الحرب التقليدية الأخرى.
7 ـ الدول الوظيفية:
يمكن اعتبار الدول الاستيطانية إعادة إنتاج للجماعة الوظيفية في العصر الحديث، ولعل الدولة الصهيونية هي أهم مثل لذلك (انظر: «الدولة الصهيونية الوظيفية»). ولكن، يُلاحَظ في العصر الحديث أن الاستعمار الغربي يُحوِّل بعـض الدول، وبخاصـة الدول الصغيرة، إلى دول وظيفية تسير في فلكه وتخدم الاتجاه نحو العولمة. وتتم عمـلية التحويل هذه من دولة قومية إلى دول وظيفية، إما من خلال عملية رشـوة لشعب هذه الدول، أو من خلال تحويل النخبة الحاكمة في دولة ما إلى جماعة وظيفية تعمل لصالح النظام الاستعماري الجـديد. والدول الصغيرة ذات الموارد الطبيعية الضخمة هي المرشحة أكثر من غيرها لأن تكون دولاً وظيفية عميلة، فبنية هذه الدويلات (موارد ضخمة وكثافة بشرية ضعيفة) يجعلها في حالة صراع دائم مع جيرانها ولكنها تفشل في الوقت نفسه في الدفاع عن نفسها، ومن ثم لابد أن تعتمد على قوة عسكرية خارجية تدافع عنها وتضمن بقاءها فتتحول بالتالي، شاءت أم أبت، إلى دولة وظيفية عميلة، إذ يكون عليها أن تدفع ثمن بقائها وفاتورة الدفاع عنها.
8 ـ جماعات المهنيين:
يميل بعض علماء الاجتماع في الغرب إلى وصف جماعات المهنيين (مثلاً الأطباء والمهندسين) بأنها إعادة إنتاج لنمط الجماعات الوظيفية في العصر الحديث.
والله أعلم.