والمحاولة التفسيرية الحلولية الكمونية (بمفرداتها الجنينية الجسدية) تتسم ببدائيتها وسذاجتها وبالارتباط المتطرف بين النموذج والظاهرة إذ لا تكاد توجد أية مسافة بين النموذج والظاهرة وبين السبب والنتيجة وبين الدال والمدلول.
وهي محاولة تستخدم المادة البسيطة لفهم ما ليس بمادة، فكل مفردات الحلولية الكمونية هي أشياء مادية لها صفات المادة، فهي مقولات إدراكية مادية، وهي تمثل محاولة المتناهي (المادي) القفز على التناهي وصولاً إلى حالة اللامتناهي.
ولكنه يصر على العثور على اللامتناهي في المحسـوس والمتنـاهي، أي أنهـا تفترض كمون مركز العالم في المادة.
ومن ثم، فهي محاولة تفسيرية مستحيلة تؤدي إلى اختزال الإنسان المركب (الرباني) القادر على التجاوز الذي يعيش في الثنائيات ويحوي داخله درجة من التركيب لا يمكن ردها إلى النظام الطبيعي (أي القبس الإلهي) بحيث يصير إنساناً طبيعياً مادياً ذا بُعد واحد لا يمكنه تجاوز ذاته أو تجاوز الطبيعة أو المرجعية الكمونية فيسقط في حمأة المادة ويعود إلى السيولة الرحمية والطبيعة/المادة.
وقد عبَّرت الحلولية الكمونية عن نفسها بشكل مباشر وواضح في الرؤى الوثنية للكون وقصة الخلق، فهذه الرؤى عادةً ما تستبعد فكرة خلق العالم من عدم (والتي تفترض وجود مسافة بين الخالق والمخلوق)، كما تستبعد فكرة الخلق المحدد في زمان ومكان بمشيئة إلهية ولغرض إلهي، وتستبدل بها نظريات تذهب إلى أن العالم نتيجة التقاء جنسي بين الآلهة (التي تمثل عناصر الطبيعة المادية) فتتزوج آلهة الأرض من آلهة السماء أو آلهة الشمـس من عنصـر في الأرض، أي أن الخـلق ليـس نتيجـة عملية تتم خارج المادة والطبيعة أو لغرض إلهي أخلاقي.
وتكتسب الآلهة خصائص البشر (إذ لا توجد مسافة بينها وبينهم) فتحابي شعبها وتغار عليه، وقد تدخل معه علاقة جنسية أو شبه جنسية أو علاقة حب جنسي يعقبها زواج مقدَّس، أو تقيم علاقة تعاقدية خاصة جداً تُميِّز هذا الشعب عن بقية الشعوب وتمنحه مركزية في الكون (بل يُلاحَظ أن عبادة القضيب أو الرحم أو إلهة الخصب التي ترمز للرحم تنتشر في الحلوليات الكمونية الأكثر بدائية، فالقضيب يصبح هنا الدال والمدلول وأيقونة الحلولية الكبرى.
كما أن الاحتفالات والشعائر الدينية الحلولية تأخذ عادةً طابعاً جنسياً، وفي عبادات المايا كان الطقس الأساسي هو أن يقوم الملك باستقطار بعض نقط الدم من قضيبه، وأثناء هذه العملية كان يرى الآلهة ويعرف إرادتها). هذا على عكس العبادات التوحيدية حيث يحتل الجنس مكانته كنشاط إنساني ضمن نشاطات إنسانية أخرى، مختلطاً بها وليس منفصلاً أو مستقلاً عنها، ومن ثم يكتسب الجنس مضموناً اجتماعياً مركباً، وبالتالي فهو لا يحتل أية مركزية ولا يصبح صورة مجازية إدراكية كبرى.
وإذا كانت المنظومات الحلولية الكمونية ترى أن الإنسان يحقق ذاته من خلال إلغاء حدود كل شيء، فإن كثيراً من الحركات المشيحانية والباطنية تُلغي حدود الملكية الخاصة والجنس. ومن ثم، تظهر شيوعية الأرض والنساء (الرحم الطبيعي والرحم الإنساني)، الأمر الذي يُلغي أي تمايز أو هرمية وأية هويات إنسانية محددة. أما المنظومات التوحيدية فتؤكد فكرة الحدود، ومن ثم تؤكد فكرة العدل في توزيع الملكية وإدارتها دون إلغائها، وتؤكد فكرة الزواج والأسرة كمؤسسات مبنية على الاستقرار والطمأنينة والحب.
وحتى حينما ابتعد الإنسان البدائي الطبيعي عن الجسد (والجنس والثدي والرحم)، فإن هذا لم تَنتُج عنه أية مقدرة على التجاوز أو التجريد إذ أصبحت الأرض (بدلاً من الجسد) موضع تقديس الإنسان، فالمكان مباشر ومادي (على عكس الزمان، فهو غير مباشر وغير ملموس)، ولذا، نجد أن العقل البدائي يتسم بإدراك عميق للمكان، أي الأرض، وإغفال شبه تام للزمان، وهي سمة يتصف بها أيضاً إدراك الطفل الذي يبدأ بالإحاطة بمفهوم المكان متدرجاً تدرجاً بالغ البطء إلى أن ينضج ويحيط بفكرة الزمان والتاريخ.
ومن هنا، نجد أن العقل البدائي (الحسي المادي الوثني العاجز عن التجريد) قد ربط بين مفردات الحلولية الكمونية الجسد (الجنس ـ ثدي الأم ـ الرحم) من جهة وبين الأرض من جهة أخرى.
فالأرض، مثل الجسد، هي أقرب الأسباب للنتائج وأكثرها التصاقاً بها، ولا توجد مسافة بينها وبين الإنسان، وهي كيان مادي يستطيع الإنسان أن يدركه بحواسه الخمس دون إعمال عقل أو جهد. وقد رأي هذا الإنسان البدائي المادي الوثني الديدان وهي تخرج من باطن الأرض والنباتات وهي تشقها وتُخرج براعم ثم زهوراً.
والأرض، بهذا، في نظره المصدر المباشر للرزق، فمنها تأتي المحاصيل بل مواد البناء. وهو يرى الأرض وهي تُخْصب ثم تُقحل ثم تُخْصب عبر الفصول؛ مصدر حياتها وحيويتها من داخلها. والإنسان، أخيراً، يعود للأرض فيُدفَن فيها، فالأرض إذن هي البداية ومصدر الرزق والمأوى والنهاية أي أنها موضع الكمون، ولذا فإن الأرض هي الرحم النهائي والجسد الأعظم مصدر الحياة والخلق وهي الإله، فهي المصدر وإليها المآل.
وعادةً ما تدور العبادات الوثنية الحلولية حول تقديس الأرض المقدَّسة والدورة الكونية للطبيعة، وعادةً ما تُقرَن الأرض بفرج المرأة مصدر الحياة والخلق (ومن هنا تركيز الغنوصية على الجنس والمرأة).
وتظهر فكرة الإله الحي أو المصلوب أو المذبوح الذي يُبعَث من جديد كل عام، وهي عملية ذبح وبعث تُفسِّر دورات الطبيعة، فكأن الإله جزء من الطبيعـة/المادة ودورتها لا يتجاوزها، يحـيا بحياتها ويمـوت بموتها، يُخْصب حينما تُخْصب الطبيعة ويُجدب تماماً بجدبها.
والصورة المجازية: الجسد/ الأرض/ الجنس/ الثدي/ الرحم، تحاول أن تفرض قدراً من الوحدة على تعددية العالم وتنوُّعه وكثرته وأن تبين العلاقة بين الإنسان والطبيعة، ولكن هذه الوحدة هي وحدة لا تتجاوز العالم المــادي (حتـى ولا جسـد الإنسـان) إذ أن مبـدأ الوحدة كامن فيه لا يتجاوزه ولا يعلو عليه.
والفلسفات المادية (التي تُعبِّر عن وحدة الوجود المادية)، وضمن ذلك العلمانية الشاملة (الحلولية الكمونية المادية)، تستخدم مفردات الحلولية الكمونية، وخصوصاً فيما يتعلق بتقديس الجنس والأرض. ولعل فكر ما بعد الحداثة، باسـتخدامه الأعضاء التناسـلية كصورة مجازية إدراكية أساسـية، يُشـكِّل عودة للحلوليات الوثنية وعبادة القضيب والرحم.
صيغ مختلفة للتعبير عن العلمانية الشاملة (وحدة الوجود المادية والحلولية الكمونية المادية)
تلخص التعبيرات القرآنية: "إن هي إلا حياتنا الدنيا" (الأنعام 292 ـ المؤمنون 37)، و"ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت وتحيا" (الجاثية 24) الموقف الحلولي الكموني الواحدي المادي أو العلمانية الشاملة ببساطة وبلاغة. فالمرجعية الوحيدة هي الدنيا وعالم الحواس الخمسة والعقل المادي الذي يتواصل مع العالم المادي من خلال الحواس الخمس.
ولكن الخطاب العلماني لا يعبِّر عن العلمانية الشاملة والحلولية الكمونية بهذه البساطة، ولعل الصيغة الهيجلية في الحديث عن اتحاد المقدَّس بالزمني والفكرة بالطبيعة والإله بالتاريخ... إلخ من أكثر الصيغ تركيباً وأكثرها شيوعاً للتعبير عن الحلولية الكمونية والواحدية المادية/ الروحية.
وهناك صياغات أخرى أقل تركيباً من الصيغة الهيجلية وأكثر بساطة وأصبحت جزءاً من خطابنا التحليلي دون أن ندرك النموذج (الواحدي المادي) الكامن وراءها.
وقد قمنا بتحليل مصطلحات مثل: «وحدة (أي واحدية) العلوم» و«الإنسان الطبيعي» و«نهاية التاريخ» في مداخل أخرى لنبين أنها تعبِّر عن نموذج العلمانية الشاملة، ويمكن أن نورد فيما يلي بعض المصطلحات الأخرى الشائعة ذات البُعد الواحدي المادي:
يتحدث البعض عن أن "ما يحكم العالم هو قوانين الحركة أو قوانين التغير أو قوانين الضرورة الطبيعية"، ومثل هذا القول يصدر عن الإيمان بوجود جوهر واحد يتبعه كل شيء وتذعن له كل الظواهر وأن القوانين كامنة في المادة غير مفارقة لها.
إن قلنا "لا يستطيع الإنسان تَجاوُز حدود المادة" أو "حدود الطبيعة" أو "حدود جسده"، فنحن نتحدث في إطار حلولي كموني واحدي مادي، ينكر وجود أية آفاق مفارقة للمعطيات المادية، وهي وحدها تحوي كل ما يلزم لفهم العالم.
إن قلنا "لابد من القضاء على الثنائيات" فنحن نقول "لابد من سيادة الواحدية المادية والقانون الواحد الكامن في الأشياء، فنحن لا نعرف قانونين؛ واحد للأشياء وواحد للإنسان"، أي أننا نرى أن ثمة جوهراً واحداً وقانوناً واحداً كامناً.
إن استخدم أحد مثل هذه العبارة: "إن النموذج الذي استخدمه هو نموذج اقتصادي محض" فقد َعبَّر بشكل مصقول عن الحلولية الكمونية المادية والواحدية المادية، فهو يقول في واقع الأمر إن النموذج الذي يستخدمه قد استبعد من الظاهرة التي يدرسها كل العناصر الإنسانية غير الاقتصادية، وأبقى على عنصر واحد هو العنصر الاقتصادي (المادي).
وفسَّر الإنسـان في إطـاره ونظر إليه باعتباره ظاهرة بسـيطة، إنساناً ذا بُعد واحد يسري عليه ما يسري على الظواهر الطبيعية، فهو شيء بين الأشياء يمكن دراسته في إطار دوافعه الاقتصادية، ومن ثم يمكن رصده من خلال نماذج اقتصادية رياضية محضة، دون الإهابة بأي شيء متجاوز للمادة (الاقتصادية) المحضة. وقل نفس الشيء عمن يستخدم نموذجاً فرويدياً محضاً (يؤكد الواحدية المادية الجنسية بدلاً من الواحدية المادية الاقتصادية).
وقد تزداد الأمور صقلاً، فيضطر الحلول الكموني المادي إلى أن يتحدث عن قدر من التجاوز لسطح المادة وعن استقلالية الوعي الإنساني وعن البناء الفوقي المستقل عن البناء التحتي وهكذا.
ولكن الحلولية الكمونية الواحدية تفرض نفسها لتؤكد أن مُستقَر الحقيقة هو القانون الكامن في المادة فيضطرون إلى القول بأن الوعي الإنساني، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، يمكن رده إلى حركة المادة، وأن البناء الفوقي ليس ظاهرة مستقلة (بالإنجليزية: فينومينون phenomenon) وإنما هو ظاهر تابعة وحسب (بالإنجليزية: إبي فينومينون epiphenomenon)، ولذا فإن البناء التحتي (المادي) هو ما يحدد حركة وشكل وبنية البناء الفوقي ويتحكم فيه.
في هذا الإطار أيضاً يمكن فهم عبارة مثل "إن الإنسان يصوغ ذاته أثناء صراعه مع الطبيعة/ المادة"، فوعيه ـ حسب هذه الصياغة ـ يتشكل ويزداد تركيباً (هكذا، بشكل آلي مادي يُقال له «جدلي» من داخل عملية الصراع مع الطبيعة نفسها وبسبب تكرارها)، فتتراكم المعرفة وربما ذرات الوعي الإنساني، وبدلاً من الحديث عن لحظة الخلق الفارقة يتحدثون عن "الطفرة" وعن "تحوُّل الكم إلى كيف" وهكذا، وهي عبارات أقل ما توصف به أنها غامضة جداً، مجرد أسماء ذات رنين علمي لعملية غير مفهومة.
ولكن ما يهم فيها من منظور هذا المدخل أنها تؤكد كمونية القوى التي تُحدث التغيير وتنكر وجود أية قوى خارجية مفارقة. فالإنسان يصوغ نفسه بنفسه من خلال صراعه مع مادة أولية (الجوهر المادي الواحد) وفي إطارها، تماماً كما يخلق الإله العالم من مادة قديمة في النظريات الحلولية الكمونية الواحدية الروحية.
وحينما يظهر نظام وتناسق في الكون قد يفصح عن وجود مُنظِّم خارجي مفارق وعن غائية، فإنهم يحاولون اسـتيعابه في الحلولية الكمونية الواحدية المادية، بحيث يصبــح النظام كامناً في المادة فيتحدثون عن "المادة ذاتية التنظيم" أو "المادة رفيعة التنظيم".
النظرية الداروينية نظرية حلولية كمونية واحدية مادية، لا تقبل سـوى قوانين التطور الكامنة في المادة لتفسـير الظواهـر كافة.
وقول الداروينيين (والنيتشويين والماركسيين) "بأن الصراع بين الأنواع أو الأجناس أو الطبقات هو المحرك الوحيد أو الأساسي للسلوك الإنساني" هو القول بأن ثمة مبدأ واحداً كامناً في البشر وفي الطبيعة/المادة يحركهم ويتحكم فيه في حتمية كاملة.
المبدأ الواحد يمكن أن يتجلى من خلال التاريخ فيُقال "إن مسار التاريخ أثبت كذا..." أو "هذا هو حكم التاريخ" أو "لابد أن تواكب حركة التاريخ والتقدم وإلا اكتُسحت تماماً وأُلقي بك في مزبلة التاريخ" فهذه كلها صياغـات ترى أن التـاريخ هو موضع الكـمون، وهو التعبير عن الجـوهر الواحد الذي ينتظم كل الكائنات ويحركها.
النظرية العنصرية والنظريات التفسيرية العرْقية نظريات حلولية كمونية مادية، فهي تجد أن ثمة عنصراً مادياً واحداً، العرْق، هو الذي يمكن من خلاله تفسير تَطوُّر التاريخ. والصفات العرْقية صفات مادية كامنة في الإنسان.
الحديث عن "زمانية كل شيء" و"زمانية النص" و"تاريخانية الظواهر الإنسانية كافة" هو القول بأن كل شيء يوجد داخل الزمان لا يتجاوزه، فالزمان هو مُستقَر كل شيء، كل المعرفة كامنة فيه، ولا يوجد شيء خارجه، فهو المبدأ المادي الواحد الذي يتخلل كل الأشياء ويدفعها.
نحن نرى أن هيمنة الصورة المجازية العضوية على التفكير الغربي مظهر من مظاهر الحلولية الكمونية الواحدية المادية، فالصورة المجازية العضوية صورة مجازية تَجسُّدية حلولية تدور حول المبدأ الواحد الكامن لا المتجاوز، فالكائن العضوي تُوجَد في داخله قوة نموه وفنائه ولا يُدفَع من الخارج.
واستخدام الجسد والجنس كصور مجازية أساسية هو محاولة لاستخدام صور مجازية إدراكية تنقل العالم في ماديته وشيئيته الكاملة، دون أي شيء متجاوز له، فالجسد، مثل العالم المادي، هو موضع الحلول والكمون.
وتتضح الحلولية الكمونية في مفهوم الشعب العضوي (فولك). فالشعب العضوي هو شعب تربطه علاقة عضوية بأرضـه وثقافته، يكونون كلاًّ متلاحماً فلا يوجد للشعب وجود خارج أرضه ولا يمكن أن يؤسـس ثقافته بدون وجوده عليها. وثقافة هذا الشعب تعبير عضوي عن روح هذا الشعب النابعة من خصوصيته والتصاقه بأرضه.
وهكذا، فكل شيء كامن داخل الشعب في كيان عضوي مصمت لا يستطيع الأجنبي أن يخترقه أو حتى يفهمه. ولذا، تدور معظم الأيديولوجيات العنصرية (الصهيونية ـ النازية ـ القوميات المتطرفة) حول صورة مجازية عضوية، وهي أيديولوجيات حلولية كمونية مادية.
وقول البنيويين إن العالم لا يُوجَد خارج مجموعة من البنى، وأن قوانين البنية كامنة فيها، محايثة لها، هو القول بأن ثمة مبدأ واحداً ذا مقدرة تفسيرية كبرى هو مبدأ مادي واحدي في نهاية الأمر، فالبنية تتسم بالوحدة الصارمة (رغم كل ما تحويه من ثنائيات متعارضة). وهي توجد في في هذ العالم لا تتجاوزه.
وقول أنصار ما بعد الحداثة، والسوفسطائيين من قَبْلهم، بالصيرورة الكاملة، هو القول بأن المبدأ المادي الواحد يأخذ شكل صيرورة مطلقة تسقط في قبضتها الأشياء كافة، ولا تملك الإفلات منها. وهذا يعني في واقع الأمر تَحوُّل الإله/الصيرورة (إله هيجل، مقابل الإله/الطبيعة، إله إسبينوزا) إلى صيرورة وحسـب ويفقـد ألوهيته، أي أنها تعميق للكمونية وإنكار لأي تَجاوُز حتى لو كان لفظياً.
تظهر الحلولية الكمونية الواحدية المادية في إصرار أنصار ما بعد الحداثة على إنكار أصل الإنسان الرباني، فيتحدث دريدا عن "وعي إنساني كامل بدون أساس إلهي، بل بدون أساس إنساني"، لأن الأساس الإنساني يعني قدراً من الانفصال عن الطبيعة/ المادة بحيث لا يوجد سوى جوهر مادي واحد. ومن هنا حديث رورتي عن عالم لا يَعبُد فيه الإنسان شيئاً، لا إلهاً ولا ذاته، عالم تُنزَع فيه القداسة عن كل شيء لأنه لا يوجد سوى جوهر مادي، فلا مجال للحيز الإنساني المستقل.
وقول أنصار ما بعد الحداثة (الذي قد يبدو وكأنه لا معنى له) "لا يوجد شيء خارج النص" يمكن فهمه في إطار الصيرورة الكاملة. فالمبدأ المادي الواحد هنا هو الصيرورة الكاملة بدون إله، لعب اللغة وتراقص الدوال، والمعنى لا يُوجَد خارجهما، ومن ثم فالنص هو نفسه صيرورة بدون إله أو مركز، ومن يريد أن يعرف معناه فليدخل في دوامته، وهو إن دخل فلن يخرج، إذ لا يُوجَد شيء خارج النص، فالمعنى كامن فيه، وهو، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، بلا معنى ثابت أو نهائي.
وفي محاولتنا تطـوير خطـاب تحليلي يصل إلى هـذه الواحدية الصارمة وإلى فكرة الجوهر المادي الواحد ويعبِّر عنها، نستخدم بعض العبارات والمصطلحات التي تُعبِّر بأشكال مختلفة عن فكرة الكمون والحلول والواحدية المادية. وهذه المصطلحات والعبارات ليست من نحتنا أو صياغتنا تماماً، فهي جزء من الخطاب التحليلي الفلسفي العام في الغرب الذي يتسم كما أسلفنا بالهيجلية، وما نفعله نحن هو أننا نُبيِّن أبعادها الكلية والنهائية وعلاقتها بالتفكير الحلولي الكموني المادي.
يتبع إن شاء الله...