تقويض الذات الإنسانية وهيمنة الواحدية الموضوعية المادية
لا تدوم حالة الثنائية الصلبة (الواحدية الذاتية مقابل الواحدية الموضوعية) إذ يتم محوها لصالح الواحدية الموضوعية إذ يكتشف الإنسان العلماني الحديث أنه اكتسب مركزية في الكون من خلال تبنِّيه نموذج الحلولية الكمونية، إلا أن هذه الرؤية نفسها تؤكد أن كل شيء كامن في هذا العالم في حركة المادة وقوانينها.
ولذا فالمبدأ المادي الواحد المحرك للكون يساوي بين الإنسان وكل الكائنات الأخرى ويسوي بينهم، فلا فارق بين الإنسان والشجرة، أو بينه وبين الحشرة. وانطلاقاً من نفس الحلولية يكتشف الإنسان أنه ليس له أصل إلهي متجاوز لهذا العالم.
فأصله طبيعي / مادي لا يفصله فاصل عن الطبيعة/المادة، فمهما حقق من تجاوز لها فإنه (في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير)، شأنه شأن كل الكائنات الأخرى، يعيش داخل الطبيعة/المادة، داخل الزمان والمكان، وحتى رغباته النابعة من صميم ذاته، هي رغبات طبيعية/مادية حتمية، لا يستطع أن يتحكم فيها. فما يتحكم فيه هو خصائصه الوراثية ودوافعه البيولوجية وظروفه الموضوعية، أي أن الإنسان حينما يتمركز حول ذاته إنما يتمركز حول ذات طبيعية/مادية.
وفي محاولته تحقيق هذه الذات يتزايد اقترابه وذوبانه في الطبيعة/المادة التي لا تكترث به ولا تمنحه أية مكانة خاصة، وعليه أن يذعن لها ويتكيف معها، أي أن تحقيق الذات يعني تفكيك الذات. ومن ثم تهيمن الواحدية المادية ويخضع الإنسان تماماً للمعايير والمنظومات الطبيعية/المادية، الكمية الهندسية، التي لا تكترث بفرديته أو خصوصيته أو غاياته.
وقد قام مفكرو الاستنارة المظلمة بتوجيه الضربات المتتالية لمقولة الإنسان فأكد هوبز أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان وأن الواقع إن هو إلا حلبة صراع يخوضه الجميع ضد الجميع. وتبعه كثير من الفلاسفة الماديين مثل إسبينوزا والفلاسفة الماديين في فرنسا الذين يفككون الذات الإنسانية تماماً.
وانضم لهم بنتام الذي ذهب إلى أن سلوكنا الأخلاقي يمكن تفسيره مادياً في إطار المنفعة واللذة ثم داروين الذي ذهب إلى أن عالم الإنسان عالم حركة وصراع وأن الإنسان لا أصل إلهي له، فهو سليل القرود، ثم ماركس الذي اكتشف أن المجتمع حلبة صراع خاضع لحتميات مادية اقتصادية، وفرويد الذي أكد لنا أن ما يحركنا هو أساساً لا وعينا وأن لا وعينا تحكمه قوى مظلمة مثل الجنس، وذهب أيضاً إلى أننا لا ندرك الحقيقة فما ندركه هو ما يتراءى لنا أنه الحقيقة.
ويونج الذي قال إن لا وعينا هو لا وعي جمعي، ثم جاء البنيويون الذين أعلنوا أن البنية تتحدث من خلال الإنسان وأن الإنسان لا يتحدث من خلال البنية، وانتهى الأمر بأن أعلن فوكوه موت الإنسان.
وهكذا تم ضرب الإنسان وتفكيكه أنطولوجيا (فالإنسان إن هو إلا مجموعة من الدوافع المادية والاقتصادية والجنسية لا يختلف في سلوكه عن سلوك أي حيوان أعجم) وإبستمولوجيا (فإدراك الإنسان للواقع ليس عقلانياً وإنما تحكمه مصالحه الاقتصادية وأهواؤه النفسية).
وإذا كان هذا هو منطق منظومة الحداثة الحلولية العلمانية الشاملة، فإن تطور الواقع وتشكُّله ساهم هو الآخر في تقويض الذات الإنسانية. إذ نجد أن مجالات الواقع أخذت تنفصل تدريجياً عن الإنسان من خلال تصاعد معدلات الحلولية والعلمنة.
وقد لاحظنا أنه داخل منظومة الحلولية المادية أصبحت الطبيعة/المادة مرجعية ذاتها، غير مكترثة بالإنسان لا تمنحه أية مركزية، ويمكننا أن نلاحظ أن الشيء نفسه ينطبق على مجالات حياة الإنسان المختلفة، إذ يصبح كل مجال مرجعية ذاته فيفلت من قبضة الإنسان ولا يكترث به ولا يمكنه التحكم فيه.
وقد بدأت المتتالية بانفصال المجال الاقتصادي عن المنظومات القيمية والغائيات الدينية ثم الإنسانية، إذ تحرَّر المجال الاقتصادي من هذه المنظومات والغائيات ومن أية معيارية مستمدة منها، بحيث أصبح الاقتصاد هو نفسه موضع الحلول والكمون يحوي داخله معياريته وغائيته وكل ما يكفي لتفسيره. ويتم الحكم على عالم الاقتصاد، في هذه الحالة، بمعيار مدى تحقيقه للأهداف الاقتصادية (متجاوزاً الجانب الديني والأخلاقي والإنساني تماماً)، ويُشير عالَم الاقتصاد إلى ذاته ويحكم على الإنسان ذاته حين يتحرك داخل عالم الاقتصاد بمعايير اقتصادية.
وبذلك يتحوَّل الإنسان من كونه غاية ومرجعية تتحرك داخل حيزها الإنساني ليصبح مجرد آلة أو وسيلة حين يتحرك داخل الحيز الاقتصادي.
ثم تنفصل مجالات الحياة العامة الواحدة تلو الأخرى فينفصل المجال السياسي عن المنظومات القيمية والغائيات الإنسانية، لتصبح الدولة نهاية في حد ذاتها، أي أنها تصبح موضع الحلول، ويُحكَم على المجال السياسي بمعايير سياسية، كما يُحكَم على الإنسان ذاته بمعايير سياسية حين يتحرك داخل الحيز السياسي. ثم تنفصل الفلسفة ويصبح العقل المنفصل عن القيم والغائيات المسبقة هو موضع الحلول ومعيارية ذاته.
وتتالى المجالات وتتساقط إلى أن يصبح العلم مركز الكمون وموضع الحلول المستقل عن القيم والغائيات الإنسانية، ويُحكَم على مدى نجاح العلم أو فشله بمقدار ما يحققه من أهداف علمية محضة، مثل مراكمة المعلومات وإجراء التجارب "الناجحة" (بمقاييس علمية، بطبيعة الحال)، ويصبح العلم مرجعية ذاته وتنفصل الحقائق تماماً عن القيمة.
وتتغلغل عمليات العلمنة الشاملة وتتصاعد معدلات الحلول وتنتقل من الحياة العامة إلى الحياة الخاصة، فتتم علمنة الوجدان والأحلام (الثورة الرومانسية ـ الأدب مرجعية ذاته ـ الذات مرجعية ذاتها) وتتم علمنة الرغبات (البحث عن اللذة والإشباع الفوري) وأخيراً علمنة الجسد والجنس، فيتحرر الجنس من سائر المعايير والغائيات ليصبح موضع الحلول ومعيارية ذاته، ويُحكَم على مقدار نجاحه أو فشله بمقدار ما يحققه من أهداف جنسية محضة مثل اللذة، خارج أي نطاق اجتماعي أو أخلاقي.
وهكذا تتفتت الحياة الإنسانية وتتحول جوانبها المختلفة إلى مجالات غير متجانسة غير مترابطة ويختفي الحيز الإنساني ويصبح العالم بالفعل مادة نسبية محايدة خاضعة لحركة المادة وحسب وتسيطر الواحدية الموضوعية المادية التي تستبعد الحيز الإنساني إذ يصبح العالم الموضوعي هو اللوجوس.
وهكذا يختفي الإنسان الإنسان، الإنسان المركب الفرد الحر الواعي المسئول أخلاقياً، القادر على تجاوز ذاته الطبيعية/المادية وعلى تجاوز الطبيعة/المادة (والمطلقات العلمانية) وعلى اتخاذ قرارات تعبِّر عن ذاته الإنسانية المركبة ويختفي الإنسان كمقولة مستقلة عن الطبيعة / المادة (والمطلقات العلمانية المادية المختلفة) وتختفي فكرة الإنسانية المشتركة المنفصلة عن الطبيعة / المادة ويتم استيعاب الإنساني في الطبيعي ويظهر ما يُسمَّى «الإنسان الطبيعي / المادي» (أو الإنسان الاقتصادي أو الإنسان الجسماني) وهو إنسان ليس فيه من الإنسان سوى الاسم، إنسان جوهره طبيعي/مادي، إنسان ذو بُعد واحد، باطنه مثل ظاهره، يمكن تشييئه وتسليعه وحوسلته بسهولة ويسر.
إن التحديث (في إطار العلمانية الشاملة) يَصدُر عن تأكيد زمنية ومكانية ومادية كل شيء، وإخضاع كل شيء، وضمن ذلك الإنسان، لعمليات الترشيد العقلاني المادي في إطار معايير عقلانية صارمة. وعملية التحديث متتالية تحققت تدريجياً. وتَحقُّقها التدريجي هذا يعني التصاعد التدريجي والمستمر للواحدية المادية إلى أن تسيطر تماماً.
ولذا، فإن ثمة تراجعاً مستمراً عن الفلسفة الإنسانية (الهيومانية) وعن ثنائية الإنسان والطبيعة وعن الإيمان بالثبات والتجاوز، وهو في واقع الأمر تَصاعُد مطرد للواحدية المادية ومحو لكل الثنائيات والخصوصيات والهويات والثبات وتفكيك لمقولة الإنسان كمقولة لها حدودها المستقلة المتماسكة ليسقط الإنسان تماماً في قبضة الصيرورة وزمانية ومكانية منظومة الحداثة العلمانية الشاملة.
ولعل ما يُسمَّى التلاقي (بين النظم الرأسمالية والاشتراكية)، وهيمنة النماذج البيروقراطية والكمية، وإزاحة الإنسان عن المركز، والتَسلُّع، والتحييد، والتَشيُّؤ، والاغتراب، ونزع القداسة عن العالم، وإنكار الجوهر الإنساني، والهجوم على الإنسانية المشتركة، والنظام العالمي الجديد... إلخ هو تعبير عن نفس الظاهرة وليس مجرد انحرافات عن مسار التحديث وعن جوهره.
وقد عبَّر رورتي عن هذا بأن وصف التحديث بأنه مشروع نزع الألوهية عن العالم (بالإنجليزية: دي ديفينايزيشن بروجكت dedivinization project) وهو يعني ألا يُؤلِّه الإنسان شيئاً وألا يَعبُد شيئاً ولا حتى ذاته، وألا يجد في الكون أي شيء مقدَّس أو رباني أو حتى نصف رباني. ومن ثم، لا تُوجَد مقدَّسات أو محرَّمات من أي نوع، فلا حاجة لتجاوز المُعطَى المادي (الزماني المكاني). فالإنسان يوجد في عالمه المادي لا يتجاوزه، فالعالم مكتف بذاته، موضع الحلول والكمون وهو مُستقَر كل القوانين التي يحتاج لمعرفتها.
ثم يبيِّن لنا رورتي النتائج المنطقية لهذا الموقف بقوله "إن الحضارة العلمانية الحديثة لن تكتفي باستبعاد فكرة القداسة أو بإعادة تفسيرها بشكل جذري، وإنما ستهاجم الذات الإنسانية نفسها كمصدر الحقيقة". فهي ستهاجم فكرة "تكريس الذات للحق (الحقيقة)" أو "تحقيق الحاجات العميقة للذات"، كما ستبيِّن أن مصدر المعنى ليس كلاًّ متجاوزاً وإنما هو الإنسان، والإنسان كائن حادث زمني متناه، أي أنه ليس مصدراً جيداً للحقيقة.
ويبيِّن لنا رورتي بعض النتائج المنطقية الأخرى للتحديث في الإطار المادي والعلماني الصلب، فالتحديث هو إيمان عقلاني مادي بالتقدم وإيمان بالمستقبل الذي سيتحقق فيه التقدم، الذي أصبح المعيار الواحد والوحيد. ولكن التقدم نفسه هو مجرد حركة وحركة مستمرة لا متناهية، ولأنها حركة في عالم المادة فلا يمكن أن تكون لها أية غائية، وهو ما يعني سقوط الثبات.
وانطلاقاً من أرضيتنا الحديثة العقلانية المادية، فإن العقل سيقوم بعملية نقدية صارمة لمسلماتنا العقلية وموروثاتنا الثقافية ولن نقبل من التاريخ إلا ما يتفق مع نماذجنا العقلية والمادية، والرؤية التحديثية المادية تُعرِّف «الزمان» و«المكان» و«الآن وهنا» كمقولات مجردة، كصيرورة لا معنى لها، كعلامة على ماديتنا، ولكنها لا تقبل التاريخ أو الذات ولا تعرفهما لأنهما يحتويان مخزوناً لقيم تُغاير ما في واقعنا المادي وما في نماذجنا العقلانية المادية وتتحداها.
وعلى هذا، فإن التحديث (بالنسبة لرورتي وآخرين) هو نسيان نشط للتاريخ والذات، أي أنه تجريد للإنسان من ذاكرته التاريخية بعد أن جُرد من مكانته الأنطولوجية. وهكذا، تم ضرب الذات الإنسانية وتفكيكها تماماً، ولم يبق من الإنسان شيء، لا مقدرته على الإدراك المبدع للواقع ولا الذاكرة التاريخية.
ولا غرو أن المشروع التحديثي قد َحوَّل الإنسان من غاية إلى وسيلة. وهناك كثير من آليات التحديث، مثل الدولة المركزية أو السوق القومية أو الترشيد، تستقل عن الأهداف الإنسانية منها (إشباع حاجات الإنسان وتحقيق الكفاية والأمن له... إلخ) لتصبح غايات وتهيمن على الإنسان ويصبح عليه أن يُذعن لها.
ورغم تصفية الإنسان وتقويضه، فإن الطبيعة (مع هذا) تظل مركز الكون تزوده بمعيارية ويصبح الإنسان مذعناً لها، يصبح هناك كون طبيعي صلب وقوانين طبيعية صلبة. أي أن مرحلة الصلابة مرحلة متمركزة حول اللوجوس الكل الثابت المتجاوز، الإنساني (في البداية) أو الطبيعي/المادي (في النهاية)، فهو عالم لوجو سنتريك logo-centric.
السيولة الشاملة (عصر ما بعد الحداثة)
امتدت المرحلة الثنائية والواحدية والواحدية الصلبة منذ عصر النهضة في الغرب حتى منتصف الخمسينيات. ورغم أن رؤية السيولة الكاملة كانت كامنة في الرؤية الغربية للعالم إلا أنها ظلت هامشية وبدأت تتحرك نحو المركز في نهاية القرن التاسع عشر واستقرت فيه في العقود الأخيرة من القرن العشرين (في عصر ما بعد الحداثة).
ومع نهاية القرن التاسـع عشـر بدأت تظهر عناصر جديدة جعلت من المستحيل الاستمرار في حالة الصلابة القديمة:
1 ـ بدأ الإنسان الغربي يدرك استحالة تنفيذ مشروعه التحديثي وأن ما تحقَّق منه قد بدأ يؤدي إلى اختفاء الإنسان. ورغم إدراك الإنسـان الغربي لهذا الوضـع فإنه كان لا يعـرف بديلاً له، كما أنه لا يزال يحـمل ذكرى عصر المادية البطولي، ولذا استمر فيه واستمر في الإبداع وفي التمرد على وضعه. وقد سمينا هذا عصر الحداثة المأساوي/الملهاوي/العبثي.
2 ـ لاحظنا تفكيك مقولة الذات الإنسانية المستقلة. ولكن الأمر لم يتوقف عند هذه النقطة، بل تستمر عملية التفكيك وتصل إلى مستويات أكثر عمقاً وجذرية، إذ يتم ضرب فكرة الواقع الموضوعي نفسه أيضاً. فالواقع (الطبيعة/المادة)، من المنظور التحديثي، في حالة حركة دائمة وتَغيُّر دائم، والتغيُّر هو الصفة الثابتة الواحدة لعالمنا، سجن الزمان والمكان. ومن ثم سقطت الطبيعة نفسها في قبضة الصيرورة.
وقد "أثبت" داروين أن الطبيعة في حالة صراع دائم يحكمها منطق القوة. و"أثبت" علم النفس أن إدراكنا لها ليس موضوعياً، ومن ثم فهي ليست مصدر موضوعية للمعرفة. ثم جاءت ثورة العلوم الطبيعية (نظرية عدم التحدد ـ النظرية النسبية.. إلخ) التي أكدت استحالة رصد الواقع الموضوعي واستحالة تجاوزه.
لكل هذا، تبدأ الطبيعة/المادة نفسها في الاختفاء كمعيارية ومرجعية وككل ثابت متجاوز، ويصبح كل شيء مرجعية ذاته، وهذا ما يؤدي إلى تشظي الكون وتحوُّله إلى ذرات (بالإنجليزية: أتومايزيشن atomization، أو أتوميستيك فراجمنتيشن atomistic fragmentation) ويظهر عالم لا مركز له، أو متعدد المراكز، يتسم بعدم وجود حقيقة أو بتعدد الحقائق، وبعدم وجود مطلق أو بتعدد المطلقات، عالم ما بعد الحداثة والقصص الصغرى والنظام العالي الجديد، عالم ليس فيه ذات متماسكة ولا موضوع متكامل.
ويصبح العالم مفككاً لا مركز له (بالإنجليزية: نان لوجو سنتريك non logo-centric)، وتصبح الصيرورة مركز الحلول والكمون، ويصبح النسبي هو المطلق الوحيد، ويصبح التغيُّر هو نقطة الثبات الوحيدة.
ويتحول العالم إلى كيان شامل واحد تتساوى تماماً فيه الأطراف بالمركز، عالم لا يوجد فيه قمة أو قاع، أو يمين أو يسار (أو ذكر أو أنثى)، وإنما يأخذ شكلاً مسطحاً تقف فيه جميع الكائنات الإنسانية والطبيعية على نفس السطح وتُصفى فيه كل الثنائيات الصلبة والفضفاضة، وتنفصل الدوال عن المدلولات فتتراقص بلا جذور ولا مرجعية ولا أسس، وتصبح كلمة «إنسان» دالاً بلا مدلول، أو دالاً متعدد المدلولات، وهي مرحلة السيولة الشاملة (أو الواحدية السائلة)، وبدلاً من الصراع بين الذات والموضوع، تذوب الذات في الموضوع والموضوع في الذات (خير/شر ـ حقيقة/زيف ـ مطلق/نسبي ـ عدل/ظلم ـ إنساني/طبيعي ـ خالق/مخلوق).
وهذا هو الانتقال من الثنائية الصلبة والواحدية الموضوعية الصلبة إلى الواحدية السائلة التي لا تعرف حدوداً ولا قيود. وهو أيضاً الانتقال من عالم التحديث والحداثة (والإمبريالية) إلى عصر ما بعد الحداثة (والنظام العالمي الجديد).
ولذا كان السؤال الذي طُرح في مرحلة الثنائية الصلبة (والتحديث والحداثة) هو: أيهما مركز الكون: الإنسان أم الطبيعة؟ أما في هذه المرحلة مرحلة السيولة الشاملة فتطرح تساؤلات أكثر جوهرية تتصل بالكل الثابت المتجاوز: هل يمكن الإيمان بوجود كلٍّ ثابت متجاوز له معنى داخل الإطار المادي؟ وكيف يكون هناك كلٌّ، والعالم المادي مكون من جزئيات وتفاصيل وظواهر متناثرة؟
وكيف يكون هناك ثبات داخل الإطار المادي، والمادة المتحركة؟ وهل يمكن تحقيق التجاوز، والمادة لا تعرف التجاوز؟ هل يمكن أن يكون هناك معنى للكون، والمادة حركة بلا قصد أو معنى؟ هل يمكن الاحتفاظ بثنائية الإنسان/الطبيعة في عالم واحدي مادي، والمادة لا تعرف إلا قانوناً واحداً؟ هل يستطيع شيء أن يفلت من قبضة الصيرورة في إطار فلسفة مادية؟ هذه هي الأسئلة الأنطولوجية المعرفية التي طرحها الإنسان الغربي على نفسه.
وبعد تفكيك الذات والموضوع كانت الإجابة أنه لا يوجد أي أساس لظهور الكل المادي المتجاوز (الإنساني أو الطبيعي) أو لأي شكل من أشكال الثبات، فالإنسان غير قادر على السيطرة على الطبيعة وإنما عليه الإذعان لها وهو غير قادر على إدراكها تماماً، والطبيعة نفسها متحركة فلا يمكن رصدها ولا الإمساك بها، ومن ثم لا توجد ثوابت أو كليات أو مطلقات معرفية أو أخلاقية.
وفيلسوف عصر السيولة هو نيتشه، الذي ظهر من الناحية الزمنية في أواخر القرن التاسع عشر (مع بدايات ظهور الحداثة) إلا أنه في واقع الأمر فيلسوف نهاية الحداثة، أي ما بعد الحداثة. فقد أدرك بثاقب نظره أن الحقيقة الكلية المادية التي بشَّر بها دعاة الاستنارة (المضيئة) والتحديث والعقلانية المادية مرتبطة حتماً بالتجاوز والميتافيزيقا لا يمكنها أن تنفصل عنهما.
وهذا يعني في واقع الأمر أن من داخل نظام يدَّعى المادية يُولَد مرة أخرى الرباني والمقدَّس والمدلول المتجاوز («ظلال الإله» حسب تعبير نيتشه). ولكن هذا أمر غير معقول داخل إطار مادي، ففي داخل هذا الإطار لا مناص من قبول أطروحات الاستنارة المظلمة التي لا تعرف ظلال الإله، فهذا هو مصير الإنسان الموجود في الزمان والمكان وبعد موت الإله، ولا داعي للتمحك في ظلاله.
والأمل التحديثي في عصر المادية البطولي هو هذا التمحك، وهو أمل جبان غير قادر على قبول وضع الإنسان في عالم الصيرورة المادية، وهذه المنظومات المعرفية والأخلاقية العقلانية هي مؤامرة الضعفاء على الأقوياء من أبناء الطبيعة.
لكل هذا رحب نيتشه بالعدمية زائراً دائماً في وسطنا في عصرنا الحديث المادي، وأعلن فلسفة القوة الشجاعة التي لا تعرف الضحك والبكاء ولا تكترث بالضعفاء حيث لا ذات ولا موضوع، ولا داخل ولا خارج، ولا ظاهر ولا باطن، ولا دال ولا مدلول، ولا مُقدَّس ولا مُدنَّس، ولا حلال ولا حرام، ولا حقائق ولا حق ولا حقيقة، وإنما صراع بين قوى مظلمة ظالمة يُحسَم بطريقة مادية طبيعية. وفي إطار فلسفة القوة، لا تُوجَد لغة تواصلية إذ أن إرادة القوة هي التي تربط السبب بالنتيجة والدال بالمدلول وتصبح هي مبدأ التماسك أو السيولة في العالم ومصدر المعنى أو اللامعنى.
وهذه هي فلسفة الواحدية المادية الكمونية والعلمانية الشاملة التي تؤكد تناهي الإنسان داخل الزمان والمكان وتؤدي إلى اختفاء المرجعية الإنسانية بل المرجعية الموضوعية نفسها (أي كل المرجعيات وأية مركزية وأي كل مادي متجاوز)، فالمادة حركة والحركة لا تعرف التمييز بين مركز وهامش وبين معنى ولا معنى وبين القيمة والعدم.
وكان نيتشه يدرك تماماً أن دعوته لإزالة ظلال الإله هذه، والتخلص من الكل المادي المتجاوز (إنسانياً كان أم طبيعياً / مادياً) ومن كل من الذات والموضوع، وتشكل أساس الأنطولوجيا الغربية، لم تكن من بنات أفكاره وإنما كانت كامنة في الجذور الفلسفية للمشروع التحديثي العقلاني المادي.
وقد قامت محاولات كثيرة للإجابة على تحديه. فظهرت فلسفات مثل البرجماتية وفلسفات الحياة (برجسون)، ثم ظهرت أخيراً الفلسفة الفينومينولوجية كنوع من محاولة الوصول إلى تعريف للحقيقة يتجاوز ثنائية الذات والموضوع، والتجاوز والكمون، والثبات والحركة، والغائية والعدمية عن طريق فكرة الوعي والقصد حيث لا توجد الذات إلا من خلال الموضوع ولا يوجد الموضوع إلا من خلال الذات.
بمعنى أننا قد يمكننا أن نصل إلى الحقيقة الكلية دون حاجة إلى تَجاوُز أو ثبات أو غائيات أو ثنائيات، وبذا يمكن تقويض أساس الأنطولوجيا الغربية (ثنائية الذات والموضوع، ووجود الكل والجزء، ووجود حقيقة موضوعية وذات متماسكة ومعنى وهدف) دون السقوط في العدمية أو الميتافيزيقا، أي أننا يمكننا أن نصل إلى الحقيقة الكلية والمعنى الكلي بدون ميتافيزيقا.
وكانت هذه هي آخر المحاولات شبه العقلانية المادية، إذ ظهرت ما بعد الحداثة وهي فلسفة لاعقلانية مادية لا تعرف البطولة ولا تعرف المأساة ولا الملهاة ولا التمرد العبثي؛ فلسفة تدرك حتمية التفكيك الكامل، والسيولة الشاملة، إذ يتم التوصل إلى أن كل شيء نسبي مادي، وأن الفلسفة الإنسانية وهم، وأن الاستنارة المضيئة حلم وعبث، وأن الواقع في حالة سيولة حركة (مثل المادة الأولى)، وأن ليس ثمة ذات إنسانية متماسكة ثابتة ولا موضوع طبيعي / مادي ثابت متماسك (فهذه كلها مجرد تقاليد لغوية وعادات فكرية وصور مجازية) وحتى إن وُجدت الذات ووُجد الموضوع فلن يتفاعلا، إذ لا تُوجَد لغة للتواصل أو التفاعل.
كل هذا يعني اختفاء فكرة الكل تماماً، والأجدر للإنسان أن يتكيف بطريقة برجماتية مع حالة السيولة، فهي فلسـفة خضوع وتَكيُّف وتطبيـع لحـالة اللامعيارية (ولذا يُطلَق عليهـا أحياناً «البرجماتية الجديدة»). هذا هو عصر ما بعد الأيديولوجيا وما بعد الإنسانية وما بعد الميتافيزيقا وما بعد الحقيقة وما بعد التاريخ ـ عصر تكتسح فيه الكوزموبوليتانية جميع الحضارات وتدمر خصوصياتها، كما تدمر المطلقات والثوابت كافة.
ما بعد الحداثة
مصطلح «ما بعد الحداثة» مصطلح نفي سلبي، وهو ترجمة لمصطلح «بوست مودرنيزم» («post-modernism» أو «post-modernism». وقد تُستخدَم كلمة «بوست مودرنيتي post modernity» للدلالة على الشيء نفسه.
وأحياناً يُطلَق على مصطلح «ما بعد الحداثة» تعبير «ما بعد البنيوية» (بالإنجليزية: بوست ستراكتشراليزم post-structuralism) باعتبار أن فلسفات ما بعد الحداثة قد ظهرت بعد ظهور وسقوط (الفلسفة) البنيوية.
ويكاد مصطلح «ما بعد الحداثة» يترادف مع مصطلح «التفكيكية». وللتمييز بينهما، يمكن القول بأن «ما بعد الحداثة» هي الرؤية الفلسفية العامة، أما «التفكيكية» فهي بالمعنى العام أحد ملامح وأهداف هذه الفلسفة. فهي تقوم بتفكيك الإنسان، كما أنها منهج لقراءة النصوص يستند إلى هذه الفلسفة.
ويجب ملاحظة أن اصطلاح «ما بعد الحداثة» يكتسب أبعاداً مختلفة بانتقاله من مجال إلى مجال آخر، فمعنى «ما بعد الحداثة» في عالم الهندسة المعمارية يختلف، من بعض الوجوه، عن معناه في مجال النقد الأدبي أو العلوم الاجتماعية.
وقد بيَّنا أن المشروع التحديثي العقلاني المادي كان يحوي عناصر تفكيكية معادية للإنسان داخله وأن المتتالية التحديثية بدأت تتحقق تدريجياً فمرت من عصر التحديث إلى عصر الحداثة إلى ما بعد الحداثة، وهي النقطة التي تصل عندها المتتالية التفكيكية إلى نهايتها.
ويمكن تشبيه ما بعد الحداثة بالفلسفة السوفسطائية (بروتاجوراس [480 ـ 410 ق.م] وجورجياس [ ؟ ـ 375 ق.م] وغيرهما)، وهي فلسـفة مادية عـدمية تماماً نادت في بـداية الأمر، بأن الإنسان مقياس كل شيء، شأنها في هذا شأن المنظومة التحديثية في عصرها البطولي، ولكنها تدريجياً بدأت تزيح الإنسان عن المركز، وتحل محله الطبيعة/المادة، ثم انتهى الأمر بالسوفسطائيين أن أنكروا أية حقيقة كلية نهائية متجاوزة لحواسنا، فلا يوجد ما يُسمَّى «روح العالم» أو «العقل الكلي» خلف الظواهر المتغيرة التي ندركها من خلال حواسنا.
ومن ثم أصبح كل إنسان حبيس حواسه (قصته الصغرى) والحواس تختلف باختلاف الأشخاص. ولذا أصبحت المعرفة المستقلة عن الحواس مستحيلة. ولذا يمكن إنكار الوجود ذاته: لا شيء موجود، وإن وُجد شيء فلا يمكن أن يُعرَف، وإذا أمكن أن يُعرف فلا يمكن إيصاله للغير. وإذا لم يكن هناك معرفة مشتركة فلا تُوجَد بالتالي قوانين أخلاقية خارجية يخضع لها الناس جميعاً.
ولا يوجد قانون عام مُؤسَّس على العدالة إذ ليست هناك عدالة عامة بالمعنى الذي يفهمه الناس، فالقوانين من اختراع الأقوياء ليخضعوا بها الضعفاء، ولذا يحق للإنسان القوي أن يَخرُج على القانون إن استطاع ذلك. والدافع الأساسي لسلوك الإنسان هو الأنانية، وإذا أصبح الإنسان خيِّراً فهذا ليس بسبب خير أو شر مفطور فيه وإنما بسبب عملية التنشئة الاجتماعية والفكرية.
والمجتمع في حالة صراع دائم يسود فيها منطق البقاء للأصلح، أي أن السوفسطائيين نجحوا في دفع كل المقدمات المادية إلى نتائجها المنطقية العدمية. ويمكن القول بأن الانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة هو انتقال من مرحلة مادية صلبة ورثت كثيراً من مقولات الأفلاطونية والمسيحية بعد علمنتها إلى مرحلة مادية سائلة تشبه مقولاتها مقولات الفلسفة السوفسطائية.
ويمكن تلخيص المقولات الأساسية لرؤية دعاة ما بعد الحداثة فيما يلي:
1 ـ الأنطولوجيا:
يرى دعاة ما بعد الحداثة (دريدا مثلاً) أن الأنطولوجيا الغربية بدأت مع أفلاطون وظلت أفلاطونية حتى النخاع، وجوهر المنظومة الأفلاطونية هو الإيمان بوجود عالم المُثُل (عالم الحق المطلق والمُثُل الثابتة، وهو عالم كلي متجاوز لعالمنا له هدف وغاية) من جهة، ومن جهة أخرى عالم المادة والتغير الذي يحجب عالم المُثُل، أي أن ثمة ثنائية أساسية في المنظومة الأفلاطونية تُعبِّر عن نفسها في ثنائية الدال (المحسوس) والمدلول (المتجاوز) وانفصال الواحد عن الآخر.
ورغم أن عالم المادة يحجب عالم المُثُل فإن المنظومة الأفلاطونية تذهب إلى أن بإمكاننا التوصل إلى معرفة إنسانية من خلال الحواس والعقل ويمكننا توصيلها من خلال اللغة.
ولكن كل ما نصل إليه من معنى هو ظلال لهذا العالم الكلي الثابت المتجاوز (يُطلق عليه أنصار ما بعد الحداثة «الحضور» أو «المدلول المتجاوز»، وهو معادل «الإله» في الديانات التوحيدية)، أي أن المعنى الذي نصل إليه يستند إلى ميتافيزيقا التجاوز، فثمة علاقة وثيقة حتمية بين ما يُسمَّى «الحقيقة» وبين ما يُسمَّى «الميتافيزيقا». ويُلاحَظ أن الحواس والعقل واللغة، كلها، مجرد آليات للوصول إلى الهدف النهائي، أي المعنى الكلي الثابت المتجاوز ذي الغرض، وهو الحقيقة، ولذا فهذه الآليات تُعتبَر ثانوية بالنسبة للأصل وتأتي بعده في الدرجة والمنزلة.
والمشروع التحديثي الغربي (في إطار العلمانية الشاملة) يقف على الطرف النقيض من هذه الرؤية الأفلاطونية الثنائية، فهو مشروع يهدف إلى إلغاء الثنائيات كافة وإلى فرض الواحدية المادية على العالم بحيث لا تُوجَد كليات من أي نوع، مادية أو روحية، ولا يوجد مبدأ واحد نهائي يمنح العالم التماسك والوحدة. والمشروع ما بعد الحداثي بهذا المعنى هو التحق النهاذي لمشروع الحداثة في محاولته القضاء على خرافة الميتافيزيقا وعلى أوهام الفلسفة الإنسانية الهيومانية بشكل كامل عن طريق القضاء على خرافة الحقيقة الكلية، فمثل هذه الحقيقة الكلية تستدعي عالماً متماسكاً متجاوزاً لعالمنا المادي المتبعثر.
وإذا كان المشروع التحديثي يستند إلى ثنائية الذات المتماسكة التي تتفاعل مع موضوع متماسك داخل إطار الكل الثابت الذي يشير حتماً إلى الأصل المتجاوز (المدلول المتجاوز)، أي إلى الإله أو على الأقل إلى ظلاله، فإن "مشروع" ما بعد الحداثة (إن كان من الممكن تسميته كذلك) يحاول أن يزيل هذه الظلال فيعكس الآية وينكر الأصل المتجاوز أو أي أصل من أي نوع.
فالكل المادي المتجاوز الذي له معنى لا يبقى منه سوى ماديته، والحقيقة كامنة في الحقائق، والكل كامن في الأجزاء المادية التي لا يربطها رابط، وكل حقيقة وجزء منغلق على ذاته، لكلٍّ مركزه، والعالم في حالة حركة دائمة وتَغيُّر دائم ولكنه ليـس بالضرورة تطـوراً ذا معنى وقصـد. وهذا هو جوهر ميتافيزيقا ما بعد الحداثة، فهي تفترض أن العالم مادة في حالة حركة دائمة: لا أصل لها ولا قصد.
وتتسم كل مفاهيم ما بعد الحداثة (انظر: «الاخترجلاف» ـ «الهوة» ـ «الدال والمدلول») بهذه السمات الجـوهرية، ورغم أنهـم يصفـونها بأنها حـالة لا حضور ولا غياب، فإن جوهرها سلبي له صفات محددة، فميتافيزيقا ما بعد الحداثة ميتافيزيقا سلب تستند إلى حضور جوهر سلبي (انظر: «الهوة»).
وكل هذا يعني غياب أي مركز أو مرجعية أو معيارية ومن ثم أية ثنائية. ولذا، فإن أنصار ما بعد الحداثة يعتبرون مجرد استخدام كلمات مثل «يقين» أو «دوافع» أو «حق» أو «ذات» سقوطاً في الميتافيزيقا، وذلك باعتبار أن مثل هذه الكلمات تتضمن إشارة إلى حقائق.
وبطبيعة الحال، لا تعترف ما بعد الحداثة بثنائية الذات والموضوع (التي ظهرت بحدة مع ظهور العقلانية المادية)، وهي تحل إشكالية الثنائية الصلبة عن طريق السيولة الشاملة.
فالذات لا تعرف مراكز مادية أو روحية، ولذا فهي لا يمكن أن تحدد هويتها ولا أن تتمتع بأي تماسك، وخصوصاً أنها تم تفكيكها وردها إلى المادة وإخضاعها للحركة التي من حولها. والموضوع ذاته ينطبق عليه نفس الوضع، فهو في حالة حركة، وكل شيء فيه عرضي إذ لا يوجد شيء ضروري. وهذا يعني، في واقع الأمر، أن الذات مساوية للموضوع ومنفصلة عنه تماماً، أي أن كل الأمور متساوية تماماً ومنفصلة تماماً ومختلفة تماماً.
ولكن إذا كانت الذات جزءاً من واقعها المتحرك المتغير فهي حرة تماماً، إرادة كاملة ولكنها إرادة لا علاقة لها بالموضوع. وعلى كلٍ، فمن المستحيل للذات أن تصل إلى الموضوع، فالموضوع مساو لها ومنفصل عنها، ولذا فإن الحرية التي تمارسها الذات هي حرية لا تتجاوز حدودها وليست في نطاق موضوع آخر، ولا تدخل أبداً عالم التحقق الموضوعي، فهي محصورة بحدودها. وغياب المرجعية هذا يعني أن الحالة الإنسانية متعددة بشكل متطرف ونهائي، وأن البشر مُقسَّمون إلى وحدات متعددة لا يربطها رابط (إنسانية مشتركة).
وكل هذا يعني سقوط الأسس التي يستند إليها الذات والموضوع واتصالهما، فتسقط الثنائية وتسود الواحدية. ولذا، لا يمكن الحديث في واقع الأمر عن ذات أو عن موضوع أو عن أية معـيارية من أي نوع، أو عـن أية مرجـعية، مادية كانت أم روحـية، إنسـانية كانت أم موضوعية، إذ تسود التعددية المفرطة التي هي في واقع الأمر تعبير عن غياب أي مركز أو أساس وعن طبيعة بشرية مشتركة.
إن ظلال الإله قد اختفت تماماً، وأدركت الذات أن الاستنارة المظلمة قد خيمت على العالم فتكيفت مع حالة اللامعيارية باعتبارها حالة كلية نهائية. وإذا كان الحقيقي هو العقلاني (المادي) في عصر التحديث وهو المادي المتغير في عصر الحداثة، ففي عصر ما بعد الحداثة لا يوجد أي أساس للتمييز بين الحقيقي والزائف، وبالتالي فلا حقيقي ولا زائف.
وفي عصر التحديث، كان من الممكن ترتيب الواقع ترتيباً هرمياً من خلال المعيارية التي يستمدها الإنسان من ذاته ومن الطبيعة، أما في عصر ما بعد الحداثة فلا يوجد أي نظام أفقي أو رأسي. فلا تظهر معيارية وإنما تظهر القوة (النيتشـوية) والتكيـف (البرجماتي)، وتظهر الذاتية المطلقة المنغلقة على ذاتها، وتظهر التسـوية الكاملة بين الكائنات، أي تَساوي كل الكائنات من جميع الوجوه (النساء ـ اليهود ـ الغجر ـ القرود ـ الشواذ جنسياً)، فهو عالم غير هرمي إما أن يتحكم فيه الإنسان تماماً أو يخضع له تماماً.
ولذا، فإن عالم ما بعد الحداثة ليس نظاماً حركياً منفتحاً له مركز وغاية وتراتبه الهرمي مثل عالم التحديث، ولا هو بعالم مغلق يحاول الانفتاح مثل عالم الحداثة وأن يفرض ترتيباً هرمياً له معنى، وإنما هو نظام لا مركز له مُكوَّن من أنظمة صغيرة مغلقة، يدور كل منها حول مركزه وحول نفسه ويأخذ شكل صور متجاورة لكلٍّ معناها المستقل لا يربطها رابط ولا تُوجَد أية صلة بينها ولا توجد علاقة سببية واضحة، فكل إنسان يدرك الصورة القريبة منه.
هذا يعني أن ليس ثمة طبيعة مادية موضوعية ولا طبيعة بشرية (ذاتية) ولا تُوجَد مبادئ متجاوزة، فهو عالم ذري متشظ ولكن ذراته سائلة متلاصقة، ولذا فهو عالم هلامي سائل دون أن تكون فيه ثغرات أو مسام وإن كان فيه هوة.
وعالم ما بعد الحداثة هو عصر البعديات (وسقوط كل القَبْليات بسقوط الكل المتجاوز)، فهو عصر ما بعد التاريخ وما بعد الإنسانية وما بعد السببية وما بعد المحاكاة وما بعد الميتافيزيقا وما بعد التفسير وما بعد التجاوز.
ولعلنا لو أحللنا البادئة «أنتي anti» بمعنى «ضد» أو ربما عبارة «إند أوف end of» بمعنى «نهاية»، محل بادئة «بوست post» بمعنى «ما بعد» لاتضح المعنى ولأدركنا أن «ما بعد الحداثة» تعني في واقع الأمر «نهاية التاريخ» و«نهاية الإنسانية» و«نهاية السببية» و«نهاية المحاكاة» و«نهاية الميتافيزيقا» و«نهاية التفسير» (ويُعدُّ كتاب سوزان سونتاج ضد التفسير الصادر عام 1965 أول مانيفستو لما بعد الحداثة). وما بعد الحداثة، بهذا المعنى، تعني العداء للحداثة وفشل الحداثة ونهاية الحداثة وإفلاس الحداثة.
فإذا كان جوهر المشروع الحضاري الغربي هو التحديث، فهل ما بعد الحداثة تعني نهاية الحداثة ونهاية الغرب؟ وهل يفسر هذا أن أيديولوجيا ما بعد الحداثة، التي تقف ضد العقل والمنطق والإنسان والمعنى وضد رؤية الأشياء في علاقتها الجدلية مع الإنسان وضد الكل وحدوده، تقف ضد كل ما هو عظيم وله قيمة في الحضارة الغربية الحديثة؟ وعلى هذا فإن السؤال يطرح نفسه وبحدة على هذا النحو: لم ظهرت هذه الفلسفة ولم اكتسحت الجميع في طريقها؟
وقد كانت تناقضات المشروع التحديثي تأخذ طابعاً معرفياً (إبستمولوجي): هل يمكن معرفة الواقع؟ هذا ما اتضح بشكل واضح في الحداثة، ولكنها في عصر ما بعد الحداثة ذات طابع أنطولوجي راديكالي: هل توجد حقيقة أساساً؟ هل يوجد عالم موضوعي؟ ما هو مكان الإنسان في الكون؟ ما هي الذات وما هو الموضوع؟
2 ـ المعرفة:
ينقسم العالم إلى وحدات طبيعية وإنسانية، متساوية ومستقلة ومختلفة ومنفصلة ومنغلقة، بسبب عدم وجود مركز ومرجعية كلية مشتركة، وتصبح كل وحدة ذات سيادة مطلقة ومرجعية ذاتها. وهذا يعني غياب أية مرجعية نهائية إنسانية أو موضوعية، ولذا فالعالم يتسم بالتعددية والتفتت والانقطاع والفوضى والمساواة والتساوي وحكم الصدفة وغياب السببية وظهور الاحتمالية والنسبية الكاملة والتَغيُّر الكامل والمستمر، ومن ثم يصبح من العسير الوصول إلى العالم، وإن وصل العقل إليه فلا يمكنه الإمساك به. ولذا تصبح المعرفة الكلية الإنسانية الشاملة مستحيلة فليس لها أساس إنساني أو طبيعي أو إلهي، ولا يمكن التمييز بين الحقيقي والزائف.
ويرفض كل أنصار ما بعد الحداثة فكرة الحقيقة الكلية، فهي مخلفات عصر الاستنارة الذي افترض وجود نظام وقواعد ومنطق. والسؤال عن الحقيقة سؤال ميتافيزيقي، فالسؤال عن الحقيقة (أو ما الحق؟) لا يختلف تماماً عن: ما الإله؟ ولا يوجد شيء في واقع الأمر يُسمَّى «الحقيقة في ذاتها» (على حد قول دريدا) وإنما يوجد دائماً فائض من الحقيقة. "وحتى لو كان الأمر يخصني، عني، فإن الحقيقة دائماً تعددية.
إن ما يوجد هو حقائق منفصلة وليس حقيقة كلية وهي شبكة من الألعاب اللغوية". وينكر فوكوه (الذي يؤمن بميتافيزيقا الصراع) وجود الحقيقة، فالحق ـ في تصوُّره ـ هو نتيجة القوة، يفرضه أصحاب المصلحة في فرضه، ولذا لا يمكن فصل الحقيقة عن القوة.
بل إن ادعاء الحقيقة شكل من أشكال الإرهاب والشمولية. وبدلاً من الحقيقة الكلية والنظريات العظمى، يطالب أنصار ما بعد الحداثة بالقصص الصغرى، والمعارف البرجماتية غير المترابطة التي تدور داخل حدود سياقها. والوصول إلى الحقيقة يتم من خلال المحادثة والتفاوض البرجماتي (أي الاتصال بين قصتي الصغرى وقصتك الصغرى) لا الحوار في إطار قصة عظمى لها شرعية عند كل أو معظم البشر.
داخل هذا الإطار، تصبح العلوم الإنسانية بغير جدوى ولا تؤدي إلى تحضُّر الإنسان ولا إلى مساعدته في تحقيق إنسانيته (وما جوهر هذه الإنسانية أصلاً؟ وما هو الجوهر أساساً؟). لكل ما تقدَّم، لا يمكن القول بأن العقل يستطيع محاكاة الواقع، فهو ليس مرآة له، ويستحيل من ثم إصدار الأحكام والتفسير والتخطيط والتحكم ومراكمة المعلومات والاستفادة منها، بل يعني هذا استحالة الإبداع الحقيقي.
وهنا يظهر نوعان من ما بعد الحداثة يحلان محل المشروع الاستناري القديم، حين كان هدف الفلسفة هو محاولة التوصل إلى الحقيقة الكبرى الكامنة في حركة الطبيعة وقوانينها وتجريدها والوصول إلى نماذج مادية تفسيرية تتسم بالشمول الكامل. يرى أنصار ما بعد الحداثة أن المعرفة قابعة في القصص الصغرى المرتبطة بظروفها والمحددة بزمنيتها.
الأمر الذي يترك عنصراً فعالاً واحداً وقيمة حاكمة كبرى ومقولة تحليلية كبرى هي إما اللغة أو القوة:
أ ) ما بعد الحداثة النصوصية أو اللغوية:
وهي ترى أن اللغة ليست أداة لمعرفة الحقيقة وإنما هي أداة إنتاجها، فثمة أسبقية للغة على الواقع، ولذا فإن النموذج المهيمن هنا هو النموذج اللغوي. وترى ما بعد الحداثة النصية أن اللغة مكونة من صور مجازية لا تكشف الواقع وإنما تحجبه، فهي تشبه الزجاج المُعشَّق الذي تحاول أن ترى ما وراءه فتنشغل بألوانه وتنسى المدلول. واللغة مكونة من لعب الدوال المنفصلة عن المدلولات.
ولذا، كما يقول دريدا، يسـتحيل معـرفة الواقع خارج نطاق الخطاب المستخدم ويستحيل التعبير عنه. والنص، أدبياً كان أم فلسفياً، مُعبَّأ بالصور المجازية التي تحجب الرؤية. ومن ثم، فإن النصوص الفلسفية، بل العلمية، إن هي إلا نصوص بلاغية مجازية مكتفية بذاتها ولا تشير إلى أي شيء خارجها (فلا يُوجَد شيء خارج النص). والنص شيء منفتح تماماً مرتبط بالنصوص الأخرى، ولكنه منعزل تماماً عن أي واقع موضوعي خارجه.
ب) ما بعد الحداثة الصراعية:
النموذج هنا ليس اللغة وإنما إرادة القوة والحرب والمعارك، فالخطاب لا يُوجَد في ذاته على الإطلاق وإنما يُردُّ بأسره إلى الواقع. وإذا كانت ما بعد الحداثة اللغوية تقول "لا يُوجَد شيء خارج النص" فإن ما بعد الحداثة الصراعية تقول "لا يُوجَد شيء خارج القوة ولا يُوجَد أحد خارج نطاق القوة، فالمعرفة لا تُفهَم إلا في إطار علاقات القوة وتوزيعها، ومن يتحكم فيها يتحكم في كل شيء".
والقوة في هذا السياق تحل محل اللغة (ومحل العلوم الطبيعية) فهي لا تهيمن على الواقع وحسب وإنما تعيد إنتاجه، وهي لا تكبـح جماح الناس وإنما تعيد صياغتهم. واللغة نفسها ليست أداة للتواصل ولا حتى أداة للقمع بل هي القمع نفسه. والقوة ليست مركزاً ثابتاً وإنما هي مجموعة من العلاقات تتخلل النظام الاجتماعي بأسره بأشكال مختلفة. ولذا، لا يمكن إعطاء أسبقية أو أولوية سببية للعنصر الاقتصادي.
والانعتاق لا يكمن في العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للدخل وإنما يكمن في التعبير عن الرغبة (التي تحاول النظم الاجتماعية أن تقمعها)، ولكن الرغبة نفسها أصبحن نهباً للتغلغل وسيطرت عليها صناعة اللذة والأحلام.
ولذا، يصبح الشذوذ الجنسي أكثر أشكال الرغبة انعتاقاً، بل تصبح الرغبات السادية / المازوكية الشاذة قمة الانعتاق (وقد صرح فوكوه، وكان شاذاً جنسياً يمارس السادية / المازوكية، ويتردد دائماً على عاصمة الشذوذ الجنسي في العالم [سان فرانسيسكو]، بأن لحظة الانعتاق الوحيدة التي كان يشعر بها، هي لحظة ممارسته الجنس الشاذ على الطريقة السادية المازوكية، فهو بذلك يزيل آثار الميتافيزيقا تماماً وظلال الإله، إذ لا يبقى في العالم سوى جسده وجهازه العصبي وخلاياه وصيرورته الكاملة).
إن اللغة أو القوة هما الحقيقة (اللوجوس) وهما بديل مقولة المادة في الفلسفات المادية في عالم لا قوانين له ولا يتبع مُخطَطاً ولا يحركه شيء سوى دينامية كامنة فيه نابعة منه وغير مفهومة.
ولكن كيف تأتَّى لفلاسفة ما بعد الحداثة أن يدركوا غياب المرجعية والمعيارية وهيمنة القوة وسيطرة الصيرورة دون الاستناد إلى مرجعية ما ومعيارية ما ومعرفة بعالم عادل فيه كليات ثابتة؟
وكيف يكتبون وهم يعرفون أنهم