الباب الرابع: الفرق بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة الإنسانية
في كل المداخل السابقة حاولنا أن نبيِّن أن ثمة ثنائية فضفاضة تسم الوجود الإنساني (الخالق/ المخلوق ـ النزعة الربانية/النزعة الجنينية ـ الإنسان/الطبيعة). وثنائية الإنسان/الطبيعة هي أهم هذه الثنائيات.
وقد عبَّرت عن نفسها في الجدل المثار في العلوم الإنسانية منذ بداية ظهورها في القرن التاسع عشر وهل هناك «علم طبيعي» مختلف عن «العلوم الإنسانية» أم أن هناك وحدة (أي واحدية) للعلوم.
ويُطلَق مصطلح »العلم الطبيعي» على كل دراسة تتناول معطيات الواقع المادي بكلياته وجزئياته. ووسيلة هذه الدراسة هي منهج الملاحظة المباشرة والتجربة المتكررة والمتنوعة. والدراسة وكذلك عمليات التجريب تتم بهدف التفسير من خلال التوصل إلى تعميمات وقوانين تحقق الانتقال من الخاص إلى العام وتكشف عن العلاقات المطّردة الثابتة بين الظواهر. وهذه القوانين يتم التعبير عنها عن طريق تحويل صفات الكيف (التي لا تُقاس) إلى صفات كم بحيث يتم التعبير عنها برموز رياضية. وتتميَّز قوانين العلوم الطبيعية بأنها دقيقة وعامة تتخطى الزمان والمكان، وهي حتميـة (ولكنها، بعد اهتزاز الحتمية، أصبحت احتمالية ترجيحية: ترجيحية تقارب اليقين وتظل صالحة للاستعمال حتى يثبت بطلانها(.
ويذهب البعض إلى أن نموذج العلوم الطبيعية (بما ينطوي عليه من واحدية موضوعية مادية) لابد أن يُطبَّق في كل العلوم الأخرى (وضمن ذلك العلوم الاجتماعية والإنسانية). وقد لاحظ كثير من العلماء في الشرق والغرب خلل مثل هذه المحاولة نذكر منهم د. حامد عمار، د. توفيق الطويل، د. حسن الساعاتي (الذين يعتمد هذا المدخل على كتاباتهم) وبينوا الاخـتلافات بين الظاهرة الإنسانية والظاهرة الطبيعية.
ونوجزها فيما يلي:
1ـ أ) الظاهرة الطبيعية مُكوَّنة من عدد محدود نسبياً من العناصر المادية التي تتميَّز ببعض الخصائص البسيطة، وهذا يعني أنه يمكن تفتيتها إلى الأجزاء المكوِّنة لها. كما أن الظاهرة الطبيعية توجد داخل شبكة من العلاقات الواضحة والبسيطة نوعاً والتي يمكن رصدها.
ب) الظاهرة الإنسانية مُكوَّنة من عدد غير محدود تقريباً من العناصر التي تتميَّز بقدر عال من التركيب ويستحيل تفتيتها لأن العناصر مترابطة بشكل غير مفهوم لنا. وحينما يُفصَل الجزء عن الكل، فإن الكل يتغيَّر تماماً ويفقد الجزء معناه. والظاهرة الإنسانية توجد داخل شبكة من علاقات متشابكة متداخلة بعضها غير ظاهر ولا يمكن ملاحظته.
2ـ أ) تنشأ الظواهر الطبيعية عن علة أو علل يسهل تحديدها وحصرها، ويسهل بالتالي تحديد أثر كل علة في حدوثها وتحديد هذا الأثر تحديداً رياضياً.
ب) الظاهرة الإنسانية يصعب تحديد وحصر كل أسبابها، وقد تُعرَف بعض الأسباب لا كلها، ولكن الأسباب تكون في العادة متداخلة متشابكة، ولذا يتعذر في كثير من الحالات حصرها وتحديد نصيب كل منها في توجيه الظاهرة التي ندرسها.
3ـ أ) الظـاهرة الطبيعـية وحـدة متكـررة تَطَّرد على غرار واحد وبغير اسـتثناء: إن وُجدت الأسـباب ظهرت النتيجة. ومن ثم، نجد أن التجربة تُجرَى في حالة الظاهرة الطبيعية على عينة منها ثم يُعمَم الحكم على أفرادها في الحاضر والماضي والمستقبل.
ب) الظاهرة الإنسانية لا يمكن أن تَطَّرد بنفس درجة الظاهرة الطبيعية لأن كل إنسان حالة متفردة، ولذا نجد أن التعميمات، حتى بعد الوصول إلىها، تظل تعميمات قاصرة ومحدودة ومنفتحة تتطلب التعديل أثناء عملية التطبيق من حالة إلى أخرى.
4ـ أ) الظاهرة الطبيعية ليس لها إرادة حرة ولا وعي ولا ذاكرة ولا ضمير ولا شعور ولا أنساق رمزية تُسقطها على الواقع وتدركه من خلالها، فهي خاضعة لقوانين موضوعية (برانية) تحركها.
ب) الظاهرة الإنسانية على خلاف هذا، ذلك لأن الإنسان يتسم بحرية الإرادة التي تتدخل في سير الظواهر الإنسانية، كما أن الإنسان له وعي يسقطه على ما حوله وعلى ذاته فيؤثر هذا في سلوكه. والإنسان له ذاكرة تجعله يُسقط تجارب الماضي على الحاضر والمستقبل، كما أن نمو هذه الذاكرة يُغيِّر وعيه بواقعه. وضمير الإنسان يجعله يتصرف أحياناً بشكل غير منطقي (من منظور البقاء والمنفعة المادية)، كما أن الأنساق الرمزية للإنسان تجعله يُلوِّن الواقع البراني بألوان جوانية.
5ـ أ) الظواهر الطبيعية ينم مظهرها عن مخبرها ويدل عليه دلالة تامة بسبب ما بين الظاهر والباطن من ارتباط عضوي شامل يُوحِّد بينهما فيجعل الظاهرة الطبيعية كلاًّ مصمتاً تحكمه من الداخل والخارج قوانين بالغة الدقة لا يمكنها الفكاك منها، ولهذا تنجح الملاحظة الحسية والملاحظة العقلية في استيعابها كلها.
ب) الظواهر الإنسانية ظاهرها غير باطنها (بسبب فعاليات الضمير والأحلام والرموز) ولذا فإن ما يَصدُق على الظاهر لا يَصدُق على الباطن. وحتى الآن، لم يتمكن العلم من أن يُلاحظ بشكل مباشر التجربة الداخلية للإنسان بعواطفه المكبوتة وأحلامه الممكنة أو المستحيلة.
6ـ أ) لا يوجد مكوِّن شخصي أو ثقافي أو تراثي في الظاهرة الطبيعية؛ فهي لا شخصية لها، مجردة من الزمان والمكان تَجرُّدها من الوعي والذاكرة والإرادة.
ب) المكوِّن الشخصي والثقافي والذاتي مكوِّن أساسي في بنية الظاهرة الإنسانية. والثقافة ليست شيئاً واحداً وإنما هي ثقافات مختلفة، وكذا الشخصيات الإنسانية.
7ـ أ) معدل تحوُّل الظاهرة الطبيعية يكاد يكون منعدماً (من وجهة نظر إنسانية)، فهو يتم على مقياس كوني، كما أن ما يلحق بها من تغير يتبع نمط برنامج محدد، ولذا فإن الظواهر الطبيعية في الماضي لا تختلف في أساسياتها عنها في الحاضر، ويمكن دراسة الماضي من خلال دراسة الحاضر.
ب) معدل التغيُّر في الظواهر الإنسانية أسرع بكثير ويتم على مقياس تاريخي، وما يطرأ عليها من تغير قد يتبع أنماطاً مسبقة ولكنه قد ينسلخ عنها. وعالم الدراسات الاجتماعية لا يستطيع أن يرى أو يسمع أو يلمس الظواهر الإنسانية التي وقعت في الماضي، ولذا فهو يدرسها عن طريق تقارير الآخرين الذين يلونون تقاريرهم برؤيتهم، فكأن الواقعة الإنسانية في ذاتها تُفقَد إلى الأبد فور وقوعها.
8ـ أ) بعد دراسة الظواهر الطبيعية والوصول إلى قوانين عامة، يمكن التثبت من وجودها بالرجوع إلى الواقع. ولأن الواقع الطبيعي لا يتغيَّر كثيراً، فإن القانون العام له شرعية كاملة عبر الزمان والمكان.
ب) بعد دراسة الظواهر الإنسانية، يصل الإنسان إلى تعميمات. فإن هو حاول تطبيقها على مواقف إنسانية جديدة فإنه سيكتشف أن المواقف الجديدة تحتوي على عناصر جديدة ومكونات خاصة إذ من غير الممكن أن يحدث في الميادين الاجتماعية ظرفان متعادلان تماماً، ومتكافئان من جميع النواحي.
9ـ أ) لا تتأثر الظواهر الطبيعية بالتجارب التي تُجرَى عليها سلباً أو إيجاباً، كما أن القوانين العامة التي يُجرِّدها الباحث والنبوءات التي يطلقها لن تؤثر في اتجاهات مثل هذه الظواهر، فهي خاضعة تماماً للبرنامج الطبيعي.
ب) تتأثر العناصر الإنسانية بالتجربة التي قد تُجرَى عليها، فالأفراد موضوع البحث يحوِّلون من سلوكهم (عن وعي أو عن غير وعي) لوجودهم تحت الملاحظة، ففي إمكانهم أن يحاولوا إرضاء صاحب التجربة أو يقوضوا نتائجه. كما أن النبوءات التي يطلقها الباحث قد تزيد من وعي الفاعل الإنساني وتغيِّر من سلوكه.
10ـ أ) بإمكان الباحث الذي يدرس الظاهرة الطبيعية أن يتجرد إلى حدٍّ كبير من أهوائه ومصالحه لأن استجابته للظاهرة الطبيعية وللقوانين الطبيعية يَصعُب أن تكون استجابة شخصية أو أيديولوجية أو إنسانية، ولذا يمكن للباحث أن يصل إلى حدٍّ كبير من الموضوعية.
ب) أما الباحث الذي يدرس الظاهرة الإنسانية فلا يمكنه إلا أن يستجيب بعواطفه وكيانه وتحيزاته، ومن خلال قيمه الأخلاقية ومنظوماته الجمالية والرمزية، ولذا يَصعُب عليه التجرد من أهوائه ومصالحه وقيمه التي تعوقه في كثير من الأحيان عن الوصول إلى الموضوعية الصارمة.
ولكل ما تقدَّم، فإن من الممكن إجراء التجارب المباشرة المنضبطة المتكررة على العناصر الطبيعية ويمكن قياسها بمقاييس كمية رياضية فهي تخلو من الاستثناءات والتركيب والخصوصيات، ويمكن التَوصُّل إلى قوانين عامة تتسم بالدقة تنطبق على الظاهرة في كليتها وفي جوانيتها وبرانيتها.
أما الظاهرة الإنسانية، فلا يمكن إجراء التجارب المباشرة المنضبطة عليها ويستحيل تصويرها بالمعادلات الرياضية الدقيقة إذ لا تخلو من الاستثناءات والتركيب والخصوصيات، ولذا لا يمكن التَوصُّل إلى قوانين عامة (وإن تم التوصل إلى قوانين فلابد أنه تعوزها الدقة والضبط).
وهناك عدد كبير من الكُتَّاب الغربيين من أوائلهم فيكو ومن أهمهم كانط وديلتاي وريكرت ينطلقون من محاولة التمييز بين الإنسان والطبيعة.
ولكن غالبية المفكرين الغربيين يدورون في إطار الواحدية المادية (أو الواحدية المثالية) ويحاولون القضاء على هذه الثنائية تماماً وإلغاء الحيز الإنساني وبالتالي يدافعون عن وحدة (أو واحدية) العلوم.
إشكالية الإنسانى والطبيعى في العالم العربى
ثمة وعي عميق بإشكالية التمييز بين الإنساني والطبيعي في الأدبيات العربية، فالمفكر الماركسي د. فؤاد مرسي يدعو بوضوح في كتاب إشكالية العلوم الاجتماعية (في دراسة له بعنوان "المنهج بين الوحدة والتعدد") إلى عدم التمييز بين الإنسان والطبيعة فيُعرِّف الإنسان بأنه "قوة من قوى الطبيعة"؛ إنسان طبيعي/مادي يتكيف معها ولكنه في الوقت نفسه يُعيد صياغتها.
وهذه هي الإشكالية الكبرى التي تواجه الماديين ودعاة العلمانية الشاملة: هل الإنسان الطبيعي/المادي يزعن للطبيعة أم يهيمن عليها؟
وتتضح الإشكالية في كتابات د. فؤاد مرسي نفسه، فهو يؤكد أن الإنسان سـيزداد وعياً ومن ثم سـيزداد بُعداً عن الحيوان. ولكنه يعـود ويُعرِّف الإنسـان في إطار طبيعي مادي ويجد أن "الاقتصاد هو مجال رئيسي للعلاقة المتبادلة بين الطبيعة والمجتمع"، فبعد أن "ابتعد" الإنسان عن الحيوان، وهو ما يعني ابتعاده عن الطبيعة وتفوقه عليها فإنه يعود فيدخل في علاقة "تبادلية" تفترض المساواة الكاملة. وتظهر هذه التبادلية بشكل أوضح حين يُوحِّد د. فؤاد مرسي بين الطبيعة والمادة فيقول "لهذا أصبح العلم كله، طبيعياً واجتماعياً، علماً ذا طابع اجتماعي".
و"أصبح تَقدُّم البشرية حالياً رهناً إلى حدٍّ كبير بالتداخل الأكبر والتفاعل بين العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية".
والتداخل والتفاعل قد يعني ثنائية (وهو ما يرفضه الفكر المادي)، وقد يعني مساواةً وتَوحُّداً، وهو الأرجح، ولذا نجده في السطر التالي يقول: "إن كل محاولة للفصل بين المجتمع والطبيعة تصبح محاولة وهمية.
فوجود المجتمع هو جانب من وجود الطبيعة". ولكنه يعود للثنائية فيقول: "وتاريخ المجتمع هو تاريخ امتلاك الإنسان للطبيعة"، ثم يعود للواحدية فيقول: "إن وحدة الثورتين التكنولوجيـة والاجتماعية كفيلة في المسـتقبل أن تجعل من البشـر لأول مرة في التاريخ، السادة الحقيقيين للطبيعة".
ثم يتحدث عن احتدام الصراع بين الطبيعة والإنسان وعن "الإنسان الشامل الذي يختزن في نفسه قدراً لا مثيل له من المعرفة بالكون كله".
ولكن ما هي النتيجة النهائية لهذا التأرجح الكوميدي بين الاندماج العضوي في الطبيعة والإذعان لها من جهة، والانفصال عنها وتملكها والهيمنة عليها من جهة أخرى.
يختتم الدكتور مرسي مقـاله بقوله "هناك يتوحَّد الإنسان تماماً مع المجتمع والطبيعة"، أي أن الحالة الجنينية والواحدية المادية تنتصر تماماً. وعلى كلٍّ، فإن عنوان هذا الجزء من المقال هو "نحو وحدة الكون" وليس "نحو مركزية الإنسان في الكون أو هيمنته عليه".
ولكن العدد الأكبر من علمائنا الأجلاء كانوا من المدافعين عن الإنسان ضد المادية والطبيعية. فعلى سبيل المثال، يقول الدكتور حامد عمار في كتابه من همومنا التربوية والثقافية:
"إن منهج التفكير العلمي الذي أرسته العلوم الطبيعية قد شاع باعتباره المنهج الصحيح الوحيد في الوصول إلى المعرفة الصحيحة، واصطنعت العلوم الاجتماعية الإنسانية هذا المنهج في دراستها وبحوثها.
بيد أن معظمها قد توقف عند المرحلة النيوتونية من مناهج البحث العلمي الطبيعي، واختزال المنهج إلى تجزئة الظواهر وتفكيك أجزائها، ومحاولة فرض الفروض المرتبطة بذلك الجزء أو ذاك، وإخضاع الفروض حوله للقياس والاختبار، وجرى العُرْف عند الكثيرين على اعتبار النتائج علمية ثابتة غير قابلة للتعديل.
"وأُطلق على هذه التجزئة للظواهر وإخضاعها للدراسة الميدانية العينية ما عُرف باسم المنهج الإمبيريقي أو الوصفي، محللاً للظاهرة كما تُوجَد في موقعها الزماني والمكاني... ودون تَصوُّر لأنواع العلاقات ودينامياتها في الظاهرة المدروسة مع سياقها الثقافي الاجتماعي. ومن ثم فقدت الدراسة منظوماتها العضوية الدينامية في إطار الزمان والمكان والبُعد التاريخي لنشأتها وتطورها وتوظيفها الاجتماعي.
واستقر في أذهان كثير من الباحثين الاجتماعيين أن نتائجهم علمية لا يرقى إليها التصحيح... وأصبح من المسلمات في الرسائل الجامعية في العلوم الاجتماعية الإنسانية ألا تُعاد دراسة الموضوع؛ لأن ما سبق من بحوث قد استقر [باعتباره] حقائق علمية.
ثم إن هذه البحوث تدَّعي الموضوعية العلمية المطلقة، وأن لا شأن لذات الباحث أو أيديولوجيته أو تحيزاته أي تدخُّل في مختلف مراحل البحث وتفسيراته، فالنتائج جاءت «علمية» من خلال معطيات الواقع العيني.
"ومع هذا الاختزال الإمبريقي الوضعي الوظيفي للمنهج العلمي الطبيعي في آفاقه الرحبة والمتجددة، فإن ثمة مناهج أخرى للمعرفة العلمية تبدأ من الملاحظة والمشاركة الملاحظة (بكسر الحاء) امتداداً إلى الحس التاريخي والوعي الذاتي.
والبصيرة والحدس، والفهم الكيفي في السياق الثقافي الاجتماعي التاريخي والخبرة الإنسانية. وليس بالضرورة أن تلجأ تلك المناهج إلى البيانات الرقمية والقياس؛ إذ أن تلك الأدوات كثيراً ما تُشوِّه المعرفة بعالم الوعي والخبرة والفهم النوعي للواقع وإمكانات المستقبل، فضلاً عن قصورها عن فهم القيم وديناميات الدوافع والأخلاق.
"إن هذه الأساليب والأدوات المعرفية تصبح علمية طالما قامت على ملاحظة منتظمة أو خبرة مطردة، وطالما كانت بياناتها وشواهدها منطقية ومتسقة في نموذج مفاهيمي.
وتتدعم علميتها مع اختبارها وتقييمها على أرض الواقع ومن خلال الممارسة، وقد تتدعم فيما بعد بجوانب كمية للتوضيح والتعزيز.
ومن هنا فإن على العلوم الاجتماعية الإنسانية أن تُعنَى بمعالجة القضايا النوعية والقيمية المستمدة من الخبرة الإنسانية ومجالاتها فيما يستقر بها من الشعور والوعي ومن اللاشعور والحدس دون أن تُنقص عوامل الذاتية من جدوى المعارف المُتوَلدة من مثل هذه المناهج.
وفي قضايا التربية والاجتماع وعلم النفس مساحات عريضة لجدوى توظيف تلك المناهج بما فيها من ضبط وتنظيم وقابلية للمراجعة والتفنيد والتطوير".
وفي كتاب إشكالية العلوم الاجتماعية، يُبيِّن الدكتور حسن الساعاتي في مقال بعنوان "إشكالية المنهج في العلوم الاجتماعية" أن علماء الاجتماع الذين تأثَّروا بمناهج الدراسـة والعلـوم الطبيعية يذهـبون إلى "أن العلوم الاجتماعية، وعلى رأسها علم الاجتماع، لا تكوِّن علوماً بمعنى الكلمة، أي دقيقة ومضبوطة النتائج، إلا إذا تَرسَّم علماؤها خطى الباحثين في العلوم الطبيعية التي يرتكز محور التفكير في ظواهرها على التجريب، أي ما يجرونه عليها من تغيير مقصود وبطريقة مرسومة من قبل، مستهدفين أهدافاً معيَّنة يستنتجون منها الحقائق، إذا تكرر استقراؤها من تجارب مماثلة صارت نظريات علمية أو قوانين ثابتة.
"وقد فات هؤلاء العلماء...، وغيرهم ممن قلدوهم في مسارهم الفكري بدون رويّة واستبصار، أن الظواهر الاجتماعيـة تختلف تماماً عن الظواهر الطبيعية التي لا عقل ولا إرادة لعناصرهـا، والتي ينمُّ مظهرها عن مخبرها، لأنها، في رأينا، أحادية النسق، تحكمها كلاًّ أو جزءاً قوانين ونظريات واحدة لا تتبدل.
ولذلك نجد أن كلاًّ من الملاحظة الحسية، أي المشاهدة، والملاحظة العقليـة، أي التأمل والاسـتبصار، وجميع خطوات التجريب التي تُجرَى عليها، بوصفها ظواهر طبيعية أحادية النسـق، تستوعبها كلها في جميع مظاهرها، لأن ظاهرها لا يختلف عن باطنها في شيء، حتى إنه ليدل عليه دلالة تامة، لما بين الظاهر والباطن من ارتباط عضوي شامل متكامل.
"أما الظواهر الاجتماعية فتختلف عن الظواهر الطبيعية في أنها، بوصفها ظواهر عنصرها الأساسي الإنسان الاجتماعي العاقل ذو الإرادة، الذي يعيش مُعاشراً لغيره من البشر ومرتبطاً بهم بشتى العلاقات الاجتماعية، نقول تختلف في أنها ثنائية النسق.
فكما أن للإنسان جوانية وبرانية، فهي بالمثل ذات نسقين، أحدهما جواني أي باطن، والآخر براني أي ظاهر.
ومادامت كذلك، فإن البحث فيها ينقسم إلى قسمين: أحدهما يُعنَى بالنسق البراني، أي بما يتبدَّى من الظاهرة الاجتماعية للحواس فتدركه وتتعقله، والآخر يُركِّز على النسق الجواني الخفي منها، الذي يُعدُّ غرفة عمليات للنسق البراني، ليستجلبه ويدركه ويتعقله".
إشكالية الموضوعية والذاتية: مقدمة
تترجم الإشكاليات السابقة نفسها إلى إشكالية الموضوعي والذاتي، فإذا كان الإنسان كياناً طبيعياً مادياً فبالإمكان رصده بشكل مادي براني وكأنه شيء بين الأشياء،وهو شيء لا تفرُّد فيه ومن ثم يمكن رده باعتباره جزءاً إلى الكل الطبيعي/المادي يسري عليه ما يسري على الكائنات المادية الأخرى، ومن ثم لا يوجد فارق بين الجزء الإنساني والكل الطبيعي/المادي، فتمحي كل الثنائيات وتُرد كل الظواهر إلى مبدأ (مادي) واحد وننتهي في الواحدية الموضوعية المادية.
أما إذا كان الإنسان كياناً مركباً يحوي عناصر مادية تُرد إلى عالم الطبيعة/المادة وعناصر غير مادية، فالرصد البراني، الموضوعي المادي، يصبح غير كاف، ويصبح كل إنسان فرد كيانه مستقل عن الكل، ولا يسقط الإنسان في قبضة الواحدية الموضوعية المادية.
وليام ديلتاى (1833 – 1911)
عالم اجتماع ألماني، كان قليل الكتابة، ويعود إسهامه الأساسي في محاولته التنبيه إلى أن ثمة فارقاً جوهرياً بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة الإنسانية. وقد أكد ديلتاي أن معرفة الإنسان من خلال الملاحظة البرانية وتبادل المعلومات الموضوعية المادية عنه أمر غير ممكن، فهو كائن ذو قصد، أي أن سلوكه تحدده دوافع إنسانية جوانية (معنى ـ ضمير ـ إحساس بالذنب ـ رموز ـ ذكريات الطفولة ـ تأمل في العقل) يصعب شرحها وشرح أسبابها. والإنسان لا يعيش منعزلاً وإنما يتفاعل مع الآخرين وتتحدد تجربته الشخصية من خلال هذا التفاعل. ولكل هذا، لا يمكننا أن نشرح الإنسان وسلوكه بشكل براني أو نخضعه للتجريب.
ولكن ديلتاي يشير إلى حقيقة أساسية وهي أننا قد لا نعرف العقل البشري بنفس الدرجة أو الطريقة التي تُعرَف بها الأشياء ولكن هناك مناهج أخرى غير مناهج العلوم الطبيعية. فالعلوم الطبيعية لا تنفذ إلى كينونة الأشياء والعمليات الفيزيائية، أما الجوهر الإنساني فيمكننا الوصول إليه مباشرةً من خلال تَفهُّم ومعايشة تجربة الآخر والتعاطف معها وتخيلها وفهم المعنى الذي يسقطه الفاعل الإنساني على فعله.
كما أن ثمة ثنائية جوهرية تبين الفرق بين الإنساني والطبيعي وبين مناهج العلوم الاجتماعية ومناهج العلوم الطبيعية، وهي ثنائية تتبدَّى في قول دلتاي ليس بإمكاننا أن نشرح الإنسان وإنما نحن نشرح الطبيعة بطريقة برانية ونفهم أو نتفهم (فرشتيهن) الإنسان، أي نُفسِّره بطريقة اجتهادية جوانية.