يعقوبُ عليه السلام
نبي من أنبياء الله -عز وجل-، اصطفاه الله، فهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم -عليهم السلام-، بشرت الملائكة به إبراهيم -عليه السلام- زوجته سارة، قال تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ} (71) سورة هود.
ولد يعقوب -عليه السلام- محاطًا بعناية الله ورحمته، سائرًا على منهج آبائه، وكان ليعقوب اثنا عشر ولدًا سمى القرآن الكريم من تناسل منهم بالأسباط، وكان أجلهم قدرًا، وأنقاهم قلبًا، وأسلمهم صدرًا، وأزكاهم نفسًا، وأصغرهم سنًا، يوسف -عليه السلام-، لذا كان يعقوب -عليه السلام- يحوطه بمزيد من العناية والحنان وهذا شيء طبيعي، فالأب يحنو على الصغير حتى يكبر، وعلى المريض حتى يبرأ.
وكان يعقوب -عليه السلام- مثالاً يُحتذى للأب الذي يقوم بتربية أولاده على الفضيلة، فيقوم بأمرهم، ويسدي لهم النصح، ويحل مشاكلهم، إلا أن الشيطان زين للأبناء قتل أخيهم يوسف لما رأوا من حبِّ أبيهم له، لكنهم بعد ذلك رجعوا عن رأيهم من القتل إلى الإلقاء في بئر بعيدة، لتأخذه إحدى القوافل المارة، وحزن يعقوب على فراق يوسف حزنًا شديدًا، وأصابه العمى من شدة الحزن، ثم ردَّ الله إليه بصره، وجمع بينه وبين ولده.
وبعد فترة من الزمن مرض يعقوب -عليه السلام- مرض الموت، فجمع أبناءه وأخذ يوصيهم بالتمسك بالإيمان بالله الواحد وبعمل الصالحات، قال تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (133) سورة البقرة.
=====================
الدروس والعبر
*- في قوله: "وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث"
إن يعقوب _عليه السلام_ أدرك بأن ابنه انشغل بهذه الرؤيا، فلابد أن يكون قد شده قوله: " {قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (5) سورة يوسف "، فأراد بعدها أن ينقل الابن من ما قد يجول بخاطره من أفكار إلى أمر آخر بعيد.
أراد أن يخرجه مما يسمى بالاستغراق في اللحظة الحاضرة إلى معنى بعيد جداً؛ لأنه لو ترك ابنه أيضاً على ما ذكره له ونقلته الآية الأولى لبدأ الابن يتساءل لماذا لا أقصص رؤياي؟ لماذا يكيد لي إخواني؟ لماذا، لماذا، لماذا؟ أسئلة أصغر من عمره، فناسب أن ينقل ذهنه نحو معنى مشرق، فقال له: " {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (6) سورة يوسف ".
والدرس التربوي في هذه الآية:
هو أنك إذا رأيت إنساناً قد حزبه أمر فأهمه فسارع بنقله إلى جانب آخر مشرق يبعث في نفسه التفاؤل ويقوده إلى الاطمئنان ويحثه على العمل الدؤوب، انقله إلى ما يقود إليه هذا الأمر الذي حزبه من خير وأره الجوانب المشرقة في النازلة.
وقد كان ذلك من منهج نبينا _صلى الله عليه وسلم_، ففي صلح الحديبية -وهو من أشد ما مر على الصحابة رضوان الله عليهم- عندما جاء سهيل بن عمرو، نقلهم النبي _صلى الله عليه وسلم_ نقلة عجيبة، فقال: سهل أمركم سهل أمركم.
فجعلهم يتعلقون بأمل مرتقب، وبعث في نفوسهم التفاؤل.
إن من الأساليب التربوية والقيادية الحكيمة الكفيلة بتخفيف آثار المصيبة:
بل ربما الخروج منها هو هذا الأسلوب، فما أحوج الآباء والأمهات، والمربون، والقادة، والموجهون، والدعاة، والعلماء إليه إذا رأيت من وقع في أمر عظيم، سواء كان فرداً أو جماعة أو أمة، فانقلهم إلى التفاؤل، انقلهم إلى الصورة الأخرى.
فيعقوب _عليه السلام_ نقل ابنه من هذا الهم الذي يعيشه إلى ما وراءه من مستقبل مشرق، فقال له: "وكذلك يجتبيك ربك".. أبشر يا بني، هذه الرؤيا عظيمة، ستكون حياتك في المستقبل.
هذا اجتباء واصطفاء من الله _جل وعلا_ وتأتي البشائر "وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك" الله أكبر! هل يتصور بعد ذلك أن يجلس يوسف _عليه السلام_ يفكر في مكيدة إخوته أو ينتقل بفكره إلى هذا الخير المقبل عليه؟ من اجتباء الله _جل وعلا_ واصطفاء الله له وبإتمام نعمته عليه؟.
إن هذا الأسلوب قد يغيب عنا ونحن نواجه المشكلات، سواء على المستوى الفردي في بيوتنا مع أبنائنا، مع زوجاتنا، مع جيراننا، مع أقاربنا، أو على المستوى العام، على مستوى الأمة، فالأمة الآن تواجه هزيمة وبلاء وتسلط من الأعداء، وليست بحاجة إلى من يزيد من جروحها ويضخم أعداءها لها، كما يفعل كثير ممن في قلوبهم مرض، وكما فعل أسلافهم من المنافقين في عهد النبي _صلى الله عليه وسلم_، وإنما هي في حاجة إلى من يرفع معنوياتها، إلى من يقول لها: أبشري هذا الذي ترينه طريق النصر _بإذن الله_ إذا أخذت بمقومات النصر.
*-وقفة تربوية أخرى ..
وهي أن كثيرا من الناس يتصور أن الأبناء لا يفقهون، ولا يفهمون، ويتعامل معهم بناء على هذا الاعتقاد، وهذا خطأ تربوي مركب .
فيا أخا الإسلام ..
إذا نزلت بساحتك مصيبة أو حل بك بلاء على المستوى الفردي أو على مستوى أعلى، فالتمس أوجه الخير فيما نزل فالله لا يخلق شراً محضاً، وانظر إلى ما انطوت عليه المصيبة من خير ثم اعمل على إظهاره واستثماره، ليتم لك الخروج من تلك المحنة، بل لتعود المحنة منحة، كما قال النبي _صلى الله عليه وسلم_: « عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ » .
ما أحوجنا لهذه المعاني في الواقع الذي نعيشه..
فالأمة لا تحتاج إلى من يزيد من جروحها وبلائها، بل تحتاج أن نفتح لها الأفق الأوسع ونريها المستقبل المشرق لتسعى إليه، كما فعل يعقوب مع يوسف _عليه السلام_ وكما كان يفعل محمد _صلى الله عليه وسلم_ مع صحابته، في الخندق وفي الشدة التي صورها الله _عز وجل_ بقوله: " إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) [الأحزاب/10-13] " ، إذا بمحمد _صلى الله عليه وسلم_ يضرب الكدية ويبشر صحابته _رضوان الله عليهم_، لا يبشرهم بالخروج من الأزمة الراهنة فحسب بل يبشرهم ببشائر عظمى دونهم ودونها مفاوز بعيدة! ولكنها حق نبأه بها اللطيف الخبير.
وهكذا ينبغي أن يكون الداعية مبشراً،
على أن يبشر الأمة بالحق الذي ظهرت أدلته الشرعية أو الكونية، وإياه أن يبشرها بغير دليل ولا برهان فإن هذا يضرها ويؤثر في مسيرتها.
*- وقفة تربوية أخرى يشير إليها يعقوب _عليه السلام_ في هذه الآية:
وهي أن كثيراً من الناس يتصور أن الأبناء لا يفقهون، ولا يفهمون، ويتعامل معهم بناء على هذا الاعتقاد، وهذا خطأ تربوي مركب.
فالطفل يتذكر ويفقه ويتأثر، بل أحياناً أكثر مما يحصل للكبار! وارجع بذاكرتك إلى الوراء سنين عدداً عندما كنت صغيراً، ثم عد بها إلى أحداث مرت بك قبل سنتين أو ثلاث، فستجد أن ما فعلته أو ما وجدته وأنت صغير راسخ في ذهنك، تستطيع أن تصفه بدقة، بينما بعض ما وقع قبل سنة أو سنتين بل ربما قبل أيام قد نسيته، وربما أثر على أحدهم حدث مر به في صغره لرقة نفسه وصفائها أيام الصبا، وبالمقابل لم يؤثر عليه مثله عندما كبر وتبلدت المشاعر لديه.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالصغار يفهمون ويدركون ويعقلون، ولكنهم قد لا يحسنون التعبير إما لخوف أو لأسباب أخرى.
فما أحوجنا إلى هذا المنهج في تعاملنا مع أبنائنا، وقصة يوسف مع أبيه يعقوب تبين كيف تعامل مع يوسف كرجل يفهم يدرك يعقل، وفي السنة مواقف عدة تبين كيف كان محمد _صلى الله عليه وسلم_ يحترم عقول الأطفال ويتعامل معهم المعاملة التي تؤهلهم لأن يكونوا رجالاً يتحملون الأعباء، ومن ذلك قصته مع الحسن _رضي الله عنه_ في تمر الصدقة.
فلننتبه لهذا الأسلوب التربوي في تعاملنا مع أبنائنا، ولنتذكر بأن طفل اليوم هو رجل الغد، وقد يكون هو القائد، هو الزعيم، هو الإمام، هو العالم، هو المجدد، بعيد أن كان الغلام، فلنتعامل معهم التعامل الذي يؤهلهم لذلك.
*- ومن الوقفات التربوية المهمة في هذه الآية أيضاً:
في أسلوب يعقوب _عليه السلام_ وهو يخاطب ابنه " {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (6) سورة يوسف.
الإشارة إلى أهمية ربط الابن بآبائه الصالحين، فإن من أقوى مؤثرات التربية قوة الارتباط بالأسرة، فإذا كانت الأسرة على سمت وخلق وعمل، ورث الصغار من الكبار ما لديهم من أخلاق فاضلة، ومكارم محمودة، فالوراثة ليست خاصة بالمال، بل الصفات والأخلاق والآداب والعلوم تورث، ومن ذلك الحديث: " وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ "، ولذلك نبه هنا يعقوب _عليه السلام_ ابنه إلى تركة آبائه، فربطه بآبائه الصالحين _عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام_ وهذا الأسلوب أشار إلى عظم أثره في أبناء يعقوب قول الله _تعالى_ في سورة البقرة عندما ذكر وصية يعقوب: " {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (133) سورة البقرة "، فبان أن منهج يعقوب في ربطهم بما كان عليه أسلافهم الصالحون آتى ثماره بدليل قول بنيه عند وفاته: "نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون"، إن الأبناء يقتدون بالآباء في الأخلاق الحسنة، فيما هم عليه من أعمال طيبة، يتوارثونها جيلاً بعد جيل.
وإلى هذا الأسلوب التربوي أشار يعقوب _عليه السلام_ عندما ربط يوسف بآبائه الصالحين الأخيار.
*- إعادة الفضل لأهله "وكذلك يجتبيك ربك"،
فالله هو الذي اجتباه، وهو الذي اصطفاه، وتلك نعمة من أعظم النعم تدفع حلاوتها كل سوء جاء به ابتلاء، وقد رُوي عنه _صلى الله عليه وسلم_ أنه قال عندما أصابه الهم المقيم المقعد: إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ..
وهكذا أولياء الله ومن قبلهم رسله لسان حالهم مع ربهم قول القائل:
فليتك تحلو والحياة مريرة
وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر
وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين
وكل الذي فوق التراب تراب
*- الأمر بفعل الأسباب
حيث إن يعقوب _عليه السلام_ لما قص عليه ابنه يوسف _عليه السلام_ هذه الرؤيا العظيمة وعرف أبوه تأويلها وما قد يلاقيه ابنه من شدة ومحن وبلاء ما كان منه إلا أن يوصيه، ويقول له: "قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ" (يوسف:5)، لا تكن سبباً في جلب الكيد إلى نفسك، فعندما تقص هذه الرؤيا على إخوانك، وهي رؤيا عظيمة، وقد يفقهون تأويلها كما فقهها أبوهم فيأتي الحسد فيجر عليك وعليهم مايجر.
وهذا يشير إلى أن من رأى رؤيا صالحة أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يقصها إلا على من يحب خوفاً من نشوء الحسد بسبب هذه النعمة وهذه الرؤيا، وكل صاحب نعمة محسود، فلم يكن من يعقوب _عليه السلام_ إلا أن يدله على سبب، لعله يكون فيه نجاته، وكما قال فيما بعد لإخوانه: "وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ "(يوسف: من الآية67) أي: أن يعقوب عندما يقول لابنه هنا "لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ"، ويقول لأبنائه فيما بعد: " لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ" هو لا يمنع وقوع القدر "وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْء" (يوسف: من الآية 67)، ولكنه يأخذ بالسبب الشرعي الذي قد يكون سبباً لنجاة ابنه هنا وأبنائه هناك.
ومن أمثلة الأخذ بالأسباب:
أن يوسف _عليه السلام_ لما راودته امرأة العزيز وأصرت في مراودتها وهمت به وهي تملك السلطة والقوة أخذ بالسبب، بل أخذ بعدة أسباب وأعظم الأسباب أنه اعتصم بالله _جل وعلا_" فاستعصم" استعصم بالله ولجأ إلى الله وتضرع إليه فكفاه الله _جل وعلا_ شر هذه المرأة "إنه من عبادنا المخلصين"، ثم أيضاً هرب منها وهذا من الأخذ بالأسباب.
ولذلك من الأخذ بالأسباب الهروب من مواطن الفتن ، وكذلك من الأخذ بالأسباب أن أبناء يعقوب _عليهم السلام_ لما طلبوا من أبيهم أن يرسل معهم أخاهم بنيامين قال لهم: "قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ" (يوسف: 66) بسبب ما فرطوا بيوسف _عليه السلام_، فاحتاط هذه المرة، فقال: "لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ" فأعطوه الموثق، وحدث ما حدث لأخيهم لكن لم يكن بسببهم.
وكذلك قال لهم: "لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ " (يوسف: من الآية 67)، فهذا أيضاً من الأخذ بالأسباب، ولذلك قال لهم وبين لهم أنه لن يغني عنهم من الله شيء، إنما هي حاجة في نفس يعقوب قضاها _عليه السلام_ خاف عليهم من الحسد أو من العين عندما يجتمعون زمرةً واحدة، فطلب منهم التفرق وهذا من الأخذ بالأسباب.
ومن أعظم ماورد في هذه السورة من الأخذ بالأسباب:
قول يعقوب في آخر المطاف: "يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" (يوسف: 87).
ومن الحكمة أن الإنسان إذا سلك طريقاً محفوفاً بالمخاطر كركوب البحر مثلاً، من الحكمة ألا يركبه هو وأبناؤه جميعاً خوفاً من أن يغرق المركب فيغرقوا جميعاً أو إذا كان على جانب البحر مثلاً هو وزوجته وطلب أبناؤه منه أن يركبوا بالبحر وكان عددهم مباركاً أي كثيراً كما كان عدد أولاد يعقوب _عليه السلام_ من الحكمة ومن الأخذ بالأسباب ألا يركبوا في مركبٍ واحد؛ لأنهم إذا وقع الأمر قد يؤثر في نفسه وقد يبدأ باللوم ولو فعلت ولو فعلت فالأولى له أن يركب بعضهم في مركب ثم يركب الآخرون في مركبٍ آخر إلى غير ذلك فيما يخاف منه الإنسان، فلما خاف يعقوب _عليه السلام_ حيث إنهم سيذهبون من بلاد كنعان إلى مصر وبلاد غريبة ويخشى عليهم من العدو قال:" لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ "(يوسف: من الآية 67) فهذا من الأخذ بالأسباب.
ومن الأخذ بالأسباب:
عندما قال يوسف لفتيانه:" وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (يوسف: 62) هذه من الأخذ بالأسباب، لما طلب منهم أن يأتوا بأخيهم ما اكتفى بالطلب فقط: "وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا"، وكان وجود هذه البضاعة سبباً من أسباب مجيء أخيهم؛ لأن أباهم قد اقتنع بذلك _عليه السلام_ في المرة الأولى رفض: "قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" (يوسف: 64) لكن لما فتحوا متاعهم ووجدوا بضاعتهم ردت إليهم وافق: "قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا"(يوسف: من الآية 65) فلاحظوا الدقة في اتخاذ الأسباب في مواضعها.
ومن أعظم ما ورد في هذه السورة من الأخذ بالأسباب:
قول يعقوب في آخر المطاف: "يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" (يوسف: 87).وفعلاً ذهبوا بعد أن كانوا يأسوا: "قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ" (يوسف: 85)، ولما أخذوا بهذا السبب مباشرة: "فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ" (يوسف: 88) "قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ" (يوسف: 89) لما أخذوا بهذا السبب فإذا هم يجدون النتيجة.
وهنا نلحظ أن بعض هذه الأسباب أثّرت في النتيجة، أي أن يوسف لما استبق الباب نفعه استباقه الباب، أي: ذهابه إلى الباب، فوجد زوج المرأة فتخلص من المشكلة الأولى، ولما طلب وضع المتاع: "وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ" (يوسف: من الآية 62) نفع هذا أي بعد أن اعترض أبوهم ورفض أن يرسله معهم نجد أنه وافق بعد أن وجد المتاع، و لما أوصاهم والدهم ألا يدخلوا من باب واحد وإنما يدخلون من أبواب متفرقة نفعهم ذلك فلم يأتهم مكروه، ولما قال لأبنائه: اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه نفعهم ذلك فوجدوا أخاهم من الحكمة أن الإنسان إذا سلك طريقاً محفوفاً بالمخاطر كركوب البحر مثلاً، من الحكمة ألا يركبه هو وأبناؤه جميعاً خوفاً من أن يغرق المركب فيغرقوا جميعاً.
وأما النتائج فليست لك:
مثال ذلك الدعوة إلى الله _جل وعلا_ الإنسان يدعو إلى الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إن استجاب له الناس فهذا خير وإن لم يستجيبوا له فليس عليه، المهم أنه أمر ونهى، لا يقل أنا لن أدعو الناس؛ لأنهم لن يستجيبوا: "وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" (لأعراف: 164).
ففعلك السبب يسقط عنك الإثم وقيامك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله يسقط عنك الإثم، أما إسلامهم فأمره إلى الله، والهداية بيد الله _جل وعلا_ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين، "إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" (القصص: 56).
إذن نحن مطالبون بأن نعمل السبب أما النتائج فليست لنا، وهنا مسألة مهمة في هذا الجانب، وهي أننا في فعل الأسباب نعالج القدر الكوني بالقدر الشرعي، نعالج القدر الكوني، أي: قدر الله _جل وعلا_ الذي قدره نتعامل معه بالقدر الشرعي فنجد مثلاً لما وقع الطاعون في الشام هذا قدر كوني وحدث ما حدث من استشارة عمر _رضي الله عنه_ للصحابة هل يدخل الشام أو لا يدخل واختلفوا في ذلك، ثم اتخذ قراره بعدم الدخول قبل أن يبلغه حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه عبد الرحمن بن عوف قال له أبو عبيدة لما قرر عمر أن يرجع إلى المدينة ولا يدخل الشام أتفر من قدر الله يا عمر، قال له: "لو أن غيرك قالها يا أبا عبيدة، نفر من قدر الله إلى قدر الله" أي: نفر من القدر الكوني إلى القدر الشرعي، نحن أمرنا بالأخذ بالأسباب، هذه مسألة مهمة فنحن مطالبون بذلك.
*- الناس في قضية الأخذ بالأسباب على ثلاثة أقسام
منهم من قال: إن الأسباب تفعل بذاتها، ومنهم من قال: إنه لا تأثير للأسباب، وإنما الله يفعل عندها، وهذان منهجان خاطئان.
والمنهج الصحيح:
أن الله _جل وعلا_ جعل في الأسباب قوة مؤثرة وإذا شاء سلبها منها كما سلب من النار قوة الإحراق في قصة إبراهيم _عليه السلام_: " قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ" (الانبياء: 69).
الذين يقولون: إن الأسباب تفعل بذاتها هؤلاء مخطئون، والذين يقولون: إن الأسباب لا تفعل شيء إنما الله يفعل عندها هؤلاء مخطئون، والصحيح أن الله جعل في الأسباب قوة مؤثرة فإذا شاء سلبها منها كما جعل في العلاج قوة مؤثرة في الشفاء ولو شاء لسلبها _سبحانه وتعالى_، وجعل في النار قوة الإحراق ولما شاء سلبها كما في قصة إبراهيم عليه السلام.
الاعتماد على الأسباب فقط قدحٌ في التوحيد، وإهمال الأسباب قدحٌ في العقل، والمنهج الصحيح هو الأخذ بالأسباب مع الاعتماد على الله _جل وعلا_: " اعقلها وتوكل"، لما تأخذ العلاج تأخذه لأن الله جعل فيه الشفاء، ولكنك تعلم أن الله هو الشافي فإن شاء شفاك _سبحانه وتعالى_ وإن شاء لم يشفك.
فتجد رجلين كلاهما يستخدمان علاجاً واحداً؛ أحدهما يفيده والآخر لايفيده لأسباب كثيرة، ولهذا ربط يعقوب _عليه السلام_ فعل السبب بمسببه "اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ" (يوسف: من الآية 87) الاعتماد على الله _جل وعلا_ هو الذي يدلكم، وهو الذي يهديكم لأخيكم وهكذا كان .
وهذا منهجٌ يجب أن ننتبه له في قضية الأخذ بالأسباب وأن نعتدل في هذا المنهج العظيم فهذه السورة وضحت وبينت أهمية هذا الجانب كما في قوله: "اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ"(يوسف: من الآية 42)، وفي هذا أخذ بالأسباب، نسأل الله أن يوفق أهل الإسلام للأخذ بأسباب العز في الدارين، وتجنب أسباب الردى.