السبب الأول
* معرفة تفسير كثير من آيات القرآن، ومعرفة كيف امتثل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما أمر به فيها.
وذلك لاشتمال أحداث السيرة على كثير من أسباب النزول، ولكون كثير من الآيات نزلت تعقيبًا أو تعليقًا على حدث، أو تصحيحًا لمسار، أو أمرًا بالانتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى دعوية أو جهاديه أو غير ذلك، وكذلك يعرف من السيرة بعض مما نزل من السور في مكه وبعض مما نزل من السور في المدينه ولمعرفة المكي والمدني فوائد يأتي ذكر شيء منها.
ففي غزوة بدر نزلت سورة الأنفال، وفي غزوة أحد نزلت آيات من سورة آل عمران، وفي غزوة الأحزاب نزلت سورة الأحزاب، وفي الهجرة نزلت آيات من سورة التوبة، ونزلت آيات منها في غزوة تبوك، وفي المنافقين وفضحهم، وفي تحويل القبلة نزلت آيات من سورة البقرة، وهكذا.
وهنا نذكر كلامًا مختصرًا، عن أسباب النزول، وعن المكي والمدني من القرآن، وعن البيان النبوي للقرآن.
* أما أسباب النزول، فهي:
كل قول أو فعل أو سؤال ممن عاصروا التنزيل نزل بشأنه القرآن .
ولا يلزم أن يكون النزول عقب الحدث مباشرة، فقد يتأخر كحادثة الإفك، لكن لا يصح أن يكون النزول قبل الحدث، فهذا لا يدخل في أسباب النزول، بل يدخل في الإخبار عن المغيبات.
فمن ذلك ما رواه البخاري في باب: (يغشى الناس هذا عذاب أليم) من كتاب التفسير من صحيحه – عن مسروق قال: قال عبد الله: إنما كان هذا، لأن قريشا لما استعصوا على النبي - صلى الله عليه وسلم –دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فأنزل الله –تعالى: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين. يغشى الناس هذا عذاب أليم). قال: فأتي رسول الله –صلى الله عليه وسلم -فقيل: يا رسول الله، استسق الله لمضر، فإنها قد هلكت. قال: (لمضر؟ إنك لجريء). فاستسقى فسقوا. فنزلت: (إنكم عائدون). فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم حين أصابتهم الرفاهية، فأنزل الله عز وجل: (يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون). قال: يعني يوم بدر.
ولمعرفة اسباب النزول فوائد ، منها:
• معرفة المعنى المراد بالآية وتعيينه، إذ قد ترد على المعنى احتمالات صحيحه، لكن سبب النزول يحدد أحد هذه المعاني، ويكون هو المراد دون غيره.
قال الشاطبي – رحمه الله – ما مختصره:
معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن.
والدليل على ذلك أمران:
1. أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال؛ كالاستفهام: لفظه واحد، ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك، ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة، وعمدتها مقتضيات الأحوال.
2. أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات، ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف، وذلك مظنة وقوع النزاع، ويوضح هذا المعنى: ما روى ابن وهب عن بكير أنه سأل نافعًا: كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية؟ قال: يراهم شرار خلق الله، أنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين.
وهذا شأن أسباب النزول في التعريف بمعاني المنزل بحيث لو فقد ذكر السبب لم يـُـعرف مِن المُـنزَّل معناه على الخصوص دون تطرق الاحتمالات، وتوجه الإشكالات.
وقد قال – عليه الصلاة والسلام: ( خذوا القرآن من أربعة)، وقد قال –رضي الله عنه: والذي لا إله غيره، ما أُنزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا أُنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أُنزلت.أ.هــ
وهذا يشير إلى أن علم الأسباب من العلوم التي يكون العالم بها عالمًا بالقرآن. وعلى الجملة فهو ظاهر بالمزاولة لعلم التفسير.أ.هــ
• بيان الحكمة التي دعت إلى تشريع حكم من الأحكام، وإدراك مراعاة الشرع للمصالح العامة في علاج الحوادث، رحمة بالأمة.
• معرفة من نزلت فيه الآية على التعيين، حتى لا يشتبه بغيره، فيتهم البرئ، ويبرأ المريب – مثلا – ولهذا ردت عائشة – رضي الله عنها على مروان حين اتهم أخاها عبدالرحمن بن أبي بكر بأنه الذي نزلت فيه آية ( والذي قال لولديه أف لكما )، فقالت: ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن إلا أن الله أنزل عذري، أخرجه البخاري.
• تيسير الحفظ، وتسهيل الفهم، وتثبيت الوحي، في ذهن كل من يسمع الاية إذا عرف سببها، وذلك لأن ربط الأسباب بالمسببات، والأحكام بالحوادث، والحوادث بالأشخاص والأزمنة والأمكنة. كل أولئك من دواعي تقرر الأشياء وانتقاشها في الذهن، وسهولة استذكارها عند استذكار مقارناتها في الفكر.
* وأما المكي والمدني من القرآن، فقال السيوطي – رحمه الله:
اعلم أن للناس في المكي والمدني اصطلاحات ثلاثة، أشهرها: أن المكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعدها، سواء نزل بالمدينة أم بمكة، عام الفتح أو عام حجة الوداع، أم بسفر من الأسفار.
أخرج عثمان بن سعيد الدارمي بسنده إلى يحيى بن سلاّم قال:ما نزل بمكة وما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغ النبي – صلى الله عليه وسلم – المدينة فهو من المكي، وما نزل على النبي – صلى الله عليه وسلم – في أسفاره بعد ما قدم المدينة فهو من المدني.أ.هـ
وهذا أثر لطيف يؤخذ منه أن ما نزل في سفر الهجرة مكي اصطلاحًا. أ.هــ.
وهذا المصطلح باعتبار زمان النزول وهو أولى المصطلحات لحصره واطراده.
أما الاصطلاح الثاني فهو باعتبار مكان النزول، فعليه المكي: ما نزل بمكة وما جاورها كمنى وعرفات والحديبية، والمدني: ما نزل بالمدينة وما جاورها: أحد وقباء وسلع، ويشكل على هذا الاصطلاح ما نزل في الأسفار أو ما نزل بتبوك ونحو ذلك. والاصطلاح الثالث: أن المكي: ما كان خطابًا لأهل مكة، والمدني: ما كان خطابًا لأهل المدينة، ويرد عليه أنه غير ضابط ولا حاصر.
ولمعرفة المكي والمدني من السور فوائد عديدة، منها:
• قول الشاطبي – رحمه الله في الموافقات:
المدني من السور ينبغي أن يكون مُـنزلاً في الفهم على المكي، وكذلك المكي بعضه مع بعض، والمدني بعضه مع بعض، على حسب ترتيبه في التنزيل، وإلا لم يصح، والدليل على ذلك أن معنى الخطاب المدني في الغالب مبني على المكي، كما أن المتأخر من كل واحد منهما مبني على متقدمه، دلَّ على ذلك الاستقراء، وذلك إنما يكون بيان مجمل، أو تخصيص عموم، أو تقييد مطلق، أو تفصيل ما لم يفصل، أو تكميل ما لم يظهر تكميله. وأول شاهد على هذا أصل الشريعة؛ فإنها جاءت متممة لمكارم الأخلاق، ومصلحة لما أفسد قبلُ من ملة إبراهيم عليه السلام. ويليه تنزيل سورة الأنعام؛ فإنها نزلت مبينة لقواعد العقائد وأصول الدين، وقد خرَّج العلماء منها قواعد التوحيد التي صنف فيها المتكلمون من أول إثبات واجب الوجود إلى إثبات الإمامة، هذا ما قالوا..
ثم لما هاجر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى المدينة، كان أول ما نزل عليه سورة البقرة، وهي التي قررت قواعد التقوى المبنية على قواعد سورة الأنعام؛ فإنها بينت من أقسام أفعال المكلفين جملتها، وإن تبين في غيرها تفاصيل لها؛ كالعبادات التي هي قواعد الإسلام، والعادات من أصل المأكول والمشروب وغيرهما، والمعاملات من البيوع والأنكحة وما دار بها، والجنايات من أحكام الدماء وما يليها، وأيضًا فإن حفظ الدين فيها، وحفظ النفس والعقل والنسل والمال مضمن فيها، وما خرج عن المقرر فيها فبحكم التكميل.
فغيرها من السور المدنية المتأخرة عنها مبني عليها، كما كان غير الأنعام من المكي المتأخر عنها مبنيًا عليها.
وإذا تنزلتَ إلى سائر السور بعضها مع بعض في الترتيب وجدتها كذلك حذو القذة بالقذة.
فلا يغيبن عن الناظر في الكتاب هذا المعنى؛ فإنه من أسرار علوم التفسير، وعلى حسب المعرفة به تحصل له المعرفة بكلام ربه – سبحانه.أ.هــ
• معرفة الناسخ والمنسوخ من القرآن؛ لأن القول بالنسخ مبني على معرفة المتقدم من المتأخر، والمدني ينسخ المكي لا العكس.
قال النحاس – رحمه الله – في كتابه الناسخ والمنسوخ: وإنما نذكر ما نزل بمكة والمدينة؛ لأن فيها أعظم الفائدة في الناسخ والمنسوخ؛ لأن الآية إذا كانت مكية، وكان فيها حكم، وكان في غيرها مما نزل بالمدينة حكم، عـُلم أن المدنية نسخت المكية. أ.هــ
• الترجيح بين الأقوال في التفسير، قال ابن الجوزي – رحمه الله – في قوله – تعالى: ( قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى)، قال: وفي قوله – تعالى :(فصلى) ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الصلوات الخمس، قاله ابن عباس ومقاتل، والثاني: صلاة العيدين، قاله أبو سعيد الخدري، والثالث: صلاة التطوع، قاله أبو الأحوص.
والقول قول ابن عباس في الآيتين، فإن هذه السورة مكية بلا خلاف، ولم يكن بمكة زكاة ولا عيد .أ.هــ.
قال مساعد الطيار: وإذا تأملت القول بصلاة العيد، وجدته يدخل في عموم قوله – تعالي: ( فصلى )، لكن أن يكون هو المراد لا غيره، أو يكون هو المراد أولاً، ففيه النظر الذي ذكره ابن الجوزي ( ت 597 هـ)، والله أعلم.أ.هــ.
• تذوق أساليب القرآن والاستفادة منه في أسلوب الدعوة إلى الله: فإن لكل مقام مقالاً، فلكل مرحلة من مراحل الدعوة موضوعاتها وأساليب الخطاب فيها، كما يختلف الخطاب باختلاف أنماط الناس ومعتقداتهم وأحوال بيئتهم، ويبدو هذا واضحًا جليًا بأساليب القرآن المختلفة في مخاطبة المؤمنين والمشركين والمنافقين وأهل الكتاب.
فالداعية يستفيد من هذا في تنويع خطابه، فلا يكون خطابه و أسلوب تعامله واحدًا لا يتغير، فإن كان يخاطب ملحدًا فإن خطابه لا يكون كما يخاطب كافرًا مؤمنـاً بالله، وإذا كان يخاطب كافرًا مؤمنًا بالله – كأهل الكتاب – فإنه يختلف في خطابه لهم عن خطابه لمبتدع، وخطابه لمبتدع، يختلف عن خطابه لعاص فاسق، وهكذا يستخدم مع كل قوم ما يصلح لهم من الخطاب. والله أعلم.
• معرفة تاريخ التشريع وتدرجه الحكيم، وذلك يترتب عليه الإيمان بسمو السياسة الإسلامية في تربية الشعوب والأفراد.
* أما الكلام على بيان النبي – صلى الله عليه وسلم – للقرآن، فقد قال الله – تعالى: ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون )، قال ابن الجوزي – رحمه الله: قوله – تعالى: ( وأنزلنا إليك الذكر ) وهو القرآن بإجماع المفسرين: ( لتبين للناس ما نزل إليهم ) [فيه] من حلال وحرام، ووعد ووعيد: ( ولعلهم يتفكرون ) في ذلك فيعتبرون. أ.هـ
وقال – تعالى: (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون )، قال ابن جرير الطبري – رحمه الله: فقد تبين ببيان الله جل ذكره أن مما أنزل الله من القرآن على نبيه – صلى الله عليه وسلم – ما لا يوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول – صلى الله عليه وسلم – وذلك تأويل جميع ما فيه من وجوه أمره، واجبه وندبه وإرشاده، وصنوف نهيه، ووظائف حقوقه، وحدوده، ومبالغ فرائضه، ومقادير اللازم بعض خلقه لبعض، وما أشبه ذلك من أحكام آيه التي لم يـُـدرك علمها إلا ببيان رسول الله – صلى الله عليه وسلم لأمته – وهذا وجه لا يجوز لأحد القول فيه إلا ببيان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – له تأويله بنص منه عليه، أو بدلالة قد نصبها دالة أمته على تأويله.أ.هــ.
ونذكر هنا مسألتين، الأولي: أنواع البيان النبوي، والثانية: هل فسر النبي – صلى الله عليه وسلم – القرآن كله أم فسر بعضه.
أما المسألة الأولى: فاعلم أن البيان النبوي للقرآن يقع على أربعة أنواع:
• أن ينص النبي – صلى الله عليه وسلم – على تفسير آية أو لفظه، وله – صلى الله عليه وسلم – في ذلك أسلوبان:
1. أن يذكر التفسير، ثم يذكر الآية المفسرة، ومثال ذلك: ما رواه الترمذي عن أبي هريرة –رضي الله عنه– أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم– قال: ( إذا أحب الله عبدًا نادى: يا جبريل إني أحببت فلانًا فأحبه، قال: فينادي في السماء، ثم تنزل له المحبة في أهل الأرض، فذلك قوله تعالي: ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودًا )، وإذا أبغض عبدًا نادي، يا جبريل: إني أبغضت فلانًا فينادى في السماء، ثم تنزل له البغضاء في الأرض).
2. أن يذكر الآية المفسرة، ثم يذكر تفسيرها، ومثال ذلك: ما رواه مسلم عن أبي علي ثمامة بن شفي أنه سمع عقبة بن عامر – رضي الله عنه – يقول: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – وهو على المنبر يقول: (( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة )، ألا إن القوة الرمي. ألا إن القوة الرمي. ألا إن القوة الرمي).
• أن يشكل على الصحابة فهم آية فيفسرها لهم، ومثال ذلك: ما رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: لما نزلت: ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم.....) الآية، شق ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ قال :(ليس ذلك، إنما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه وهو يعظه ( يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم )).
• أن يذكر في كلامه – صلى الله عليه وسلم – ما يصلح أن يكون تفسيرًا للآية، ومثال ذلك: قوله – تعالى: ( وجيء يومئذ بجهنم )، روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ( يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، لكل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ).
• أن يتأول القرآن، فيعمل بما فيه من أمر، ويترك ما فيه من نهي، وهذا النوع هو المقصود أصالة ذكره وتبيينه بإيراد هذا المبحث، ذلك أن حياته – صلى الله عليه وسلم – ودعوته، وجهاده، وتعليمه، ومعاملته مع المؤمنين والمنافقين والكفار، سواء ما كان من ذلك في مكة أو المدينه، هو من هذا الباب، وبذلك يتضح لك هذا الباب من العلم، وكيف أن معرفة سيرته – صلى الله عليه وسلم – يتضح بها كيفية العمل بكثير من الآيات، وما هو الحد في ذلك، فقوله –تعالى: ( وأنذر عشيرتك الأقربين )، كيف امتثله –صلى الله عليه وسلم– وقوله– تعالى: (فلا تطع الكافرين به وجاهدهم به جهادًا كبيرًا)، كيف امتثله –صلى الله عليه وسلم– وقوله تعالى: ( جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم )، وقوله – تعالى: ( واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين )، وقوله – تعالى: ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين * واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون * إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون )، وقوله – تعالى: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن )، وغير ذلك من الآيات الكريمات، كيف امتثل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما أمر به فيها.
قال الإمام ابن كثير – رحمه الله: .... قال الامام أحمد حدثنا عبد اللهبن نمير عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أنزل الله: ( وأنذر عشيرتك الأقربين )، أتى النبي –صلى الله عليه وسلم –الصفا فصعد عليه، ثم نادى:( يا صباحاه )، فاجتمع الناس اليه بين رجل يجيء اليه وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم: ( يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني لؤي، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد أن تُغير عليكم، صدقتموني؟) قالوا: نعم قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)، فقال أبو لَهَب –لعنهُ اللهُ –تبـَّـا لك سائر اليوم، أما دعوتنا إلا لهذا؟ وأنزل الله –عز وجل: ( تبت يدا أبي لهب وتب )، وأخرجاه من حديث الأعمش به نحوه.
وقال أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا زائدة، حدثنا عبد الملك ابن عمير، عن موسى بن طلحة، عن أبي هريرة، قال: لما نَـزَلَـت هذه الآية: (وأنذر عشيرتك الأقربين )، دعا رسول الله –صلى الله عليه وسلم –قريشاً فعَمَّ وخَصَّ، فقال: ( يا معشر قريش،أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كَعْب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد، أنقذي نفسك من النار، فإني والله لا أملك لكم من الله شيئًا، إلا أن لكم رحمًا سأَبُـلـُّـها ببلالها)، ورواه مسلم من حديث عبد الملك بن عمير، وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة، وله طرق أُخَر عن أبي هريرة في (( مسند أحمد)) وغيره، وقال أحمد أيضًا: حدثنا وكيع،ثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة–رضي الله عنها –قالت: لما نزلت( وأنذرعشيرتك الأقربين )، قام رسول الله –صلى الله عليه وسلم –فقال: ( يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، يا بني عبد المطلب، لا أملك لكم من الله شيئًا، سلوني من مالي ما شئتم )، ورواه مسلم أيضًا.
• أما مسألة: هل فسر النبي – صلى الله عليه وسلم – القرآن كله أم فسر بعضه، فقد قال الشيخ محمد حسين الذهبي – رحمه الله: اختلف العلماء في المقدار الذي بينه النبي –صلى الله عليه وسلم– من القرآن لأصحابه: فمنهم من ذهب إلى القول بأن رسول الله –صلى الله عليه وسلم– بين لأصحابه كل معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه، وعلى رأس هؤلاء ابن تيمية، ومنهم من ذهب إلى القول بأن رسول الله –صلى الله عليه وسلم– لم يبين لأصحابه من معاني القرآن إلا القليل، وعلى رأس هؤلاء الخويِّي والسيوطي. أ.هـــ.
ثم ساق أدلة الفريقين، ثم قال : ومن يتأمل فيما تقدم من أدلة الفريقين يتضح له أنهما على طرفي نقيض، ورأيي أن كل فريق منهم مبالغ في رأيه. وما استند إليه كل فريق من الأدلة يمكن مناقشته بما يجعله لا ينهض حجة على المدعى.أ.هـــ. ثم ناقش أدلة الفريقين واختار أن النبي –صلى الله عليه وسلم– بيَّـن الكثير من معاني القرآن لأصحابه، ولم يبِّـن كل معاني القرآن.
والتحقيق يعلم من المسألة السابقة –أنواع البيان النبوي للقرآن– فما نقل من تفسير نبوي صريح لآية من الآيات قليل جدًا إذا ما قيس بعدد الآيات المفسرة إلى عدد آيات القرآن، فمن حمل البيان النبوي على هذا النوع، قال: إن التفسير الوارد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قليل، وهذا صحيح.
ومن اعتبر جميع أنواع البيان النبوي المذكورة سابقًا –من جعل عموم السنة مفسرة للقرآن– وجد أن التفسير الذي يرجع إلى السنة –بهذا المفهوم– كثير.
ويجب أن يعلم أن أصول الدين من المعاملات والشرعيات والاعتقادات قد بينها الرسول –صلى الله عليه وسلم– بيانًا واضحًا لا لبس فيه، واختلاف الصحابة –رضي الله عنهم– في بعض أفراد ذلك لا يدل على أنه –صلى الله عليه وسلم –لم يبينها.
ولكن لا يعني هذا أن الرسول –صلى الله عليه وسلم– فسر كل لفظة في القرآن، لأن في القرآن ما هو بين المعنى، فلا يحتاج إلي بيان، وفيه ما هو بلغة القوم، فلم يحتاجوا بمعرفتهم لغتهم إلى أن يسألوا عنه رسول الله –صلى الله عليه وسلم– لكن إذا استشكلوا شيئًا من القرآن سألوا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهذا ظاهر في سؤالات الصحابة للرسول –صلى الله عليه وسلم– عن معاني بعض الآيات.
ومما يدل على أن الصحابة –رضي الله عنهم– لم يتلقوا بيان جميع ألفاظ القرآن، ما وقع بينهم من خلاف محقق في تفسير بعض الألفاظ القرآنية التي لها أكثر من دلالة لغوية، فحملها بعضهم على معنى، وحملها الآخرون على معنى آخر، مما يدل أنهم لم يتلقوا من النبي –صلى الله عليه وسلم– بيان هذه اللفظة، ومن أشهر الأمثلة في ذلك اختلافهم في معنى القرء، فمنهم من فسره بالحيض ومنهم من فسره بالطهر، وكلاهما معتمد في اللغة، فلو كان عندهم –رضي الله عنهم– خبر عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم– في تفسير هذه اللفظة لنقلوه، ولما لم يكن عندهم، اجتهدوا في بيان المراد معتمدين في ذلك على لغتهم.
انتهى الكلام عن هذه المسألة باختصار، وإنما أوردناها هنا مع ما يظن أنه نوع من الاستطراد ليتبين أن النبي –صلى الله عليه وسلم– أبان عن تفسير كثير من القرآن بغير قوله المباشر –صلى الله عليه وسلم– بل بعموم سنته، والكلام هنا عن السيرة وهي كاشفة عن قول وفعل وترك واقرار النبي –صلى الله عليه وسلم– في حياته ودعوته وجهاده، والله أعلم.
السبب الثاني
* أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قدوة واقعية شاملة على وجه الكمال، وفي السيرة بيان ذلك.
قال الله – تعالى: ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا )، قال ابن جُزَي – رحمه الله: أي قدوة تقتدون به – صلى الله عليه وسلم – في اليقين والصبر وسائر الفضائل.
أما كون النبي – صلى الله عليه وسلم – قدوة واقعية و بيان السيرة لذلك، فقد قال مصطفى السباعي – رحمه الله: إن سيرة رسول الله –صلى الله عليه وسلم –تحكي سيرة إنسان أكرمه الله بالرسالة، فلم تخرجه عن إنسانيته، ولم تلحق حياته بالأساطير، ولم تُضْف عليه الألوهية قليلاً ولا كثيرًا، وإذا قارنا هذا بما يرويه المسيحيون عن سيرة عيسى –عليه السلام– وما يرويه البوذيون عن بوذا، والوثنيون عن آلهتهم المعبودة، اتضح لنا الفرق جليًا بين سيرته –عليه السلام - وسيرة هؤلاء، ولذلك أثر بعيد المدى في السلوك الإنساني والاجتماعي لاتباعهم، فادعاء الألوهية لعيسى–عليه السلام –ولبوذا جعلهما أبعد منالا من أن يكونا قدوة نموذجية للإنسان في حياته الشخصية والاجتماعية، بينما ظل وسيظل محمد –صلى الله عليه وسلم –المثل النموذجي الإنساني الكامل لكل من أراد أن يعيش سعيدًا كريمًا في نفسه وأسرته وبيئته، ومن هنا يقول الله– تعالى في كتابه الكريم: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ).أ.هـــ
قال سيد قطب – رحمه الله: وإنها الحكمة الإلهية كذلك تبدو في رسالة واحد من البشر إلى البشر. واحد من البشر يحس إحساسهم، ويتذوق مواجدهم، ويعاني تجاربهم، ويدرك آلامهم وآمالهم، ويعرف نوازعهم وأشواقهم، ويعلم ضروراتهم وأثقالهم.. ومن ثَــمَّ يعطف على ضعفهم ونقصهم، ويرجو في قوتهم واستعلائهم، ويسير بهم خطوة خطوة، وهو يفهم ويقدر بواعثهم وتأثراتهم واستجاباتهم، لأنه في النهاية واحد منهم، يرتاد بهم الطريق إلى الله، بعون من الله وعون منه على وعثاء الطريق.
وهم من جانبهم يجدون فيه القدوة الممكنة التقليد، لأنه بشر منهم، يتسامى بهم رويدًا رويدًا؛ ويعيش فيهم بالأخلاق والأعمال والتكاليف التي يبلغهم أن الله قد فرضها عليهم، وأرادها منهم؛ فيكون هو بشخصه ترجمة حية للعقيدة التي يحملها إليهم. وتكون حياته وحركاته وأعماله صفحة معروضة لهم ينقلونها سطرًا سطرًا، ويحققونها معنىً معننىً، وهم يرونها بينهم، فتهفو نفوسهم إلى تقليدها، لأنها ممثلة في إنسان، ولو كان ملكًا ما فكروا في عمله ولا حاولوا أن يقلدوه؛ لأنهم منذ البدء يشعرون أن طبيعته غير طبيعتهم، فلا جرم يكون سلوكه غير سلوكهم على غير أمل في محاكاته، ولا شوق إلى تحقيق صورته.
وأما بيان السيرة لكون النبي – صلى الله عليه وسلم – قدوه شاملة على وجه الكمال، فقد قال مصطفى السباعي – رحمه الله: إن سيرة رسول الله –صلى الله عليه وسلم –شاملة لكل النواحي الإنسانية في الإنسان، فهي تحكي لنا سيرة محمد الشاب الأمين المستقيم قبل أن يكرمه الله بالرسالة، كما تحكي لنا سيرة رسول الله الداعية إلى الله المتلمس أجدى الوسائل لقبول دعوته، الباذل منتهى طاقته وجهده في إبلاغ رسالته، كما تحكي لنا سيرته كرئيس دولة يضع لدولته أقوم النظم وأصحها، ويحميها بيقظته وإخلاصه وصدقه بما يكفل لها النجاح، كما تحكي لنا سيرة الرسول الزوج والأب في حنو العاطفة، وحسن المعاملة، والتمييز الواضح بين الحقوق والواجبات لكل من الزوج والزوجة والأولاد، كما تحكي لنا سيرة الرسول المربي المرشد الذي يشرف على تربية أصحابه تربية مثالية ينقل فيها من روحه إلى أرواحهم، ومن نفسه إلى نفوسهم، مما يجعلهم يحاولون الاقتداء به في دقيق الأمور وكبيرها. كما تحكي لنا سيرة الرسول الصديق الذي يقوم بواجبات الصحبة، ويفي بالتزاماتها وآدابها، مما يجعل أصحابه يحبونه كحبهم لأنفسهم وأكثر من حبهم لأهليهم وأقربائهم، وسيرته تحكي لنا سيرة المحارب الشجاع، والقائد المنتصر، والسياسي الناجح، والجار الأمين، والمعاهد الصادق.
وقصارى القول:
إن سيرة رسول الله –صلى الله عليه وسلم –شاملة لجميع النواحي الإنسانية في المجتمع، مما يجعله القدوة الصالحة لكل داعية، وكل قائد ، وكل أب، وكل زوج، وكل صديق، وكل مربي، وكل سياسي، وكل رئيس دولة، وهكذا..
ونحن لا نجد مثل هذا الشمول ولا قريبا منه فيما بقي لنا من سير الرسل السابقين، ومؤسسي الديانات والفلاسفة المتقدمين والمتأخرين، فموسى يمثل زعيم الأمة الذي أنقذ أمته من العبودية، ووضع لها من القواعد والمبادئ ما يصلح لها وحدها، ولكننا لا نجد في سيرته ما يجعله قدوة للمحاربين، أو المربين أو السياسيين، أو رؤساء الدول أو الآباء، أو الأزواج مثلاً، وعيسى –عليه السلام –يمثل الداعية الزاهد الذي غادر الدنيا وهو لا يملك مالاً، ولا دارًا، ولا متاعًا، ولكنه في سيرته الموجودة بين أيدي المسيحيين، لا يمثل القائد المحارب، ولا رئيس الدولة، ولا الأب، ولا الزوج -لأنه لم يتزوج- ولا المشرع، ولا غير ذلك مما تمثله سيرة محمد –صلى الله عليه وسلم.
وقل مثل ذلك في بوذا، وكونفوشيوس، وأرسطو، وأفلاطون، ونابليون، وغيرهم من عظماء التاريخ، فإنهم لا يصلحون للقدوة –إن صلحوا– إلا لناحية واحدة من نواحي الحياة برزوا فيها واشتهروا بها، والإنسان الوحيد في التاريخ الذي يصلح أن يكون قدوة لجميع الفئات وجميع ذوي المواهب وجميع الناس هو محمد –صلى الله عليه وسلم.أ.هــــ.
ولذلك قال محمد على الصلابي – وفقه الله – مبينًا هذا الأمر:
... كما أن السيرة النبوية توضح للمسلم حياة الرسول –صلى الله عليه وسلم–بدقائقها وتفاصيلها منذ ولادته، وحتى موته، مرورًا بطفولته وشبابه، ودعوته وجهاده وصبره، وانتصاره على عدوه، وتظهر بوضوح أنه كان زوجًا وأبًا وقائدًا ومحاربًا، وحاكمًا، وسياسيًا، وداعية وزاهدًا وقاضيًا، وعلى هذا فكل مسلم يجد بغيته فيها، فالداعية يجد له في سيرة رسول الله –صلى الله عليه وسلم– أساليب الدعوة، ومراحلها المتسلسلة، ويتعرف على الوسائل المناسبة لكل مرحلة من مراحلها، فيستفيد منها في اتصاله بالناس ودعوتهم للإسلام، ويستشعر الجهد العظيم الذي بذله رسول الله –صلى الله عليه وسلم –من أجل إعلاء كلمة الله، وكيفية التصرف أمام العوائق والعقبات والصعوبات، وما هو الموقف الصحيح أمام الشدائد والفتن.
ويجد المربي في سيرته –صلى الله عليه وسلم –دروسًا نبوية في التربية، والتأثير على الناس بشكل عام, وعلى أصحابه الذين رباهم على يده وكلأهم بعنايته، فأخرج منهم جيلاً قرآنيًا فريدًا، وكوَّن منهم أمة هي خير أمة أخرجت للناس, تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، وأقام بهم دولة نشرت العدل في مشارق الأرض ومغاربها.
ويجد القائد المحارب في سيرته –صلى الله عليه وسلم –نظامًا محكمًا، ومنهجًا دقيقًا في فنون قيادة الجيوش والقبائل والشعوب والأمة، فيجد نماذج في التخطيط واضحة، ودقة في التنفيذ بينة, وحرصًا على تجسيد مبادئ العدل وإقامة قواعد الشورى بين الجند والأمراء والراعي والرعية.
ويتعلم منها السياسي كيف كان –صلى الله عليه وسلم– يتعامل مع أشد خصومه السياسيين المنحرفين، كرئيس المنافقين عبد الله بن أبي ابن سَـلول الذي أظهر الإسلام، وأبطن الكفر والبغض لرسول الله –صلى الله عليه وسلم–وكيف كان يحيك المؤامرات وينشر الإشاعات التي تسيء إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم –لإضعافه وتنفير الناس منه، وكيف عامله رسول الله –صلى الله عليه وسلم–وصبر عليه، وعلى حقده, حتى ظهرت حقيقته للناس فنبذوه جميعًا حتى أقرب الناس له، وكرهوه والتفوا حول قيادة النبي –صلى الله عليه وسلم.
ويجد العلماء فيها ما يعينهم على فهم كتاب الله –تعالى– لأنها هي المفسرة للقرآن الكريم في الجانب العملي، ففيها أسباب النزول وتفسير لكثير من الآيات، فتعينهم على فهمها, والاستنباط منها, ومعايشة أحداثها، فيستخرجون أحكامها الشرعية، وأصول السياسة الشرعية، ويحصلون منها على المعارف الصحيحة في علوم الإسلام المختلفة، وبها يدركون الناسخ والمنسوخ، وغيرها من العلوم، وبذلك يتذوقون روح الإسلام ومقاصده السامية.
ويجد فيها الزهاد معاني الزهد، وحقيقته ومقصده.
ويستقي منها التجار مقاصد التجارة وأنظمتها وطرقها.
ويتعلم منها المبتلون أسمى درجات الصبر والثبات، فتقوى عزائمهم على السير في طريق دعوة الإسلام، وتعظم ثقتهم بالله –عز وجل– ويوقنون أن العاقبة للمتقين.
وتتعلم منها الأمة الآداب الرفيعة، والأخلاق الحميدة، والعقائد السليمة، والعبادة الصحيحة، وسمو الروح، وطهارة القلب، وحب الجهاد في سبيل الله, وطلب الشهادة في سبيله؛ ولهذا قال علي بن الحسين– رحمه الله: كنا نُعلَّم مغازي النبي –صلى الله عليه وسلم –كما نُعلَّم السورة من القرآن، وقال الواقدي: سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت عمي الزهري يقول: في علم المغازي علم الآخرة والدنيا، وقال إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص: كان أبي يعلمنا مغازيرسول الله–صلى الله عليه وسلم –يعدها علينا ويقول هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها.أ.هـــ
وبعد كل ما سبق ذكره نجد كثيرًا من المسلمين يرغبون عن هذه القدوة وعن هذا الهدي النبوي، إما جهلاً، لكون كثير منهم ما علموا من سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا قشورا أو لم يعلموا منها شيئـًا بل تربوا على المناهج الغربية التي تعظم من أمر الدنيا جدًا وتضع من أمر الدين خاصة الإسلام، وإما افتتانًا بالكافرين وما سُخر لهم فى هذا الزمان، وافتتانـًا بمناهجهم ومذاهبهم.
والغريب أنه ليس عند هؤلاء الكفار من القدوات ولا التاريخ مثل ما للمسلمين، فضلاً أن يكون عندهم عن أنبيائهم أو عظمائهم المتقدمين منهم أوالمتأخرين مثل ما عند المسلمين عن نبيهم – صلى الله عليه وسلم – ثم هم يعظمون كبراءهم ومعظموهم ويفتخرون بهم على الدنيا، ويعكفون على دراسة ما نقل من حياتهم – مع ما في قصص حياة الكثير منهم من الخزي والعار الذي يخفونه ويبدون ما يجدون فيها من قدوة يرتضونها – وأقوالهم ويبنون على ذلك علومًا في الاجتماع والخطابة وغير ذلك، وكثير من كتب ما يسمى بالتنمية البشرية يدور على أقوالهم، وعلى أقوال أقوام لا خلاق لهم من الغرب أو من الشرق، تجدهم يقولون قال كونفوشيوس، وصنع نابليون، وخطب لنكولن...إلخ.
ثم يصدرون ذلك للعالم ويستورده حتى المسلمون. ونحن عندنا هذا الهدى والنور ثم ننسى ما عندنا، وهو خير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم، وقد روى البخاري – رحمه الله – في كتاب الاعتصام من صحيحه عن أبي برزه – رضى الله عنه – قال: إن الله يُغنيكم – أو نَعَشَكم – بالإسلام و بمحمد – صلى الله عليه وسلم. قال البدر العيني – رحمه الله: قوله ( يغنيكم ) من الإغناء بالغين المعجمة والنون. قوله ( أو نعشكم ) بنون ثم عين مهملة وشين معجمة أي: رفعكم أو جبركم من الكسر أو أقامكم من العثر.
قال الله تعالى: (يأيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا * وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا )، قال الطبري – رحمه الله: ( وسراجًا منيرًا ) يقول: وضياءً لخلقه، يستضئ بالنور الذي أتيتهم به من عند الله عباده. ( منيرًا ) يقول: ضياءً ينير لمن استضاء بضوئه، وعمل بما أمَره، وإنما يعني بذلك: أنه يهدي به من اتبعه من أمته. أ.هــ
قال سيد قطب –رحمه الله: (وسراجًا منيرًا).. يجلو الظلمات، ويكشف الشبهات، وينير الطريق، نورًا هادئاً هادياً كالسراج المنير في الظلمات.
وهكذا كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم– وما جاء به من النور.
جاء بالتصور الواضح البين النير لهذا الوجود، ولعلاقة الوجود بالخالق، ولمكان الكائن الإنساني من هذا الوجود وخالقه، وللقيم التي يقوم عليها الوجود كله، ويقوم عليها وجود هذا الانسان فيه، وللمنشأ والمصير، والهدف والغاية، والطريق والوسيلة.
في قول فصل لا شبهة فيه ولا غموض.
وفي أسلوب يخاطب الفطرة خطابًا مباشرًا وينفذ إليها من أقرب السبل وأوسع الأبواب وأعمق المسالك والدروب.أ.هـــ.
ولكن المشكلة والعيب فينا –نحن المسلمين– كما قال محمد الغزالي –رحمه الله:
إن المسلمين الآن يعرفون عن السيرة قشورًا خفيفة، لا تحرك القلوب ولا تستثير الهمم، وهم يعظمون النبي وصحابته عن تقليد موروث ومعرفة قليلة، ويكتفون من هذا التعظيم بإجلال اللسان، أو بما قلت مؤنته من العمل.
ومعرفة السيرة على هذا النحو التافه تساوي الجهل بها.
إنه من الظلم للحقيقة الكبيرة أن تتحول إلى أسطورة خارقة.
ومن الظلم لفترة نابضة بالحياة والقوة أن تعرض في أكفان الموتى، إن حياة محمج ليست –بالنسبة للمسلم– مسلاة شخص فارغ أو دراسة ناقد محايد، كلا كلا.
إنها مصدر الأسوة الحسنة التي يقتفيها، ومنبع الشريعة العظيمة التي يدين بها.
فأي حيف في عرض هذه السيرة، وأي خلط في سرد أحداثها إساءة بالغة إلى حقيقة الإيمان نفسه.أ.هـــ
وقال أيضًا –رحمه الله: ومحمد ليس قصة تتلى في يوم ميلاده كما يفعل الناس الآن.
ولا التنويه به يكون في الصلوات المخترعة التى قد تضم إلى ألفاظ الآذان ولا إكنان حبه يكون بتأليف مدائح له أو صياغة نعوت مستغربة يتلوها العاشقون، ويتأوهون أو لا يتأوهون!
فرباط المسلم برسوله الكريم أقوى وأعمق من هذه الروابط الملفقة المكذوبة على الدين، وما جنح المسلمون إلى هذه التعابيير–في الإبانة عن تعلقهم بنبيهم– إلا يوم تركوا اللباب الملئ وأعياهم حمله، فاكتفوا بالمظاهر والأشكال.
ولما كانت هذه المظاهر والأشكال محدودة في الإسلام، فقد افتنوُّا في اختلاق صور أخرى! ولا عليهم!
فهي لن تكلفهم جهداً ينكصون عنه، إن الجهد الذي يتطلب العزمات هو في الاستمساك باللباب المهجور، والعودة إلى جوهر الدين ذاته فبدلا من الاستماع إلى قصة المولد يتلوها صوت رخيم، ينهض المرء إلى تقويم نفسه وإصلاح شأنه حتى يكون قريباً من سنن محمد –صلى الله عليه وسلم– في معاشه ومعاده، وحربه وسلمه، وعلمه وعمله، وعاداته وعباداته...أ.هـــ