القاعدة الرابعة عشرة
إلزام الناس بفعل شيء من العادات والمعاملات، وجعْل ذلك كالشرع الذي لا يُخالف، والدين الذي لا يُعارض بدعة [1].
ومن الأمثلة على ذلك :
ما ذكره الشاطبي من وضْع المكوس في معاملات الناس، كالدِّين الموضوع والأمر المحتوم عليهم ، دائمًا أو في أوقات محدودة ، على كيفيات مضروبة ، بحيث تضاهي المشروع الدائم الذي يحمل عليه العامة ، ويؤخذون به ، وتوجه على الممتنع منه العقوبة ، كما في أخذ زكاة المواشي والحرث ، وما أشبه ذلك [2] .
ومن ذلك أيضًا قول الشاطبي :
وكذلك تقديم الجهال على العلماء ، وتولية المناصب الشريفة من لا يصلح لها بطريق التوريث ، فإنَّ جعْل الجاهل في موضع العالم حتى يصير مفتيًا في الدين ، ومعمولاً بقوله في الأموال والدماء والأبضاع وغيرها محرم في الدين .
وكون ذلك يتخذ ديدنًا حتى يصير الابن مستحقًا لرتبة الأب -وإن لم يبلغ رتبة الأب في ذلك المنصب- بطريق الوراثة أو غير ذلك، بحيث يشيع هذا العمل ويطرد، ويرِدُه الناس كالشرع الذي لا يُخالف بدعة بلا إشكال [3] .
توضيح القاعدة :
هذه القاعدة خاصة بالعادات والمعاملات، فإن الابتداع ها هنا يقع فيها من جهة الخروج على نظام الدين يجعل هذه العادات أو المعاملات فرضًا محتومًا على الناس؛ بمثابة فرائض الدين وعزائم الشرع.
ولا يدخل تحت هذه القاعدة ما إذا كان الإلزام جاريًا على سبب معقول ومفضيًا إلى مصلحة معتبرة، فهذا يندرج تحت باب المصالح المرسلة، وهو باب لا يقع فيه الابتداع كما تقدم [4] .
ومن الأمثلة على المصالح المرسلة:
وضع اللوائح التننظيمية ، والتراتيب الإدارية التي تحقق المصالح العامة للأمة وفق مقاصد الشريعة .
أما الإلزام الذي يجري فيه الابتداع فهو المناقض لمقاصد الشريعة ، الخارج على نظام الدين ، وإنما يُصار إليه بسبب التفريط في الأخذ بشرع الله .
قال ابن تيمية:
وعامة الأمراء إنما أحدثوا أنواعًا من السياسات الجائرة من أخذ أموال لا يجوز أخذها، وعقوبات على الجرائم لا تجوز؛ لأنهم فرطوا في المشروع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلا فلو قبضوا ما يسوغ قبضه، ووضعوه حيث يسوغ وضعه، طالبين بذلك إقامة دين الله، لا رياسة نفوسهم، وأقاموا الحدود المشروعة على الشريف والوضيع، والقريب والبعيد، متحرين في ترغيبهم وترهيبهم للعدل الذي شرعه الله لما احتاجوا إلى المكوس الموضوعة، ولا إلى العقوبات الجائرة، ولا إلى من يحفظهم من العبيد والمستعبدين، كما كان الخلفاء الراشدون، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم من أمراء بعض الأقاليم [5] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1]) انظر الاعتصام 2/80 – 82) .
[2]) انظر المصدر السابق 2/80 ، 81) .
[3]) الاعتصام 2/81) .
[4]) انظر العلاقة بين البدعة والمصلحة المرسلة في المدخل الأول من هذا الكتاب.
[5]) اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 598، 599).