القاعدة الحادية عشرة:
كل ما كان من الاعتقادات والآراء والعلوم معارضًا لنصوص الكتاب والسنة، أو مخالفًا لإجماع سلف الأمة فهو بدعة [1].
ومما يدخل تحت هذه القاعدة الصور الثلاث الآتية:
الصورة الأولى:
اتخاذ الرأي أصلاً مُحْكمًا وجعله مقطوعًا به، وعرْض النصوص السمعية على هذا الأصل، فما وافقه قُبل، وما خالفه رُدَّ.
وهذا متضمن إما للتفويض أو للتأويل أو للتعطيل.
قال ابن تيمية:
فأما معارضة القرآن بمعقول أو قياس فهذا لم يكن يستحله أحد من السلف.
وإنما اُبْتُدع ذلك لما ظهرت الجهمية والمعتزلة ونحوهم ممن بنوا أصول دينهم على ما سموه معقولاً وردوا القرآن إليه، وقالوا: إذا تعارض العقل والشرع إما أن يفوض أو يتأول، فهؤلاء من أعظم المجادلين في آيات الله بغير سلطان أتاهم [2].
وقال ابن أبي العز:
بل كل فريق من أرباب البدع يعرض النصوص على بدعته وما ظنه معقولاً، فما وافقه قال: إنه محكم، وقبله واحتج به، وما خالفه قال: إنه متشابه، ثم ردّه، وسمى ردَّه تفويضًا، أو حرَّفه، وسمى تحريفه تأويلاً، فلذلك اشتد إنكار أهل السنة عليهم [3].
والرأي المعارض للنصوص يكون تارة في مسائل الاعتقاد وأصول الدين، ويكون تارة أخرى في أصول الفقه وقواعده وفروعه.
فمن النوع الأول:
البدع المحدثة في الاعتقاد كرأي جهم وغيره من أهل الكلام؛ لأنهم قوم استعملوا قياساتهم وآراءهم في رد النصوص [4].
قال الذهبي [5]:
فأول ذلك بدعة الخوارج حتى قال أولهم للنبي صلى الله عليه وسلم: اعدل. [6].
فهؤلاء يصرحون بمخالفة السنة المتواترة ويقفون مع الكتاب فلا يرجمون الزاني ولا يعتبرون النصاب في السرقة، فبدعتهم تخالف السنة المتواترة.
وقال:
ثم ظهر في حدود السبعين بدعة القدر ؛ كذبوا بالعلم أو بالمشيئة العامة، وذلك مخالف للكتاب والسنة.
وقال: ثم وجدت بدعة الجهمية والكلام في الله فأنكروا الكلام والمحبة وأن يكون كلَّم موسى أو اتخذ إبراهيم خليلاً أو أنه على العرش استوى، وذلك مخالفة للنصوص.
ومن الأمثلة على ذلك أيضًا:
أن بعض الطوائف يردون الأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم، ويدَّعون أنها مخالفة للمعقول، وغير جارية على مقتضى الدليل؛ فيجب ردها: كالمنكرين لعذاب القبر، والصراط، والميزان، ورؤية الله عز وجل في الآخرة.
وكذلك حديث الذباب وقتله، وأنَّ في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء، وأنه يقدم الذي فيه الداء، وحديث الذي أخذ أخاه بطنه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بسقيه العسل ، وما أشبه ذلك من الأحاديث الصحيحة المنقولة نقل العدول [7].
ومن النوع الثاني:
القواعد والضوابط المحدثة في الفقه وأصوله المتضمنة رد نصوص الوحي إليها.
ومن الأمثلة على ذلك:
أ- القول بالتحسين والتقبيح العقليين [8].
ب- الاقتصار على كتاب الله وإنكار العمل بالسنة مطلقًا [9].
ج- القول بترك العمل بخبر الواحد [10].
د- ما ذكره الشاطبي، إذ قال: وربما قدحوا في الرواة من الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم -وحاشاهم- وفيمن اتفق الأئمة من المحدثين على عدالتهم وإمامته.
كل ذلك ليردوا به على من خالفهم في المذهب.
وربما ردوا فتاويهم وقبَّحوها في أسماع العامة؛ لينفِّروا الأمة عن إتباع السنة وأهلها [11].
هـ- ما ذكره ابن رجب، إذ يقول: ومن ذلك -أعني محدثات العلوم- ما أحدثه فقهاء الرأي من ضوابط وقواعد عقلية ورد فروع الفقه إليها سواء أخالفت السنة أم وافقتها طردًا لتلك القواعد المقررة، وإن كان أصلها مما تأولوه على نصوص الكتاب والسنة لكن بتأويلات يخالفهم غيرهم فيها [12].
الصورة الثانية:
الإفتاء في دين الله بغير علم.
قال الشاطبي:
فكل من اعتمد على تقليد قول غير محقق، أو رجح بغير معنى معتبر فقد خلع الربقة واستند إلى غير شرع عافانا الله من ذلك بفضله.
فهذه الطريقة في الفتيا من جملة البدع المحدثات في دين الله تعالى كما أن تحكيم العقل على الدين مطلقًا محدث [13].
وقال أيضًا:
زيادة إلى القول بالرأي غير الجاري على العلم، وهو بدعة أو سبب إلى البدعة...
وهو الذي بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسألوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» [14] وإنما ضلوا لأنهم أفتوا بالرأي، إذ ليس عندهم علم [15].
ويقرب من هذه الصورة:
الصورة الثالثة، وهي: استعمال الرأي في الوقائع قبل أن تنزل، والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات؛ لأن في الاشتغال بهذا تعطيلاً وتركًا للسنن وذريعة إلى جهلها [16].
وفي ذلك يقول الشاعر [17]:
قد نقرَّ الناس حتى أحدثوا بدعًا
في الدين بالرأي لم تبعث بها الرسل
حتى استخف بدين الله أكثرهم
وفي الذي حُمِّلوا من دينه شغل
توضيح القاعدة:
هذه القاعدة خاصة بالاعتقادات والآراء والعلوم التي أُحدثت في دين الإسلام من جهة أهله الذين ينتسبون إليه، فلا يدخل تحت هذه القاعدة –بهذا النظر– اعتقادات الملاحدة والكافرين وآراؤهم وعلومهم وإن كانت معارضة لدين الإسلام.
وبيان هذه القاعدة مرتبط بمعرفة أصل عظيم من أصول هذا الدين ألا وهو وجوب التسليم التام للوحي وعدم الاعتراض عليه.
قال ابن تيمية:
... فلهذا كانت الحجة الواجبة الإتباع: الكتاب والسنة والإجماع، فإن هذا حق لا باطل فيه، واجب الإتباع، لا يجوز تركه بحال... وليس لأحد الخروج عن شيء مما دلت عليه [18].
والمعارضة لما جاء به الوحي تشمل:
معارضته بالآراء والمعتقدات، وبالأقوال وبالأعمال.
وهذه القاعدة متعلقة ببيان معارضة الوحي بالاعتقادات والآراء والأقوال، أما ما يتعلق بمعارضته بالأعمال فسيأتي بيانه في القاعدتين الرابعة عشرة والخامسة عشرة.
وإليك فيما يأتي كلام بعض أهل العلم في تقرير هذه القاعدة:
قال الشافعي:
والبدعة: ما خالف كتابًا أو سنة أو أثرًا عن بعض أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم [19].
وقال ابن تيمية:
وما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين [20].
وقال الشاطبي:
والرأي إذا عارض السنة فهو بدعة وضلالة [21].
------------------------
[1]) انظر جامع بيان العلم وفضله 2/105)، ودرء التعارض 1/208، 209)، وإعلام الموقعين 1/67)،
والاعتصام 1/101 – 106 )، وفضل علم السلف على علم الخلف 39 – 44)، وأحكام الجنائز 242).
[2]) الاستقامة 1/23).
[3]) شرح العقيدة الطحاوية 399).
[4]) انظر إعلام الموقعين 1/68).
[5]) انظر كلام الذهبي كله في التمسك بالسنن له 101 – 104).
[6]) أخرجه البخاري 6/617) برقم 3610.
[7]) الاعتصام 1/231).
[8]) انظر الاعتصام 1/144)، 2/99)، والإبداع للشيخ علي محفوظ 61).
[9]) انظر الاعتصام 1/109 – 110)، والإبداع للشيخ علي محفوظ 61، 62).
[10]) انظر المصدر السابق 1/109، 232 – 236)، 2/99)، والإبداع للشيخ علي محفوظ 62، 63).
[11]) الاعتصام 1/231، 232)، وانظر منه 1/246 – 248).
[12]) فضل علم السلف على علم الخلف 47).
[13]) الاعتصام 2/179).
[14]) أخرجه البخاري 1/194) برقم 100، ومسلم 16/223 – 225) وقد تقدم.
[15]) الاعتصام 2/81).
[16]) انظر جامع بيان العلم وفضله 2/1054)، وإعلام الموقعين 1/69)، والاعتصام 1/103، 104)، 2/335).
[17]) جامع بيان العلم وفضله 2/950).
[18]) مجموع الفتاوى 19/5).
[19]) إعلام الموقعين 1/80).
[20]) مجموع الفتاوى 20/163).
[21]) الاعتصام 2/335).