الفصل الأول
إلغاء معاهدة 1936 (الثورة على الأبواب):
في يوم الاثنين 8 أكتوبر عام 1951، وقع حادث مهم في تاريخ مصر الحديث والمعاصر، بل في تاريخها الوطني والقومي، كان بداية مرحلة جديدة من مراحل الكفاح، ذلك هو إعلان إلغاء معاهدة 26 أغسطس عام 1936 (انظر ملحق نص معاهدة عام 1936) اجتمع البرلمان بمجلسيه (النواب والشيوخ) مساء ذلك اليوم، وألقى مصطفى النحاس باشا رئيس الوزراء وقتئذ، بياناً تفصيلياً عن سياسة الحكومة، أعلن فيه قطع المفاوضات السياسية، التي كانت قائمة في عهد وزارة الوفد بين الحكومتين المصرية والبريطانية، "بعد أن تبين عدم جدواها".
كما أعلن إلغاء معاهدة 26 أغسطس 1936 واتفاقيتي 19 يناير و10 يوليه عام 1899 في شأن إدارة السودان، وقدم إلى البرلمان المراسيم بمشروعات القوانين المتضمنة هذا الإلغاء. وصدر القانون الرقم 175 لعام 1951(انظر ملحق القانون الرقم 175 لعام 1951 بإنهاء العمل بأحكام معاهدة عام 1936)، بإنهاء العمل بأحكام معاهدة 1936، موقعاً بتوقيع رئيس مجلس الوزراء، مصطفى النحاس، الملك فاروق.
واستقبل الشعب المصري، إلغاء معاهدة 1936، بالغبطة والحماسة، وأبدى استعداده للتضحية والفداء، وتجاوب الشعب مع الحكومة في مقاومة الاحتلال البريطاني، في منطقة السويس.
موقف بريطانيا من إلغاء المعاهدة:
صرح هربرت موريسون، وزير خارجية بريطانيا، أن بريطانيا ستقابل القوة بالقوة إذا اقتضى الأمر لبقاء قواتها في منطقة قناة السويس، وأن الحكومة البريطانية لن تذعن لمحاولة مصر تمزيق المعاهدة.
وأصدرت السفارة البريطانية في القاهرة مساء 8 أكتوبر عام 1951 بياناً أعلنت فيه أن إلغاء الحكومة المصرية للمعاهدة، من جانبها وحدها، عمل غير قانوني ويخالف أحكام المعاهدة، وأن الحكومة البريطانية تعتبرها سارية المفعول، وتعتزم التمسك بحقوقها بمقتضى هذه المعاهدة.
وألقى ونستون تشرشل، زعيم المحافظين وزعيم المعارضة وقتئذ، خطاباً في مجلس العموم أيد فيه موقف حكومة العمال، وقال إن إقدام حكومة مصر على إجلاء الإنجليز، عن منطقة قناة السويس والسودان، ضربة أخطر وأكثر مهانة لكرامتها من اضطرارها إلى الجلاء عن عبدان بإيران.
ترتب على إلغاء المعاهدة، من ناحية الحكومة، إلغاء جميع الإعفاءات المالية، التي كانت ممنوحة للسلطات العسكرية البريطانية، بمقتضى تلك المعاهدة، وهي تشمل الرسوم الجمركية على المهمات والأسلحة والعتاد ومواد التموين وما إلى ذلك، وامتنعت الحكومة عامة عن أداء التسهيلات والخدمات، التي كانت تؤديها للسلطات العسكرية البريطانية، ومنها مواد التموين، ومنعت وصول ضباط وأفراد القوات البريطانية إلى داخل البلاد، وحرمت دخول الرعايا البريطانيين المدنيين، الذين كانوا يعملون في خدمة القوات البريطانية، القادمين من الخارج، ما لم يكونوا حاملين لجوازات سفر معتمدة من السلطات القنصلية المصرية في البلاد القادمين منها، وأنهت تصاريح الإقامة للبريطانيين، الذين كانت إقامتهم في البلاد لسبب الخدمة في القوات العسكرية البريطانية أو لصالحها.
أمّا من ناحية الشعب، فقد بدأ الكفاح في القناة.
وأضرب العمال المصريون في المعسكرات البريطانية عن العمل فيها.
وانسحبوا جميعاً منها.
ويذكر خالد محيي الدين في مذكراته معلقاً على أحداث هذه الفترة، بقوله:
"بعد إلغاء معاهدة 1936، بدأت على الفور عمليات فدائية ضد قوات الاحتلال، في منطقة القناة، وتفجر الغضب الشعبي، بصورة لم يسبق لها مثيل، وتساقط الشهداء، وعجزت قوات البوليس عن مواجهة قوات الاحتلال، وتساءل الناس، وكانوا على حق تماماً: أين الجيش؟ والحقيقة أننا بدأنا نشعر بحرج شديد، وكنا قد طالبنا بإحالة عدد من الضباط إلى الاستيداع ليتمكنوا من السفر إلى القناة ورُفض طلبنا".
كتائب الفدائيين ومساهمة تنظيمات الجيش السرية:
تطوع كثير من الشباب في كفاح الإنجليز في القناة وألفوا من بينهم كتائب سميت كتائب الفدائيين أو كتائب التحرير، تكونت في القاهرة وفي المدن والقرى الواقعة في منطقة القناة أو القريبة منها. وكان لهذه الكتائب عمل إيجابي جليل في تنظيم حركة الكفاح وبث روح المقاومة في نفوس المواطنين.
ويقول خالد محيي الدين:
"ومع تصاعد الأحداث، تصاعد الحرج، وقررنا أن يتوجه عدد من الضباط بشكل جماعي إلى رئاسة أركان حرب بكوبري القبة مطالبين بالسماح لهم بالسفر إلى القناة للوقوف مع الشعب، في مواجهة الاحتلال.
لكن القائمقام رشاد مهنا (عضو مجلس الوصاية فيما بعد)، وكان على صلة بالضباط الأحرار، اعترض على ذلك قائلاً: أن حركة كهذه قد تؤدي إلى كشف العديد من الضباط، وقد تؤدي إلى اعتقالهم وإلى إجهاض حركتنا.
وبالفعل صرفنا النظر عن ذلك، لكن عددا من الضباط الأحرار بدأ في السفر إلى منطقة القناة للإسهام في المعارك.
وفي هذه الأثناء بدأنا في تجميع كميات كبيرة من الذخيرة والأسلحة، وكان هذا سهلاً للغاية، ففي عمليات التدريب على ضرب النار كان من السهل أن يقرر ضابط أن رجاله ضربوا 100000 طلقة بينما هم استهلكوا فقط 20000 طلقة، وهكذا تجمعت لدينا كميات هائلة، أعطينا قسما منها للإخوان المسلمين، وقسما آخر تسلمه أحمد فؤاد ليوصله إلى "حدتو"، وقد أبدى عبدالناصر دهشته عندما أبلغته بذلك، وقال:
"أنا أعرف أن الشيوعيين بتوع كلام وسياسة ومش بتوع عمل مسلح"، ولكنني أبلغته أن لهم مجموعة في القناة اسمها "الأنصار" ووافق على تسليمهم الذخيرة والسلاح.
ويذكر السفير جمال الدين منصور:
"قمنا بالاتصال بحزب مصر الفتاة ورئيسه أحمد حسين، وبدأنا في تقسيم قوات الفدائيين إلى جماعات على ألاّ تزيد أي جماعة على عشرة أفراد. ونشط الزملاء في تدريب المواطنين وكنا نبدأ بالتدريب النظري على مختلف الأسلحة الخفيفة، القنبلة اليدوية، والبندقية لي إنفيلد، ثم ننتقل بهم إلى أماكن غير آهلة بالسكان ـ وكان كفافي قد اختار لنا مقابر الغفير ـ وذلك لإجراء التدريبات العملية حول استعمال الأسلحة المختلفة وخاصة القنابل اليدوية.
وكان يحضر إلى منزلي بالزيتون مجموعة من الشباب بين الطالب والعامل، وذلك للتدريب النظري والاستماع إلى شرح أجزاء الأسلحة الخفيفة المختلفة، تمهيدا للذهاب إلى التدريب العملي في أرض المقابر، ثم القيام بعد ذلك بالعمليات المطلوبة منهم في القناة".
كما شارك أحرار الفرسان في الكثير من العمليات الفدائية في منطقة قناة السويس.
ويذكر السفير جمال منصور:
قاد عبدالحميد كفافي، أحد أفراد مجموعة الفرسان المؤسسين للتنظيم، بعض الأفراد الذين كانوا يقومون بالتدريب بشكل منتظم، إلى منطقة القناة وهاجم معسكر التل الكبير، ونسف السكة الحديد أمام بوابة المعسكر، مما أدى إلى انقلاب أحد القطارات المحملة بالمؤن وبعض المعدات الحربية، وعاد في الليلة نفسها، ومعه فريقه إلى القاهرة. وقد صدر بيان من محطة إذاعة لندن بتلك العملية.
كما قامت جماعات من تنظيم الضباط الأحرار، بعد انضمام تنظيم ضباط الفرسان، والإخوان الضباط، والضباط الذين كانوا ضمن تنظيم "حدتو"، بالإسهام، بدور كبير، مع مجموعات الفدائيين، في منطقة القناة في غارات حرب العصابات ضد المعسكرات وأمدوهم بالأسلحة والذخيرة، التي أمكن الحصول عليها من مخازن الجيش، وأعدوا الخطط لمعظم عمليات الفدائيين الهجومية، كما أعدت رئاسة تنظيم الضباط الأحـرار لغماً ضخماً أطلق عليه اسم "التيتل" لاستخدامه في إغراق أي سفينة في مجرى القناة لتعطيل الملاحة فيها عند اللزوم.
تصاعد العمل الفدائي في منطقة القناة:
نسف قرية كفر عبده:
قامت الكتائب الفدائية المشكلة من طلبة الجامعات والإخوان ومصر الفتاة باغتيال كثير من العسكريين البريطانيين.
وقابل الإنجليز ذلك بمنتهى العنف إلى أن أعلنوا في أحد الأيام أنهم سيدمرون قرية "كفر عبده" القريبة من السويس بحجة أنها تأوي الفدائيين الذين يحاولون نسف محطة المياه الموجودة بهذه القرية، التي تغذي المعسكرات البريطانية بالمياه.
ولما وصل التهديد إلى الحكومة أمر وزير الداخلية قوات بوليس السويس بالمقاومة والدفاع عن القرية وانضمت قوات البوليس للفدائيين ودارت معركة غير متكافئة، بين المصريين والإنجليز، ونسف الإنجليز قرية كفر عبده وأزالوها بمن فيها، ممن تبقى من الأهالي ورجال المقاومة.
معركة زيتية شل:
في 3 ديسمبر عام 1951، نشبت معركة بين المقاومة المصرية والقوات البريطانية، عند المنطقة المعروفة "بزيتية شل"، وتحصن الفدائيون بالمنازل وانضم إليهم رجال البوليس، وحاصرتهم القوات البريطانية بالدبابات، التي انتشرت حول معمل تكرير البترول الأميري وتقدم الجنود البريطانيين، يطلقون النار في جنون، ولكن المقاومة استطاعت أن تقضي على معظم الجنود، وعلى رأسهم قائدهم الضابط الإنجليزي.
وعندما وصلت أخبار هذه الخسائر إلى القيادة البريطانية، قررت الانتقام بعنف.
مذبحة الإسماعيلية:
تحرش الإنجليز برجال البوليس في مدينة الإسماعيلية، وأمرت القيادة البريطانية قوات بلوكات النظام المصرية الموجودة في دار المحافظة بالإسماعيلية بالجلاء عن الدار.
وأمر وزير الداخلية فؤاد سراج الدين هذه القوات بالمقاومة وعدم الاستسلام.
وفي يوم 25 يناير 1952، أطلق الإنجليز المحاصرون لدار المحافظة مدافعهم على الدار، وقاوم جنود البوليس عن مواقعهم في بسالة واستخدم الإنجليز جميع أنواع الأسلحة الحديثة.
واستشهد عدد كبير من البوليس لا يقل عددهم عن ثمانين جندياً فكانت مذبحة بكل أبعادها.
وسرعان ما انتشرت أخبار هذه المذبحة غير المتكافئة عن طريق الإذاعة والصحافة، في المجتمع المصري.
وأبلغت وزارة الخارجية المصرية ممثلي دول العالم المجتمعين وقتها في الجمعية العمومية للأمم المتحدة بمذكرة عن هذه الفظائع.
واستدعت مصر سفيرها في بريطانيا احتجاجاً على تصرفات السلطات البريطانية في القناة.
حريق القاهرة 26 يناير 1952:
في صباح يوم 26 يناير 1952، ساد البلاد موجة من الغضب، واحتشدت قوات بلوك النظام، الموجودة في منطقة القاهرة، لإظهار سخطهم على مذبحة الإسماعيلية، التي حدثت لإخوانهم الجنود، وتحركت هذه القوات في شبه مظاهرة، واتجهت إلى جامعة فؤاد، واجتمعوا بالطلبة هناك.
ثم أتجه جميع الطلبة ورجال البوليس، في شكل مظاهرة، إلى مبنى مجلس الوزراء، ثم إلى قصر عابدين وكانت هذه المظاهرات تنذر بالخطر، وخاصة أن بها جانباً كبيراً من رجال البوليس، المفروض فيهم حفظ الأمن والنظام، ولكن الاستياء كان قد بلغ مداه.
وتجمع الأهالي حول هذا التجمهر، وزاد عددهم، وفلت النظام عندما بدءوا يتحركون صوب ميدان الأوبرا وفجأة في ميدان الأوبرا، وبعد انضمام كثير من عناصر المخربين إلى المتظاهرين، بدأ الاعتداء على الممتلكات، ومحطات الوقود، والمحلات التجارية، واشتعلت النيران في كل شيء، في وسط البلد، حتى عم النهب، والسلب، والتخريب، وانتشرت الحرائق حتى وصلت إلى شارع الهرم، وإلى ساعة متأخرة من الليل.
اجتماع اللجنة التأسيسية:
احترقت القاهرة، وأقيلت حكومة الوفد، وبقيت الأحكام العرفية التي أعلنتها.
وكان لحريق القاهرة أثر شديد على الضباط الأحرار، ففي مساء اليوم (يوم الحريق 26 يناير 1952)، اجتمعت اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار لدراسة الموقف.
واتضح بجلاء، في هذا الاجتماع، أن الأحداث وتطورها في البلاد تسير بخطي سريعة نحو حالة من التدهور لم يسبق لها مثيل. وأن الزمام ربما يفلت، في أية لحظة، ويحدث انفجار من الشعب المتذمر، وتصبح البلاد في حالة من الفوضى لا يمكن التكهن بنتائجها.
وكان لابد من التحرك بسرعة، خاصة وأن الملك نفسه قد عرف بأمر الضباط الأحرار، وتنظيماتهم داخل الجيش، بعد تحديهم له في انتخابات مجلس إدارة نادي ضباط الجيش، التي جرت يوم 31 ديسمبر 1951، وفوزهم فيها.
وكان عليهم أن يسبقوه في التحرك، وأن يضربوا ضربتهم، ويقوموا بالانقلاب، الذي كانوا يعدون أنفسهم له، قبل أن يعمل هو على تصفيتهم نهائياً من الجيش، وتضيع عليهم الفرصة.
ويقول عبداللطيف البغدادي:
"وعندما أثيرت تلك النقاط، في هذه الظروف، التي تحيط بنا في مناقشاتنا، وضرورة تحركنا السريع والعاجل، كان جمال عبدالناصر يرى عدم الاندفاع، ويدعو إلى التأني، وكانت هذه عادته. وكان الرأي في اللجنة التأسيسية، في هذه الجلسة، يتجه إلى عدم التحرك، ويحرص على التريث والحذر، ولما وجد عبداللطيف البغدادي، أنه لا يزال هناك إصرار على عدم التحرك السريع، على الرغم من تلك الأحداث، أعلن لزملائه أعضاء اللجنة، عن انسحابه من حضور اجتماع اللجنة التأسيسية في المستقبل، حتى يقرروا أن الوقت المناسب قد حان لتنفيذ خطتنا، وأن يعتبروني في تلك الفترة جندياً لهم في سلاح الطيران.
وأنهم سيجدونني وزملائي ضباط القوات الجوية خير عون لهم حينما تحين الساعة".
كان عدم تكامل تنظيم الضباط الأحرار، هو السبب في عجزهم عن الحركة، فور وقوع حريق القاهرة. وحتى ساعتها لم يكن تنظيم الضباط الأحرار قد أخذ شكلاً هرمياً متعدد المسؤوليات منضبط السرية، ولم يكن له لائحة أو برنامج، كما أن بعض المجموعات لم تكن تواظب على دفع الاشتراكات، ولم يكن نظام الخلايا قد استقر على أسس ثابتة، وخاصة في سلاح الطيران.
ومنذ اجتماع اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار، مساء يوم الحريق، توالت المنشورات، وتأكد لجميع ضباط الجيش الوجود الفعلي، والنشاط الظاهر للضباط الأحرار، وانضمت أعداد كبيرة، من الضباط إلى تنظيم الضباط الأحرار، بحيث أصبح التنظيم قوياً وقادراً على أن يثير اهتمام القوى الداخلية والخارجية، المهتمة باستمرار نفوذها في مصر، وفي هذا الوقت، وصلت معلومات إلى تنظيم الضباط الأحرار، من الإخوان المسلمين، أن الإنجليز أبلغوهم انهم يريدون التخلص من الملك، الذي أصبح مكشوفاً ومكروها من الشعب، ولا يضمن مصالحهم، وأن الإنجليز طلبوا من الإخوان اغتيال الملك.
كما وصلت معلومات أخرى، عن طريق الملحق العسكري الأمريكي، المتصل بعلي صبري، مدير مخابرات الطيران، "أن في حالة تحرك الجيش المصري لأي حركة تغيير، فإن الأمريكان سيطلبون من الإنجليز عدم التدخل، إذا كانت هذه الحركة غير شيوعية، ولا تهدد مصالحهم.
واستقر رأي الضباط الأحرار على التحرك، في شهر نوفمبر 1952، وفي هذا التاريخ، كذلك، حاول الوفد أن يستعين بشباب ضباط الجيش، وقام الضابط حسن علام، لحساب الوفد، بطبع منشورات، وقُبض عليه، وحددت الحكومة إقامة فؤاد سراج الدين، وعبدالفتاح حسن.
وعلى أثر ذلك، اتصل الضباط الأحرار، بأحد أقارب النحاس باشا، لمحاولة الاتفاق مع الوفد، والتعاون معه، ورد النحاس باشا بأنه لا يستطيع أن يدخل لعبة الضباط، لأنه لا يريد أن يخسر أوراقه مع الأمريكان.
المنشورات بعد الحريق:
كان الضباط الأحرار يعتمدون على منشوراتهم، التي لم تتوقف، والتي تبادل مسؤولية طبعها وتوزيعها، عدد من الضباط الأحرار، منهم عبدالرحمن عنان، وحمدي عبيد، وزير الإدارة المحلية فيما بعد، وخالد محيي الدين (انظر ملحق منشور صادر باسم الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني إلى ضباط الجيش).
وفي هذا تفسير للأفكار والآراء التي حفلت بها المنشورات والتي كانت تعكس الاتجاه الحقيقي لمجموعة الضباط الأحرار.
ظهر بعد حريق القاهرة منشور يقول:
أيها الضباط..
"إن الخونة المصريين يعتمدون عليكم وعلى جيشكم لتنفيذ أهدافهم، وهم يظنونكم أداة طيعة، في أيديهم، للبطش بالشعب، وإرغامه على قبول ما يكره، فليفهم هؤلاء الخونة أن مهمة الجيش هي الحصول على استقلال البلاد وصيانته، وأن وجود الجيش في شوارع القاهرة إنما هو لإحباط قرارات الخونة، التي تهدف إلى التدمير والتخريب، ولكننا لا نقبل ضرب الشعب، ولن نطلق رصاصة واحدة على مظاهرة شعبية، ولن نقبض على الوطنيين المخلصين.
يجب أن يفهم الجميع أننا مع الشعب الآن، ومع الشعب دائماً، ولن نستجيب إلاّ لنداء الوطن".
وفي منشور آخر صدر في فترة وزارة أحمد نجيب الهلالي الأولى (من أول مارس 1952 وحتى 28 يونيه 1952) ما يأتي:
"توالت مؤامرات الاستعمار الأنجلوـ أمريكي، في الفترة الأخيرة في مصر، لمحاولة القضاء على الحركة الوطنية، ولصرف أنظار الشعب، عن الكفاح المسلح ضد الاستعمار في القناة، إلى مشاكل داخلية في القاهرة، فيما بعد أن أعلنت حكومة الوفد قطع المفاوضات، وإلغاء المعاهدة، ورفض حلف الشرق الأوسط الرباعي الاستعماري، وتكوين الكتائب الوطنية، اشتدت جذوة الوطنية في البلاد حتى كادت أن تصل مصر إلى حقوقها الكاملة، دبر الاستعمار وأذنابه انقلاب 26 يناير الماضي وجاءت حكومة علي ماهر وبدأت المفاوضات من جديد، وكان الاستعمار والخونة المصريون يأملون كثيراً من علي ماهر التسليم تسليماً كاملاً بمطالبهم، بقبول واستعمال الأحكام العرفية، للتنكيل تنكيلاً واسعاً بالشعب، ولكن خاب رجاؤهم، ولم يجبهم علي ماهر إلى مطالبهم، فكان لابد من انقلاب جديد لتحقيق الأهداف الاستعمارية السابقة، وتحويل الحركة إلى الداخل، والقيام بحركة تطهير واسعة بالبلاد بحجة تقوية الصفوف قبل مجابهة الاستعمار. وهكذا وصل الهلالي إلى الحكم بعد تدبير سابق. وقد جاء الهلالي وأعلن برنامج الوزارة بصراحة، وأن مهمتها الرئيسية هي التطهير، وقد تناسى أن الفساد الأكبر مصدره الاستعمار، وأنه لا يمكن القضاء على الفساد الداخلي، إلاّ إذا قُضى على أسبابه ومصدره، إن من أهداف الضباط الأحرار الكفاح ضد الفساد، وضد الرشوة، والمحسوبية، واستغلال النفوذ، ولكن يجب ألاّ نتجه إلى ذلك، إلاّ بعد القضاء على الاستعمار".
أبرزت المنشورات السابقة، اتجاهات وطنية تتعارض تماماً مع التخطيط الأمريكي للسياسة المصرية، بل وربطت بين الاستعمارين البريطاني والأمريكي، في محاولتهما القضاء على الحركة الوطنية، وصرف أنظار الشعب عن الكفاح المسلح.
المصدر: