المدخل الثاني:
الأصول الجامعة للابتداع:
وهي ثلاثة أصول:
الأصل الأول: التقرب إلى الله بما لم يشرع.
الأصل الثاني: الخروج على نظام الدين.
الأصل الثالث: الذرائع المفضية إلى البدعة.
********************************
توطئة:
لما كانت قواعد معرفة البدع تجمعها أصول ثلاثة اقتضى ذلك الإشارة إلى هذه الأصول قبل الشروع في بيان القواعد.
فأقول ومن الله أستمد الإعانة والتوفيق:
قد عُلم مما تقدم في حد البدعة أن المعني الكلي للابتداع هو الإحداث في الدين.
ولفظ الدين يشمل جانبين:
الجانب الأول: التقرب إلى الله بما شرعه سبحانه من الدين.
والجانب الثاني: الانقياد لدين الله بالخضوع.
هذا ما دلَّ عليه حديث عائشة رضي الله عنها: «مَنْ أحدث في أمرنا هذا»؛ إذ المراد بأمره ها هنا: دينه وشرعه.
وقد ورد في بعض ألفاظ هذا الحديث: «مَنْ أحدث في ديننا ما ليس فيه فهو رد» [1].
والمراد بالدين : دين الإسلام ، وهو حكم الله وشرعه ، والانقياد لشريعته بالطاعة، قال تعالى: "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ" يقال: دنتهم فدانوا: أي قهرتهم فأطاعوا [2].
من هنا يُعلم أن الإحداث في الدين يحصل بواحد من أصلين:
الأصل الأول : التقرب إلى الله بما لم يشرع .
ذلك أن القاعدة المطردة في هذا الدين أن التقرب إلى الله لا يكون إلا بفعل ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من العبادة فمن تعبد الله بشيء لم يشرعه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فقد ابتدع .
والأصل الثاني : الخروج على نظام الدين .
ذلك أن القاعدة المطردة في هذا الدين هي وجوب الرجوع إلى هذه الشريعة ، والانقياد إلى أحكامها بالخضوع والطاعة ، فمن أعطى غير شريعة الإسلام حق الانقياد والطاعة فقد ابتدع .
فهذا أصلان جامعان للابتداع .
ويلحق بهذين الأصلين أصلٌ ثالث ، وهو :
الذرائع المفضية إلى البدعة .
ذلك أن الإحداث في الدين كما يقع ابتداء فقد يقع مآلاً ، وذلك بفعل أمر لا إحداث فيه البتة : لا من جهة التقريب إلى الله بما لم يشرع ، ولا من جهة الخروج على نظام الدين ، لكن الإحداث في الدين وقع بفعل هذا الأمر في ثاني الحال ؛ لكونه يفضي في المآل إلى الإحداث ، فأُعطيت الذرائع المؤدية إلى البدعة حكم البدعة .
وقد أشار إلى هذا الأصل رواية : « من عمل عملاً » التي تدل على أن الابتداع قد يحصل ممن قام بالإحداث وابتدأه ، وقد يحصل ممن كان تابعًا فيه غير إحداث منه ولا قصد [3] .
فهذه ثلاثة أصول جامعة :
أ التقرب إلى الله بما لم يشرع .
ب الخروج على نظام الدين .
ج الذرائع المفضية إلى البدعة .
وإليك فيما يأتي مزيد بيان لهذه الأصول الثلاثة :
الأصل الأول التقرب إلى الله بما لم يشرع
معنى هذا الأصل: أن كل من تعبد الله بشيء لم يشرعه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فقد جاء ببدعة ضلالة؛ إذ لا يتقرب إلى الله إلا بما شرعه من طاعات، ولا يعبد سبحانه إلا بما أذن به من عبادات.
ذلك أن الأصل في العبادات المنع ؛ إذ هي مبنية على التوقيف . قال سبحانه : ? أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ? وبهذا يعلم أن كل من دان بشيء لم يشرعه الله فذاك بدعة [4] .
قال الشاطبي: ولا معنى للبدعة إلا أن يكون الفعل في اعتقاد المبتدع مشروعًا وليس بمشروع [5].
والتقرب إلى الله بما شرع أصل عظيم من أصول هذا الدين ، بل إنه مقتضى توحيد الله والإيمان به ، وهو توحيد الإتباع ، وهو أحد شرطي العمل الصالح إذ لا بد لقبول العمل من شرطين : الإخلاص والمتابعة .
والمقصود أن الابتداع يقع من جهة هذا الأصل في كل ما يمكن أن يتقرب به إلى الله ، فيشمل التقرب إلى الله بنوعين من العبادات :
أولهما : التقرب إلى الله بالعادت أو بالمعاصي ، وهذه هي العبادات المخترعة من جهة أصلها ووصفها .
وهذا النوع من الإحداث لا يكون بدعة إلا مع قصد القربة .
وثانيهما : التقرب إلى الله بالعبادات الثابتة من جهة أصلها ، المخترعة من جهة وصفها .
وهذا النوع - حتى يكون بدعة - لا يفتقر إلى قصد القربة ، بل يقع بدعة على كل حال ؛ إذ لا يتصور في أمور العبادات غير قصد القربة .
وأما افتراض عدم قصد القربة في العبادات فهو افتراض تخيلي لا يمكن وقوعه .
وبذلك يعلم أن الإحداث في العبادات المحضة بدعة على كل حال ؛ سواء قصد المُحدِث بعبادته القربة أو لم يقصدها .
والابتداع الحاصل من جهة هذا الأصل - في كلا النوعين - يتأتّى من العبَّاد والنسَّاك والمنتسبين إلى الدين .
الأصل الثاني الخروج على نظام الدين
معنى هذا الأصل: أن كل من جعل لغير شريعة الإسلام حقَّ الانقياد والطاعة فقد جاء ببدعة ضلالة ؛ إذ الانقياد والإذعان لا ينبغي أن يكون لشيء إلا لدين الإسلام.
قال الشاطبي: وكذلك جاء «لا حمى إلا حمى الله ورسوله » [6] ثم جرى بعض الناس ممن آثر الدنيا على طاعة الله ؛ على سبيل حكم الجاهلية "وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ".
ولكن الآية والحديث وما كان في معناهما أثبت أصلاً في الشريعة مطردًا لا ينخرم ، وعامًا لا يتخصص ، ومطلقًا لا يتقيد ، وهو أن الصغير من المكلفين والكبير ، والشريف والدنيء ، والرفيع والوضيع في أحكام الشريعة سواء .
فكل من خرج عن مقتضى هذا الأصل خرج من السنة إلى البدعة ، ومن الاستقامة إلى الاعوجاج [7] .
فالأصل المستقر : أن يكون الدين والخضوع لله وحده ، فمن أحدث شيئًا يخرج به عن دين الله وشرعه فهو مبتدع ، سواء كان المُحدَث رأيًا أو عادة أو تعاملاً .
والابتداع الحاصل من جهة هذا الأصل يتأتّى من أصحاب الرئاسات وأهل المطامع والأهواء .
قال شارح الطحاوية: فالملوك الجائرة يعترضون على الشريعة بالسياسات الجائرة ، ويعارضونها بها، ويقدمونها على حكم الله ورسوله.
وأحبار السوء ، وهم العلماء الخارجون عن الشريعة بآرائهم وأقيستهم الفاسدة ، المتضمنة تحليل ما حرم الله ورسوله ، وتحريم ما أباحه ، واعتبار ما ألغاه ، وإلغاء ما اعتبره ، وإطلاق ما قيَّده ، وتقييد ما أطلقه ، ونحو ذلك .
والرهبان وهم جهال المتصوفة، والمعترضون على حقائق الإيمان والشرع بالأذواق والمواجيد والخيالات والكشوفات الباطلة الشيطانية، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله، وإبطال دينه الذي شرعه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم [8].
والابتداع من جهة هذا الأصل واقع على كل حال ، حتى لو لم يقصد مُحدِث البدعة بفعلها معارضة الشرع والخروج على نظام الدين .
ولا يشترط أيضًا في مثل هذه المحدثات حتى تكون بدعة أن يقصد بها فاعلها التقرب إلى الله ، فهي بدعة دون هذا القصد .
أما إذا اقترن بهذا النوع من المحدثات قصد القربة فإنها تنتقل بهذا القصد إلى الأصل الأول ، وهو التقرب إلى الله بما لم يشرع .
وبذلك يعلم الفرق بين هذين الأصلين : أصل التقرب إلى الله بما لم يشرع ، وأصل الخروج على نظام الدين .
ذلك أن الإحداث في الأصل الأول إنما حصل بقصد الدخول تحت حكم الشريعة ، والانقياد لها بالطاعة والخضوع ، فالمحدِث ها هنا يريد التقرب ، لكنه وقع في الإحداث بتقربه هذا ، وذلك لأنه تقرَّبَ إلى الله بما لم يشرع
أما الإحداث في الأصل الثاني فإنه يوجد دون قصد التقريب ، فالمحدِث ها هنا لا يريد بإحداثه التقرب إلى الله ؛ إذ هو لا يقصد الدخول تحت حكم الشريعة ، أو الانقياد لدين الله بالخضوع ، لكنه بإحداثه هذا خرج – من حيث قصد أو لم يقصد – عن حكم هذه الشريعة ونظام هذا الدين .
الأصل الثالث الذرائع المفضية إلى البدعة
معنى هذا الأصل: أن كل عمل – ولو كان مشروعًا – يُفضي إلى الإحداث في الدين فهو ملحق بالبدعة إن لم يكن بدعة .
قال ابن الجوزي : فإن ابُتدع شيء لا يخالف الشريعة ، ولا يوجب التعاطي عليها ؛ فقد كان جمهور السلف يكرونه ، وكانوا ينفرون من كل مبتدَع وإن كان جائزًا ؛ حفظًا للأصل ، وهو الإتباع [9] .
وهذا ما يعرف بقاعدة سد الذرائع ، وهو أصل شرعي معتبر ، مبناه على الاحتياط وحماية أحكام الدين [10] .
قال ابن تيمية: والذريعة: ما كان وسيلة وطريقًا إلى الشيء ، لكن صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم ، ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة [11].
مثال ذلك: أن الله نهى عن سب آلهة الكفار مع كونه من مقتيضات الإيمان بألوهيته سبحانه ، وذلك لكون هذا السب ذريعة إلى أن يسبوا الله سبحانه وتعالى عدوًا وكفرًا على وجه المقابلة . قال تعالى: "وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ".
وبذلك يعلم أن ما أدى إلى الممنوع كان ممنوعًا؛ إذ للوسائل أحكام المقاصد، ولذا فإن ما أفضى إلى البدعة وأدّى إليها فهو ملحق بها، حكمه حكمها.
إلا أنه لا بد من التبيُّن في إطلاق الحكم على عمل ما من الأعمال لمجرد إفضائه إلى الابتداع بأنه ذريعة إلى البدعة ؛ فإن هناك شروطًا لا بد من مراعاتها في هذا الحكم .
شرط اعتبار الفعل ذريعة إلى البدعة :
يشترط في أي فعل حتى يعتبر ذريعة مفضية إلى البدعة ؛ فيلتحق بها شروط ثلاثة :
الشرط الأول : أن يكون هذا الفعل مفضيًا إلى البدعة .
بيان ذلك أن العمل المشروع يفضي إلى البدعة ويصير ذريعة إليها بواحد من أمور ثلاثة [12] :
1- إظهار هذا العمل – ولاسيما ممن يُقتدى به – وإشهاره في مجامع الناس ، كإقامة النافلة جماعة في المساجد .
2- المداومة على هذا العمل والالتزام به ، كالتزام قراءة سورة السجدة في صلاة الفجر من يوم الجمعة .
3- اعتقاد فضيلة هذا العمل ، وتحري فعله عن قصد وعمد ، وقد سئل الإمام أحمد : تكره أن يجتمع القوم ، يدعون الله ويرفعون أيديهم ؟ قال : ما أكرهه للإخوان ؛ إذا لم يجتمعوا على عمد ، إلا أن يكثروا [13]
قال الشاطبي: وبالجملة: فكل عمل أصله ثابت شرعًا، إلا أن في إظهار العمل به والمداومة عليه ما يُخاف أن يعتقد أنه سنة؛ فتركه مطلوب في الجملة من باب سد الذرائع [14].
الشرط الثاني: أن يكون إفضاء هذا الفعل إلى البدعة مقطوعًا به أو غالبًا.
أما إن كان إفضاء هذا الفعل إلى البدعة - حسب العادة - نادرًا أو قليلاً فإنه لا عبرة بالقليل النادر ، إذ الأحكام الشرعية إنما تبنى على الكثير الغالب .
مثال ذلك: استلام الحجر الأسود وتقبيله مع كونه مشروعًا فإنه قد يُفضي - عند البعض - إلى الابتداع ، وذلك باعتقاد النفع والضر في هذا الحجر ، ودعائه من دون الله ، لكن لما كان هذا الإفضاء نادرًا لم يلتفت إليه .
وكذلك تحري الصلاة عند الأسطوانة التي في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فإن هذا سنة ؛ لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى الصلاة عندها [15] .
والمقصود أن الذرائع التي تفضي إلى البدعة لا تمنع بكل حال ، وإنما يمنع من هذه الذرائع ما كان إفضاؤه إلى البدعة غالبًا معتادًا .
الشرط الثالث : ألا يترتب على اعتبار هذه الذريعة المفضية إلى البدعة بسدها والمنع منها مفسدة أخرى أعظم من مفسدة البدعة .
أما إن ترتب على سد الذريعة المفضية إلى البدعة الوقوعُ في مفسدة أعظم فالواجب ها هنا ارتكاب أدنى المفسدتين دفعًا لأعلاهما ، ويكون ذلك بارتكاب مفسدة البدعة ؛ إذ هي أدنى المفسدتين.
مثال ذلك: أن الإمام أحمد قيل له عن بعض الأمراء: إنه أنفق على مصحف ألف دينار فقال: دعهم، فهذا أفضل ما أنفقوا فيه الذهب.
قال ابن تيمية تعليقًا على ذلك: مع أن مذهبه [أي الإمام أحمد] أن زخرفة المصاحف مكروهة.
وقد تأوَّل بعض الأصحاب أنه أنفقها في تجويد الورق والخط .
وليس مقصود أحمد هذا، إنما قصده أن هذا العمل فيه مصلحة، وفيه أيضًا مفسدة كُره لأجلها.
فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا وإلا اعتاضوا بفساد لا صلاح فيه ؛ مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور ؛ من كتب الأسمار أو الأشعار ، أو حكمة فارس والروم [16] .
هذه هي الشروط اللازم توفرها في أي فعل من الأفعال حتى يحكم عليه بأنه ذريعة إلى البدعة .
ثم إنه لا يشترط في المنع من الذرائع أن يوجد من فاعلها القصد إلى البدعة .
ذلك أن الذرائع لا يعتبر في سدها القصد والنية ، بل المعتبر في سدها ومنعها إنما هو الإفضاء المعتاد إلى المفسدة فحسب ، ولا يلتفت حينئذ إلى كون المتذرِع قاصدًا للمفسدة أو غير قاصد لها ، عالمًا بها أو غير عالم .
ومن هنا كانت البدعة في هذا الأصل - غالبًا - معدودة في البدع الإضافية ، وذلك لأن الذريعة إلى البدعة حكمها من حيث الأصل غالبًا - أنها فعل مأذون فيه شرعًا ، أو فعل مطلوب .
ومن الأمثلة التي توضِّح هذه الشروط ما ذكره أبو شامة، حيث يقول: وجرت عادة الناس أنهم يصلون بين الأذانين يوم الجمعة متنفلين بركعتين أو أربع ونحو ذلك إلى خروج الإمام، وذلك جائز ومباح وليس بمنكر من جهة كونه صلاة، وإنما المنكر اعتقاد العامة منهم ومعظم المتفقهة منهم أن ذلك سنة للجمعة قبلها، كما يصلون السنة قبل الظهر، ويصرِّحون في نيتهم [17] بأنها سنة الجمعة [18].
فهذا مثال خاص بصلاة الركعتين قبل الجمعة ، وإليك فيما يأتي بيان انطباق الشروط السابقة على هذا المثال :
يشترط في اعتبار الفعل ذريعة إلى البدعة أولاً:
أن يكون هذا الفعل مفضيًا إلى البدعة ، وفي هذا المثال نجد أن صلاة الركعتين قبل الجمعة صارت مفضية إلى البدعة بسبب إظهارها في مجامع الناس والمداومة عليها ، فإنه قال: جرت عادة الناس ثم إن فعل هاتين الركعتين إنما يكون في المسجد الجامع الذي يشهده جمع كبير من الناس .
ويشترط ثانيًا: أن يكون إفضاء هذا الفعل إلى البدعة غلبًا لا نادر ، وفي هذا المثال نجد أن عامة الناس ومعظم المتفقهة منهم صاروا بسبب فعل هاتين الركعتين إلى اعتقاد أنها سنة الجمعة القبلية ، كسنة الظهر ، بل إنهم يصرحون في نيتهم بأنها سنة الجمعة .
ويشترط ثالثًا : ألا يترتب على سد ذريعة البدعة مفسدة أعظم من مفسدة البدعة ، وفي هذا المثال نرى أن المفسدة المترتبة على ترك هاتين الركعتين أهون من مفسدة البدعة ؛ ذلك أن فعل هاتين الركعتين داخل تحت التنفل المطلق ، فلا ضرر إن تُركت ، بخلاف اعتقاد الناس أن هاتين الركعتين سنة راتبة للجمعة قبلها فإن هذا مخالفة واضحة للأمر الشرعي ، وهو أنْ ليس للجمعة قبلها سنة راتبة .
وبذلك يمكن القول : إن صلاة الركعتين قبل الجمعة يؤدي إلى مفسدة شرعية ، وهي إيقاع العامة في الاعتقاد الخاطئ في أنها سنة راتبة للجمعة قبلها ، وهذا الاعتقاد عين البدعة ؛ فصارت هذه الصلاة المفضية إلى هذا الاعتقاد ذريعة إلى البدعة يُطلب سدها .
سواء أكان فاعل هاتين الركعتين يعلم بهذه المفسدة أم لا يعلم ، وسواء أكان قاصدًا لها أم غير قاصد .
ذلك أن سدَّ الذرائع لا ينظر فيه إلى كون المتذرِع قاصدًا أو غير قاصد ، ولا إلى كونه عالمًا أو غير عالم .
ومن الأمثلة على تطبيق السلف لقاعدة سد الذرائع في باب البدعة [19] :
1- امتناع عثمان رضي الله عنه عن قصر الصلاة وهو مسافر بمنى، فيقال له: أليس قصرت مع النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: بلى، ولكني إمام الناس، فينظر إليَّ الأعراب وأهل البادية أصلي ركعتين فيقولون هكذا فرضت [20].
قال الطرطوشي تعليقًا على ذلك: تأملوا -رحمكم الله- فإن في القصر قولين لأهل الإسلام:
منهم من يقول: فريضة..، ومنهم من يقول سنة...
ثم اقتحم عثمان ترك الفرض أو السنة لمّا خاف من سوء العاقبة، وأنْ يعتقد الناس أن الفرض ركعتان [21].
2- ترك بعض الصحابة رضي الله عنهم الأضحية خشية أن يظن أنها واجبة، نُقل ذلك عن أبي بكر وعمر وابن عباس رضي الله عنهم، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إني لأترك أضحيتي وإني لمن أيسركم؛ مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة [22].
قال الطرطوشي تعليقًا على ذلك: انظروا –رحمكم الله– فإن القول في هذا الأثر كالقول فيما قبله؛ فإن لأهل الإسلام قولين في الأضحية:
أحدهما: سنة، والثاني: واجبة.
ثم اقتحم الصحابة ترك السنة؛ حذرًا أن يضع الناس الأمر على غير وجهه، فيعتقدونها فريضة [23].
3- ما نُقل عن الإمام مالك رحمه الله تعالى.
قال ابن وضاح: وقد كان مالك يكره كل بدعة وإن كانت في خير، ولقد كان مالك يكره المجيء إلى بيت المقدس خيفة أن يتخذ ذلك سنة، وكان يكره مجيء قبور الشهداء، ويكره مجيء قباء خوفًا من ذلك، وقد جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالرغبة في ذلك، ولكن لما خاف العلماء عاقبة ذلك تركوه [24].
ومن المفاسد المترتبة على إهمال العمل بقاعدة سد الذرائع في باب البدعة [25] :
1- مخالفة عمل السلف الصالح، فقد كانوا –كما تمَّ نقل ذلك عنهم– يتركون أمورًا جائزة أو مندوبًا إليها، ويكرهون فعلها خوفًا من البدعة.
2- اعتقاد العوام ومن لا علم عنده ما ليس بفريضة فريضة، أو ما ليس بسنة سنة، أو ما ليس بمشروع أنه مشروع، وهذا فساد عظيم، لأن اعتقاد الأمر على خلاف ما هو عليه، والعمل به على هذا الحد نحوٌ من تبديل الشريعة، والخروج على أحكامها.
ومما يحسن التنبيه عليه: أن ظهور البدع وانتشارها يعد ضربًا من تبديل الشريعة بسبب طول الزمان واندراس الحق، ويعرف هذا في أصناف ثلاثة:
الصغار حينما ينشأون على البدعة ويكبرون عليها، والكفار إذا أسلموا عليها، والأعراب وأهل البادية إذا تعلَّموها وحملوها معهم.
وإلحاق ذرائع البدعة بالبدعة وتسميتها باسمها إنما يصح من جهة تنزيل الشيء منزلة ما يُفضي إليه.
وهذا الإلحاق يتفاوت بحسب مرتبة الذريعة وقوة إفضائها؛ فإن كانت البدعة كبيرة، وكان الإفضاء إليها قويًا كانت الذريعة من قبيل الكبائر، وإن كانت البدعة دون ذلك فكذلك الذريعة المفضية إليها.
وبذلك يعلم أن إطلاق البدعة على الذريعة فيه تساهل وتجوُّز، وإنما صير إليه ضرورة المحافظة على أحكام الشريعة من الإحداث [26].
----------------------------
([1]) ذكر هذا اللفظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/ 176) .
([2]) انظر المفردات للراغب (323) ، والنهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 148) .
([3]) انظر الإبداع للشيخ علي محفوظ (46) .
([4]) الاستقامة (1/ 42) .
وانظر مجموع الفتاوى (4/ 107 ، 108) .
([5]) الاعتصام (2/ 108) .
([6]) أخرجه البخاري (5/ 44) برقم 2370 .
([7]) الاعتصام (2/ 48 ، 49) .
([8]) شرح العقيدة الطحاوية (222) .
([9]) تلبيس إبليس (16) .
([10]) انظر الفروق (2/ 32-33) وإغاثة اللهفان (1/ 361-370) ، وإعلام الموقعين (3/ 135-159) ، والموافقات (2/ 390) .
([11]) الفتاوى الكبرى (6/172) .
([12]) انظر الاعتصام (2/28 ، 31) ، وللاستزادة ينظر منه (2/22-33) .
([13]) اقتضاء الصراط المستقيم (2/630) ، والأمر بالإتباع (180) .
([14]) الاعتصام (2/31) .
([15]) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (2/746 ، 748) ، والحديث أخرجه البخاري (1/577) برقم 502 ، ومسلم (4/226) .
([16]) اقتضاء الصراط المستقيم (2/617- 618) .
([17]) لم يرد ما يدل على صحة التلفظ بالنية في الصلاة ، بل النية محلها القلب .
([18]) الباعث (96) .
([19]) انظر الحوادث والبدع (42-44) ، والباعث (53- 54) ، والاعتصام (2/ 31-35) .
([20]) أخرجه أبو داود (2/ 199 ، 200 برقم 1961 ، 1964) . وانظر الحوادث والبدع (42) ، والباعث (57) ، والاعتصام (2/ 31 ، 32 ، 106) .
([21]) الحوادث والبدع (43) .
([22]) الحوادث والبدع (43) ، والباعث (57) ، والاعتصام (2/107) .
([23]) الحوادث والبدع (43 -44) .
([24]) البدع والنهي عنها (52)، وانظر الاعتصام (1/ 347) .
([25]) انظر الحوادث والبدع (66-70) ، والباعث (38) ، والاعتصام (1/ 346، 348) .
([26]) انظر الاعتصام (1/ 306، 307، 322، 323، 2/ 21، 22، 35 ).