المدخل الأول حدُّ البدعة.
وفيه ثمان مسائل:
1- معنى البدعة في اللغة.
2- معنى البدعة في الشرع.
3- موازنة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي.
4- العلاقة بين الابتداع والإحداث.
5- العلاقة بين البدعة والسنة.
6- العلاقة بين البدعة والمعصية.
7- العلاقة بين البدعة والمصلحة المرسلة.
8- خصائص البدعة.
********************
المسألة الأولى:
معنى البدعة في اللغة [1].
تأتي مادة بدع في اللغة على معنيين:
أحدهما: الشيء المخترع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى: "قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ".
وجاء على هذا المعنى قول عمر رضي الله عنه: نعمت البدعة [2]، وقول غيره من الأئمة؛ كقول الشافعي: البدعة بدعتان: بدعة محمودة وبدعة مذمومة؛ فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم [3].
قال ابن رجب: وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية، فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج، ورآهم يصلون كذلك فقال: نعمت البدعة هذه [4].
والمعنى الثاني: التعب والكلال، يقال: أبدعت الإبل إذا بركت في الطريق من هزال أو داء أو كلال، ومنه قول الرجل الذي جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني أُبدع بي فاحملني فقال: « ما عندي » فقال رجل: يا رسول الله أنا أدله على من يحمله فقال رسول الله: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» [5].
وهذا المعنى رجع إلى المعنى الأول؛ لأن معنى أبدعت الإبل: بدأ بها التعب بعد أن لم يكن بها.
-------------------------------
([1]) انظر النهاية في غريب الحديث والأثر (1/106، 107)، ومختار الصحاح (43، 44)، والمصباح المنير (38)، والاعتصام (1/36).
([2]) أخرجه البخاري (4/250) برقم 2010.
([3]) أخرجه أبو نعيم في الحلية (9/113).
([4]) جامع العلوم والحكم (1/129).
([5]) أخرجه مسلم (13/38 - 39).
**************************
المسألة الثانية معنى البدعة في الشرع:
وردت في السنة المطهرة أحاديث نبوية فيها إشارة إلى المعنى الشرعي للفظ البدعة، فمن ذلك:
1- حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وفيه: قوله صلى الله عليه وسلم: «وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» [1].
2- حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: «إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» [2].
وإذا تبيَّن بهذين الحديثين أن البدعة هي المحدثة استدعى ذلك أن يُنظر في معنى الإحداث في السنة المطهرة، وقد ورد في ذلك:
3 - حديث عائشة رضي الله عنها وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» [3].
4- وفي رواية: «مَنْ عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد » [4].
هذه الأحاديث الأربعة إذا تؤملت وجدناها تدل على حد البدعة وحقيقتها في نظر الشارع.
ذلك أن للبدعة الشرعية قيودًا ثلاثة تختص بها، والشيء لا يكون بدعة في الشرع إلا بتوفرها فيه، وهي:
1- الإحداث.
2- أن يضاف هذا الإحداث إلى الدين.
3- ألا يستند هذا الإحداث إلى أصل شرعي؛ بطريق خاص أو عام.
وإليك فيما يأتي إيضاح هذه القيود الثلاثة:
1 - الإحداث:
والدليل على هذا القيد قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث»، وقوله: «وكل محدثة بدعة».
والمراد بالإحداث: الإتيان بالأمر الجديد المخترع، الذي لم يسبق إلى مثله [5].
فيدخل فيه كل مخترع، مذمومًا كان أو محمودًا، في الدين كان أو في غيره.
وبهذا القيد خرج ما لا إحداث فيه أصلاً؛ مثل فعل الشعائر الدينية كالصلوات المكتوبات، وصيام شهر رمضان ، ومثل الإتيان بشيء من الأمور الدنيوية المعتادة كالطعام واللباس ونحو ذلك.
ولما كان الإحداث قد يقع في شيء من أمور الدنيا، وقد يقع في شيء من أمور الدين؛ تحتَّم تقييد هذا الإحداث بالقيدين الآتيين:
2- أن يضاف هذا الإحداث إلى الدين.
والدليل على هذا القيد قوله صلى الله عليه وسلم: «في أمرنا هذا».
والمراد بأمره ها هنا: دينه وشرعه [6].
فالمعنى المقصود في البدعة: أن يكون الإحداث من شأنه أن يُنسب إلى الشرع ويضاف إلى الدين بوجه من الوجوه، وهذا المعنى يحصل بواحد من أصول ثلاثة: الأصل الأول: التقرب إلى الله بما لم يشرع، والثاني: الخروج على نظام الدين، ويلحق بهما أصل ثالث، وهو الذرائع المفضية إلى البدعة.
وبهذا القيد تخرج المخترعات المادية والمحدثات الدنيوية مما لا صلة له بأمر الدين، وكذلك المعاصي والمنكرات التي استحدثت، ولم تكن من قبل، فهذه لا تكون بدعة، اللهم إلا إن فُعلت على وجه التقرب، أو كانت ذريعة إلى أن يظن أنها من الدين.
3- ألا يستند هذا الإحداث إلى أصل شرعي؛ بطريق خاص ولا عام.
والدليل على هذا القيد: قوله صلى الله عليه وسلم: «ما ليس منه»، وقوله: «ليس عليه أمرنا».
وبهذا القيد تخرج المحدثات المتعلقة بالدين مما له أصل شرعي، عام أو خاص، فمما أُحدث في الدين وكان مستندًا إلى دليل شرعي عام: ما ثبت بالمصالح المرسلة؛ مثل جمع الصحابة رضي الله عنهم للقرآن، ومما أُحدث في هذا الدين وكان مستندًا إلى دليل شرعي خاص: إحداث صلاة التراويح جماعة في عهد عمر رضي الله عنه فإنه قد استند إلى دليل شرعي خاص.
ومثله أيضًا إحياء الشرائع المهجورة، والتمثيل لذلك يتفاوت بحسب الزمان والمكان تفاوتًا بيِّنًا، ومن الأمثلة عليه ذكر الله في مواطن الغفلة.
وبالنظر إلى المعنى الغوي للفظ الإحداث صحَّ تسمية الأمور المستندة إلى دليل شرعي محدثات؛ فإن هذه الأمور الشرعية اُبتدئ فعلها مرة ثانية بعد أن هُجرت أو جُهلت ، فهو إحداث نسبي.
ومعلوم أن كل إحداث دل على صحته وثبوته دليل شرعي فلا يسمى – في نظر الشرع – إحداثًا، ولا يكون ابتداعًا، إذ الإحداث والابتداع إنما يطلق -في نظر الشرع- على ما لا دليل عليه.
وإليك فيما يأتي ما يقرر هذه القيود الثلاثة من كلام أهل العلم:
قال ابن رجب: فكل من أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين ، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه ؛ فهو ضلالة، والدين منه بريء [7].
وقال أيضًا: والمراد بالبدعة: ما أُحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، فأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعًا، وإن كان بدعة لغةً [8].
وقال ابن حجر: والمراد بقوله: « كل بدعة ضلالة » ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام [9].
وقال أيضًا: وهذا الحديث [ يعني حديث « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » ]. معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده؛ فإن من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه» [10].
التعريف الشرعي للبدعة: يمكننا مما سبق تحديد معنى البدعة في الشرع بأنها ما جمعت القيود الثلاثة المتقدمة، ولعل التعريف الجامع لهذه القيود أن يقال: البدعة هي: ما أُحدث في دين الله، وليس له أصل عام ولا خاص يدل عليه.
أو بعبارة أوجز: ما أُحدث في الدين من غير دليل.
-----------------------------
([1]) أخرجه أبو داود في سننه، واللفظ له (4/201) برقم 4607) وابن ماجة (1/15) برقم 42) ، والترمذي (5/44) برقم 2676) وقال : هذا حديث حسن صحيح ، والحديث صححه الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة لابن أبي عاصم (17) برقم 27 .
([2]) أخرجه بهذا اللفظ النسائي في سننه (3/188) ، والحديث أصله في مسلم (3/153) ، وللاستزادة راجع كتاب خطبة الحاجة للألباني .
([3]) أخرجه بخاري (5/301) برقم 2697 ، ومسلم (2/16) واللفظ له .
([4]) أخرجه مسلم (12/16) .
([5]) سواء في ذلك : ما أُحدث ابتداء أول مرة ، إذ لم يسبقه مثيل ؛ كعبادة الأصنام أول وجودها ، وهذا هو الإحداث المطلق .
وما أُحدث ثانيًا ، وقد سبق إلى مثله ، ففُعل بعد اندثار ؛ كعبادة الأصنام في مكة ، فإن عمرو بن لحي هو الذي ابتدعها هنا لك ، وهذا هو الإحداث النسبي .
ومنه: كل أُضيف إلى الدين وليس منه ، كما دل على ذك حديث: «مَنْ أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» فيسمى محدثًا بالنسبة إلى الدين خاصة، وهو قد لا يكون محدثًا بالنسبة إلى غير الدين.
([6]) انظر جامع العلوم والحكم (1/177) .
([7]) جامع العلوم والحكم (2/128) .
([8]) المصدر السابق (2/127) .
([9]) فتح الباري (13/ 254).
([10]) المصدر السابق (5/ 302)، وانظر أيضًا معارج القبول (2/ 426)، وشرح لمعة الاعتقاد (23).
*******************
المسألة الثالثة موازنة بين المعنى اللغوي للبدعة
والمعنى الشرعي:
وذلك من وجهين:
1- أن المعنى اللغوي للبدعة أعم من المعنى الشرعي ، فإن بينهما عمومًا وخصوصًا مطلقًا ؛ إذ كل بدعة في الشرع داخلة تحت مسمى البدعة في اللغة ، ولا عكس ؛ فإن بعض البدع اللغوية – كالمخترعات المادية – غير داخلة تحت مسمى البدعة في الشرع [1].
2- أن البدعة بالإطلاق الشرعي هي البدعة الواردة في حديث « كل بدعة ضلالة » دون البدعة اللغوية ، ولذلك فإن البدعة الشرعية موصوفة بأنها ضلالة ، وأنها مردودة ، وهذا الاتصاف عام لا استثناء فيه ، بخلاف البدعة اللغوية فإنها غير مقصودة بحديث « كل بدعة ضلالة » فإن البدعة اللغوية لا يلازمها وصف الضلالة والذم ، ولا الحكم عليها بالرد والبطلان .
----------------------------
([1]) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 590).
*****************************
المسألة الرابعة العلاقة بين الابتداع والإحداث:
الابتداع والإحداث يردان في اللغة بمعنى واحد ؛ إذ معناهما: الإتيان بالشيء المخترع بعد أن لم يكن.
وأما في المعنى الشرعي فقد دلت الأحاديث الأربعة المتقدمة على أن للبدعة في الشرع اسمين: البدعة والمحدثة.
إلا أن لفظ البدعة غلب إطلاقه على الأمر المخترع المذموم في الدين خاصة.
وأما لفظ المحدثة فقد غلب إطلاقه على الأمر المخترع المذموم في الدين كان أو في غيره.
وبهذا يعلم أن الإحداث أعم من الابتداع ؛ لكون لفظ الإحداث شاملاً لكل مخترع مذموم ، في الدين كان أو في غيره ، إذ يدخل في معنى الإحداث: الإثم وفعل المعاصي ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: « من أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا » [1] ، قال ابن حجر: أي أحدث المعصية [2].
وبذلك يتبين لنا أن لفظ المحدثة - بهذا النظر - متوسط بين معنيي البدعة في اللغة والشرع، فهو أخص من معنى البدعة في اللغة، وأعم من معناها في الشرع.
فتحصل لدينا ثلاثة معان:
1- الأمر المخترع مذمومًا كان أو محمودًا ، في الدين كان أو في غيره .
2- الأمر المخترع المذموم في الدين كان أو في غيره .
3- الأمر المخترع المذموم في الدين خاصة .
فالأول عام ، وهو المعنى اللغوي للبدعة وللمحدثة.
والثاني خاص، وهو المعنى الشرعي –الغالب– للمحدثة.
والثالث أخص، وهو المعنى الشرعي للبدعة، وهو -أيضًا- المعنى الشرعي الآخر للمحدثة.
-------------------------
([1]) أخرجه البخاري (4/ 81) برقم 1870، ومسلم (9/140).
([2]) انظر فتح الباري (13/ 281).
**************************
المسألة الخامسة العلاقة بين البدعة والسنة:
يأتي نظير لفظ البدعة -في هذين الإطلاقين اللغوي والشرعي- لفظُ السنة، وبيان ذلك:
1- بالنظر إلى المعنى اللغوي.
تأتي السنة في اللغة بمعنى البدعة في اللغة ؛ إذ السنة لغةً بمعنى الطريقة ؛ حسنة كانت أو سيئة ، فكل من ابتدأ أمرًا عمل به قومٌ من بعده قيل هو سنة [1] .
فالسنة والبدعة – في المعنى اللغوي – لفظان مترادفان .
ومن الأمثلة على ورود لفظ السنة بمعناه اللغوي قول الرسول صلى الله عليه وسلم : « من سَنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سَنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء » .
2- بالنظر إلى المعنى الشرعي :
تأتي السنة بالمعنى الشرعي في مقابل البدعة بالمعنى الشرعي ؛ إذ السنة شرعًا هي طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
والبدعة هي ما كان مخالفًا لطريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
فالسنة والبدعة – في المعنى الشرعي – لفظان متقابلان ، فمن ذلك .
قول النبي صلى الله عليه وسلم :
«ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة، فتمسكٌ بسنة خير من إحداث بدعة» [2].
وقوله صلى الله عليه وسلم: «فإن لكل عابد شرة، ولكل شرة فترة؛ فإما إلى سنة وإما إلى بدعة، فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك» [3].
-------------------------------
([1]) انظر المصباح المنير (292) .
([2]) أخرجه أحمد في مسنده (4/ 105) .
([3]) أخرجه أحمد في مسنده (2/ 158).
******************************
المسألة السادسة العلاقة بين البدعة والمعصية
أ - وجوه اجتماع البدعة مع المعصية:
1- أن كلاً منهما منهي عنه، مذموم شرعًا، وأن الإثم يلحق فاعله، ومن هذا الوجه فإن البدع تدخل تحت جملة المعاصي [1].
وبهذا النظر فإن كل بدعة معصية، وليس كل معصية بدعة.
2- أن كلاً منهما متفاوت، ليس على درجة واحدة؛ إذ المعاصي تنقسم –باتفاق العلماء– إلى ما يكفَّر به، وإلى كبائر وإلى صغائر [2].
وكذلك البدع؛ فإنها تنقسم إلى ما يُكفَّر به، وإلى كبائر وإلى صغائر [3].
أنهما مؤذنان باندراس الشريعة وذهاب السنة ؛ فكلما كثرت المعاصي والبدع وانتشرت كلما ضعفت السنن ، وكلما قويت السنن وانتشرت كلما ضعفت المعاصي والبدع، فالبدعة والمعصية –بهذا النظر– مقترنان في العصف بالهدى وإطفاء نور الحق، وهما يسيران نحو ذلك في خطين متوازيين.
يوضح هذا:
4- أن كلاً منهما مناقض لمقاصد الشريعة، عائد على الدين بالهدم والبطلان.
ب – وجوه الافتراق بين البدعة والمعصية:
1- تنفرد المعصية بأن مستند النهي عنها -غالبًا- هو الأدلة الخاصة، من نصوص الوحي أو الإجماع أو القياس، بخلاف البدعة ؛ فإن مستند النهي عنها –غالبًا– هو الأدلة العامة، ومقاصد الشريعة، وعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة».
2- وتنفرد البدعة بكونها مضاهية للمشروع ؛ إذ هي تضاف إلى الدين، وتلحق به، بخلاف المعصية فإنها مخالفة للمشروع، إذ هي خارجة عن الدين، غير منسوبة إليه، اللهم إلا أن فُعلت هذه المعصية على وجه التقرب، فيجتمع فيها -من وجهين مختلفين- أنها معصية وبدعة في آن واحد.
3- وتنفرد البدعة بكونها جرمًا عظيمًا بالنسبة إلى مجاوزة حدود الله بالتشريع؛ إذ حاصلها مخالفة في اعتقاد كمال الشريعة، ورمي للشرع بالنقص والاستدراك، وأنها لم تكتمل بعد، بخلاف سائر المعاصي؛ فإنها لا تعود على الشريعة بتنقيص ولا غض من جانبها، بل صاحب المعصية متنصل منها، مقر بمخالفته لحكمها.
4- وتنفرد المعصية بكونها جرمًا عظيمًا بالنسبة إلى مجاوزة جدود الله بالانتهاك؛ إذ حاصلها عدم توقير الله في النفوس بترك الانقياد لشرعه ودينه، وكما قيل: لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى من عصيت [4]، بخلاف البدعة؛ فإن صاحبها يرى أنه موقر لله، معظم لشرعه ودينه، ويعتقد أنه قريب من ربه، وأنه ممتثل لأمره، ولهذا كان السلف يقبلون رواية المبتدع إذا لم يكن داعية إلى بدعته، ولم يكن ممن يستحل الكذب، بخلاف من يقترف المعاصي فإنه فاسق، ساقط العدالة، مردود الرواية باتفاق.
5 - ولأجل ذلك أيضًا فإن المعصية تنفرد بأن صاحبها قد يُحدِّث نفسه بالتوبة والرجوع ، بخلاف المبتدع ؛ فإنه لا يزداد إلا إصرارًا على بدعته لكونه يرى عمله قربة، خاصة أرباب البدع الكبرى كما قال تعالى: "أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا" وقد قال سفيان الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يتاب منها والبدع لا يتاب منها وفي الأثر أن إبليس قال: أهلكت بني آدم بالذنوب، وأهلكوني بالاستغفار وبـ لا إله إلا الله فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء، فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا [5].
6 - ولذلك فإن جنس البدعة أعظم من جنس المعصية، ذلك أن فتنة المبتدع في أصل الدين، وفتنة المذنب في الشهوة [6].
وهذا كله إنما يطرد ويستقيم إذا لم يقترن بأحدهما قرائن وأحوال تنقله عن رتبته.
ومن الأمثلة على هذه القرائن والأحوال:
أن المخالفة -معصية كانت أو بدعة- تعظم رتبتها إذا اقترن بها المداومة والإصرار عليها أو الاستخفاف بها أو استحلالها أو المجاهرة بها أو الدعوة إليها ويقل خطرها إذا اقترن بها التستر والاستخفاء أو عدم الإصرار عليها أو الندم والرجوع عنها.
ومن الأمثلة على هذه القرائن أيضًا:
أن المخالفة في ذاتها تعظم رتبتها بعظم المفسدة، فما كانت مفسدته ترجع إلى كلي في الدين فهو أعظم مما كانت مفسدته ترجع إلى جزئي فيه، وكذلك: ما كانت مفسدته متعلقة بالدين فإنه أعظم مما كانت مفسدته متعلقة بالنفس.
والحاصل أن الموازنة بين البدع والمعاصي لا بد فيها من مراعاة الحال والمقام ، واعتبار المصالح والمفاسد، والنظر إلى مآلات الأمور؛ فإن التنبيه على خطورة البدع والمبالغة في تعظيم شأنها ينبغي ألا يفضي -في الحال أو المآل- إلى الاستخفاف بالمعاصي والتحقير من شأنها ، كما ينبغي أيضًا ألا يفضي التنبيه على خطورة المعاصي والمبالغة في تعظيم شأنها – في الحال أو المآل – إلى الاستخفاف بالبدع والتحقير من شأنها.
-------------------------------
([1]) انظر الاعتصام (2/60) .
([2]) انظر الجواب الكافي (145/150) .
([3]) وهذا التفاوت والانقسام إنما يصح إذا نُسب بعض البدع إلى بعض ، فيمكن إذ ذاك أن تتفاوت رتبها، لأن الصغر والكبر من باب النسب والإضافات؛ فقد يكون الشيء كبيرًا في نفسه لكنه صغير بالنسبة إلى ما هو أكبر منه ولذا فإن صغار البدع –في ذاتها– تعد من الكبائر، وليست بصغائر، وذلك بالنسبة لسائر المعاصي خلا الشرك.
انظر الاعتصام (2/ 57 – 62) وسيأتي مزيد بيان لذلك في النقاط اللاحقة لهذه النقطة.
([4]) الجواب الكافي (58، 149 - 150)، والاعتصام (2 /62).
([5]) انظر المصدرين السابقين.
([6]) الجواب الكافي (58) ، وانظر مجموع الفتاوى (20/ 103).
***************
المسألة السابعة العلاقة بين البدعة والمصلحة المرسلة [1].
أ – وجوه اجتماع البدعة والمصلحة المرسلة:
1- أن كلا من البدعة والمصلحة المرسلة مما لم يعهد وقوعه في عصر النبوة، ولا سيما المصالح المرسلة، وهو الغالب في البدع إلا أنه ربما وجدت بعض البدع -وهذا قليل- في عصره صلى الله عليه وسلم؛ كما ورد ذلك في قصة النفر الثلاثة الذين جاءوا يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم.
2- أن كلا من البدعة -في الغالب- والمصلحة المرسلة خال عن الدليل الخاص المعين، إذ الأدلة العامة المطلقة هي غاية ما يمكن الاستدلال به فيهما.
ب – وجوه الافتراق بين البدعة والمصلحة المرسلة:
1- تنفرد البدعة في أنها لا تكون إلا في الأمور التعبدية، وما يلتحق بها من أمور الدين بخلاف المصلحة المرسلة؛ فإن عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل معناه، وجرى على المناسبات المعقولة التي إذا عُرضت على العقول تلقتها بالقبول فلا مدخل لها في التعبدات، ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية.
2- وتنفرد البدعة بكونها مقصودة بالقصد الأول لدى أصحابها؛ فهم –في الغالب– يتقربون إلى الله بفعلها، ولا يحيدون عنها، فيبعد جدًا -عند أرباب البدع- إهدار العمل بها؛ إذ يرون بدعتهم راجحة على كل ما يعارضها، بخلاف المصلحة المرسلة؛ فإنها مقصودة بالقصد الثاني دون الأول، فهي تدخل تحت باب الوسائل؛ لأنها إنما شرعت لأجل التوسل بها إلى تحقيق مقصد من مقاصد الشريعة، ويدل على ذلك أن هذه المصلحة يسقط اعتبارها، والالتفات إليها شرعًا متى عورضت بمفسدة أربى منها، وحينئذٍ فمن غير الممكن إحداث البدع من جهة المصالح المرسلة.
3- وتنفرد البدعة بأنها تؤول إلى التشديد على المكلفين؛ وزيادة الحرج عليهم، بخلاف المصلحة المرسلة؛ فإنها تعود بالتخفيف على المكلفين، ورفع الحرج عنهم، أو إلى حفظ أمر ضروري لهم.
4- وتنفرد البدعة بكونها مناقضة لمقاصد الشريعة، هادمة لها، بخلاف المصلحة المرسلة؛ فإنها –لكي تعتبر شرعًا– لا بد أن تندرج تحت مقاصد الشريعة، وأن تكون خادمة لها، وإلا لم تعتبر.
5 - وتنفرد المصلحة المرسلة بأن عدم وقوعها في عصر النبوة إنما كان لأجل انتفاء المقتضي لفعلها، أو أن المقتضي لفعلها قائم لكن وجد مانع يمنع منه، بخلاف البدعة فإن عدم وقوعها في عهد النبوة كان مع قيام المقتضي لفعلها، وتوفر الداعي، وانتفاء المانع.
والحاصل: أن المصالح المرسلة إذا روعيت شروطها كانت مضادة للبدع، مباينة لها، وامتنع جريان الابتداع من جهة المصلحة المرسلة؛ لأنها –والحالة كذلك– يسقط اعتبارها ولا تسمى إذ ذاك مصلحة مرسلة، بل تسمى إما مصلحة ملغاة أو مفسدة.
----------------------------
([1]) انظر الاعتصام (2/ 129 - 135)، والإبداع للشيخ علي محفوظ (83 - 92).
*****************************
المسألة الثامنة خصائص البدعة:
بنظرة فاحصة في القيود الثلاثة الواردة في المعنى الشرعي للبدعة يمكننا استخراج سمات البدعة وخصائصها، تلك الخصائص التي تفترق بها البدعة عما يشتبه بها ويقترب منها.
وهي أربع خصائص:
الأولى : أنه لا يوجد في النهي عن البدعة – غالبًا – دليل خاص [1]، وإنما يستدل على النهي عنها والمنع منها بالدليل الكلي العام.
الثانية: أن البدعة لا تكون إلا مناقضة لمقاصد الشريعة، هادمة لها، وهذا هو الدليل الكلي على ذمها وبطلانها، ولأجل ذلك وُصفت في الحديث بأنها ضلالة.
الثالثة: أن البدعة –في الغالب– إنما تكون بفعل أمور لم تعرف في عهده صلى الله عليه وسلم ولا في عهد صحابته رضي الله عنهم .
قال ابن الجوزي: البدعة: عبارة عن فعلٍ لم يكن؛ فُابتُدع [2].
ولذا سميت البدعة بدعة؛ فإن البدعة في اللغة: الشيء الذي أحدث على غير مثال سواء كان محمودًا أو مذمومًا، ومن هذا الوجه أطلق بعض السلف لفظ البدعة على كل أمر – محمودًا كان أو مذمومًا – لم يحدث في عهده صلى الله عليه وسلم ، كما ورد ذلك عن الإمام الشافعي .
الرابعة: أن البدعة مشابهة ولا بد للأمور الشرعية ملتبسة بها.
بيان ذلك: أن البدعة تحاكي المشروع وتضاهيه من جهتين:
1- من جهة مستندها؛ إذ البدعة لا تخلو من شبهة أو دليل موهوم، فهي تستند إلى دليل يظن أنه دليل صحيح [3]، كما أن العبادة المشروعة تستند ولا بد إلى دليل صحيح.
2- من جهة هيئة العبادة المشروعة وصفتها؛ من حيث الكم أو الكيف أو الزمان أو المكان، أو من حيث الإلزام بها، وجعلها كالشرع المحتَّم.
ذكر أمور لا تشترط في البدعة .
من المستحسن بعد بيان خصائص البدعة التنبيه على أمور قد يظن أنها من خصائص البدعة وليست كذلك..
فمن ذلك:
1- لا يشترط في البدعة ألا يوجد لها بعض الفوائد ، بل قد توجد لبعض البدع بعض الفوائد ، إذ ليست البدع من قبيل الباطل الخالص الذي لا حق فيه، ولا هي من الشر المحض الذي لا خير فيه.
وهذه الفوائد التي قد توجد في بدعة من البدع لا تجعلها مشروعة ، ذلك لأن الجانب الغالب في البدعة هو المفسدة ، وأما جانب الفائدة والمنفعة فهو مرجوح ؛ فلا يبنى عليه ولا يلتفت إليه.
قال ابن تيمية : بل اليهود والنصارى يجدون في عباداتهم أيضًا فوائد ، وذلك لأنه لا بد أن تشتمل عباداتهم على نوع ما ، مشروع من جنسه، كما أن أقوالهم لا بد أن تشتمل على صدق ما، مأثور عن الأنبياء ثم مع ذلك لا يوجب ذلك أن نفعل عباداتهم أو نروي كلماتهم.
لأن جميع المبتدعات لا بد أن تشتمل على شر راجح على ما فيها من الخير، إذ لو كان خيرها راجحًا لما أهملتها الشريعة.
فنحن نستدل بكونها بدعة على أن إثمها أكبر من نفعها، وذلك هو الموجب للنهي، وأقول: إن أثمها قد يزول عن بعض الأشخاص لمعارض: لاجتهاد أو غيره [4].
2- لا يشترط في البدعة أن تُفعل على وجه المداومة والتكرار، بل إن الشيء قد يُفعل مرة واحدة دون تكرار ويكون بدعة، وذلك كالتقرب إلى الله بفعل المعاصي أو بالعادات.
3- لا يشترط في البدعة أن تُفعل مع قصد القربة والتعبد، بل إن الشيء ربما كان بدعة دون هذا القصد، فلا يشترط –مثلاً– قصد القربة في البدع الحاصلة من جهة الخروج على نظام الدين؛ كالتشبه بالكافرين، ولا في الذرائع المفضية إلى البدعة، إلا أن غالب البدع -خاصة في باب العبادات- تجري من جهة قصد القربة.
4- لا يشترط في البدعة أن يتصف فاعلها بسوء المقصد وفساد النية بل قد يكون المبتدع مريدًا للخير، ومع ذلك فعمله يوصف بأنه بدعة ضلالة، كما ورد ذلك في أثر ابن مسعود رضي الله عنه حيث قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه [5].
5- لا يشترط في البدعة أن تخلو عن دلالة الأدلة العامة عليها، بل قد تدل الأدلة العامة المطلقة على شرعها من جهة العموم، ولا يكون ذلك دليلاً على مشروعيتها من جهة الخصوص؛ إذ أن ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بوصف العموم والإطلاق لا يقتضي أن يكون مشروعًا بوصف الخصوص والتقييد، كقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا" فإنه لا يقتضي بعمومه مشروعية الأذان للعيدين على وجه الخصوص.
---------------------------
([1]) يستثنى من ذلك البدع التي نُهي عنها بأعيانها، وهي قليلة جدًا.
انظر اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 586، 587).
([2]) تلبيس إبليس (16).
([3]) وهذا الدليل لا يخلو أن يكون واحد من نوعين: إما أدلة عامة مطلقة، أو أدلة خاصة واهية.
([4]) اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 609– 610، 759).
([5]) قال ذلك رضي الله عنه حين رأي قومًا في المسجد يجلسون حِلَقًا، وفي كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مئة.
أخرجه الدارمي في سننه (1/ 68 – 69 ).