المبحث السادس: حكم صلة المشركين
- حكم إلقاء السلام على الكافرين والرد عليهم والقيام لهم.
- حكم مصافحتهم ومعانقتهم وتهنئتهم وشهود أعيادهم.
- حكم عيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم وتعزيتهم.
- حكم زيارتهم لتفقد أحوالهم.
- حكم تكنيتهم وقبول هديتهم والإهداء إليهم.
- عورة المرأة المسلمة بالنسبة للمرأة الكافرة ولأقاربها الكفار.
‏- حكم اقتناء الكلب:

‎‎ الإنسان مدني بطبعه، ينزع بفطرته إلى العيش ضمن جماعة يتفاعل معها، فينشأ عن ذلك ألوان من المواقف الاجتماعية.‏

ولما كان التشريع الإسلامي شاملاً مستوعبًا لشؤون الحياة كلها، فقد حوى طائفة من التشريعات في هذا المجال، ليكيف المسلم حركته بها، ويضبط سلوكه وِفْقَهَا.‏

والمسلم يتعامل مع غيره وفق عقيدته، وقيمه، وتصوراته المستمدة من دينه.

وأن ما يحمله، أو يجب أن يكون عليه من قيم عالية، وأخلاق سامية، وفكر إصلاحي، هو المنبّه لسلوك الآخرين وتصوراتهم، والذي قد يتبعه تأثير في مواقفهم، أو صدور استجابة منهم، ولا سيما أنه يعيش في مجتمعات لا تستمد تشريعاتها من وحي السماء المعصوم، بل من اجتهادات البشر التي لا تنفك عن التناقض والاضطراب وسطحية النظر.‏

‎‎ ونحن في هذا المبحث المهم قد اقتصرنا على أهم مسائله، وعليه فقد جاء على شكل فروع وتساؤلات.‏

الفرع الأول:
حكم صلة المشركين:

‏‎‎الأصل في ذلك قوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) (الممتحنة: 8). ‏

‎‎ذهب أكثر أهل التأويل إلى أن الآية محكمة غير منسوخة.

وقالوا في تفسيرها ما يلي: ‏
‎‎ففي الطبري:

(وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: عنى بذلك جميع أصناف الملل والأديان، أن تبروهم وتقسطوا إليهم، أن الله عمّ بقوله مَنْ كان ذلك صفته، فلم يخص به بعضًا دون بعض، ولا معنى لقول مَنْ قال ذلك منسوخ) (287).‏

‎‎وفي القرطبي:
(هذه الآية رخصة من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين، ولم يقاتلوهم، أن يبروهم ويقسطوا إليهم، أي يعطونهم قسطًا من أموالهم على وجه الصلة) (288).‏

‎‎وفي ابن كثير:
(لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين، وتحسنوا إليهم) (289).‏

‎‎يؤخذ من مجموع ما قيل في تفسير الآية، أن صلة الكافر وبره والإحسان إليه جائز، شرط أن يكون مسالمًا غير محارب، وصِلة غير المسلم والإحسان إليه من مكارم الأخلاق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق) (290)، (فعرفنا أن ذلك حسن في حق المسلمين والمشركين جميعًا) (291).‏

‎‎وتتأكد هذه الصلة إذا كانت لرحم، فقد جاء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم (أذن لأسماء بنت أبي بكر أن تصل أمها وهي مشركة) (292).‏

حكم إلقاء السلام على الكافرين والرد عليهم والقيام لهم:
‏أولاً: حكم إلقاء السلام: ‏
‎‎ذهب جمع من السلف إلى جواز إلقاء السلام على المخالفين من أهل الكتاب والمشركين، وقد فعله ابن مسعود وقال: إنه حق الصحبة.

وكان أبو أمامة لا يمر بمسلم ولا كافر إلا سلم عليه، فقيل له في ذلك، فقال: (أمرنا أن نفشي السلام) (293).

وبمثلـه كان يفعل أبو الدرداء.‏

‎‎وكتب ابن عباس لرجل من أهــل الكتاب: (السلام عليك) (294).

وكان عمر بن عبد العزيز يقول: (لا بأس أن نبدأهم بالسلام).‏

‎‎وذهب جمعٌ آخر إلى المنع من إلقاء السلام على الكافرين، مستدلين بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام) (295).‏

‎‎وقالوا:
في الحديث دليل على تحريم ابتداء المسلم لليهود والنصارى بالسلام، لأن ذلك أصل النهي، وهو قول جمهور أهل العلم (296).‏

‎‎قال ابن حجر:
(والأرجح من هذه الأقوال كلها ما دل عليه الحديث، ولكنه مختص بأهل الكتاب) (297).‏

‎‎قلت:
لكن النهي عن مبادرة أهل الكتاب بالسلام، معلل بكونهم يردون بـ (وعليكم السام) يعني الموت.‏

‎‎يؤخذ هذا التعليل مما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها، أن رهطًا (جماعة) من اليهود دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (السام عليك)، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام: (إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم).

وفي رواية أخرى: (فإن أحدهم يقول: (السام عليك) (298).‏

‎‎وعليه فإذا غيّر أهل الكتاب من أسلوب ردهم وألفاظهم الخبيثة، فلا مانع من السلام عليهم، لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.‏

‎‎فقد نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك حتى لا يكون هناك مقابل (إلقاء السلام) دعاء علينا بالموت، فإذا انتفى ذلك فلا أرى وجهًا للمنع.‏

‎‎وهذا ما فهمه جمع من الأئمة، فقد سئل الأوزاعي عن مسلم مرَّ بكافر فسلّم عليه، فقال: إن سلمتَ فقد سلّم الصالحون، وإن تركتَ فقد ترك الصالحون قبلك.‏

‎‎كل ما تقدّم من خلاف فإنه إذا كانت تحيتنا لهم (بالسلام عليكم)، أما إذا كانت بعبارة أخرى (كصباح الخير، أو مساء الخير، أو مرحبًا)، وما شابه ذلك، فلا أرى أن النهي يتناوله، وقد قال بذلك السدي، ومقاتل، وأحمد وغيرهم (299).‏

‏ثانيًا: حكم رد السلام: ‏
‎‎اتفق أهل العلم على أنه يرد على أهل الكتاب بـ: (وعليكم) (300)، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم) (301).‏

‎‎ولكن هل يزاد على ذلك؟‏
‎‎ذهب جماعة من السلف إلى أنه يجوز الرد على الكفار بـ (وعليكم السلام)، كما يرد على المسلم، وهو قول ابن عباس، والأشعري، والشعبي، وقتادة، وحكاه الماوردي وجهًا للشافعية، ولكن لا يقول: (ورحمة الله)، وقيل يجوز مطلقًا وتكون الرحمة بمعنى الهداية.‏

‎‎وذهب الجمهور إلى المنع من الرد بـ (وعليكم السلام).

ولم يأتوا بدليل على ما ذهبوا إليه إلا بالحديث السابق.‏

‎‎قلت:
ولكنه مقيّد بسبب، فإذا زال فلا مانع من الرد بـ (وعليكم السلام).‏

‎‎فيترجح قول القائلين بفرضية الرد كاملاً بالصيغة التي تصلح ردًا لتحيته.‏

‎قال ابن القيم:
(فإذا تحقق السامع أن الكافر قال له: (السلام عليكم)، فالذي تقتضيه الأدلة الشرعية وقواعد الشريعة أن يقال له: (وعليكم السلام)، فإن هذا من باب العدل والإحسان، وقد قال تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها).‏

‏ثالثا: حكم القيام لهم: ‏
‎‎ذهب جمع من العلماء إلى جواز القيام للكافر إذا كان يُقصد من ورائه مصلحة دينية كترغيبه في الإسلام، وميله إليه، بشرط ألا يقصد القائم تعظيمًا.‏

‎‎ومنهم مَنْ جعل القيام جائزًا لغير مصلحة، لأنه من البر والإحسان إلى الكافر، ولم ننه عنه (302).‏

‎‎وأما القيام للكافر بقصد دينه وما عليه من الكفر فحرام باتفاق.

وأما إذا كان عُرفًا ومعاملة بالمثل فلا بأس.

وتقدير ذلك يرجع إلى المسلم نفسه في ديار المخالفين، فهو أدرى بعادات ذلك المجتمع وأعلم.‏

حكم مصافحتهم ومعانقتهم وتهنئتهم وشهود أعيادهم:
أولا: حكم مصافحتهم:‏

‎‎ذهب جماعة من الأئمة إلى كراهية مصافحة الكفار (303)، منهم النخعي وأحمد وأبو يوسف.‏

‎‎قال النخعي:
(كانوا يكرهون أن يصافحوا اليهود (304)، يقصد بذلك السلف الصالح.‏

‎‎وذهب آخرون وعلى رأسهم الثوري وعبد الرزاق الصنعاني، إلى أنه لا بأس بأن يصافح المسلمُ اليهوديَ والنصرانيَ (305).‏

‎‎وهو الراجح، الذي يقتضيه قوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) (الممتحنة: 8).‏

‎‎أما معانقتهم فلم أرَ مَنْ صرّح بجوازها ولا بمنعها، مع أنني أميل إلى القول بكراهتها، لأنها تعبير عن الرضا التام، والمحبة الفياضة، وهذا الشعور لا ينبغي أن يُعامل به الكافر، إلا أن يكون الكافر أبًا أو ابنًا أو جَدًّا، أو ما شابه ذلك، فلا بأس به، وليكن في المناسبات فقط.‏

‎‎أما تقبيلهم فقد كره الحنابلة ذلك (306)، وبه أقول للسبب الذي ذكر في كراهية معانقتهم.

وإن حدث ذلك فلا إثم إن شاء الله لعــدم النص، إن لم يترتب عليه المحبة والرضا، التي قد تجر إلى الموالاة المحظورة.‏

ثانيا: حكم تهنئتهم: ‏
‎‎إذا كانت التهنئة في الأمور المشتركة كزواج، أو قدوم مولود، أو غائب، أو عافية ونحوها، لم أرَ أحدًا قد صرّح بالمنع إلا رواية عن أحمد، ولكن لما جازت عيادتهم (على ما سيأتي)، جازت تهنئتهم.

قال ابن القيم:
(ولكن فليحذر الوقوع في الألفاظ التي تدل على رضاه بدينه، مثل (أعزك الله)، وما قاربها..

أما إذا كانت التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: (عيد مبارك).‏

‏ثالثا: حكم شهود أعيادهم ومشاركتهم فيها: ‏
‎‎لا يجوز للمسلم ممالأة الكفار على أعيادهم، ولا مساعدتهم، ولا الحضور معهم، باتفاق أهل العلم، لأنهم على منكر وزور، وإذا خالط أهل المعروف أهل المنكر بغير الإنكار عليهم، كانوا كالراضين المؤثرين له، فيُخشى من نزول سخط الله على جماعتهم فيَعُمَّ الجميع.‏

‎‎وقد روى البيهقي بإسناد صحيح عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (لا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم، فإن السخطة (اللعنة) تنزل عليهم).‏

‎‎وروى البخاري عنه قوله:
(اجتنبوا أعداء الله في عيدهم).‏

‎‎وروى البيهقي بإسناد صحيح، عن عبد الله بن عمرو قوله: (مَنْ بنى ببلاد الأعاجم، وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبّه بهم حتى يموت وهو على ذلك، حشر معهم).‏

‎‎ومن هنا أجمع العلماء على حرمة أن يُباع لهم شيء من مصلحة دينهم في يوم عيدهم، أو الإهداء إليهم (307).‏

‎‎قلت:
لكن إذا خاف المسلم أن يترتب على عدم تهنئتهم ضرر عليه لا يمكن تحمله عادة، رخص له في مجاملتهم في الظاهر مع الإنكار القلبي.‏

حكم عيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم: ‏
أولا: حكم عيادة مرضاهم:‏

‎‎الأصل في ذلك ما رواه البخاري وغيره، أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم غلام يهودي يخدمه فمرض فأتاه فعاده... الحديث (308).‏

‎‎قال ابن حجر:
(وفي الحديث جواز عيادة المشرك إذا مرض) (309).‏

‎‎وقال الماوردي:
(عيادة الذمي جائزة، والقربة موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة) (310).

قلت:
أو صحبة.‏

‎‎وقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا عمه أبا طالب في مرض وفاته، وعرض عليه الإسلام (311).‏

‎كل ذلك دل على جواز عيادة مرضى المشركين، لأنها نوع من البر، وهي من محاسن الإسلام ولا بأس بها (312).‏

‎‎وسئل الإمام أحمد عن عيادة الكفار، فقال:
(أليس قد عاد النبي صلى الله عليه وسلم اليهودي، ودعاه إلى الإسلام) (313).‏

‎‎وذهب قوم إلى أن عيادة مرضى المشركين جائزة بشرط دعوتهم إلى الإسلام وإلا فلا.‏

‎‎قال ابن بطال:
(إنما تشرع عيادته إذا رجي أن يجيب إلى الدخول في الإسلام، فإذا لم يطمع في ذلك فلا).‏

‎‎والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد، فقد تقع بعيادته مصلحة أخرى (314).‏

ثانيا: حكم تشييع جنائزهم، وتعزيتهم: ‏
أولاً: حكم تشييع جنائزهم: ‏

‎‎تقدم القول عنه عند الكلام عن الجنائز فانظره.‏

ثانيًا: حكم تعزيتهم: ‏
‎‎ذهب جمهور أهل العلم إلى جواز أن يعزّي المسلم الكافر.

وكان الثوري يقول:
يعزي المسلم الكافر ويقول له: (لله السلطان والعظمة)..

وكان الحسن يقول:
إذا عزيت الكافر فقل: (لا يصيبك إلا خير)..

وكان أبو عبد الله بن بطة يقول:
يقال في تعزية الكافر: (أعطاك الله على مصيبتك أفضل ما أعطى أحدًا من أهل دينك) (315).‏

‎‎والصحيح عندي أن للمسلم أن يختار من الأدعية ما يراه مناسبًا مما ليس فيه دعاء للميت ولا قوة للحي.‏

‎‎وهناك قول للشافعية، ورواية عن أحمد (316) بالمنع من تعزية الكافر إلا إذا رجي إسلامهم (317).‏

‎‎ولا أجد دليلاً على هذا المنع، فإذا جازت عيادة مرضاهم، واعتبرناها من البر ومحاسن الإسلام، فلئن تجوز تعزيتهم أولى، سواء رجونا بذلك إسلام القوم أو بعضهم أو لا.

قال تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم) (الممتحنة: 8).‏

حكم زيارتهم لتفقد أحوالهم:‏
غالبًا ما تكون الزيارات بين الأسر المسلمة والمخالفة للمجاملة أو المصلحة، أو مكافأة على زيارة، فكل هذا لا مانع منه، وخاصة إذا كانت زيارة في ظاهرها، ودعوة إلى الإسلام في باطنها، فهنا يتأكد جوازها ويطلب تعميق الصلة، لتحقيق تلك الغاية الشريفة، إذ الأعمال تشرف بشرف غاياتها.‏

‎‎وأما إذا كانت لمجرد تفقد الأحوال، فأرى عدم كراهيتها، إلا إذا زادت عن وضعها الطبيعي، وتجاوزت الحد المعقول، لأنه يجب أن يكون هناك حواجز نفسية وشعورية في نفس المؤمن تجاه مخالفه، فلا يتداخل معه ذاك التداخل المؤدي إلى التوادد والتحابب والتراضي المنهي عنه.‏

‎‎والدليل على جواز زيارة المشركين قوله تعالى:
(لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) (الممتحنة: 8).‏

حكم تكنيتهم وقبول هديتهم والإهداء إليهم: ‏
أولا: حكم تكنيتهم:‏

‎‎الأصل في ذلك ما رواه البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عبد الله ابن أبيّ بن سلول رأس المنافقين بكنيته وهي: (أبو حُباب) (318).‏

‎‎قال العيني:
وقول النبي عليه الصلاة والسلام ذاك لم يكن للتكرمة، بل قد تكون للشهرة (319)..

وعن الثوري أن عمر كنى (الفرافصة) وهو نصراني بأبي حسّان (320).

وقال أحمد لطبيب نصراني:
يا أبا إسحاق (321).‏

‎‎فدل ذلك على جواز أن يُكنى المشرك بما يُعرف به من كنيته فقط، ولا يتعدى ذلك، كأن يكنيه كنية شريفة تشعره بالعزة، فهذا يكره.‏

ثانيا: حكم قبول هديتهم والإهداء إليهم: ‏
‎‎الأصل في ذلك ما رواه البخاري وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها (322).

وقد قَبِلَ هدية ملك إيله (323)، وهي بغلة بيضاء، فكساه رسول الله صلى الله عليه وسلم بردة (324)..

وأن (أكيدر دومة) (325) أهدى إلى النبي عليه الصلاة والسلام جبة سندس (326)، وأهدى له (المقوقوس) جارية. ‏

‎‎وهناك من أهل العلم من كره قبول هدية المشركين.‏
‎‎وعليه فلو أهدى كافر لمسلم هدية فلا حرج عليه من قبولها، وكان عليه أن يثيبه عليها قدر الإمكان، حتى لا تبقى للكافر على المسلم يد ونعمة.‏

‎‎وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في أسرى بدر: (لو كان المطعم بن عدي حيًا، وكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له) (327)، مكافأة له على جهده في نقض الصحيفة، وقيل: مكافأة له على حماية النبي صلى الله عليه وسلم يوم عودته من الطائف.‏

‎‎نخرج من هذا إلى القول بجواز قبول هدية المشركين، والإثابة عليها، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا مانع من قبول هداياهم في يوم عيدهم، وإنما المحظور باتفاق، الإهداء لهم كما سبق.‏

‎‎أما قبول هدية مَنْ كان غالب ماله الحرام، فرخص فيها قوم منهم الزهري ومكحول، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعامل أهل الكتاب والمشركين، ويقبل هداياهم مع علمه بأنهم لا يجتنبون الحرام، وكرهته طائفة مطلقًا (328).‏

‎‎أما مَنْ علم أن ما أُهدي إليه هو من الحرام بعينه، فهو محرم بالإجماع (329).‏

عورة المرأة المسلمة بالنسبة للمرأة الكافرة ولأقاربها:
أولا: للمرأة الكافرة:‏

‎‎الأصل في ذلك قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن) (النور: 13).‏

‎‎ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن المراد من قوله تعالى: (أو نسائهن)، أنهن المؤمنات المختصات بالصحبة والخدمة، وكأنه تعالى قال: أو صنفهن.‏

‎‎وعليه فليس للمؤمنة أن تتجرد عن بعض زينتها بين يدي مشركة، لئلا تصفها لزوجها، فإنها -أي المشركة- لا يمنعها من أن تصفها لزوجها مانع بخلاف المسلمة، وقالوا: إن المرأة الكافرة ليست من نسائنا وأجنبية في الدين، وهو قول عمر، وابن عباس، ومجاهد، ومكحول، وابن جريج وغيرهم.‏

‎‎والمعتمد عند الشافعية أن للمسلمة أن تكشف أمام المشركة ما يبدو عند المهنة عادة، أي الرأس والعنق واليدين إلى العضدين والرجلين إلى الركبتين (330).

وهو مذهب الحنابلة (331).‏

‎‎واستدلوا على ذلك بما يلي: ‏
‏1- ما صح من أن نساء كوافر قد كُنَّ يدخلن على أمهات المؤمنين، ولم يكُنَّ يحتجبن ولا أمرن بحجاب.‏

‏2- ما رواه عطاء أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما قدموا بيت المقدس، كان قوابل (جمع قابلة، وهي المرأة التي تساعد الوالدة عند الولادة وتتلقى الولد) نسائهن اليهوديات والنصرانيات.‏

‏3- أن الحجاب إنما يجب بنصّ أو قياس، ولم يوجد واحد منهما.

وقال الألوسي:
(وهذا القول أرفق بالناس اليوم، فإنه لا يكاد يمكن احتجاب المسلمات عن الكافرات) (332).‏

‎‎وأما قوله تعالى: (أو نسائهن)، فيحتمل أن يكون المراد جملة النساء..

وقول السلف محمول على الاستحباب، وهو الراجح إن شاء الله، لسلامة الأدلة ورجحانها.‏

ثانيا: عورة المسلمة بالنسبة لأقاربها الكفار: ‏
‎‎القريب الكافر إما أن يكون مَحْرما وإما أن يكون غير مَحرم، فإن كان محرمًا كأخيها وأبيها وجدّها وعمها، وما شاكل ذلك، فلها أن تُبدي زينتها أمامه، وإن كانوا كفارًا، لعموم قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن) (النور: 13)، إن لم يكونوا إباحيين، وإلا فلا، لأن الإباحي لا يفرق بين من تحل له ومن تحرم عليه.‏

‎‎وكذلك للمسلم أن ينظر إلى زينة النساء اللاتي يعتبرن من محارمه الكافرات لعموم الآية السابقة، لاتحاد مشاعر الرجال تجاه محارمهم، ودون تفريق بين كونها مسلمة أو غير مسلمة.‏

‎‎وأما إن كان القريب غير محرم لها، فيحرم عليها أن تبدي شيئًا من زينتها وعورتها أمامه، لعموم الأدلة.‏

حكم اقتناء الكلاب:
‎‎مما لا يخفى على مَنْ زار بلاد الكفر، وخاصة ديار الغرب منها، أن الكلاب توجد هناك بكثرة، على مختلف أشكالها وألوانها وأنواعها، حتى أنهم من شدة ولوعهم في هذه الطائفة من البهائم أقاموا لها جمعيات ترعى أحوالها وتدافع عن حقوقها، وتؤمن لها الرعاية والعناية الكاملة (333)، حتى إنك لا تكاد تجد بيتًا يخلو من كلب أو قطة.‏

فما حكم اقتناء الكلب؟‏
‎‎الأصل في ذلك ما رواه الشيخان وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَنْ أمسك كلبًا، فإنه ينقص كل يوم من عمله قيراط (والقيراط قدر معلوم عند الله)، إلا كلب غنم، أو حرث، أو صيد)..

وعند مسلم:
(ينقص كل يوم من عمله قيراطان) (334).

فدل الحديث على عدم جواز اقتناء الكلاب لغير الماشية أو الزرع أو الصيد (335)، إذا لم يكن عقورًا (أي يعضّ)، أو كَلَبًا (336)، لأن العلماء قد أجمعوا على قتل هذين النوعين من الكلاب (337)، وأجمعوا أيضًا على أن من اقتنى الكلب إعجابًا بصورته، أو للمفاخرة، فهو حرام بلا خلاف (338).‏

‎‎وذهب ابن عبد البر إلى أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ينقص من عمله)، أي من أجر عمله، ما يشير إلى أن اتخاذه ليس بمحرم، لأن ما كان اتخاذه محرمًا امتنع اتخاذه على كل حال، سواء نقص الأجر أو لم ينقص، فدل ذلك على أن اتخاذه مكروه لا حرام.‏

قلت:
هو محجوج بالإجماع.‏

‎‎وقال ابن حجر:
(بأن ما ادعاه (ابن عبد البر) من عدم التحريم ليس بلازم، بل يحتمل أن تكون العقوبة تقع بعدم التوفيق للعمل بمقدار قيراط عما كان يعمله من الخير لو لم يتخذ الكلب، ويحتمل أن يكون حرامًا) (339).‏

‎‎والمراد بالنقص، أو الإثم الحاصل باتخاذه، يوازي قدر قيراط، أو قيراطين من أجر، فينقص من ثواب عمل المتخذ قدر ما يترتب عليه من الإثم باتخاذه، وهو قيراط أو قيراطان.‏

‎قلت:
وهذا التعليل يدل على حرمة اتخاذ الكلب لغير ما ذكر الحديث لا كراهيته.‏

‎‎وأما سبب نقصان الأجر، فقيل:

لامتناع الملائكة من دخول بيته، أو لما يلحق المارين من الأذى، أو عقوبة له لاتخاذه ما نهي عن اتخاذه، أو لكثرة أكله النجاسات، أو لأن بعضها شيطان، أو لولوغها في الأواني عند غفلة صاحبها، فربما تنجس الطاهر منها، فإذا استعمل في العبادة لم يقع موقع الطاهر، أو لكراهة رائحتها(340).‏

‎‎قلت:
وأقربها إلى ظاهر الحديث، أن نقصان الأجر عقوبة لمخالفة النهي.

أما سبب النهي فلجميع ما ذُكر، ويزاد عليها ما يترتب على اقتنائها من أمراض خطيرة.‏

‎‎وأما أن هذه المساوئ السالفة موجودة في الكلب المباح اقتناؤه، فقال صديق خان: (فيه ترجيح المصلحة الراجحة على المفسدة، لوقوع استثناء ما ينتفع به مما حرم اتخاذه) (341).‏

‎‎أما اتخاذ الكلاب لحفظ الدور والدروب، قياسًا على الثلاثة، عملاً بالعلة المفهومة من الأحاديث وهي الحاجة، فقد صحح الشافعية ذلك (342).‏

‎‎يقول ابن عبد البر من المالكية:

(... إلا أن يدخل في معنى الصيد وغيره، مما ذكر اتخاذه لجلب المنافع ودفع المضار قياسًا) (343).‏

‎‎نخلص من هذا إلى القول بحرمة اقتناء الكلاب لغير حاجة، وجواز اقتنائها للحاجات الثلاث المذكورة في الحديث، كما جُوّز اقتناؤها لغير ذلك من الحاجات، بناء على القياس.‏

‎‎كما أن تربية الكلاب للهواية، لهي من العادات السيئة، بالإضافة إلى كون ذلك محرمًا، فإن فيها إسرافًا بالإنفاق عليها ومعالجتها، وأمراضًا خطيرة حذّر منها الأطباء.‏