المبحث الثاني: موقف المسلمين المقيمين في ديار المخالفين حال تعرضهم لاعتداء من أهلها.
المبحث الثاني: موقف المسلمين المقيمين في ديار المخالفين حال تعرضهم لاعتداء من أهلها. Images?q=tbn:ANd9GcT-yRZ8_hZqqXym-DyIEzpqI3yQNvrpjudLQB-v_nfnFhV06RKO
‎‎ لا يخفى على كل مطلع ومهتم بأخبار المسلمين في البلدان غير المسلمة، ما يتعرضون له من فتن ومحن، وصد عن سبيل الله، بالقتل جهارًا وغيلة، وبالسلب الصارخ لأموالهم وممتلكاتهم، وبالاعتداء على مساجدهم وكتبهم الدينية، وعلى أنفسهم وأعراضهم، تحت شعارات مكذوبة لا يحتاج الأمر إلى دحضها وردها، ولكنه الحقد الدفين في أغوار النفوس، والصراع الدائم بين فكرتي الحق والباطل.‏

‎‎ وبما أن الكفر ملة واحدة من حيث الموقف من الإسلام، والنظرة إليه، فهي لا تتورع عن تقريع المسلمين، وطردهم، وسفك دمائهم، وتخويفهم، فقد رمت الإسلام والمسلمين عن قوس واحدة، حكامًا وشعوبًا، وعلى المستويين الرسمي والشعبي.‏

‎‎ وتعاني بعض الأقليات المسلمة في العالم الكثير من صور الاضطهاد والقمع، الذي يصل إلى حد ذبحهم، وانتهاك أعراضهم، وحرق منازلهم ومتاجرهم، وهدم مساجدهم يومًا بعد يوم، ومحاصرة لغتهم وثقافتهم، لاستبدالهما بلغة وثقافة المخالفين لهم، وخفض نسبتهم في تولي الوظائف الحكومية، بل إغلاق المناصب العليا أمامهم تمامًا.. كل ذلك على مرأى من حكومات الدول التي يعيشون في ظلها.‏

‎‎ وقد أدى ذلك إلى أن تتفشى بينهم الأمية والخرافات والجهل والفقر، مع عدم العناية بمناطقهم ثقافيًا، واجتماعيًا، وصحيًا، ويمكن أن نذكر مثالاً على ذلك: مسلمي الهند والفلبين.‏

‎‎ فإذا كان الحال كهذا، ما الذي يجب على المسلمين في تلك الديار؟ هل يصبرون أم يقاتلون من يقاتلهم فقط؟ أم يقاتلـون مخالفيهــم كافـة؟ أم ماذا يفعلون؟‏

‎‎ لقد أجمع الفقهاء على أنه يحرم على المسلم التعرض لدماء الكافرين وأموالهم إن كان بينه وبينهم عهد وأمان، لأنه يقتضي وجوب أمان المسلمين منهم وحمايتهم، وأمانهم من المسلمين.‏

‎‎ ولكنهم أجازوا للمسلم التعرض لأموالهم وأنفسهم، في حال ما إذا غدر بهم ملكهم فأخذ مالهم وديارهم وحبسهم بغير وجه حق، أو فتنهم في دينهم ليرتدوا عنه فعذبهم وقتل منهم، أو فعل هذا غيره بعلمه، ولم يمنعه ورضي به هو وباقي رعيته.. ففي هذه الحالات ينقض العهد الذي بينهم وبين المسلمين المواطنين، ويكون أهل الكفر هم أول من نقضه، وهذا الحل عام في مال جميعهم، ودم جميعهم.‏

‎‎ أما إذا نقض العهد الأتباع ولم يعلم الرئيس بذلك، ففي انتقاض العهد بحق جميعهم وجهان. وكذا إن اغتال حاكمهم بعض أفراد المسلمين، أو فعل ذلك بعض رعيته بموافقته فينتقض العهد بذلك عند الجمهور خلافًا للحنفية (87).‏

‎‎ قال الماوردي : إن نقض الأتباع فرضي إمامهم أو باقيهم، انتقض عهدهم.

وإن نقضه إمامهم انتقض أيضًا، لأنه لم يبق في حــــق المتبــوع فلا يبقى في حق التابع.

فإن نقض الأتباع ولم يعلم الرئيس والأشراف بذلك ففي انتقاض العهد في حق الرعية وجهان : ‏

‎‎ وجه القول بعدم النقض أنه لا اعتبار بعقدهم، فلذلك لا اعتبار بنقضهم، مع اتفاق الكل على أن العهد ينتقض في حق الطائفة المعتدية إن لم ينتقض في حق الجميع.‏

‎‎ وعليه فإن أمام المسلمين الذين يُعتدى عليهم ثلاثة مسالك مختلفة بحسب مقدرتهم وإمكاناتهم وتقديرهم للظروف المعاصرة لهم.‏

المسلك الأول:
إما أن يصبروا على الأذى والاضطهاد لاستضعافهم، ويتحملوا المشاق مع التمسك بعقيدتهم، وهم معذورن في ذلك لأنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي الكافرين، ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق، ولو عرفوا ما استطاعوا لأنهم يفتقدون الزاد والراحلة.‏

‎‎ وقد يفضلون الصبر على غيره لحاجة في نفوس أئمتهم، كرجاء تحقيق مصلحة كبرى ودرء مفسدة عظمى، فولاة الأمر هناك من علماء ودعاة أعلم بأحوالهم، وأكثر معرفة وإلمامًا بطبيعة المجتمع، ومصلحة الدعوة، ووضع السلطة القائمة، فقد يكون الصبر أجدى وأنجع علاجًا لحالات دون أخرى، وقد قيل قديمًا: (أهل مكة أدرى بشعابها).‏

‎‎ ثم إن هناك أحكامًا شرعية تختلف باختلاف حال الإنسان صحة ومرضًا، قوة وضعفًا، فما يصلح في بلد قد لا يصلح في آخر، فقد يفضلون الالتزام بالآيات -في تلك المرحلة- الآمرة بالصبر والمغفرة والإعراض، بالرغم من أن جماهير الأمة يرون بأنها قد نسختها (88) آية السيف.‏

المسلك الثاني:
وإما أن يكتفوا بصد العدوان، وقتل من يشهر عليهم سلاحًا يبتغي إماتتهم والسطو على أموالهم وأعراضهم، والوقوف في موقع المدافع عن دينه ونفسه وما يتعلق بها، ولا يتجاوزون في ذلك إلى من لم يشارك في الإيذاء فعلاً، بالرغم من ظهور ما يؤكد رضاه على ذلك، لظروف يفقهها ويقدرها مسلمو ذلك الإقليم.‏

‎‎وهم في مسلكهم هذا يلتزمون قوله تعالى: (فَمَنِ اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (البقرة: 194)، كما هو موقف الكثير من الأقليات المسلمة في العالم، وهو موقف شرعي يلتقي مع روح التدرج في الأحكام، ونرى أنه لا حرج في العمل به.‏

المسلك الأخير:
وإما أن يتميز المسلمون عن مخالفيهم، ويعلنوها حربًا عامة، لأن العهد قد انتقض في حق الجميع لتحقق ما يوجب ذلك، ويقاتلوا الحربيين كافة كما يقاتلونهم كافة.‏

‎‎وهم في ذلك ملتزمون قوله: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) (التوبة: 36)، ويصبح قتال الحربيين واجبًا على المسلمين ثَمَّ، لتحقق الاستطاعة، وتبقى دار المعتدين بالنسبة لهؤلاء المسلمين دار حرب مباحة إلى حين إنشاء صلح جديد.‏

‎‎ قال تعالى: (فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانًا مبينًا) (النساء: 91).‏

‎‎ ويصبح ما تحت يد المسلمين من دار الإسلام، إن أظهروا فيه شعائر الدين وأقاموا أحكامه، بإجماع الفقهاء.‏