| منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها من خلال الجامع الصحيح | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها من خلال الجامع الصحيح الإثنين 10 ديسمبر 2012, 4:00 pm | |
|
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الأحد 13 يونيو 2021, 5:24 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: رد: منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها من خلال الجامع الصحيح الإثنين 10 ديسمبر 2012, 4:32 pm | |
|
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الأحد 13 يونيو 2021, 5:32 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: رد: منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها من خلال الجامع الصحيح الإثنين 10 ديسمبر 2012, 10:53 pm | |
|
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الأحد 13 يونيو 2021, 5:40 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: رد: منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها من خلال الجامع الصحيح الإثنين 10 ديسمبر 2012, 11:12 pm | |
|
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الأحد 13 يونيو 2021, 5:42 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: رد: منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها من خلال الجامع الصحيح الثلاثاء 11 ديسمبر 2012, 1:06 am | |
|
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الأحد 13 يونيو 2021, 5:48 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: رد: منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها من خلال الجامع الصحيح الثلاثاء 11 ديسمبر 2012, 1:25 am | |
|
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الأحد 13 يونيو 2021, 5:53 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: رد: منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها من خلال الجامع الصحيح الجمعة 04 يناير 2013, 10:05 pm | |
| المطلب الرابع نماذج من أحاديث الضعفاء ومنهج البخاري في تصحيحها 1 – أحاديث محمد بن عبد الرحمن الطفاوي : له في البخاري ثلاثة أحاديث، ولو نظرنا إلى ترجمته في كتب الرجال، نجد أنه ليس من الحفاظ المتقنين الذين هم من شرط الصحيح. فقد وثقه ابن المديني. وقال أبو حاتم : صدوق إلا أنه يهم أحياناً. وقال ابن معين : لا بأس به. وقال أبو زرعة : منكر الحديث. وأورد له ابن عدي عدة أحاديث وقال : إنه لا بأس به. فهذا الراوي واضح أنه ليس في الدرجة العليا من رجال الصحيح، بل ليس من رجال الصحيح حسبما استقرت عليه كتب المصطلح، فإن من قيل فيه صدوق يهم، ولا بأس به، فحديثه حسن، ومن قيل فيه منكر الحديث فحديثه ضعيف، إذن فأحاديث الطفاوي تكون ضعيفة ضعفاً محتملاً أو حسنة على الاصطلاح المتداول، والآن ندرس أحاديثه وكيف صححها الإمام البخاري – رحمه الله - .
الحديث الأول : قال البخاري – رحمه الله - : " ثنا أحمد بن المقدام العجلي ثنا (ص 149) محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالوا : إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا ؟ قال : سموا الله وكلوه. لو نظرنا إلى خصوص سند هذا الحديث لحكمنا عليه بالضعف، وفي أحسن الأحوال بالحسن الاصطلاحي، لكن الإمام البخاري صححه وأورده في صحيحه محتجاً به، والجواب على ذلك أنه وإن كان خصوص سنده فيه مقال لكن له متابعات تقويه وترفعه إلى درجة الصحة، وهذه المتابعات هي :
1 – متابعة أبو خالد الأحمر: وصلها المصنف في كتاب التوحيد: قال البخاري – رحمه الله – " حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا أبو خالد الأحمر، قال : سمعت هشام بن عروة يحدث عن أبيه عن عائشة قال : قالوا : يا رسول الله إن هنا أقواماً حديثاً عهدهم بشرك يأتونا بلُحْمَانٍ لا ندري يذكرون اسم الله عليها أم لا، قال : اذكروا أنتم اسم الله وكلوا ". تابعه محمد بن عبد الرحمن وعبد العزيز بن محمد وأسامة بن حفص. وأبو خالد هو سليمان بن حيان الأزدي الكوفي، قال فيه الذهبي : " صاحب حديث وحفظ، روى عباس عن بن معين : صدوق ليس بحجة، وقال علي بن المديني : ثقة، وقال أبو حاتم، صدوق، روى له أحاديث خولف فيها – هو كما قال يحي : صدوق ليس بحجة، وإنما أوتي من سوء حفظه. (ص 150) قلت : الرجل من رجال الكتب الستة، وهو مكثر يهم كغيره ". وقال فيه الحافظ : " صدوق يخطئ ". وقد ذكره العقيلي في كتابه الضعفاء، فهو صالح للمتابعة.
2 – متابعة أسامة بن حفص : وصلها المصنف في كتاب الأضاحي، قال البخاري : " ثنا محمد بن عبد الله، ثنا أسامة بن حفص المديني عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة – رضي الله عنها – أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : " إن قوماً يأتوننا … ". تابعه علي عن الدراوردي، وتابعه أبو خالد والطفاوي. وأسامه بن حفص شيخ لم يزد البخاري في ترجمته في التاريخ الكبير على ما في هذا الحديث حيث قال : " أسامة بن حفص المديني، عن هشام بن عروة سمع منه محمد بن عبد الله ". ولم يذكره أبو حاتم في كتابه، وقال فيه الذهبي: "صدوق، ضعفه أبو الفتح الأزدي بلا حجة، وقال اللالكائي: مجهول، قلت روى عنه أربعة" يعني انتفت عنه الجهالة بذلك، فمثله يصلح للمتابعة. لهذه المتابعات صحح الإمام البخاري هذا الحديث وأورده في كتابه محتجاً به مستنبطاً منه مسائل في الفقه والعقيدة، وقد أخذ منه الحافظ ابن حجر أن تقوية الحديث الذي يرويه الضعيف إذا كانت له متابعات هو أمر يشهد له صنيع البخاري، قال – رحمه الله – : (ص 151) " ويؤخذ من صنيعه أنه وإن اشترط في الصحيح أن يكون راويه من أهل الضبط والإتقان أنه إن كان في الراوي قصور عن ذلك، ووافقه على رواية ذلك الخبر من هو مثله انجبر ذلك القصور بذلك، وصح الحديث على شرطه ".
الحديث الثاني : قال الإمام البخاري : " حدثنا محمد بن المقدام العجلي حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي حدثنا أيوب عن محمد عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أعطيت مفاتيح الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم البارحة إذ أتيت بمفاتيح خزائن الأرض حتى وضعت في يدي". وطريق الطفاوي هذا قال فيه البغوي فيما ذكر عنه الإسماعيلي : " لا أعلم حدث به عن أيوب غير محمد بن عبد الرحمن " وهذا الحكم من مثل هذا الإمام له قيمته العلمية لأنه مبني على التتبع والاستقراء لذا لم يذكر الحافظ في مقدمة الفتح متابعات لحديث الطفاوي وكذا لم يفعل في شرحه لهذا الحديث في الفتح، مع سعة إطلاع الحافظ –رحمه الله– وتبحره في معرفة الطرق والروايات، وشدة دفاعه عن الصحيح ورجاله، ومن هنا أستطيع أن أقول إن هذا الحديث لو طبقنا عليه قواعد المصطلح بخصوص إسناده لحكمنا عليه بالغرابة والضعف، لكن الإمام البخاري أورده في جامعه الذي اشترط فيه الصحة معتمداً عليه، والإمام البخاري لم يحكم على خصوص هذا الإسناد وإنما باعتبار ما لهذا الحديث من شواهد منها :
الشاهد الأول : ما رواه البخاري في كتاب الاعتصام من صحيحه قال : " حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (ص 152) " بُعثت بجوامع الكلم … ".
والشاهد الثاني : ما رواه البخاري في كتاب الجهاد من صحيحه قال : " حدثنا يحي بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بعثت بجوامع الكلم ونُصرت بالرعب … ". فهذه الشواهد أو بعبارة أدق هذه المتابعات القاصرة، تدل على أن هذا الحديث محفوظ عن أبي هريرة يرويه عنه محمد بن سيرين وسعيد بن المسيب. ويرويه عن سعيد بن المسيب، ابن شهاب الزهري، ويرويه عن الزهري، إبراهيم بن سعد وعقيل. وأما محمد بن سيرين فيرويه عنه أيوب، ولم يروه عن أيوب إلا الطفاوي كما تقدم. فأصل الحديث إذن ثابت وصحيح لا مرية فيه. لكن ما هو الغرض العلمي الذي دفع البخاري إلى إخراج هذا الحديث من طريق الطفاوي؟
ظهر لي غرضان هما : أولاً : هذا الإسناد رواته كلهم بصريون، كما صرح به الحافظ وكما يعلم من تراجمهم، إذن فهذا الإسناد وإن كان فيه تفرد محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن أيوب، الذي قد يثير شبهة الغرابة، وخاصة أن المتفرد ليس من الحفاظ، لكن لما كان هذا المتفرد إنما انفرد به شيخه وبلديه، والحديث مشهور بالبصرة متداول بين علمائها، فهذه الشهرة تدفع تلك الغرابة الآتية من تفرد الطفاوي به. (ص 153) ثانياً : هذا الطريق أعلى سنداً من غيره فبين البخاري والنبي صلى الله عليه وسلم خمسة رجال، بينما الطريق الذي أورده في كتاب الجهاد فبينه وبين النبي صلى الله عليه و سلم ستة رجال، فطريق الطفاوي جمع بين العلو وتسلسل الرواة باعتبار بلدهم وهذا مما يُعنى به المحدثون، ولا يكون هذا كله إلا إذا تأكد لديهم صحة أصل الحديث، والله تعالى أعلم.
وأما الحديث الثالث: فهو حديث ابن عمر " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل .. ". قال البخاري : " حدثنا علي بن عبد الله حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو المنذر الطفاوي عن سليمان أو عمش قال : حدثني مجاهد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيميني فقال : كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ". قال الحافظ : " فهذا الحديث قد تفرد به الطفاوي وهو من غرائب الصحيح وكأن البخاري لم يشدد فيه لكونه من أحاديث الترغيب والترهيب". " وقد أخرجه أحمد والترمذي من رواية سفيان الثوري عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد، وأخرجه ابن عدي في الكامل من طريق الحماد بن شعيب عن أبي يحي القتات عن مجاهد، وليث وأبو يحي ضعيفان والعمدة على طريق الأعمش وللحديث طريق آخر أخرجه النسائي من رواية عبدة بن أبي لبابة عن ابن عمر مرفوعاً وهذا مما يقوي الحديث المذكور ". 2 – أحاديث فضيل بن سليمان النميري : أبو سليمان البصري، تكلم في حفظه كثير من الأئمة. (ص 154) قال الساجي : كان صدوقاً، وعنده مناكير. وقال عباس الدوري عن ابن معين : ليس بثقة. وقال أبو زرعة : لين الحديث. وقال أبو حاتم : يكتب حديثه وليس بالقوي. وقال النسائي : ليس بالقوى. وقد لخص الحافظ حاله فقال: " صدوق له خطأ كثير "..
فواضح أن مثل هذا الراوي ليس من شرط الصحيح، ومع ذلك نجد الإمام البخاري قد انتقى من حديثه ما يتابعه عليه غيره، منها : 1 – حديثه عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر في إجلاء اليهود. ساق البخاري سنده فقط في كتاب الحرث والمزارعة وذكر عقبة متابعة ابن جريج من طريق عبد الرزاق معلقاً وقد وصل مسلم طريق ابن جريج، وأخرجها أحمد عن عبد الرزاق عنه بتمامها، وقد ساق البخاري لفظ فضيل بن سليمان في كتاب الخمس. 2 – وحديثه بهذا الإسناد أيضاً في قصة زيد بن عمرو بن نفيل تابعه عليه عبد العزيز بن المختار عند أبي يعلي. 3 – وحديثه عن مسلم بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن جابر عمن (ص 155) سمع النبي صلى الله عليه وسلم وتابعه عليه عند البخاري سليمان بن يسار عن عبد الرحمن بن جابر وسمي المبهم أبا بردة بن نيار. 4 – وحديثه عن منصور بن عبد الرحمن عن صفية عن عائشة أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من الحيض … " تابعه عليه ابن عيينة ووهيب وغيرهما. 5 – وحديثه عن أبي حازم عن سهل بن سعد في حفر الخندق قال البخاري – رحمه الله - : " حدثني أحمد بن المقدام العجلي حدثنا الفضيل بن سليمان حدثنا أبو حازم حدثنا سهل بن سعد الساعدي قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الخندق وهو يحفر ونحن ننقل التراب، وبصر بنا، فقال : اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة ". وقد تابعه على حديثه هذا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل.
6 – وحديثه أيضاً بهذا الإسناد " ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفاً … ". (ص 156) تابعه عليه عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه أيضاً. فهذه أمثلة ونماذج لم أقصد منها الاستيعاب، وإنما قصدت توضيح منهج البخاري في تقوية أحاديث الضعفاء، وأنه لا يعتمد على خصوص الأسانيد وإنما يحكم للحديث بمجموع طرقه. والسؤال الذي يمكن أن يُطرح : لماذا يخرج البخاري لمثل هؤلاء الضعفاء مع أن الحديث قد يكون مروياً بإسناد آخر أقوى منه ؟ ونفس الإشكال يُطرح أيضاً على الإمام مسلم.
وقد أجاب الإمام ابن الصلاح عن هذا فقال ما ملخصه : " عاب عائبون مسلماً بروايته في صحيحه عن جماعة من الضعفاء أو المتوسطين الواقعين في الطبقة الثانية الذين ليسوا من شرط الصحيح. والجواب : أن ذلك لأحد أسباب لا معاب عليه معها. أحدها : أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده. الثاني : أن يكون ذلك واقع في الشواهد والمتابعات. الثالث : أن يكون صنف الضعيف الذي احتج به طرأ بعد أخذه عنه، باختلاط حدث عليه غير قادح فيما رواه من قبل في زمان سداده واستقامته. الرابع : أن يعلو بالشخص الضعيف إسناده، وهو عنده برواية الثقات نازل فيذكر العالي ولا يطول بإضافة النازل إليه مكتفياً بمعرفة أهل الشأن بذلك، ولما أنكر أبو زرعة على مسلم روايته عن أسباط بن نصر، (ص 157) وقطن بن نسير، وأحمد بن عيسى المصري، قال : إنما أدخلت من حديث أسباط، وقطن، وأحمد، ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه ربما وقع إلي عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية أوثق منه بنزول، فاقتصر على ذلك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات ". وما أجاب به ابن الصلاح عن الإمام مسلم هو نفسه الجواب عن الإمام البخاري. (ص 158). * * * المبحث الثالث اتصال السند المطلب الأول : تعريفه وأهميته. المطلب الثاني : طرق التحمل والأداء عند الإمام البخاري. المطلب الثالث : العنعنة وموقف البخاري منها. المطب الرابع : نماذج من أحاديث أعلت بالانقطاع في صحيح البخاري. المطلب الخامس : التدليس وموقف البخاري منه.
المطلب الأول تعريف السند وأهميته تعريف السند لغة : هو ما ارتفع من الأرض … وما قابلك من الجبل وعلا عن السفح، والجمع أسناد، وكل شيء أسندته إلى شيء فهو مسند، ويقال أسند في الجبل إذا ما صعده، ويقال فلان سند أي معتمد. (ص 159)
واصطلاحاً : هو طريق المتن، أي سلسلة الرواة الذين نقلوا المتن عن مصدره الأول، وسمي هذا الطريق سنداً إما لأن المسند يعتمد عليه في نسبة المتن إلى مصدره، أو لاعتماد الحفاظ على السند في معرفة صحة الحديث وضعفه.
والمراد باتصال السند : أن لا يكون هناك انقطاع في سلسلة الإسناد بسقوط راو أو أكثر عمداً من بعض الرواة أو من غير عمد، من أول السند أو من آخره أو من أثنائه سقوطاً ظاهراً أو خفياً.
أهميته : إن اتصال السند شرط أساسي وضروري في صحة الحديث (فمدار الحديث الصحيح على الاتصال وإتقان الرجال وعدم العلل) ولهذا الأهمية العظيمة اعتبر الإسناد من الدين، قال الإمام ابن المبارك: " الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء ". وقال سفيان الثوري : " الإسناد سلاح المؤمن، فإذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل ". فالإسناد خصيصة من خصائص هذه الأمة، وفضيلة تمت لله عز وجل عليهم بها النعمة، به عرف الصحيح من السقيم، وصان الله دينه عن قول كل أفاك أثيم، وليس لمن قبل هذه الأمة غير صحف اختلط منكرها بمقبولها، واشتبه صحيحها بمعلولها، فلا تمييز عند أحد منهم بين ما جاء به أنبياؤهم المرسلون، وبين ما أدخل في ذلك، وألحق به الغواة المبلطون. (ص 160) وقد سبق في الفصل الأول أن الإمام البخاري سمى كتابه " الجامع الصحيح المسند … ". وأنه قصد جمع الأحاديث المرفوعة المتصلة الإسناد، وقد أورد فيه الآيات والموقوفات والآثار على سبيل التبع والاستشهاد والكثير منها معلق غير مسند، وهذه لا أتكلم عنها في هذا الحديث، لأنها ليست على شرط الكتاب، وسأتكلم على قضايا لها علاقة مباشرة بصحة الحديث وتعليله، كطرق التحمل والأداء عند الإمام البخاري، والعنعنة وموقف البخاري منها، ثم دراسة نماذج من أحاديث أعلت بالانقطاع وهي في صحيح البخاري، ثم أتعرض للتدليس وموقف الإمام البخاري من رواية المدلسين. * * المطلب الثاني طرق التحمل والأداء عند الإمام البخاري ذكر الإمام البخاري في " صحيحه " الطرق المعتمدة عنده في النقل والتحمل وهي : 1 – السماع من لفظ الشيخ. 2 – القراءة والعرض على المحدث. 3 – المناولة. 4 – المكاتبة.
أولاً : السماع من لفظ الشيخ : وقد ترجم له بقوله : " باب قول المحدث حدثنا أو أخبرنا وأنبأنا " وهي الصيغ المستعملة للتعبير عن السماع، وأورد في هذا الباب ما يلي : " قال لنا الحميدي، كان عند ابن عيينة حدثنا وأخبرنا وأنبأنا واحد ". واستدل البخاري، على أنه لا فرق بين هذه الألفاظ، بأن الصحابة – (ص 161) رضوان الله عليهم – كانوا يستعملون جميع هذه الألفاظ فيما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم وأورد ثلاثة تعاليق تنبيهاً على أن الصحابي تارة كان يقول حدثناً، وتارة كان يقول سمعت، فيدل على أنه لا فرق بينهما..
وهذه التعاليق هي : الأول : قال ابن مسعود : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق. الثاني : قال شقيق عن عبد الله : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم. الثالث : وقال حذيفة حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين. ثم ذكر حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي، فوق الناس في شجر البوادي، قال عبد الله : ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت، ثم قالوا : حدثنا ما هي يا رسول الله، قال : هي النخلة ". قال الحافظ ابن حجر : " فإن قيل : فمن أين تظهر مناسبة حديث ابن عمر للترجمة، ومحصل الترجمة التسوية بين صيغ الأداء الصرحية وليس ذلك بظاهر في الحديث المذكور، فالجواب أن ذلك يستفاد من اختلاف ألفاظ الحديث المذكور، ويظهر ذلك إذا اجتمعت طرقه، فإن لفظ عبد الله بن دينار المذكور في الباب " فحدثوني ما هي " وفي رواية نافع عند المؤلف في التفسير " أخبروني " وفي رواية عند الإسماعيلي " أنبئوني " وفي رواية مالك عند المصنف في باب الحياء في العلم " حدثوني ما هي " وقال فيها " فقالوا أخبرنا بها " فدل ذلك على أن التحديث والإخبار والإنباء عندهم (ص 162) سواء، وهذا لا خلاف فيه عند أهل العلم بالنسبة إلى اللغة (*).
ومن أصرح الأدلة فيه قوله تعالى : " يومئذ تحدث أخبارها " وقوله تعالى : " ولا ينبئك مثل خبير ". وأما بالنسبة إلى الاصطلاح ففيه الخلاف : فمنهم من استمر على أصل اللغة، وهذا رأي الزهري ومالك وابن عيينة ويحي القطان وأكثر الحجازيين والكوفيين، وعليه استمر عمل المغاربة، ورجحه ابن الحاجب في مختصره، ونقل عن الحاكم أنه مذهب الأئمة الأربعة، ومنهم من رأى إطلاق ذلك حيث يقرأ الشيخ من لفظه وتقييده حيث يقرأ عليه، وهو مذهب إسحاق بن راهوية والنسائي وابن حبان وابن منده وغيرهم، ومنهم من رأى التفرقة بين الصيغ بحسب افتراق التحمل : فيخصون التحديث بما يلفظ به الشيخ، والإخبار بما يقرأ عليه، وهذا مذهب ابن جريج الأوزاعي والشافعي وابن وهب وجمهور أهل المشرق، ثم أحدث أتباعهم تفصيلاً آخر : فمن سمع وحده من لفظ الشيخ أفرد فقال : " حدثني " ومن سمع مع غيره جمع، ومن قرأ بنفسه على الشيخ أفرد فقال : " أخبرني " ومن سمع بقراءة غيره جمع، وكذا خصصوا الإنباء بالإجازة التي يشافه بها الشيخ من يجيزه، وكل هذا مستحسن وليس بواجب عندهم، وإنما أرادوا التمييز بين أحوال التحمل، وظن بعضهم أن ذلك على سبيل الوجوب، فتكلفوا في الاحتجاج له وعليه بما لا طائل تحته، نعم يحتاج المتأخرون إلى مراعاة الاصطلاح المذكور لئلا يختلط، لأنه صار حقيقة عرفية عندهم، فمن تجوز عنها احتاج إلى (ص 163) الإتيان بقرينة تدل على مراده، وإلا فلا يؤمن اختلاط المسموع بالمجاز بعد تقرير الاصطلاح، فيحمل ما يرد من ألفاظ المتقدمين على محمل واحد بخلاف المتأخرين ".
ثانياً : القراءة والعرض على المحدث : وقد بوّب الإمام البخاري في كتاب العلم بهذا "باب القراءة والعرض على المحدث".
قال الحافظ -رحمه الله-: " إنما غاير بينهما بالعطف لما بينهما من العموم والخصوص، لأن الطالب إذا قرأ كان أعم من العرض وغيره. ولا يقع العرض إلا بالقراءة. لأن العرض عبارة عما يعارض به الطالب أصل شيخه معه، ومع غيره بحضرته، فهو أخص من القراءة، وتوسع فيه بعضهم فأطلقه على ما إذا أحضر الأصل لشيخه فنظر فيه وعرف صحته، وأذن له من غير أن يحدث به، أو يقرأه الطالب عليه. والحق أن هذا يسمى عرض المناولة بالتقييد لا بالإطلاق. وقد كان بعض السلف لا يعتدون إلا بما سمعوه من ألفاظ المشايخ دون ما يقرأ عليهم. ولهذا بوّب البخاري على جوازه، وأورد فيه قول الحسن – وهو البصري – لا بأس بالقراءة على العالم، وكذا ذكر عن سفيان الثوري ومالك أنهما يسويان السماع مع العالم والقراءة عليه ".
وقد ذهب، العلامة العيني إلى أنه لا فرق بين القراءة والعرض وأنهما متساويان، واعتمد على كلام الكرماني لأنه قال المراد بالعرض عرض القراءة بقرينة ما يذكر بعد الترجمة ثم قال : فإن قلت: فعلى هذا التقدير لا يصح (ص 164) عطف العرض على القراءة لأنه نفسها. قلت : العرض تفسير القراءة ومثله يسمى بالعطف التفسيري. والتحقيق أن العرض في كلام أئمة الحديث يطلق على معنيين: عرض القراءة، وعرض المناولة.
وهذه أقوال الأئمة التي تشهد على هذا : قال الإمام الحاكم النيسابوري – رحمه الله – : " … وبيان العرض أن يكون الراوي متقناً فيقدم المستفيد إليه جزءاً من حديثه أو أكثر من ذلك فيتناوله، فيتأمل الراوي حديثه، فإذا أخبره وعرف أنه من حديثه، قال المستفيد : قد وقفت على ما ناولتنيه، وعرفت الأحاديث كلها وهذه رواياتي عن شيوخي فحدث بها. فقال جماعة من أئمة الحديث أنه سماع ". ثم ذكر جماعة من علماء المدينة ومكة والبصرة والكوفة ومصر وأهل الشام وخراسان ثم قال: " وقد رأيت أنا جماعة من مشايخي يرون العرض سماعاً ". وذكر الحجة على ذلك ثم قال : " قد ذكرنا مذاهب جماعة من الأئمة في العرض فإنهم أجازوها على الشرائط التي قدمنا ذكرها، ولو عاينوا ما عايناه من محدثي زماننا لما أجازوه. فإن المحدث إذا لم يعرف ما في كتابه، كيف يعرض عليه ؟ " فالعرض هنا يقصد به المناولة. وقال الإمام الخطيب البغدادي : " ذهب بعض الناس إلى كراهة العرض : وهو القراءة على المحدث ورأوا أنه لا يعتد إلا بما سمع من لفظه، وقال جمهور الفقهاء والكافة من أئمة العلم بالأثر إن القراءة على (ص 165) المحدث بمنزلة السماع منه ". وقال القاضي عياض (544هـ) وهو يتحدث عن الضرب الثاني من أصول الرواية وهو القراءة على الشيخ وأكثر المحدثين يسمونه " عرضاً " لأن القارئ يعرض ما يقرؤه على الشيخ كما يعرض القرآن على إمامه، وحكاه البخاري عن الحسن والثوري ومالك ". فالعرض عند الخطيب البغدادي والقاضي عياض بمعنى القراءة على المحدث، ونسب القاضي عياض التسوية بينهما إلى البخاري. والذي يتبين لي أن الإمام البخاري سوّى بين القراءة والعرض من حيث الاستعمال وأن العطف بينهما تفسيري كما ذهب إليه العلامة العيني – رحمه الله – وهذا من خلال الحجج التي ذكرها في هذا الباب على صحة القراءة وهي قوله : " 1 – واحتج بعضهم في القراءة على العالم بحديث ضمام بن ثعلبه قال للنبي صلى الله عليه وسلم آلله أمرك أن تصلي الصلوات ؟ قال نعم. قال البخاري – رحمه الله – فهذه قراءة على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر ضمام قومه بذلك فأجازوه. 2 – واحتج مالك بالصك يقرأ على القوم فيقولون أشهدنا فلان، ويقرأ ذلك قراءة عليهم. 3 – ويقرأ على المقرئ فيقول القارئ : أقرأني فلان ". فهذه الحجج واضحة أنها في القراءة وليست في عرض المناولة. ثم ذكر الإمام البخاري كيفية التعبير عن التحمل بالقراءة فقال : (ص 166) " حدثنا عبد الله بن موسى عن سفيان قال: إذا قرئ على المحدث فلا بأس أن يقول: حدثني، قال: سمعت أبا عاصم يقول عن مالك وسفيان: القراءة على العالم، وقراءته سواء ".
ثالثاً ورابعاً – المناولة والمكاتبة : وهي " إعطاء الشيخ الطالب شيئاً من مروياته مع إجازته به صريحاً أو كتابة ". والإمام البخاري يرى صحة الرواية بالمناولة فقد ترجم في صحيحه في كتاب العلم بما يدل على ذلك حيث قال : " باب ما يذكر في المناولة، وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان ". قال الحافظ رحمه الله: " لما فرغ من تقرير السماع والعرض، أردف ببقية وجوه التحمل المعتبرة عند الجمهور فمنها المناولة وصورتها، أن يعطي الشيخ الطالب الكتاب فيقول له: هذا سماعي من فلان، أو هذا تصنيفي، فاروه عني، وقد قدمنا صورة عرض المناولة، وهي إحضار الطالب الكتاب، وقد سوّغ الجمهور الرواية بها وردها من رد عرض القراءة من باب أولى".
وقد ذكر العلماء للمناولة ثلاثة أنواع هي : 1 – المناولة المقرونة بالإجازة مع التمكين من النسخة والرواية بها صحيحة عند معظم الأئمة والمحدثين. (ص 167) 2 – المناولة مع الإجازة من غير تمكين من النسخة، يرى الفقهاء والأصوليون أنه لا تأثير لها، ولا فائدة فيها بينما شيوخ الحديث يرون لذلك مزية معتبرة. 3 – المناولة المجردة من الإجازة أجازها طائفة من أهل العلم، وصححوا الرواية بها، وعابها غير واحد من الفقهاء والأصوليين على من أجازها وسوّغ الرواية بها. والإمام البخاري يعتبر النوع الأول فقط، كما سيأتي توضيحه من خلال الأدلة التي أوردها على جواز المناولة، وأما النوعين الآخرين فيهما من توسع المتأخرين بعد عصر الرواية محافظة على بقاء الإسناد. وقول البخاري : " وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان " يدل على جواز المكاتبة عنده. قال الحافظ رحمه الله : " قوله إلى البلدان " أي أهل البلدان، وذكر البلدان على سبيل المثال، وإلا فالحكم عام في القرى وغيرها، والمكاتبة من أقسام التحمل وهو : أن يكتب الشيخ حديثه بخطه، أو يأذن لمن يثق به بكتبه، ويرسله بعد تحريره إلى الطالب، ويأذن له في روايته عنه وقد سوى المصنف بينها وبين المناولة ورجح قوم المناولة عليها لحصول المشافهة فيها بالإذن دون المكاتبة، وقد جوّز جماعة من القدماء إطلاق الإخبار فيهما والأولى ما عليه المحققون من اشترط بيان ذلك "
وقد قسم العلماء المكاتبة إلى قسمين : 1 – المكاتبة المقرونة بالإجازة : وهي في الصحة والقوة شبيهة بالمناولة المقرونة بالإجازة، والرواية بها صحيحة بلا خلاف. 2 – المكاتبة المجردة من الإجازة : منعها بعض الفقهاء والأصوليين (ص 168) وأجازها أكثر المحدثين وهو المعمول به عندهم.
أدلة الإمام البخاري على جواز المناولة والمكاتبة : استدل الإمام البخاري على صحة الرواية بالمناولة والمكاتبة بعمل السلف من الصحابة والتابعين والأئمة.
وقد ذكر منها البخاري ما يلي : 1 – قال أنس : " نسخ عثمان المصاحف فبعث بها إلى الآفاق ". قال الحافظ : " ودلالته على تسويغ الرواية بالمكاتبة واضح، فإن عثمان أمرهم بالاعتماد على ما في تلك المصاحف، ومخالفة ما عداها ".
2 – ورأى عبد الله بن عمر ويحي بن سعد ومالك ذلك جائزاً. قال الحافظ : " وجدت في كتاب الوصية لأبي القاسم بن مندة من طريق البخاري يسند له صحيح إلى أبي عبد الرحمن الحبلي أنه أتى عبد الله بكتاب فيه أحاديث فقال : انظر في الكتاب، فما عرفت منه اتركه وما لم تعرفه امحه، … وهو أصل في عرض المناولة ". وأما الأثر بذلك عن يحي بن سعيد ومالك فأخرجه الحاكم في علوم الحديث من طريق إسماعيل بن أبي أويس قال: سمعت مالك بن أنس يقول: قال لي يحي بن سعيد الأنصاري لما أراد الخروج إلى العراق: التقط لي مائة حديث من حديث ابن شهاب حتى أرويها عنك، قال مالك: فكتبتها ثم بعثتها إليه، وروى الرامهرمزي من طريق ابن أبي أويس أيضاً عن مالك في وجوه التحمل قال: قراءتك على العالم، ثم قراءته وأنت تسمع ثم أن يدفع لك كتاباً يقول: ارو هذا عني ". (ص 169)
3 – واحتج بعض أهل الحجاز(*) في المناولة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث كتب لأمير السرية كتاباً وقال: لا تقرأه، حتى تبلغ مكان كذا وكذا، فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس، وأخبرهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم. قال الإمام السهيلي –رحمه الله– (ت 581هـ): " احتج به البخاري على صحة المناولة، فكذلك العالم إذا ناوله التلميذ جاز أن يروي عنه ما فيه، قال : وهو فقه صحيح ". وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - : " ووجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرة، فإنه ناوله الكتاب وأمره أن يقرأه على أصحابه ليعملوا بما فيه، ففيه المناولة ومعنى الكتاب ". ثم أورد البخاري – رحمه الله – حديث أنس – رضي الله عنه – قال: كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً أو أراد أن يكتب كتاباً فقيل له: إنهم لا يقرؤون كتاباً إلا مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضة. نقشه: محمد رسول الله كأني أنظر إلى بياضه في يده. قال الحافظ – رحمه الله - : " يعرف من هذا فائدة إيراده هذا الحديث في هذا الباب لينبه على شرط العمل بالمكاتبة أن يكون الكتاب مختوماً ليحصل الأمن من توهم تغيره لكن قد يستغني عن ختمه إذا كان الحامل عدلاً مؤتمناً ". (ص 170)
حكم الطرق الأخرى من أنواع التحمل عند الإمام البخاري : نلاحظ أن الإمام البخاري لم يذكر الأوجه الأخرى من أوجه التحمل، والظاهر أنه لا يرى صحة الأخذ بها فالأئمة المتقدمون لم يكونوا يرون لصحة التحمل إلا تلك الطرق كما مر ذلك في قول مالك بن أنس – رحمه الله – لكن عندما دونت الكتب وأمن جانب الرواية سوّغ العلماء في توسيع طرق التحمل تيسيراً على الناس وإبقاءً لسلسلة الإسناد التي خصت بها هذه الأئمة وكلما تأخرت الأعصار كثر التنويع والتوسيع والتساهل وإليك من أقوال العلماء ما يشهد على ما تقدم ذكره. قال الحافظ – رحمه الله - : " لم يذكر المصنف (أي البخاري) من أقسام التحمل الإجازة المجردة عن المناولة أو المكاتبة، ولا الوجادة، ولا الوصية، ولا الإعلام، المجردات عن الإجازة وكأنه لا يرى شيئاً منها ".
وقد سبق إلى هذا الإمام الحافظ ابن رشيد السبتي (ت 721هـ) رحمه الله حيث قال : " … وإنما اعتمد الناس منذ مدة متقدمة على الإجازة المطلقة والكتابة المطلقة توسعة لباب النقل وترحيباً لمجال الإسناد، لعزة وجود السماع على وجه في هذه الأعصار : بل قبلها بكثير، وتعذر الرحل في أكثر الأحوال، واعتماداً على أن الأحاديث لما صارت في دفاتر محصورة، وأمات مصنفات مشهورة، ومرويات الشيوخ في فهارس مفهرسة، قام ذلك عندهم مقام التعيين الذين كان من مضى من السلف يفعله، فاكتفى المجيزون بالإخبار الجملي، واعتمدوا في البحث عن التفصيل على المجاز إذا تأهل، فكانت رخصة أخذ بها جماهير أهل العلم إبقاء لسلسلة الإسناد التي خصت بها هذه الأمة، ولله الحمد والمنة وإن كانت هذه ليست الإجازة المتعارفة عند التابعين وتابعيهم، كالحسن ابن أبي الحسن البصري، ونافع مولى ابن عمر، وأبي بكر بن عبد الرحمن أحد الفقهاء السبعة، ومجاهد بن جبر، وعلقمة بن قيس، وأيوب السختياني، وشعبة بن الحجاج وغيره ممن (ص 171) لا يحصى كثرة، فإما كانت تلك في الشيء المعين يعرفه المجيز والمجاز له، أو مع حضور الشيء المجاز فيه ". ثم ساق آثاراً عن السلف في العمل بالإجازة المعينة في الشيء المعين ثم قال ابن رشيد – رحمه الله - : " وأجل شيء نعرفه لمتقدم في الإجازة المقيدة وأجلاه لفظاً وأصحه معنى ما ذكره أبو عيسى الترمذي الإمام الحافظ في كتاب العلل في آخر الديوان، في باب التاريخ الذي نقله عن الإمام أبي عبد الله البخاري – رحمه الله – وقد انتهى بالسماع عليه إلى بعض حرف العين ما نصه. قال أبو عيسى : إلى ها هنا سماعي من أبي عبد الله محمد بن إسماعيل من أول الحكايات وما بعدها فهو مما أجازه لي وشافهني به بعدما عارضته بأصله إلى أن ينقضي به كلام محمد بن إسماعيل. فقال : قد أجزت لك أن تروي عني إلى آخر باب ي ". ثم قال الحافظ ابن رشيد : " هذا أجلي نص تجده في الإجازة لمتقدم معتمد من لفظ قائله، نعم نجد ألفاظاً مطلقة مجملة غير مفسرة منقولة عنهم بالمعنى، أو ظواهر محتملة، وهذا كان دأب تلك الطبقة من الإجازة في المعين أو الكتابة له، وما رأى الإجازة المطلقة حدثت إلا بعد زمن البخاري حيث اشتهرت التصانيف وفهرست الفهارس، وإن كان بعضهم قد نقل الإجازة المطلقة عن ابن شهاب الزهري وغيره فما أرى ذلك يصح ".
من خلال ما تقدم يتبين لنا أن الإمام البخاري لا يرى صحة الرواية بالإجازة المطلقة وإنما يرى صحة الإجازة المقترنة بالمناولة أو المكاتبة. فإن قلت : قال بعض الحفاظ إن ما يقول فيه البخاري " قال لي " فهي إجازة فالجواب على هذا قد ذكره الحافظ ابن حجر – رحمه الله – حيث (ص 172) قال : " وقد ادعى ابن مندة أن كل ما يقول البخاري فيه " قال لي " فهي إجازة، وهي دعوى مردودة بدليل أني استقريت كثيراً من المواقع التي يقول فيها في " الجامع " " قال لي " فوجدته في غير الجامع يقول فيها : " حدثنا " والبخاري لا يستجيز في الإجازة إطلاق التحديث(*) فدل على أنها عنده من المسموع، لكن سبب استعماله لهذه الصيغة ليفرق بين ما بلغ شرطه وما لا يبلغ، والله أعلم ".
لكن بقي هنا إشكال لابد من الإجابة عليه، وهو إذا تقرر أن البخاري لا يرى صحة الرواية بالإجازة المطلقة فلماذا أخرج في صحيحه لمن روى بالإجازة ؟ من المعلوم أن أصحاب الصحيح كانوا يتحرون في كيفية سماع الرواة بعضهم من بعض حتى يتم لهم تحقق شرط الصحيح، وهو اتصال السند مع بقية الشروط الأخرى ومن ثم تركوا الرواية عن كثير من الرواة بسبب خلل وقع لهم في التحمل، فمن هؤلاء مثلاً : عمرو بن شعيب فقد قال الذهبي بصدد روايته عن أبيه عن جدة : " وبعضهم تعلل بأنها صحيفة رواها وجادة ولهذا تجنبها أصحاب الصحيح، والتصحيف يدخل على الرواية من الصحف، بخلاف المشافهة في السماع ". وقال الإمام ابن تيمية : " وكان عند آل عبد الله بن عمرو بن العاص نسخة كتبها عن النبي صلى الله عليه وسلم وبهذا طعن بعض الناس في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدة وقالوا : هي نسخة ".
ومن أبرز الرواة الذين أخرج لهم البخاري، وقيل عنهم أنهم رووا بالإجازة. (ص 173): الحكم بين نافع أبو اليمان الحمصي " قال أبو زرعة : لم يسمع من شعيب (هو ابن أبي حمزة) إلا حديثاً واحداً، والباقي إجازة، وقال أحمد كان يقول : أنا(*) شعيب استحل ذلك بقول شعيب لهم اروو عني، قلت : ومع روايته لذلك عن شعيب بالإجازة فاحتج بها صاحبا الصحيحين لثقته وإتقانه ".
وقال فيه الحافظ ابن حجر : " مجمع على ثقته، اعتمده البخاري، وروى عنه الكثير، وروى له الباقون بواسطة تكلم بعضهم في سماعه من شعيب، فقيل : إنه مناولة، وقيل عنه إذن مجرد، … وقد قال الفضل بن غسان سمعت يحي بن معين يقول : سألت أبا اليمان عن حديث شعيب فقال : ليس هو مناولة. المناولة لم أخرجها لأحد، وبالغ أبو زرعة الرازي وقال : لم يسمع أبو اليمان من شعيب إلا حديثاً واحداً. قلت : إن صح ذلك فهو حجة في صحة الرواية بالإجازة، إلا أنه كان يقول في جميع ذلك أخبرنا ولا مشاحهة في ذلك إن كان اصطلاحاً له ". وكلام الحافظ لو يحمل على ظاهره يناقض ما ذهب إليه البخاري، وما قرره الحافظ نفسه من أن البخاري لم يذكر الإجازة المجردة عن المناولة، أو المكاتبة ولا الوجادة، ولا الوصية ولا الإعلام المجردات عن الإجازة وكأنه لا يرى شيئاً منها. فالظاهر أنه ليست إجازة مطلقة بل هي إجازة في معين – وهي صحيحة عند الإمام البخاري كما سبق نقله عن الترمذي أنه سمع التاريخ الكبير إلى بعض حرف العين، والباقي إجازة عن الإمام البخاري، وهذا ما يدل عليه كلام الحافظ ابن رجب – رحمه الله – حيث قال : (ص 174) " … وحديث أبي اليمان – عن شعيب - متفق على تخريجه في الصحيحين، وإذا كان حديث شعيب عندهم معروفاً وأذن لهم في روايته عنه فلا حاجة إلى إحضاره ومناولته : بل هذه إجازة من غير مناولة … إلا أن أبا اليمان كان يقول في الرواية بها : أخبرنا. وقد نهى عن ذلك الأوزاعي وأحمد بن صالح المصري، ورخص فيه آخرون منهم : مالك، ورواه الوليد بن مزيد عن الأوزاعي أيضاً، وقد روى عن أحمد أيضاً. وقال أبو اليمان قال لي أحمد بن حنبل : كيف سمعت الكتب من شعيب بن أبي حمزة ؟ قلت : قرأت عليه بعضه، وبعضه قرأه عليّ وبعضه أجاز لي، وبعضه مناولة، فقال : قل في كله أخبرنا شعيب ". ومنه يمكن القول بأن البخاري يرى صحة الرواية بالإجازة المعينة وهي في حكم المناولة أما الإجازة المطلقة وغيرها من أنواع التحمل كالإعلام والوصية والوجادة فهي من توسع المتأخرين بعد عصر الرواية. * * * يتبع إن شاء الله...
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الأحد 13 يونيو 2021, 5:58 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: رد: منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها من خلال الجامع الصحيح الجمعة 04 يناير 2013, 10:17 pm | |
| المطلب الثالث العنعنة وموقف البخاري منها تعريف العنعنة : أ – لغة : هو مصدر جعلي كالبسملة والحمدله والحوقلة، مأخوذ من لفظ "عن (ص 175) فلان" كأخذهم حولق وحوقل من قول "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" وسبحل من قول "سبحان الله".
ب – اصطلاحاً : كل حديث فيه صيغة " فلان عن فلان " من غير بيان للتحديث أو الإخبار أو السماع وهذه الصيغة غير ظاهرة في السماع، ومن هنا اختلفت فيها أقوال الأئمة في الحكم عليها قبولاً وردا.
ويتحصل من مجموع أقوالهم ستة مذاهب : المذهب الأول : يرى أصحابه أن ما كان فيه لفظ " عن " فهو من قبيل المرسل المنقطع حتى يتبين اتصاله من جهة أخرى. وهذا القول نقله ابن الصلاح ولم يسم قائله ونقله قبله القاضي أبو محمد الرامهرمزي (ت36 هـ) عن بعض المتأخرين من الفقهاء وقد أفاض الحافظ العلائي في ذكر أدلة هذا المذهب والرد عليه وكذلك الإمام ابن رشيد الفهري فقد توسع أيضاً في ذكره والرد عليه وسألخص المهم من كلامه. " المذهب الأول : مذهب أهل التشديد، وهو أن لا يعد متصلاً من الحديث إلا ما نص فيه على السماع، أو حصل العلم به من طريق آخر، وأن ما قيل فيه : فلان عن فلان فهو من قبيل المرسل أو المنقطع، حتى يتبين اتصاله بغيره، وهذا المذهب وإن قلّ القائل به بحيث لا يسمى ولا يعلم فهو الأصل الذي كان يقتضيه الاحتياط. (ص 176) وحجته : أن " عن " لا تقتضي اتصالاً لا لغة ولا عرفاً، وإن توهم متوهم فيها اتصالاً لغة فإنما ذلك بمحل المجاوزة المأخوذ عنه. نقول : أخذ هذا عن فلان، فالأخذ حصل متصلاً فإنما ذلك بمحل المجاوزة المأخوذ عنه، وليس فيها دليل على اتصال الراوي بالمروي عنه. وما علم منهم أنهم يأتون بـ " عن " في موضع الإرسال والانقطاع يخرم ادعاء العرف، وإذا أشكل الأمر وجب أن يحكم بالإرسال، لأنه أدون الحالات، فكأنه أخذ بأقل ما يصح حمل اللفظ عليه، وكان لصاحب هذا المذهب أن لا يقول بالإرسال بل بالتوقف حتى يتبين لمكان الاحتمال، ولعل ذلك مراده، وهو الذي نقله مسلم عن أهل هذا المذهب أنهم يقفون الخبر، ولا يكون عندهم موضع حجة لإمكان الإرسال فيه، إلا أن هذا المذهب رفضه جمهور المحدثين بل جميعهم وهو الذي لا إشكال في " أن أحداً من أئمة السلف ممن يستعمل الأخبار ويتفقد صحة الأسانيد وسقيمها مثل أيوب السختياني وابن عون ومالك بن أنس وشعبة بن الحجاج ومن سمى معهم لا يشترطه ولا يبحث معه " ولو اشترط ذلك لضاق الأمر جداً، ولم يتحصل من السنة إلا النزر اليسير فكأن الله أتاح الإجماع عصمة لذلك وتوسعة علينا والحمد لله ".
المذهب الثاني : وهو أيضاً من مذاهب أهل التشديد إلا أنه أخف من الأول ويشترط أصحابه أن يكون الراوي طويل الصحبة لمن روى عنه فإن كان كذلك ولم يكن مدلساً كانت عنعنته محمولة على الاتصال وهو منسوب للإمام أبي المظفر بن السمعاني الشافعي (ت 489 هـ) (ص 177).
المذهب الثالث : إن كان الراوي معروفاً بالرواية عمن عنعن عنه، ولم يكن مدلساً حمل ذلك على الاتصال، قاله الحافظ المقرئ أبو عمرو الداني (ت 444هـ).
المذهب الرابع : إذا أدرك الراوي من عنعن عنه إدراكاً بيناً، ولم يكن مدلساً حمل ذلك على الاتصال، قاله أبو الحسن القابسي. فهذه مذاهب المتشددين، إلا أن ما ذكر عن الداني غير صريح في التشديد بل اعتبره الحافظ ابن رشيد موافقاً لمذهب مسلم بن الحجاج، وسيأتي ذكره وتفصيله.
المذهب الخامس : يرى أصحابه أن العنعنة تقتضي الاتصال وتدل عليه، إذا ثبت اللقاء بين المعنعن والمعنعن عنه ولو مرة واحدة، وكان الراوي بريئاً من تهمة التدليس، وهذا المذهب قد نسبه كثير من العلماء إلى الإمام البخاري وشيخه ابن المديني، وأكثر الأئمة.
المذهب السادس : يرى أصحابه أن العنعنة محمولة على الاتصال إذا توفرت الشروط التالية : 1 – أن يكون الراوي بريئاً من تهمة التدليس. (ص 178). 2 – أن يكون لقاؤه لمن روى عنه بالعنعنه ممكناً من حيث السن والبلد. فإذا توفرت هذه الشروط كان الحديث متصلاً وإن لم يأت أنهما اجتمعا قط. وهو قول الإمام مسلم، والحاكم أبي عبد الله، وهو ظاهر كلام ابن حبان، والقاضي أبي بكر الباقلاني، والإمام الصيرفي. وقد جعله مسلم – رحمه الله – قول كافة أهل الحديث وأن القول باشتراط ثبوت اللقاء قول مخترع، لم يسبق قائله إليه، وبالغ في رده، وطوّل في الاحتجاج لذلك في مقدمة صحيحه. وهذه المذاهب على اختلافها وتباينها نجدها قد أجمعت على شروط لقبول السند المعنعن، وذكرها كثير من العلماء منهم : الحاكم النيسابوري والخطيب البغدادي، وابن عبد البر – رحمهم الله – .
وهذه الشروط هي: 1 – عدالة المحدثين في أحوالهم. 2 – لقاء بعضهم بعضاً مجالسة ومشاهدة. 3 – أن يكونوا برآء من التدليس.
الموازنة بين البخاري ومسلم في الحكم على السند المعنعن : بعد أن عرضنا مذاهب العلماء في الحكم على السند المعنعن، وما أجمعوا عليه وما اختلفوا فيه، نرجع إلى بيان مذهب البخاري – رحمه الله – في هذه المسألة. (ص 179) لقد سبق ذكر الإمام البخاري مع أصحاب المذهب الخامس، والذي يرى أصحابه أن العنعنة تقتضي الاتصال وتدل عليه إذا ثبت اللقاء بين المعنعن والمعنعن عنه ولو مرة واحدة، وكان الراوي بريئاً من تهمة التدليس، هذا المذهب قد نسبه كثير من العلماء إلى الإمام البخاري وشيخه ابن المديني وأكثر الأئمة، كما نسبوا الإمام مسلم إلى مخالفة هذا الشرط، والرد على البخاري ومن تبعه على ذلك. ومن المعلوم قطعاً أن البخاري لم يصرح بهذا المذهب في كتبه، ولا غيره من أئمة الحديث والنقد، وإنما أخذ العلماء ذلك من تصرفهم وصنيعهم في كتبهم، حيث لاحظوا أن الإمام البخاري وشيخه ابن المديني يعلان الأحاديث كثيراً بعد سماع الراوي عمن عنعن عنه مع كونهما متعاصرين، فاستنبطوا من ذلك أن البخاري وشيخه ابن المديني لا يكتفيان بمجرد المعاصرة بل يشترطان تحقق اللقاء. وأما الإمام مسلم فقد صرح بشرطه في مقدمة صحيحه، فأزال بذلك كل ظن وشك، كما أنه رد على مخالفة في ذلك رداً بليغاً شديداً، ويتساءل الكثيرون من المعنى بهذا الرد والنقد ؟ ومن المقصود بهذا الإنكار الشديد والتهجين القوي ؟ والعجيب أن " صحيح مسلم " قرئ على مؤلفه وتلاميذه وتلاميذهم مئات المرات، وأول ما يقرأ فيه المقدمة، وفيها ذلك الإنكار والتهجين، ولم ينقل عن مسلم أو تلاميذه أو تلاميذهم تعيين المعنى بالرد، ولذا خمن العلماء في تعيين المعنى بالرد والإنكار، والعجيب أنهم حملوه على البخاري أو شيخه ابن المديني، وبنوا على ذلك التخمين إشكالات ومحاكمات بين البخاري ومسلم، وكأن الأمر قطعي ثابت لا مرية فيه، والأعجب من هذا كله أن يصدر عن أئمة حفاظ ويتتابعوا عليه منهم الإمام ابن الصلاح، والنووي، وابن رجب الحنبلي، وابن كثير، وابن حجر، والسخاوي، وابن رشيد الفهري، والحافظ العلائي وغيرهم، وسأنقل المهم من كلامهم وأتعقبه بما أراه مناسباً. (ص 180). قال الحافظ ابن رجب : " … وما استدل به مسلم على المخالف له أن من تكلم في صحة الحديث من السلف لم يفتش أحد منهم على موضع السماع، وسمى منهم شعبة والقطان وابن مهدي قال ومن بعدهم من أهل الحديث ". فالمطلوب ممن يريد نقض كلام مسلم أن يأتي بأقوال لهؤلاء الأئمة تخالف ما حكاه مسلم عنهم، أو أقوال لغيرهم ممن لم يذكر قولهم، ولم يفعلوا، ولن يفعلوا إلا أن تكون أقوالاً لعلماء الكلام والأصول ومتأخري الظاهرية. ثم قال ابن رجب : " وكثير من العلماء المتأخرين على ما قاله مسلم – رحمه الله – من أن إمكان اللقي كاف في الاتصال من الثقة غير المدلس، وهو ظاهر كلام ابن حبان وغيره وما قاله ابن المديني والبخاري هو مقتضى كلام أحمد وأبي زرعة، وأبي حاتم وغيرهم من أعيان الحفاظ، بل كلامهم يدل على اشتراط السماع فإنهم قالوا في جماعة من الأعيان ثبتت لهم الرؤية لبعض الصحابة وقالوا مع ذلك لم يثبت لهم السماع منهم، فرواياتهم عنهم مرسلة " وذكر أمثلة على هؤلاء ثم قال : " ومما يستدل به أحمد وغيره من الأئمة على عدم السماع والاتصال، أن يروي عن شيخ من غير أهل بلده، لم يعلم أنه دخل إلى بلده، ولا أن الشيخ قدم إلى بلد كان الراوي عنه فيه ". وهذا الأمر مما يوافق عليه مسلم ويستعمله أيضاً فإنه قال : " وذلك أن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديماً وحديثاً، أن كل رجل ثقة روى عن مثله حديثاً وجائز ممكن له لقاؤه، والسماع منه لكونهما جميعاً كانا في عصر واحد، وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا ولا تشافها بكلام، فالرواية ثابتة، والحجة بها لازمة، إلا أن تكون هناك (ص 181) دلالة بينه على أن هذا الراوي لم يلقَ من روى عنه، ولم يسمع منه شيئاً. فأما والأمر مبهم على الإمكان الذي فسرنا، فالرواية على السماع أبداً، حتى تكون الدلالة بينا " فهذه الأدلة والبينات التي يستدل بها النقاد على عدم سماع المتعاصرين هي من الدلائل والبينات التي يعتبرها الإمام مسلم أيضاً، والمطلوب ممن ينصب الخلاف بين مسلم وغيره من أئمة النقد أن يأتي بأسانيد حكم عليها هؤلاء الأئمة بالانقطاع وعدم السماع، لوجود البينات والدلائل، وحكم عليها مسلم بالاتصال لمجرد المعاصرة، ثم نقل الحافظ ابن رجب اتفاق أهل الحديث على أن حبيب بن أبي ثابت لم يثبت له السماع عن عروة مع إدراكه له وجعله حجة في حكاية الإجماع على خلاف قول مسلم. وهذا غريب جداً من الحافظ ابن رجب لأن مسلماً – رحمه الله – لم يدّع أن كل من أدرك راوياً صحّ سماعه منه، بل قال : إذا كانا متعاصرين وجائز ممكن لقاؤهما، وكان الراوي ثقة غير مدلس وقال : " عن " حمل على السماع، ما لم تقم الحجة والبينة على أنه لم يسمع. ثم قال : " ويلزمه الحكم باتصال حديث كل من عاصر النبي صلى الله عليه وسلم وأمكن لقيه له إذا روى عنه شيئاً، وإن لم يثبت سماعه منه، ولا يكون حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وهذا خلاف إجماع أئمة الحديث ". وهذا الإلزام لا يلزم مسلماً منه شيء البتة، فأين القيد والاستثناء الذي ذكره مسلم " إلا أن تكون هناك دلالة بينة على أن هذا الراوي لم يلقَ من روى عنه، ولم يسمع منه شيئاً " وهذا قيد دقيق نفي فيه المرسل الخفي وهو يفيد نفي المرسل الجلي بالأولى. ثم قال ابن رجب – رحمه الله - : " ولهذا المعنى تجد كلا م شعبة، (ص 182) ويحي، وأحمد، وعلي، ومن بعدهم التعليل بعدم السماع، فيقولون : لم يسمع فلان من فلان، أو لم يصح له السماع منه، ولا يقول أحد قط : لم يعاصره ". وهذا أمر واضح لا إشكال فيه لأن العلة هي سبب غامض يدل على الوهم، ومعرفة السماع من عدمه أمر غامض خاصة بين المتعاصرين، أما المعاصرة فإدراكها واضح ليس فيه غموض وهذا من خلال معرفة المواليد والوفيات، ولهذا كثر تعليل الأحاديث من طرف النقاد بعدم السماع لخفائه وغموضه. هذا أهم ما ورد في كلام الحافظ ابن رجب في الرد على مسلم. وممن يرى أن مسلماً يخالف البخاري وابن المديني في الحكم على السند المعنعن، الإمام الذهبي فقد قال في ترجمة مسلم : " قال أبو بكر الخطيب : كان مسلم يناضل عن البخاري، حتى أوحش ما بينه وبين محمد بن يحي الذهلي بسببه. قلت (الذهبي) ثم إن مسلماً لحدة في خلقه، انحرف أيضاً عن البخاري، ولم يذكر له حديثاً ولا سماه في صحيحه، بل افتتح الكتاب بالحط على من اشترط اللقي لمن روى عنه بصيغة " عن " وادعى الإجماع على أن المعاصرة كافية، ولا يتوقف في ذلك على العلم بالتقائهما، ووبخ من اشترط ذلك، وإنما يقول ذلك أبو عبد الله البخاري وشيخه علي بن المديني ".
وكلام الإمام الذهبي عليه ملاحظات : الأولى : ما ذكره من انحراف مسلم عن البخاري أمر غريب لم يذكره من ترجم للبخاري ولا لمسلم، بل لا يعرف عنه إلا الوفاء لشيخه والمناضلة عنه. (ص 183) الثانية : ما استند إليه الذهبي لإثبات انحراف مسلم عن البخاري من كونه لم يرو له حديثاً، ولا سماه في صحيحه، أمر غريب جداً من مثل الحافظ الذهبي وهو من الحفاظ المتأخرين الذين يهتمون بالعلو ويعنون بذلك ولا سيما في كتب التراجم والسير والتاريخ. فإذا كان المتأخرون عن عصر الرواية يطلبون العلو، ويفتخرون به في مصنفاتهم في التراجم والسير، أفلا يكون الأئمة الذين يصنفون في الحديث أولى وأحرى بذلك ؟! ولذلك يتحملون الرواية عن الضعفاء من أجل العلو، وخاصة أن الإمام مسلماً قد شارك البخاري في أغلب شيوخه. وهذا الإمام البخاري – رحمه الله – مع شدة حبه للإمام البخاري واعترافه بعلمه وفضله وتقدمه في هذا الشأن، والإكثار من سؤاله عن العلل والرجال في كتابيه " الجامع " و " العلل " مع ذلك لم يرو عنه في جامعه سوى حديثين، وروى مسلم حديثاً واحداً، فهل يقال إن الترمذي قد انحرف عن البخاري أيضاً لأنه لم يكثر عنه ؟!
والشافعي من أجلّ شيوخ أحمد ومع ذلك لم يرو عنه في مسنده، طلباً للعلو، في أمثلة كثيرة. وقول الذهبي : " ولا سماه في صحيحه " لا يفيد هذا أنه انحرف عنه، لأن الإمام مسلماً لم يسم في كتابه كل العلماء الذين أخذ عنهم، ولا صرح بذكر العلل كما فعل الترمذي، حتى ينقل عن شيخه إمام هذه الصنعة بلا منازع، ولا ذكر غير ذلك مما يتعلق بعلوم الرجال كالجرح والتعديل، والأسماء والكني، فلم يحتج إلى النقل عن البخاري ومن هنا لم يسمه. الثالثة : إن الذي أوقع الذهبي في هذا هو اعتقاده أن المقصود بالرد والتوبيخ من قبل مسلم هو البخاري وشيخه ابن المديني، وهذا أمر لم تقم عليه أدلة قوية لا من جهة أن البخاري يتبنى هذا الرأي، ولا من جهة أن مسلماً يقصد بذلك البخاري وابن المديني بل هو مجرد ظن وتخمين. قال الأمير الصنعاني – رحمه الله - : " واعلم أنا راجعنا مقدمة مسلم فوجدناه تكلم في الرواية بالعنعنة وأنه شرط فيها البخاري ملاقاة الراوي لمن عنعن عنه، (ص 184) وأطال مسلم في رد كلامه، والتهجين عليه، ولم يصرح أنه البخاري، وإنما اتفق الناظرون أنه أراده ورد مقالته ".
هكذا ذهب كثير من العلماء والحفاظ إلى أن المراد بالرد هو البخاري وابن المديني، وذهب البعض الآخر إلى أن المراد بالرد هو ابن المديني وليس البخاري، ومن هؤلاء : 1 – الحافظ ابن كثير قال : " قيل إنه البخاري : والظاهر أنه يريد علي ابن المديني، فإنه شرط ذلك في أصل صحة الحديث، وأما البخاري فإنه لا يشرطه في أصل الصحة ولكن التزم ذلك في كتابه الصحيح ".
2 – الإمام شيخ الإسلام البلقيني قال في " محاسن الاصطلاح " : " قيل : يريد مسلم بذلك البخاري، إلا أن البخاري لا يشترط ذلك في أصل الصحة، ولكن التزمه في جامعه ولعله يريد ابن المديني فإنه يشترط ذلك في أصل الصحة ".
3 – الحافظ البقاعي قال : "سئل شيخنا عن الذي بحث مسلم معه: من هو؟ فقال: علي بن المديني" ونقل البقاعي في نفس الكتاب في مبحث المعنعن كلام الحافظ ابن كثير بتمامه معزواً إليه وأقره.
4 – العلامة محمد بن قاسم الغزي قال في " حاشيته على شرح الألفية (ص 185) للعراقي". " هو علي ابن المديني، وقيل البخاري ولم يسم في صحيح مسلم ". فهؤلاء الحفاظ المتأخرون قد ذهبوا إلى أن المعنى بالرد هو ابن المديني وليس البخاري، وقد ذهب إلى هذا الشيخ عبد الفتاح أبو غدة من المعاصرين، وقدم دليلاً تاريخياً على عدم صحة أن يكون البخاري هو المعني بالرد في كلام مسلم – رحمه الله – ألخصه فيما يلي : " الإمام مسلم ولد سنة (204هـ) والأرجح سنة (206هـ)، وسمع الحديث سنة (218هـ) وتوفي سنة 261هـ) عن (55) سنة. بقي الإمام مسلم في تأليف كتابه (15) سنة وقد فرغ من تأليفه سنة (250هـ) فيكون مسلم قد بدأ في تأليفه سنة (235هـ) حين كانت سنه 29 سنة، وانتهى منه حين كانت سنه 44 سنة وقد عاش بعد الفراغ من تأليفه 11 سنة، ولا شك أن مسلماً قد كتب مقدمة صحيحه قبل الشروع في تأليفه لا بعده، كما هو صريح قوله في مقدمته. والإمام مسلم لما صاحب البخاري في نيسابور، وأدام الاختلاف إليه، ولازمه كل الملازمة، خمس سنوات من سنة 250 إلى سنة 255، وكان في هذه المدة منتهياً من تأليف كتابه الصحيح، وفيه مقدمته التي فيها الكلام الشديد، فلا يعقل أن يكون البخاري هو المعني بهذه اللهجة الشديدة التي لا تطاق معها مقابلة ولا لقاء، فضلاً عن الصحبة والملازمة خمس سنوات، بل إن مسلماً قد قاطع شيخه وبلديه : محمد بن يحي الذهلي النيسابوري من أجل البخاري لما ورد نيسابور، ووقف منه محمد بن يحي الذهلي ذلك الموقف المعروف، فهل يقبل ممن يناصر البخاري هذه المناصرة ويقول له : لا يبغضك إلا حاسد، وأشهد أنه ليس في الدنيا مثلك، ودعني أقبل رجلك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله : أن يصفه بتلك الصفات النابزة، والأقوال القاسية، والكلمات الجارحة ويتصاحبا مع (ص 186) ذلك دهراً طويلاً ". ثم إن العلماء الذين قالوا بأن شرط البخاري هو ثبوت اللقاء مع المعاصرة حتى يحكم للسند المعنعن بالاتصال، اختلفوا هل ذلك شرط في الصحة مطلقاً عند البخاري أم هو شرط في الأصحبة عمل به في جامعه قط. وقد ذهب الحافظ ابن حجر إلى أن ذلك شرط في أصل الصحة حيث قال : " ادعى بعضهم أن البخاري إنما التزم ذلك في " جامعه " لا في أصل الصحة، وأخطأ في هذه الدعوى، بل هذا شرط في أصل الصحة عند البخاري، فقد أكثر من تعليل الأحاديث في " تاريخه " بمجرد ذلك ". لو كان البخاري يشترط ذلك في الأصحية فقط لما كان هناك نزاع بينه وبين مخالفه لأنه من المسلم به أن اللقاء أحوط وأوثق في ثبوت الاتصال من مجرد المعاصرة. وأما إذا كان البخاري يشترط ذلك في أصل الصحة فيلزم منه أن يكون ما رواه مسلم في صحيحه من الأحاديث المعنعنة التي هي على شرطه في العنعنة من قسم الضعيف عند البخاري ومن مشى على قوله بعده، وهذا غير مقبول لأنه يناقض كل المناقضة ما قرره العلماء على مر الزمن من أن كتاب مسلم صحيح مع معرفتهم بشرط في العنعنة.
وقد استشعر الإمام النووي –رحمه الله– هذا الإشكال والتناقض فقال –رحمه الله–: " والبخاري لا يحمله على الاتصال (أي السند المعنعن) حتى يثبت اجتماعهما وهذا المذهب يرجح كتاب البخاري وإن كنا لا نحكم على مسلم بعمله في " صحيحه " بهذا المذهب لكونه يجمع طرقاً كثيرة يتعذر معها وجود الحكم الذي جوّزه، والله أعلم ". (ص 187)
وقد رّد العلامة المعلمي كلام النووي بقوله : " وزعم النووي في " شرح صحيح مسلم " أنه لا يحكم على مسلم بأنه عمل في " صحيحه " بقوله المذكور، وهذا سهو من النووي، فقد ذكر مسلم في ذلك الكلام أحاديث كثيرة زعم أنه لم يصرح فيها بالسماع ولا علم اللقاء، وأنها صحاح عند أهل العلم، ثم أخرج منها في أثناء صحيحه تسعة عشر حديثاً كما ذكره النووي نفسه ومنها ستة في " صحيح البخاري " كما ذكره النووي أيضاً ". ومعنى هذا أنه يوجد في " الصحيحين " أحاديث معنعنة لم يصرح فيها بالسماع ولا علم اللقاء، وهذه الأحاديث لا يتم الحكم عليها بالصحة إلا وفق ما قرره مسلم – رحمه الله – وقد سأل التقي السبكي المزي – حافظ الدنيا – هل وجد لكل ما روياه بالعنعنة طرق مصرح فيها بالتحديث؟ فقال : كثير من ذلك لم يوجد وما يسعنا إلا تحسين الظن. مما سبق يتبين أنه ليس هناك أدلة قاطعة تثبت أن المعني بالرد في كلام مسلم هو البخاري أو شيخه ابن المديني، وعليه لا نستطيع أن ننصب خلافاً بين مسلم وسائر الأئمة على رأسهم شيخه الإمام البخاري، ولا أستبعد أن يكون مذهب البخاري وابن المديني في هذه المسألة هو مذهب الإمام مسلم، لأن مسلماً حكى في ذلك الإجماع، وأي إجماع يصح وينعقد والمخالف مثل ابن المديني والبخاري، ويكون المعني بالرد في كلام مسلم بعض المتنظعين من منتحلي الحديث في عصره، والله أعلم. (ص 188). * * * يتبع إن شاء الله...
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الأحد 13 يونيو 2021, 6:03 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: رد: منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها من خلال الجامع الصحيح الأحد 03 فبراير 2013, 12:07 am | |
| المطلب الرابع نماذج من أحاديث أعلت بالانقطاع في صحيح البخاري: إن الإمام البخاري قد اشترط في كتابه اتصال السند في الأحاديث التي يخرجها في جامعه لذا سماه " الجامع الصحيح المسند " وعلى الرغم من ذلك هناك أحاديث انتقدها بعض الأئمة، وقالوا بأن هذا الشرط لم يتحقق فيها، وسأذكر في هذا المطلب نماذج من أحاديث من صحيح البخاري أعلها الإمام الحافظ الدارقطني بالانقطاع والإرسال. فمن هذه الأحاديث التي عدها الحافظ الدارقطني مرسلة: 1 – حديث مصعب بن سعد: قال : قال : رأي سعد أن له فضلاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم ". قال الدارقطني : " وهذا مرسل ". فهذا الحديث ظاهر سياقه أنه مرسل لأن مصعباً لم يدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن صحّ أنه سمعه من أبيه، وقد أورد الحافظ في الفتح ما يدل على أن مصعباً أخذ هذا الحديث عن أبيه، وهذه الطرق هي: 1 – ما رواه الإسماعيلي من طريق معاذ بن هانئ حدثنا محمد بن طلحة فقال فيه ابن سعد عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر المرفوع دون ما في أوله. (ص 189). 2 – ما أخرجه أو نعيم في الحلية من رواية عبد السلام بن حرب عن أبي خالد الدالاتي عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن أبيه مرفوعاً مختصراً ولفظه " ينصر المسلمون بدعاء المستضعفين ". فهذه الطرق تدل على أن الحديث مسند، وإن كانت صورته في صحيح البخاري صورة المرسل. وهناك أحاديث أخرى على هذا النمط في صحيح البخاري قال الحافظ : " وقد اعتمد البخاري كثيراً من أمثال هذا السياق فأخرجه على أنه موصول، إذا كان الراوي معروفاً بالرواية عمن ذكره، وقد ترك الدارقطني أحاديث في الكتاب من هذا الجنس لم يتتبعها ". 2 – أحاديث الحسن عن أبي بكرة: أخرج البخاري بهذه الرجمة أربعة أحاديث اعتبرها الدارقطني مرسلة ولم يصحح سماع الحسن من أبي بكرة، بينما البخاري يرى صحة سماعه، ومن هنا فهي متصلة عند الإمام البخاري لذا أوردها في صحيحه. وسأذكر انتقاد الدارقطني ثم أعقبه بأقوال الأئمة الحفاظ في تحقيق سماع الحسن من أبي بكرة. قال الدارقطني – رحمه الله -: " وأخرج البخاري أحاديث الحسن عن أبي بكرة، منها: الكسوف، ومنها زادك الله حرصاً ولا تعد، ومنها لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة، ومنها إن ابني هذا سيد، والحسن لا يروي إلا عن الأحنف عن أبي بكرة ". وقد وضح الحافظ ابن حجر هذا الانتقال فقال: " فالدارقطني (ص 190) – رحمه الله – يرى عدم صحة سماع الحسن من أبي بكرة لكن الإمام البخاري يرى صحة ذلك، وقد اعتمد في تصحيح سماع الحسن من أبي بكرة على رواية أبي موسى عن الحسن أنه سمع أبا بكرة، وقد أخرجه مطولاً في كتاب الصلح، وقال في آخره : قال لي علي بن عبد الله إنما ثبت عندنا سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث ". وقال الحافظ في شرح هذا الحديث : " وإنما قال ابن المديني ذلك لأن الحسن كان يرسل كثيراً عمن لم يلقهم بصيغة عن فخشي أن روايته عن أبي بكرة مرسلة، فلما جاءت هذه الرواية مصرحة بسماعه من أبي بكرة ثبت عنده أنه سمعه منه ". ثم نقل كلام الدارقطني في كتابه التتبع عقبه بقوله : " وهذا يقتضي عنده أنه لم يسمع من أبي بكرة، لكن لم أرَ من صرح بذلك ممن تكلم في مراسيل الحسن كابن المدينين وأبي حاتم، وأحمد والبزار، وغيرهم، نعم كلام ابن المديني يشعر بأنهم كانوا يحملونه على الإرسال حتى وقع هذا التصريح ". فكلام الحافظ يفيد أن الأئمة لم ينفوا سماع الحسن من أبي بكرة وأن الدارقطني انفرد بهذا، وفيما يلي تفصيل القول في سماع الحسن من أبي بكرة وموقف أئمة النقد من ذلك. (ص 191) تحقيق القول في سماع الحسن من أبي بكرة : لم يتعرض الإمام البخاري في ترجمة الحسن في تاريخه الكبير لسماعه من أبي بكرة. أما الإمام ابن أبي حاتم الرازي فقد ترجم له بترجمة متوسطة وتعرض لسماعه من كثير من الصحابة نفياً وإثباتاً وإليك نص كلامه : " حدثنا عبد الرحمن، نا صالح بن أحمد بن حنبل، قال : قال أبي : سمع الحسن من ابن عمر، وأنس بن مالك، وابن مغفل، وسمع من عمر بن تغلب أحاديث. قال أبو محمد فذكرت قول أحمد لأبي – رحمه الله – فقال : قد سمع من هؤلاء الأربعة، ويصح له السماع من أبي برزة، ومن أحمر صاحب النبي صلى الله عليه وسلم ومن غيرهم، ولم يصح له السماع من جندب، ولا من معقل بن يسار، ولا من عمران بن حصين، ولا من ابن عمر، ولا من عقبة بن عامر، ولا من أبي ثعلبة، ولا من أبي بكرة، ولا من أبي هريرة ". واضح أن الإمام ابن أبي حاتم لم يقصد استيعاب جميع من صح للحسن سماعه منه، لذا قال بعد أن عدّد جملة منهم : " وغيرهم ". ثن نفى سماعه من بعض الصحابة، ولم ينف سماعه من أبي بكرة، فهذا النص محتمل في تصحيح سماع الحسن من أبي بكرة، ويزيده وضوحاً هذا النص الصريح قال ابن أبي حاتم – رحمه الله - " حدثنا محمد بن سعيد بن بلخ قال : سمعت عبد الرحمن بن الحكم يقول : سمعت جريراً يقول : سألت بهزاً عن الحسن، من لقي من أصحاب رسول الله ؟ فقال : سمع من ابن عمر حديثاً، وسمع من عمران بن حصين شيئاً، وسمع من أبي بكرة شيئاً ". (ص 192) وقال الإمام علي ابن المديني في علله : " سمع الحسن البصري من عثمان بن عفان – وهو غلام – يخطب، ومن عثمان بن أبي العاص، ومن أبي بكرة ". وقد عد الحافظ المزي من روى عنهم الحسن فذكر أبا بكرة نفيع بن الحارث الثقفي. وقال الحافظ الذهبي في ترجمة الحسن من كتابه سير أعلام النبلاء : " وقد روى بالإرسال عن طائفة، كعلي، وأم سلمة، ولم يسمع منها، ولا من أبي موسى، ولا من ابن سريع، ولا من عبد الله بن عمرو، ولا من عمر بن تغلب، ولا من عمران، ولا من أبي برزة، ولا من أسامة بن زيد، ولا من ابن عباس، ولا من عقبة بن عامر، ولا من أبي هريرة، ولا من جابر، ولا من أبي سعيد قاله يحي بن معين". وقال الإمام يحي بن معين في تاريخه : " لم يسمع الحسن من أبي بكرة، قيل له : فإن مبارك بن فضالة يقول : عن الحسن قال حدثنا أبو بكرة، قال ليس بشيء ". وقال الذهبي أيضاً في تاريخ الإسلام في ترجمة الحسن : " قال علي بن المديني : لم يسمع الحسن من أبي موسى الأشعري، ولا من عمر بن تغلب ولا من الأسود بن سريع، ولا من عمران، ولا من أبي بكرة ". (ص 193) فهذا النص الذي أورده الذهبي مخالف لما نقلته آنفاً من علل ابن المديني، والظاهر أن النص الأول المنقول من العلل هو الصحيح لأنه يوافق ما حكاه البخاري في صحيحه عن ابن المديني، ويبدو أن الإمام الذهبي كتب هذا من حفظه فوهم في نفي سماع الحسن من أبي بكرة، ويرجح هذا الاحتمال أننا لا نجد هذا النص بهذا الاختصار في علل ابن المديني بل نجده فرق الكلام على سماع الحسن في صفحات من العلل والإمام الذهبي قد ذكرها هنا مختصرة، ولم يسق كل من قال عنه ابن المديني أن الحسن لم يسمع منه. أما بالنسبة للإمام يحي بن معين، فنعم لم يصح عنده سماع الحسن من أبي بكرة، وذلك لأن الطريق التي ورد منها التصريح بالسماع طريق ضعيفة، وسبب ضعفها كما أشار إليه ابن معين هو مبارك بن فضالة. فمبارك هذا قال فيه الحافظ – رحمه الله – : " فمبارك بن فضالة، بفتح الفاء وتخفيف المعجمة، أبو فضالة البصري، صدوق يدلس ويسوي، من السادسة، مات سنة ست وستين، على الصحيح/ خت، د، ت، ق/". قال أبو طالب عن أحمد بن حنبل : كان مبارك بن فضالة يرفع حديثاً كثيراً، ويقول في غير حديث عن الحسنز قال حدثنا عمران قال حدثنا ابن مغفل، وأصحاب الحسن لا يقولون ذلك، غيره". فمبارك هذا يخالف أصحابه في أحاديث الحسن، ويذكر للحسن سماعاً لم يصح. ومن ثم لم يعتمد ابن معين –رحمه الله– على إثبات سماع الحسن من أبي بكرة برواية مبارك بن فضالة. أما الإمام البخاري فإنه أثبت سماع الحسن من أبي بكرة برواية (ص 194) إسرائيل أبي موسى البصري، وهو ثقة كما قال الحافظ. قال الإمام البخاري : " حدثنا صدقة حدثنا ابن عيينة حدثنا أبو موسى، عن الحسن سمع أبا بكرة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، والحسن ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة، ويقول : " ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين ". واستشهد أيضاً برواية مبارك بن فضالة (فقد أخرج البخاري حديث الكسوف من طرق عن الحسن، علق بعضها، ومن جملة ما علقه فيه رواية موسى بن إسماعيل عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال : أخبرني أبو بكرة. فهذا معتمده في إخراج حديث الحسن، ورده على من نفى أنه سمع من أبي بكرة باعتماده على إثبات من أثبته ". فلما صح سماع الحسن من أبي بكرة عند الإمام البخاري أخرج له في صحيحه، ولم ينفرد الإمام البخاري بإخراج حديث الحسن عن أبي بكرة بل قد أخرج له كثير من الأئمة. وإليك الأحاديث التي رواها الحسن عن أبي بكرة مع ذكر من أخرجها من الأئمة: 1 – حديث " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، والحسن إلى جنبه يقول إن ابني هذا سيد " رواه البخاري في كتاب الصلح، حديث رقم (2704)، وفي كتاب المناقب، حديث رقم (3629)، وفي كتاب فضائل الصحابة حديث رقم (3746)، وفي كتاب الفتن حديث رقم (7109). والترمذي في سننه، في كتاب المناقب حديث رقم (102) وقال حسن صحيح. (ص 195). والنسائي في السنن الكبرى في كتاب المناقب. 2 – حديث أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع فركع دون الصف. أخرجه البخاري في كتاب الأذان حديث رقم (783)، وأبو داود في كتاب الصلاة، والنسائي في الصلاة أيضاً. قال الحافظ : " وقد أعله بعضهم بأن الحسن عنعنه، وقيل إنه لم يسمع من أبي بكرة، وإنما يروي عن الأحنف عنه، ورد هذا الإعلال برواية سعيد بن أبي عروبة عن الأعلم قال : " حدثني الحسن أن أبا بكرة حدثه " أخرجه أبو داود والنسائي. 3 – حديث نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة ". رواه البخاري في كتاب المغازي حديث رقم (4425)، وفي كتاب الفتن حديث رقم (7099) والترمذي في الفتن أيضاً (75) وقال صحيح، والنسائي في القضاة باب (8). 4 – حديث " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فانكسفت الشمس فخرج يجر رداءه فصلى بهم ركعتين ". رواه البخاري في كتاب الكسوف حديث رقم (1040)، وفي كتاب اللباس باب (2) حديث (2). ورواه النسائي في كتاب الصلاة باب (623) حديث (7). فهذه أحاديث الحسن عن أبي بكرة عند البخاري، وقد شاركه في تخريجها من ذكرت من الأئمة، وله أحاديث أخرى عن أبي بكرة أيضاً لم يخرجها البخاري وخرجها غيره من الأئمة كأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والبيهقي وابن حبان. (ص 196) وخلاصة القول : إن سماع الحسن من أبي بكرة مختلف فيه بين مثبت وناف. فالمثبتون لسماعه كثير من الأئمة: كابن المديني، والبخاري، والترمذي، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وأحمد، وأبو داود، والبيهقي فكل هؤلاء يصححون حديثه عن أبي بكرة. وقد نفى سماعه بعض الأئمة كالدارقطني – رحمه الله – وابن المديني فيما نقله الذهبي – إن صح النقل – ويحي بن معين، لضعف الطريق التي ورد فيها السماع عنده. والصواب صحة سماع الحسن من أبي بكرة وقد بينت -بحمد الله وتوفيقه- أن البخاري لم ينفرد بإثبات سماعه ولا بتصحيح حديثه، فقد أثبت سماعه جمع من الأئمة النقاد، وصحح حديثه كثير من الأئمة في كتبهم، ولا يفوتني أن أنبه على أن الحسن يروي عن أبي بكرة مباشرة من غير واسطة كما تقدم، ويروي عنه أيضاً بواسطة الأحنف بن قيس، وقد أخرج البخاري أيضاً حديث الأحنف بن قيس عن أبي بكرة. حديث عبد الله بن الزبير قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من لبس الحرير في الدنيا فلن يلبسه في الآخرة ". فهذا الحديث أورده البخاري في صحيحه، وقد انتقده الدارقطني بما يفيد أنه مرسل، حيث قال – رحمه الله – وأخرج البخاري عن سليمان بن حرب عن حماد بن ثابت عن ابن الزبير قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ". (ص 197) قلت : لم يسمعه ابن الزبير من النبي صلى الله عليه وسلم، إنما سمع من عمر، قاله أبو ذبيان وأم عمرو عنه ". قال الحافظ – بعد ذكره كلام الدارقطني – : " هذا تعقب ضعيف، فإن ابن الزبير صحابي، فهبه أرسل فكان ماذا؟ وكم في الصحيح مرسل صحابي، وقد أتفق الأئمة قاطبة على قبول ذلك إلا من شذ ممن تأخر عصره عنهم فلا يعتد بخلافه ". وقال الحافظ أيضاً في شرحه لهذا الحديث : " هذا من مرسل ابن الزبير، ومراسيل الصحابة محتج بها عند جمهور من لا يحتج بالمراسيل، لأنهم إما أن يكون عند الواحد منهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن صحابي آخر، واحتمال كونها عن تابعي لوجود رواية بعض الصحابة عن بعض التابعين نادر، لكن تبين من الروايتين بعد هذا أن ابن الزبير إنما حمله عن النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة عمر ". فالحديث إذن مسند، ولا وجه لإعلاله بالإرسال. فهذه نماذج من أحاديث في صحيح البخاري يرى الإمام الدارقطني بأنها مرسلة أو منقطعة، وقد بينت أن البخاري -رحمه الله- يرى بأنها مسندة فأوردها في صحيحه. * * * المطلب الخامس التدليس وموقف البخاري من أحاديث المدلسين: تعريف التدليس : التدليس لغة مشتق من الدلس بفتحتين، وهو اختلاط الظلام بالنور ويسمى المدلس بذلك لاشتراكهما في الخفاء والتغطية كأنه لتغطيته على الواقف عليه أظلم أمره، ومنه التدليس في البيع يقال: دلس فلان على فلان أي ستر عنه العيب الذي في متاعه. أقسام التدليس : قسمه العلماء إلى أقسام عدة، فمنهم من قسمه إلى ستة أقسام كالإمام الحاكم النيسابوري في كتاب " معرفة علوم الحديث " وهذه الأقسام هي: الأول: من دلس عن الثقات الذين هم في الثقة مثل المحدث أو فوقه أو دونه إلا أنهم لم يخرجوا عداد الذين تقبل أخبارهم. الثاني: قوم يدلسون الحديث فيقولون: قال فلان، فإذا وقع إليهم من ينفر عن سماعاتهم، ويلح ويراجعهم ذكروا فيه سماعاتهم. الثالث: قوم دلسوا عن أقوام مجهولين لا يدري من هم ولا من أين هم. الرابع: قوم دلسوا أحاديث رووها عن المجروحين فغيروا أساميهم وكناهم كي لا يعرفوا. الخامس: قوم دلسوا عن قوم سمعوا منهم الكثير، وربما فاتهم الشيء عنهم، فيدلسونه. (ص 199). السادس: قوم رووا عن شيوخ لم يروهم قط، ولم يسمعوا منهم وإنما قالوا: قال فلان. نحمل ذلك منهم على السماع، وليس عندهم عنهم سماع عال ولا نازل. وقد مثل الحاكم لكل قسم من هذه الأقسام بعدة أمثلة. ونلاحظ أن الحاكم قد اعتمد في هذا التقسيم على حالات المدلسين مع شيوخهم. كما نلاحظ أن بعض الأقسام متداخلة في بعض، لذا ترى من جاء بعد الحاكم قد اختصر هذا التقسيم إلى ثلاثة أقسام، كالحافظ العراقي في شرحه لألفيته وفي شرحه على مقدمة ابن الصلاح. وهذه الأقسام هي : الأول : تدليس الإسناد. الثاني : تدليس الشيوخ. الثالث : تدليس التسوية. ومن العلماء من قسمه إلى قسمين فقط هما : تدليس الإسناد وتدليس الشيوخ. وقد ذهب إلى هذا ابن الصلاح، والنووي، وابن كثير، والطيبي، وابن حجر، والسخاوي وغيرهم. (ص 200) قال الحافظ البلقيني: "الأقسام الستة التي ذكرها الحاكم داخلة تحت القسمين السابقين، فالقسم الأول والثاني والثالث والخامس والسادس داخلة تحت القسم الأول، والرابع عين القسم الثاني – أي تدليس الشيوخ وما عده العراقي قسماً ثالثاً – وهو تدليس التسوية داخل تحت القسم الأول وهو تدليس الإسناد. وعند التدقيق، نلاحظ أن الأقسام كلها تعود إلى تدليس الإسناد لأن الإسناد يتكون من الشيوخ، والصيغ الدالة على التحمل، فإخراج الشيوخ من الإسناد وإبقاء الصيغ الدالة على التحمل أمر غير سليم، ومن هنا يمكن أن نقول إن هذه التقسيمات اعتبارية فقط ترجع إلى أحوال المدلسين وليست تقسيمات حقيقية ترجع إلى التدليس في حد ذاته فالتدليس موضوعه الإسناد، شيوخه وما يدل على الاتصال بينهم. تعريفه اصطلاحاً : نذكر تعريف العلماء لقسمي التدليس. أ – تدليس الإسناد : اختلف تعاريف العلماء له. فقد عرفه الإمام البزار (ت 392هـ) بقوله: " هو أن يروي عمن سمع منه ما لم يسمع منه من غير أن يذكر أنه سمعه منه ". ويمثل تعريف البزار عرفه الإمام أبو الحسن القطان الفاسي (ت 628هـ) في كتابه بيان الوهم والإيهام وفصل ابن عبد البر في تعريفه لكنه لم يخرج عن مضمون تعريف البزار، وهؤلاء يشترطون اللقي والسماع في حد التدليس (ص 201) وذهب آخرون إلى التوسع في مدلول التدليس، فيمثل عندهم من سمع، ومن أدرك ولم يسمع، ومن هؤلاء الإمام ابن الصلاح – رحمه الله – قال : " تدليس الإسناد : وهو أن يروي عمن لقيه ما لم يسمع منه موهماً أنه سمعه منه، أو عمن عاصره، ولم يلقه موهماً أنه لقيه وسمع منه ". وبمثل تعريف ابن الصلاح عرفه النووي وابن كثير والعراقي وذكر أن تعريف ابن الصلاح هو المشهور بين أهل الحديث. لكن الحافظ ابن حجر لم يرتض هذا، وفرق بين النوعين باعتبار أن التدليس يختص بمن روى عمن عرف لقاؤه إياه، وأما إذا عاصره ولم يعرف أنه لقيه فهو المرسل الخفي. وهو الظاهر أيضاً من صنيع الحافظ العلائي – رحمه الله – حيث تكلم على التدليس بنوعيه ثم أفرد للمرسل الخفي باباً مستقلاً في كتابه جامع التحصيل والرأي الذي ذهب إليه ابن حجر هو المعتمد لما يلي : أولاً : إنه قول المتقدمين من أهل الحديث كما سبق نقله عنهم. ثانياً : إنه يفرق تفريقاً دقيقاً بين المدلس والمرسل الخفي، وهذا التفريق له أثره الواضح في القبول والرد، لأن حكمنا على الحديث بالتدليس يستلزم رده أما حكمنا عليه بالإرسال الخفي فيعني قبوله عند من يقبل المراسيل. (ص 202) ب – تدليس الشيوخ : هو أن يروي الراوي عن شيخ حديثاً سمعه منه فيسميه أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه بما لا يعرف به كي لا يعرف. ويمكن أن نضع تعريفاً للتدليس يشمل القسمين وهو: "التدليس إخفاء عيب في الإسناد ظهوره يكون سبباً في ضعفه أو انقطاعه" فعيوب الإسناد التي تكون سبباً في ضعفه هي: ضعف الرواة، وجهالتهم، وجرحهم. والعيوب التي تكون سبباً في انقطاع الإسناد، كعدم السماع مطلقاً أو عدم لقاء الرواة بعضهم بعضاً أو عدم السماع منهم في خصوص ذلك الحديث. حكم التدليس: قال الخطيب البغدادي –رحمه الله–: " التدليس متضمن للإرسال لا محالة، لإمساك المدلس عن ذكر الواسطة، وإنما يفارق حال المرسل بإيهامه بالسماع ممن لم يسمع فقط، وهو الموهن لأمره فوجب كون التدليس متضمناً للإرسال، والإرسال لا يتضمن التدليس، لأنه لا يقتضي إبهام السماع ممن لم يسمع منه " فالتدليس يشبه المرسل في كون كل منهما منقطع، ويختلف عنه بأن الإرسال انقطاع ظاهر والتدليس انقطاع خفي مع أن راويه يذكره بصيغة توهم الاتصال، ولهذا لم يذم العلماء في أرسل وذموا من دلس. ولقد اختلف العلماء في قبول رواية من عرف بهذا التدليس، ولقد ذكر هذا الخلاف الإمام ابن الصلاح في مقدمته، فقال – رحمه الله – : " ثم اختلفوا في رواية من عرف بهذا التدليس (أي تدليس الإسناد) فجعله فريق من أهل الحديث والفقهاء مجروحاً بذلك، وقالوا : لا تقبل روايته بحال بين (ص 203) السماع أو لم يبين، والصحيح التفصيل وأن ما رواه المدلس بلفظ محتمل لم يبين فيه السماع والاتصال حكمه حكم المرسل وأنواعه وما رواه بلفظ مبين للاتصال نحو " سمعت " و "حدثنا " و " أخبرنا " وأشباهها فهو مقبول محتج به. وفي الصحيحين وغيرهما من الكتب المعتمدة من حديث هذا الضرب كثير جداً كقتادة، والأعمش، والسفيانين، وهشيم بن بشير، وغيرهم، وهذا أن التدليس ليس كذباً، وإنما هو ضرب من الإيهام بلفظ محتمل " وبهذا التفصيل قال الحافظ العلائي –رحمه الله– وقال الحافظ ابن حجر: "وحكم من ثبت عنه التدليس إذا كان عدلاً أن لا يقبل منه إلا مصرح فيه بالتحديث على الأصح" كما تعقب الحافظ ابن حجر الإمام ابن الصلاح في قوله: "وفي الصحيحين وغيرهما من الكتب المعتمدة من حديث هذا الضرب كثير جداً ". قال ابن حجر : " أورد المصنف هذا محتجاً به على قبول رواية المدلس إذا صرح، وهو يوهم أن الذي في الصحيحين وغيرهما من الكتب المعتمدة من حديث المدلسين مصرح في جميعه وليس كذلك، بل في الصحيحين وغيرهما جملة كثيرة من أحاديث المدلسين بالعنعنة. وقد جزم المصنف في موضع آخر، وتبعه النووي وغيره، بأن ما كان في الصحيحين وغيرهما من الكتب الصحيحة عن المدلسين، فهو محمول على ثبوت سماعه من جهة أخرى، وتوقف في ذلك المتأخرين الإمام صدر الدين بن المرحل وقال في " كتاب الإنصاف " : " إن في النفس من هذا الاستثناء غصة، لأنها دعوى لا دليل عليها، ولا سيما أنا قد وجدنا كثيراً من الحفاظ يعللون أحاديث وقعت في الصحيحين أو أحدهما بتدليس (ص 204) رواتهما" وكذلك استشكل ذلك قبله العلامة ابن دقيق العيد فقال: "لابد من الثبات على طريقة واحدة، إما القبول مطلقاً أو الرد مطلقاً، في كل كتاب، وأما التفرقة بين ما في الصحيح من ذلك وما خرج عنه فغاية ما يوجه به أحد أمرين: إما أن يدعي أن تلك الأحاديث عرف صاحب الصحيح صحة السماع فيها. قال : وهذا إحالة على جهالة، وإثبات أمر بمجرد الاحتمال. وإما أن يدعي أن الإجماع على صحة ما في الكتابين دليل وقوع السماع في هذه الأحاديث، وإلا كان أهل الإجماع على الخطأ، وهو ممتنع ". وفي أسئلة الإمام تقي الدين السبكي للحافظ ابن أبي الحجاج المزي "وسألته عما وقع في الصحيحين من حديث المدلس معنعناً هل نقول: إنهما اطلعا على اتصالها… فقال: كذا يقولون وما فيه إلا تحسين الظن بهما، وإلا ففيهما أحاديث من رواية المدلسين ما توجد من غير تلك الطرق التي في الصحيحين ". قلت (القائل ابن حجر) وليست الأحاديث التي في الصحيحين بالعنعنة عن المدلسين كلها في الاحتجاج، فيحمل كلامهم هنا على ما كان منها في الاحتجاج فقط، أما ما كان في المتابعات فيحتمل أن يكون حصل التسامح في تخريجها كغيرها ". وهذه الإشكالات التي أوردها هؤلاء الحفاظ المتأخرون مردها إلى أنهم يقررون قواعد عامة مطردة بمعزل عن صنيع الأئمة في كتبهم فإذا وجدوا ما يخالف تلك القواعد حاولوا جاهدين الجواب عنها، وكان من المفترض أن يكون الواقع التطبيقي هو المنطلق الذي تستمد منه القواعد والأحكام. ولو تأملنا مسألة التدليس وأحاديث المدلسين من خلال الواقع التطبيقي عند الإمام البخاري تتضح لنا الحقائق التالية : (ص 205) 1 – أن الإمام البخاري قد أخرج أحاديث كثير ممن وصف بالتدليس، وهذا يقتضي أن التدليس ليس بجرح ترد به الرواية، ويقدح به في العدالة. 2 – إن الإمام البخاري أكثر ما يخرج لهؤلاء في التعاليق والاستشهاد. 3 – خرج الإمام البخاري لبعض المدلسين في الأصول احتجاجاً إما لتصريحهم بالسماع، أو لأنهم توبعوا على أحاديهم، أو لشيوخ أكثروا عنهم بحيث لم يفتهم من أحاديثهم شيء، أو من طريق من لا يأخذ عنهم إلا ما صرحوا فيه بالسماع أو لكون هؤلاء المدلسين لا يدلسون إلا عن الثقات. أصناف المدلسين في صحيح البخاري : 1 – المدلسون الذين أخرج البخاري أحاديثهم متابعة واستشهاداً : وهؤلاء مثل : بقية بن الوليد، عيسى بن موسى غنجار، مبارك بن فضالة، محمد بن إسحاق، محمد بن عجلان. 2 – المدلسون الذين أخرج البخاري أحاديثهم احتجاجاً : وهؤلاء يخرج أحاديثهم بطرق مختلفة : أ – من الطرق المصرح فيها بالسماع : مثل : حميد بن أبي حميد الطويل : كان يدلس وقد اعتنى البخاري بطرق حديثه التي فيها التصريح بالسماع. ب – من طريق من كان لا يأخذ عنهم إلا ما صرحوا فيه بالسماع : مثل: الأعمش : فقد اعتمد البخاري في تخريج حديثه على حفص بن غياث لأنه كان يميز بين ما صرح فيه الأعمش بالسماع وبين ما دلسه. (ص 206) جـ – من لا يدلس إلا عن الثقات أو تدليسهم نادر، وهؤلاء مثل: إبراهيم بن يزيد النخعي، إسماعيل بن أبي خالد، بشير بن المهاجر، الحسن بن ذكوان، الحسن البصري، الحكم بن عتبة، حماد بن أسامة، سعيد بن أبي عروبة، سفيان الثوري، سفيان بن عيينة، شريك القاضي، ومحمد بن حازم أبو معاوية الضرير، وغيرهم. إن تخريج الإمام البخاري روايات بعض المدلسين دون أن يكون هناك تصريح بالسماع مما يدل على أن قاعدة " المدلس لا يقبل منه إلا ما صرح فيه بالتحديث " ليس قاعدة مطردة بل لها استثناءات. فهناك بعض المدلسين من يكون تدليسه نادراً في بعض الروايات أو لا يدلس فيها أصلاً مع كونه معروفاً بالتدليس، مثل هشيم بن بشير المشهور بالتدليس إلا أنه لا يكاد يدلس في حديثه عن حصين بن عبد الرحمن فعنعنته محمولة على الاتصال، قال الإمام أحمد : " هشم لا يكاد يدلس عن حصين ". ذلك لأنه لازمه ملازمة طويلة وأكثر سماعه منه بحيث لم يفت له من أحاديثه شيء، ولذا قالوا: " هشيم أعلم الناس بأحاديث حصين ". وكذلك سفيان الثوري فقد وصف بالتدليس عن الضعفاء إلا أن الإمام البخاري قال: " لا أعرف لسفيان عن حبيب بن أبي ثابت، ولا عن سلمة بن كهيل، ولا عن منصور، وذكر شيوخاً كثيرة، لا أعرف لسفيان عن هؤلاء تدليساً، ما أقل تدليسه ". ومن هؤلاء الشيوخ، الأعمش وابن جريج، وأبو إسحاق ومعمر ويحي بن أبي كثير، لأنه قلما يفوت له من أحاديثهم لطول الملازمة وكثرة السماع. (ص 207) وكذلك الأعمش فقد قال الحافظ الذهبي : " وهو يدلس وربما دلس عن ضعيف، وهو لا يدري به فمتى قال حدثنا فلا كلام، ومتى قال عن تطرق إليه احتمال التدليس إلا في شيوخ له أكثر عنهم كإبراهيم، وابن أبي وائل، وأبي صالح السمان، فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال ". وكذلك ابن جريج إنه كان يدلس عن غير عطاء فأما عن عطاء فلا، قال: إذا قلت: قال عطاء فأنا سمعته منه وإن لم أقل سمعت، وإنما قال هذا لأنه كان يرى أنه قد استوعب ما عند عطاء". كما أن بعض المدلسين إذا جاء حديثهم من طريق بعض الرواة فتحمل عنعنتهم على الاتصال لأنهم لا يقبلون منهم إلا ما سمعوا من شيوخهم مثل عكرمة بن عمار اليمامي، وقتادة، والأعمش ولأبي إسحاق وأبي الزبير وسفيان الثوري. فعكرمة قد ذكره الحافظ ابن حجر في المرتبة الثالثة من مراتب المدلسين لكن إذا جاء حديثه من طريق سفيان الثوري فتحمل عنعنته على الاتصال لأنه كان يوقفه عند كل حديث قل : "حدثني" و " سمعت ". وأما قتادة والأعمش وأبو إسحاق فلا تضر عنعنتهم إذا روى عنهم شعبة فإنه كان يقول : "كفيتكم تدليس ثلاثة : الأعمش وإسحاق وقتادة ". قال الحافظ : " وهي قاعدة حسنة تقبل أحاديث هؤلاء إذا كانت عن شعبة ولو عنعنوها". وقال الإسماعيلي : " يحي القطان لا يروي عن زهير إلا ما كان (ص 208) مسموعاً لأبي إسحاق فإذا عنعن زهير عن أبي إسحاق وكان من طريق يحي القطان فلا يضر ذلك ويحمل على الاتصال ". وأبو الزبير عن جابر إذا روى عنه الليث بن سعد فعنعنته محمولة على الاتصال. إلى غير ذلك من الأمثلة والشواهد التي تدل على صحة ما ذهب إليه الإمام البخاري من عدم اعتبار أحاديث المدلسين على طريقة واحدة. (ص 209). يتبع إن شاء الله...
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الأحد 13 يونيو 2021, 6:10 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: رد: منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها من خلال الجامع الصحيح الأحد 03 فبراير 2013, 12:30 am | |
| الفصل الثالث منهج تعليل الأحاديث عند الإمام البخاري: المبحث الأول : الأحاديث المعلولة في الجامع الصحيح . المبحث الثاني : التفرد وأثره في التعليل . المبحث الثالث : المخالفة وأثرها في التعليل. المبحث الرابع : زيادات الثقات . المبحث الأول: الأحاديث المعلولة في الجامع الصحيح. المطلب الأول : تعريفا لعلة وبيان مواضعها ، وحكمها ودلائها. المطلب الثاني : الأحاديث المنتقدة في صحيح البخاري وتصنيفها. المطلب الأول: تعريف العلة وبيان مواضعها وحكمها ودلائلها تمهيد : إن الجامع الصحيح للإمام البخاري من أصح الكتب في الحديث بل أصحها، ومع ذلك فهو جهد بشري ليس كاملاً ولا معصوماً، ومن هنا نجد بعض الأئمة الحفاظ قد تكلموا على بعض الأحاديث في هذا الكتاب، وبينوا فيها عللاً تجعلها قاصرة على رتبة الصحة، وقبل الخوض في ذكر هذه الانتقادات وتقويمها يجدر بنا أن نعرف العلة ومواضعها ودلائلها، ثم نتعرض إلى الأحاديث المنتقدة في جامع الصحيح ، ومناهج هؤلاء الأئمة في انتقاداتهم وكذلك طريقة من حاول الدفاع عن الصحيح والرد على هذه الانتقادات. تعريف العلة: 1- لغة: قال الفيروزآبادي: " العلة بالكسر: المرض، عل، يعل، واعتل، وأعله الله تعالى، فهو معل، وعليل، ولا نقول معلول " ويرى كثير من العلماء أن معلول خلاف القياس، لأن القياس أن يقال معل من أعل. قال ابن الصلاح: "ويسميه أهل الحديث: المعلول، وذلك منهم ومن الفقهاء في قولهم في باب القياس العلة والمعلول. مرذول عند أهل العربية واللغة ". وتبعه على ذلك النووي: إنه لحن ، وتبعه السيوطي أيضاً. لكن قال الفيومي: "العلة المرض الشاغل، والجمع علل مثل سدرة وسدر، وأعله الله فهو معلول، قيل: من النوادر التي جاءت على غير قياس، وليس كذلك، فإنه من تداخل اللغتين، والأصل، أعله الله فعل، فهو معلول، فيكون على القياس، وجاء معل على القياس، ولكنه قليل الاستعمال". وأورد الحافظ العراقي في "التقييد والإيضاح" استعمال معلول عن عدد من أهل اللغة منهم قطرب ، وابن القوطية ، والمطرزي والجوهري. وجاء في مختار الصحاح: "والعلة: المرض ، وحدث يشغل صاحبه عن وجهه كأن تلك العلة صارت شغلاً ثانياً منعه عن شغله الأول ؛ واعتل : أي : مرض ، فهو عليل ، ولا أعلك الله أي لا أصابك بعلة". وأصل الخلاف في هذه المسألة هل هذا الفعل ثلاثي مجرد أم مزيد . قال السخاوي رحمه الله: " نص جماعة كابن القوطية في الأفعال على أنه ثلاثي فإنه قال: عل الإنسان علة مرض والشيء أصابته علة ولكن الأعرف أن فعله من الثلاثي المزيد نقول: أعله الله فهو معل، ولا يقال: تعلل، فإنهم يستعملونه من علة بمعنى ألهاه بالشيء وشغله به، ومنه تعليل الصبي بالطعام، وما يقع في استعمال أهل الحديث له حيث يقال علله فلان، على طريق الاستعارة". ومما سبق نستطيع أن نلخص معاني هذا الفعل واستعمالاته على هذا النحو: فعل علّ يعلّ بالكسر والضم: علا، يستعمل متعدياً ولازماً، ومعناه سقاه السقية الثانية، ومنه العلل وهو الشرب الثاني، يقال علل بعد نهل. وأما علله فهو في اللغة بمعنى ألهاه وشغله، واستعمال المحدثين لهذا الفعل قليل، واستعمالهم له على سبيل الاستعارة أي كأن المحدث شغل بالنظر في علة الحديث عما هو أهم من ذلك، والله أعلم. ويرى العراقي أن الأحسن استعمال لفظ معلّ بدلاً من معلول. ومما تقدم يتبين لنا أن استعمال لفظ معلول لا إشكال فيه لغة ، كما أنه المستعمل بكثرة في كلام المحدثين كالبخار ، والترمذي والحاكم والدار قطني وغيرهم . ب- تعريفا لعلة اصطلاحاً : قال ابن الصلاح "هي عبارة عن أسباب خفية غامضة قادحة. فالعلة عبارة عن سبب غامض يدل على وهم الراوي سواء أكان الراوي ثقة أم ضعيفاً. سواء أكان الوهم فيما يتعلق بالإسناد أم فيما يتعلق بالمتن، وقد تطلق العلة على الأسباب الظاهرة التي تقدح في صحة الحديث كما نبه على ذلك ابن الصلاح فقال: "ثم اعلم أنه قد تطلق العلة على غير ما ذكرنا من باقي الأسباب القادحة في الحديث ، المخرجة له من حال الصحة إلى حال الضعف، المانعة من العمل به على مقتضى لفظ العلة في الاصل". مواضع العلة وحكمها: قال ابن الصلاح "ثم قد تقع العلة في إسناد الحديث وهو الأكثر وقد تقع في متنه، ثم ما يقع في الإسناد قد يقدح في صحة الإسناد والمتن جميعاً كما في التعليل بالإرسال والوقف، وقد يقدح في صحة الإسناد خاصة من غير قدح في صحة المتن". والقدح هنا لفظ مجمل إن أريد به القدح في صحة الحديث، ففي العلل ما هو قادح ومنها ما هو غير قادح، وعلى هذا يحمل كلام ابن الصلاح وغيره من العلماء. وإن أريد بالقدح، القدح في صحة ما قاله الراوي عمن فوقه فالعلة على هذا الاعتبار كلها قادحة لأن العلة كما سبق هي الوهم والخطأ فما كان وهماً لا يكون صحيحاً (*). دلائل العلة: تعرف العلة بالتفرد من الراوي أو مخالفته لغيره من قرائن أخرى . قال ابن الصلاح: "ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له، مع قرائن تنضم إلى ذلك، تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث أو وهم واهم بغير ذلك، بحيث يغلب على ظنه ذلك فيحكم به أو يتردد فيوقف فيه". وقال السخاوي: "تدرك بعد جمع الطرق، والفحص عنها، بالخلاف من راوي الحديث لغيره، ممن هو أحفظ ، وأضبط وأكثر عدداً، أو عليه، والتفرد بذلك، وعدم المتابعة عليه مع قرائن قد يقصر التعبير عنها". ولأهمية التفرد والمخالفة جعلتهما محور الدراسة في هذا الفصل، فتناولت منهج التعليل عند الإمام البخاري من خلال موقفه من صور المخالفة وموقفه من التفرد، ثم موقفه من زيادات الثقات، وهي حالة من حالات المخالفة، لكن أفردتها لأهميتها وغموضها. المطلب الثاني: الأحاديث المنتقدة في صحيح البخاري: لقد أعل بعض الحفاظ جملة من الأحاديث في صحيح البخاري ، ومن هؤلاء الحافظ الدارقطني وأبو علي الغساني في جزء العلل من كتابه "تقييد المهمل"(*). أما الحافظ الدارقطني فقد انتقد البخاري ومسلماً في كتابه "التتبع لما في الصحيحين"، وقد طبع هذا الكتاب بتحقيق الشيخ مقبل بن هادي -حفظه الله-، ويعتبر كتابه أوسع مصدر في هذا الموضوع، وقد رد على الدارقطني الحافظ أبو مسعود الدمشقي في جزء صغير ذكر فيه أربعة وعشرين حديثاً مما انتقد فيه الدار قطني مسلماً، وقد لزم فيه الإنصاف فهو يصوب الدارقطني فيما يرى أنه أصاب فيه، ويرد عليه إن رأى أنه أخطأ، كما نبه على أوهام وقع فيها الدارقطني. كما ورد على الدارقطني الإمام النووي في شرح لصحيح مسلم . ورد عليه أيضاً الحافظ ابن حجر في "هدي الساري" وفي فتح الباري عند كلامه على الأحاديث المنتقدة . والذي يلاحظ على رد النووي أنه رد مختصر مبني على قاعدة قبول زيادة الثقة مطلقاً. كان هو مذهب الأصوليين والفقهاء وعلماء الكلام ، كما أنه لم يجب على بعض الأحاديث . وأما الحافظ ابن حجر فكان رده موسعاً مبنياً على تتبع الطرق وذكر المتابعات والشواهد، دون التمسك بقاعدة قبول زيادة الثقة على إطلاقها، كما أنه التزم فيه العدل والإنصاف بحيث يصوب الدارقطني في مواضع كثيرة ويبين وجاهة انتقاده، ولكن يلاحظ أنه في بعض الأحاديث يكتفي بالاحتمالات والتجويزات العقلية المجردة. وقد ذكر ابن حجر أن عدة ما في "صحيح البخاري" من الأحاديث المنتقدة مائة وعشرة أحاديث منها ما انفرد بتخريجه وهي ثمانية وسبعون حديثاً، والباقي شاركه مسلم في تخريجها. وقد قسم الحافظ الأحاديث المنتقدة في صحيح البخاري إلى ستة أقسام وذكر الرد الإجمالي على كل قسم منها ثم ذكر الأحاديث المنتقدة حديثاً حديثاً وأجاب عنها. وهذه الأقسام هي: القسم الأول: ما تختلف الرواة فيه بالزيادة والنقص من رجال الإسناد . فإن أخرج صاحب الصحيح الطرق المزيدة وعلله الناقد بالطريق الناقصة فهو تعليل مردود ، لأن الراوي إن كان سمعه فالزيادة لا تضر لأنه قد يكون سمعه بواسطة عن شيخه، ثم لقيه فسمعه منه ، وإن كان لم يسمعه في الطريق الناقصة فهو منقطع والمنقطع من قسم الضعيف والضعيف لا يعل الصحيح . وإن أخرج صاحب الصحيح الطريق الناقصة وعلله الناقد بالطريق المزيدة تضمن اعتراضه دعوى انقطاع فيما صححه المصنف فينظر إن كان ذلك الراوي صحابياً أو ثقة غير مدلس قد أدرك من روى عنه إدراكاً بيناً أو صرح بالسماع إن كان مدلساً من طريق أخرى فإن وجد ذلك اندفع الاعتراض بذلك ، وإن لم يوجد وكان الانقطاع فيه ظاهراً فمحصل الجواب عن صاحب الصحيح أنه إنما أخرج مثل ذلك في باب ما له متابع أو عاضد أو حفته قرينة في الجملة تقوية ويكون التصحيح وقع من حيث المجموع . وربما علل بعض النقاد أحاديث أدعي فيها الانقطاع لكونها غير مسموعة كما في الأحاديث المروية بالمكاتبة والإجازة ، وهذا لا يلزم منه الانقطاع عند من يسوغ الرواية بالإجازة ، بل في تخريج صاحب الصحيح لمثل ذلك دليل على صحة الرواية بالإجازة عنده . القسم الثاني: ما تختلف الرواة فيه بتغير رجال بعض الإسناد: فالجواب عنه إن أمكن الجمع بأن يكون الحديث عند ذلك الراوي على الوجهين جمعياً، فأخرجهما المصنف ، ولم يقتصر على أحدهما حيث يكون المختلفون في ذلك متعادلين في الحفظ والعدل ، وإن امتنع بأن يكون المختلفون غير متعادلين بل متقاربين في الحفظ ، والعدد فيخرج المصنف الطريق الراجحة ، ويعرض عن الطريق المرجوحة أو يشير إليها فالتعليل بمجرد ذلك من أجل مجرد الاختلاف غير قادح إذا لا يلزم من مجرد الاختلاف اضطراب يوجب الضعف فينبغي الإعراض أيضاً عما هذا سبيله . القسم الثالث: ما تفرد بعض الرواة بزيادة فيه دون من هو أكثر عدداً أو أضبط ممن لم يذكرها. فهذا لا يؤثر التعليل به إلا إذا كانت الزيادة منافية بحيث يتعذر الجمع، أما إذا كانت الزيادة لا منافاة فيها بحيث تكون كالحديث المستقل فلا، اللهم إن وضح بالدلائل القوية أن تلك الزيادة مدرجة في المتن من كلام بعض رواته فما كان من هذا القسم فهو مؤثر . القسم الرابع: ما تفرد به بعض من ضعف من الرواة. وليس في الصحيحين من هذا القبيل غير حديثين. القسم الخامس: ما حكم يه بالوهم على بعض رجاله ، فمنه ما يؤثر ذلك الوهم قدحاً، ومنه لا يؤثر. القسم السادس: ما اختلف فيه بتغير بعض ألفاظ المتن . فهذا أكثره لا يترتب عليه قدح لإمكان الجمع في المختلف من ذلك أو الترجيح، على أن الدارقطني وغيره من أئمة النقد لم يتعرضوا لاستيفاء ذلك من الكتابين كما تعرضوا لذلك في الإسناد. ومن خلال هذه الأقسام التي ذكرها ابن حجر يتضح أن الإمام البخاري يخرج الأحاديث الصحيحة وقد يتبعها أحياناً بالأحاديث المعلولة أو يشير إليها، وإذا لم يكن الترجيح بين الرواة المختلفين باعتبار العدد أو الحفظ أو غيرها من المرجحات أو القرائن فإن البخاري يخرج الوجهين وكذلك يصنع الإمام مسلم – رحمه الله – وقد أشار الإمام الذهبي إلى هذا فقال: "وإن تساوى العدد واختلف الحافظان، ولم يترجح الحكم لأحدهما على الآخر، فهذا الضرب يسوق البخاري ومسلم الوجهين منه في كتابيهما وبالأولى سوقهما لما اختلف في لفظه إذا أمكن جمع معناه". أي أن الشيخين يخرجان ما اختلف فيه الحافظ المتساوون في العدد والحفظ إذا لم يمكن الترجيح بينهما سواء أكان الخلاف في سياق المتن أم في السند . وسيأتي مزيد توجيه لهذا في "مبحث المخالفة" من هذه الرسالة . وفي ضوء هذا الواقع نستطيع أن نفهم منهج الإمام الدارقطني في كتابه "التتبع" لأن كثيراً من الناس يرى أن الدار قطني قص انتقاد الشيخين في جميع ما يذكره ، وقد أوضح الإمام الدارقطني منهج كتابه وموضوعه حيث يقول في مستهله "ابتداء ذكر أحاديث معلولة اشتمل عليها كتاب البخاري ومسلم أو احدهما بينت عللها والصواب منها". وهذا النص واضح جداً أن موضوع الكتاب هو ذكر أحاديث معلولة اشتمل عليها كتاب البخاري ومسلم أو أحدهما مع بيان عللها والصواب منها ، وأنه لم يلمح فيه أن الانتقاد سوف يوجه صوب صنيع الشيخين في صحيحهما على أساس أن كلاً منهما قد أخل في شرط كتابه ، لأنه قال "اشتمل عليها" ولم يوضح على أي وجه اشتمل عليها، وهو شامل لجميع أنواع الأحاديث، سواء اشتمل عليها على وجه الاحتجاج أم على وجه الاستناس والاحتياط والاستشهاد أم على وجه التبع وشرح العلل، ولم يقل –رحمه الله– "ذكر أحاديث معلولة احتج بها الشيخان وهي مخالفة لشروطهما". والذي يبدو عند إمعان النظر في كتاب "التتبع" أن الأحاديث التي بين عللها تصنف على أنواع: منها الأحاديث التي احتج بها البخاري ومسلم . ومنها ما أورده كل منهما في المتابعات . ومنها ما أورده كل منهما على سبيل الاحتياط والاستئناس . ومنها ما أورده كل منهما على سبيل التبع وبيان العلل . ومنها ما ذكره مسلم في المقدمة . أما النوع الأول فعدده قليل جداً بالنسبة إلى الأنواع الأخرى إلا النوع الأخير . والذي يصلح فيه القول أن الشيخين قد أخلا فيه بشروطهما والتزامهما بها هو النوع الأول دون سواه، فإن الأنواع الأخرى كلها خارج الأصول، ولم يذكر شيئاً منها إلا على سبيل الاعتضاد أو الاحتياط أو الاستئناس أو التتبع وشرح العلة . وغاية ما يقال بالنسبة إلى هذه الأنواع أن الإمام الدارقطني أوضح السبب الذي كان يدفع كلاً من البخاري ومسلم إلى أن يذكر الأحاديث على ذلك النحو هو وجود العلة فيها، وفي نفس الوقت فإن الغمام الدارقطني يفدنا من خلال تتبعه لأحاديث الصحيحين دقة الشيخين في تصحيح الأحاديث وتعليلها ووضعها في مواضعها اللائقة بها من الصحيح، أما البخاري فكثيراً ما يرويها معلقة بينما مسلم يوردها في أواخر الباب غالباً. ومن هنا نستطيع أن نقسم الأحاديث التي انتقدها الدارقطني في صحيح البخاري ومسلم إلى ثلاثة أقسام هي: الأول : القسم المتفق عليه: وأعني به الأحاديث التي أعلها الدارقطني وقد أشار البخاري أو مسلم – رحمهما الله – إلى علتها بما يفهمه أهل المعرفة ، وفي كثير منها يذكر الدار قطني الخلاف ولا يحكم بشيء . ومن هذا القسم الأحاديث التي ذكرها الدارقطني وبين أنها مكاتبة أو إجازة لأنه صرح بأن مثل هذه الأحاديث حجة في قبول الإجازة والمكاتبة وكأنه يرد على بعض ما لا يصحح العمل بالمكاتبة(*) . الثاني: القسم الذي انتقده الدار قطني ويترجح فيه قول الشيخين. الثالث: القسم الذي انتقده الدارقطني ويترجح فيه قول. ولو قيست هذه الأحاديث التي يترجح فيها قول الدارقطني بمجموع أحاديث الصحيحين فإنها لا تتجاوز نسبة 1% إذ إن مجموع الأحاديث المنتقدة في البخاري ومسلم مائتين وعشرة من أكثر من ستة عشر ألف حديث، وهذه الأحاديث المنتقدة بعضها متفق عليه والبخاري ومسلم قد أشارا إلى العلة فيه والبعض الآخر يترجح فيه موقف الشيخين، فلنفترض أن الدارقطني قد اصاب في نصفها أي في مائة حديث وهي نسبة ضئيلة جداً، وهي مما يؤكد صحة هذين الكتابين. يتبع إن شاء الله...
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الأحد 13 يونيو 2021, 6:12 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: رد: منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها من خلال الجامع الصحيح الثلاثاء 26 فبراير 2013, 1:02 am | |
| المبحث الثاني التفرد وأثرها في التعليل المطلب الأول : مقدمات نظرية (حقيقة التفرد ، أنواعه ، مراتبه ، حكمه ...) . المطالب الثاني : الأحاديث التي استنكرت في صحيح البخاري . المطالب الثالث : الأحاديث التي أعلها الإمام البخاري بالتفرد .
المطلب الأول مقدمات نظرية أ- حقيقة التفرد : هو أن يروي شخص من الرواة حديثاً دون أن يشاركه الآخرون، وهو ما يقول فيه المحدثون النقاد "حديث غريب" أو "تفرد به فلان" أو "هذا حديث لا يعرف إلا من هذا الوجه" أو "لا نعلمه يروي عن فلان إلا من حديث فلان". فالحديث الذي يتفرد به الراوي ولا يشاركه فيه غيره يسمى غريباً ويقابله المشهور. قال الحافظ ابن منده ، فيما نقله عنه ابن الصلاح: " الغريب من الحديث كحديث الزهري وقتادة وأشباههما من الأئمة ممن يجمع حديثهم إذا انفرد الرجل عنهم بالحديث يسمى غريباً ، فإذا روى عنهم رجلان أو ثلاثة واشتركوا في حديث سمى عزيزاً، فإذا روى الجماعة عنهم حديثاً سمي مشهوراً". ويسمى بعضهم الحديث الذي ينفرد به الراوي ولا يشاركه فيه غيره فرداً، وبعض العلماء جعلهما مترادفين وبعضهم غاير بينهما، ويرى الحافظ ابن حجر أنهما مترادفين لغة واصطلاحاً، إلا أن أهل الاصطلاح غايروا بينهما من حيث كثرة الاستعمال وقلته، فالفرد أكثر ما يطلقونه على الفرد المطلق، والغريب أكثر ما يطلقونه على الغريب النسبي.
ب- أنواعه : للتفرد نوعان: تفرد مطلق، وتفرد نسبي. فالفرد المطلق ما كانت الغرابة ي أصل سنده. ويمكن أن نقول أيضاً: هو ما ينفرد به واحد عن كل أحد.
والفرد النسبي، وهو ما يقع فيه التفرد في أثناء سنده، وسمي النسبي لأن التفرد ليس مطلقاً، وإنما هو بالنسبة إلى جهة معينة، ومن هنا كانت له أنواع مختلفة، باعتبار جهة التفرد منها: 1- تفرد ثقة برواية حديث . 2- تفرد راو معين عن راو معين . 3- تفرد أهل بلد أو أهل جهة . 4- تفرد أهل بلد أو جهة عن أهل بلد أو جهة .
ج- مراتب التفرد : عند إمعان النظر في صنيع المحدثين يتبين لنا أن التفرد على مرتبتين: 1- تفرد في الطبقات المتقدمة . 2- تفرد في الطبقات المتأخرة .
أولاً : التفرد في الطبقات المتقدمة : إن تفرد الراوي بحديث في طبقة من شأنها عدم شهرته وعدم تعدد رواته في الغالب، فهذا النوع من التفرد مقبول ومحتج به بشرط أن يكون الراوي ثقة معروفاً. لأن التفرد في هذه الطبقات لا يثير في نفس الناقد تساؤلاً حول كيفية التفرد، ولا ريبة في مدى ضبطه لما تفرد به حيث إن تداخل الأحاديث والآثار بالنسبة إليه احتمال يكون معدوماً، ونظراً لمحدودية الأسانيد التي يتداولها هو ومعاصروه وقصرها . وأما إذا خالف ما ثبت واشتهر، أو كان متنه لا يعرف إلا من روايته، ولم يجر العمل بمقتضاه سابقاً، فإنه عندئذ يصبح شاذاً غريباً ويرفض الناقد قبوله. وأما إذا كان الراوي المتفرد به ضعيفاً فأمره بين ، فلا خلاف بينهم في رد حديثه، وكذا إذا كان مجهولا، فإنه يرد عند الجمهور من النقدة.
ثانياً: التفرد في الطبقات المتأخرة: أما التفرد برواية حديث في طبقة من شأنها أن يكون الحديث فيها مشهوراً ومتعدد الطرق، كالمدارس الحديثية المشتهرة في جهات مختلفة من الأقطار الإسلامية، والتي يشترك في نقل أحاديثها جماعة كثيرة من مختلف البلاد لبالغ حرصهم على جمعها من مخارجها الأصلية بحيث لا يفوت لهم شيء منها إلا نادراً، وقد تهيأ لهم ذلك من خلال تنقلهم الواسع بين البلدان الإسلامية. فهذا النوع من التفرد يدعو الناقد إلى ضرورة النظر إلى أسبابه، فينظر في علاقة صباحه مع المروي عنه عموماً، وكيفية تلقيه ذلك الحديث الذي تفرد به خصوصاً، كما ينظر في حال ضبطه لأحاديث شيخه بصفة عامة، ولهذا الحديث خصوصاً ثم يحكم عليه حسب مقتضى دراسته وبحثه. فليس هناك حكم مطرد بقبول تفرد الثقة أورد تفرد الضعيف بل تتفاوت أحكامه.
حكم التفرد وضابطه: لقد استقرت كتب المصطلح منذ ابن الصلاح إلى يومنا هذا على أن الحكم على التفرد يكون بحسب أحوال الرواة فإذا كان الراوي ثقة قبل حديثه ، وإن كان ضعيفاً رد حديثه، وإن كان متوسطاً اعتبر حديثه حسناً، وهذا الحكم أخذ كضابط كلي مطرد في كل تفرد . وعند تتبع كلام النقاد والنظر في صنيعهم يتجلى لنا أن ما لخصه ابن الصلاح -رحمه الله تعالى– ينبغي تخصيصه فإن مقاييس القبول والرد في مجال التفرد ليست أحوال الرواة المتمثلة في الثقة والضعف فحسب، بل بتوافر القرائن الدالة على ذلك. فمن أفراد الثقات ، وغرائبهم ما يرد ومنها ما يقبل ، ولهذا وضع في تعريف الصحيح قيداً مهماً وهو الخلو من الشذوذ والعلة في فلو كان القبول لازماً لأحاديث الثقات لأصبح ذكر هذا القيد لغواً في التعريف.
يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي: "وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به واحد وإن لم يرو الثقات خلافه: "إنه لا يتابع عليه" ويجعلون ذلك علة فيه اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه ، وربما يستنكرون بعض تفرد الثقات الكبار، ولهم في كل حديث نقد خاص ، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه".
الغرائب والأفراد في نظر الأئمة : يقول ابن رجب: "وقد كان السلف يمدحون المشهور من الحديث ويذمون الغريب منه في الجملة . ومنه قول ابن المبارك: "العلم هو الذي يجيئك من ههنا ومن ههنا" يعني المشهور وعن علي بن الحسين: "ليس العلم ما لا يعرف ، إنما العلم ما عرف وتواطأت عليه الألسن" . وعن مالك : "شر العلم الغريب وخير العلم الظاهر الذي رواه الناس" . وعن الأعمش : "كانوا يكرهون غريب الحديث وغريب الكلام ". وعن أبي يوسف : "من طلب غرائب الحديث كذب " . وذكر مسلم في مقدمة كتابه من طريق حماد بن زيد أن أيوب قال لرجل: لزمت عمراً؟ قال: نعم إنه يجيئنا بأشياء غرائب قال يقول له أيوب: إنما نفر أو نفر من تلك الغرائب قال رجل لخالد بن الحارث: اخرج لي حديثا الأشعث لعلي أجد يه شيئاً غريباً . فقال: لو كان فيه شيء غريب لمحوته، وعن أحمد: تركوا الحديث وأقبلوا على الغرائب ما أقل الفقه فيهم، وعنه أيضاً: لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب فإنها مناكير وعامتها عن الضعفاء.
أهمية التفرد في معرفة علل الأحاديث: لقد اعتنى أئمة الحديث ونقاده بالتفرد عناية كبيرة.. إذ إن له علاقة قوية بتعليل الأحاديث فهو أحد وسائل الكشف عما يكمن الأحاديث من أوهام وأخطاء في هذا يقول ابن الصلاح -رحمه الله-: "ويستعان على إدراكها (أي العلة) بتفرد الراوي، وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك". فلا يمكن تعليل الأحاديث أو تصحيحها إلا بعد معرفة حالة التفرد أو حالة المشاركة في كل طبقة من طبقات الإسناد .
المطلب الثاني الأحاديث التي استنكرت أو استغربت في الجامع الصحيح لقد تكلم بعض الأئمة في جملة من الأحاديث صحيح البخاري ووصفوها بالغرابة أو النكارة وهي وإن كانت قليلة، ومحدودة العدد، فليس غرض هنا إحصاؤها، وإنما القصد دراسة نماذج للوقوف على منهج البخاري ووجهة نظره في إخراج هذه الأحاديث، ومعرفة الأسس التي بنى عليها هؤلاء الأئمة نقدهم لتلك الأحاديث.
وقبل الشروع في دراسة بعض النماذج لابد من الإشارة إلى حقيقة علمية مهمة وهي: إن وجود الغرائب والأفراد في الصحيحين هو أمر نادر ، ولم يكن من قصد الشيخين –رحمها الله- أن يكون كتاباهما مجمعاً للغرائب والأفراد كما قصد بعض الأئمة من مصنفاتهم، وإنما قصدهما ذكر الأحاديث الصحيحة المشهورة التي تداولها أهل العلم فيما بينهم كما صرح به مسلم في مقدمة صحيحه. ومن هنا كانت هذه الأحاديث المستغربة أو المستنكرة من قبل الأئمة قليلة بالنسبة إلى الأحاديث الصحيحة المشهورة. ومن أدعى أن كل ما في الصحيحين مشهور وليس ليها شيء من الغرائب ، فقد خالف الواقع ، وخالف الحقيقة العلمية التي قررها الأئمة النقاد ، وممن أدعى ذلك الإمام الحكم لنيسابوري –رحمه الله– وقد رد عليه الحافظ حجر بقوله: "وأما قوله: إن الغرائب الأفراد ليس في الصحيحين منها شيء، فليس كذلك ، بل فيها قدر مائتي حديث قد جمعها الحافظ ضياء الدين المقدسي في جزء مفرد". ومعلوم أن هذا العدد في مقابل متون أحاديث الصحيحين التي لا تقل عن ثمانية آلاف حديث مقدار ضئيل جداً لا يتعدى 2.5% . والأمر الثاني الذي يجدر التنبه إليه هو أن الغرابة أمر نسبي، فقد يكون حديث ما غريباً عند إمام ناقد، بينما لا يوافقه غيره من الأئمة على ذلك الحكم لوقوفهم على متابعات وشواهد تدفع عن الحديث وصوف الغرابة أو النكارة .
فهذه جملة من الأمور تتضح تفاصيلها من الأمثلة المدروسة . المثال الأول : حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطيته، ولئن استعاذني لأعيذنه". فهذا الحديث تفرد بإخراجه البخاري من دون أصحاب الكتب الستة، خرجه عن محمد بن عثمان بن كرامة، حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان بن بلال حدثنا شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث بطوله وزاد في آخره: "وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفسي المؤمن يكره الموت، وأنا أكره مساءته". قال الحافظ ابن رجب: "وهو من غرائب الصحيح تفرد به ابن كرامة عن خالد، ليس هو في مسند أحمد، مع أن خالد بن مخلد القطواني تكلم يه أحمد وغيره، وقالوا: له مناكير وقد روي هذا الحديث من وجوه أخرى لا تخلو كلها من مقال". ثم ذكر – رحمه الله – تلك الطرق وتكلم عليها . وقال الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: "وساق الذهبي في ترجمة خالد من الميزان بعد أن ذكر قول أحمد فيه: "له مناكير، وقول أبي حاتم لا يحتج به، وأخرج ابن عدي عشرة أحاديث من أحاديث استنكرها، هذا الحديث من طريق محمد بن مخلد عن محمد بن عثمان بن كرامة شيخ البخاري فيه، قال: هذا حديث غريب جداً، ولولا هيبة الصحيح لعدوه في منكرات خالد بن مخلد، فن هذا المتن لم يرو إلا بهذا الإسناد، ولا خرجه من عدا البخاري، ولا أظنه في مسند أحمد، قلت (القائل ابن حجر): ليس هو في مسند أحمد جزماً، وإطلاق أنه لم يرو إلا بهذا الإسناد مردود، ومع ذلك شريك شيخ شيخ خالد فيه مقال أيضاً، وهو راوي حديث المعراج الذي زاد يه ونقص، وقدم وأخر، وتفرد بأشياء لم يتابع عليها ، ولكن للحديث طرق أخرى يدل مجموعها على أنه لا أصل" ثم ساق تلك الطرق وتكلم عليها. والسبب في استنكار هذا الحديث من قبل هؤلاء الأئمة هو تفرد محمد بن عثمان بن كرامة به عن خالد بن مخلد القطواني . أما محمد بن عثمان بن كرامة فهو ثقة من شيوخ البخاري. أما خالد ن مخلد فهو أيضاً من شيوخ البخاري، يروي عنه مباشرة ويروي عنه بالواسطة كما في الحديث، وقد اختلف فيه كلام أئمة الجرح والتعديل. قال العجلي : ثقة يه تشيع . وقال ابن سعد : كان متشيعاً مفرطاً . وقال صالح جزرة : ثقة إلا أنه كان متهماً بالغلو والتشيع . وقال أحمد بن حنبل : له مناكير . وقال أبو داود : صدوق إلا أنه يتشيع . وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به . قال الحافظ -رحمه الله-: "أما التشيع فقد قدمنا أنه إذا كان ثبت الأخذ والأداء لا يضره لا سيما ولم يكن داعية إلى رأيه، وأما ما مناكيره فقد تتبعها أبو أحمد بن عدي من حديثه، وأوردها في كاملة، وليس فيها شيء مما أخرجه البخاري، بل لم أرَ له عنده من أفراده سوى الحديث واحد، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "من عادى لي ولياً" وروى له الباقون سوى أبي داود". وقد لخص الحافظ حاله في التقريب فقال : "صدوق يتشيع وله أفراد". (والبخاري لم يرو عن أحد إلا وهو يرى أنه يمكنه تمييز صحيح حديثه من سقيمه، وهذا يقتضي أن يكون الراوي على الأقل صدوقاً في الأصل). فالبخاري لما ترجع عنده صدق خالد بن مخلد القطواني أخرج له، فإن قيل إنما يعرف صدقه وصحة حديثه بموافقة الثقات له، وخالد له مناكير، ومنها هذا الحديث الذي تفرد به ولم يتابعه عليه الثقات، فكيف يكون صحيحاً؟ (إن معرفة البخاري لصحة حديث الراوي من شيوخه لا تحصل بمجرد موافقة الثقات، وإنما تحصل بأحد أمرين: إما أن يكون الراوي ثقة ثبتاً فيعرف صحيح حديثه بتحديثه، وإما أن يكون صدوقاً يغلط ولكن يمكن معرفة ما لم يغلط فيه بطرق أخرى، كأن يكون له أصول جيدة، وكأن يكون غلطه خاص جهة معينة). وخالد بن مخلد من شيوخ البخاري فهذا يقتضي معرفة حديثه وحاله عنده . فلما علم البخاري صدق خالد بن مخلد ، ورأى أن هذا المتن الذي انفرد به ليس فيه شيء يخالف القرآن أو السنة المشهورة أو أصول الشريعة ووجدت له شواهد، وإن كانت ضعيفة ولكنها كثيرة يصلح منها نوع قوة مما يدل على أن للحديث أصلا لهذا كله صححه الإمام البخاري هذا الحديث . ويمكن القول أيضاً : إن البخاري تساهل في رواية هذا الحديث لأنه في الرقاق وفضائل الأعمال وليس في أصول التحريم والتحليل ، والله أعلم .
المثال الثاني : ما رواه البخاري في صحيحه قال: "حدثنا عبد القدوس بن محمد حدثني عمرو بن عاصم الكلابي، حدثنا همام بن يحيى حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه علي، قال ولم يسأله عنه، قال وحضرت الصلاة، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم، قام إليه رجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حداً فأقم في كتاب الله، قال: "أليس قد صليت معنا؟" قال: نعم. قال: "فإن الله قد غفر لك ذنبك -أو قال: حدك". رواه مسلم أيضاً عن الحسن بن علي الحلواني عن عمرو بن عاصم به. فهذا الحديث استنكره بعض النقاد كالبرديجي، وأبو حاتم – رحمهم الله -. قال الحافظ البرديجي : "هذا عندي حديث منكر ، وهو عندي وهم من عمرو بن عاصم". ونقل ابن أبي حاتم عن أبيه أنه قال: "هذا الحديث باطل بهذا الإسناد". وقد أجاب بعض الحفاظ المتأخرين، على كلام البرديجي وأبي حاتم –رحمهما الله– ومن هؤلاء الإمام الناقد ابن رجب في شرحه لعلل الترمذي، والحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث من الفتح، وسأنقل فيما يلي كلامهما. قال ابن رجب: "ولعل أبا حاتم والبرديجي نما أنكر الحديث لأن عمرو بن عاصم ليس هو عندهما، في محل من يحتمل تفرده بمثل هذا الإسناد". وقال الحافظ ابن حجر – بعد نقله كلام البرديجي: " ... لم يبين (أي البرديجي) وجه الوهم، وإما إطلاقه كونه منكراً فعلى طريقته في تسمية ما ينفرد به الراوي منكراً، إذا لم يكن له متابع، ولكن يجاب بأنه وإن لم يوجد لهمام ولا لعمرو بن عاصم فيه متابع فشاهده حديث أبي أمامة ، الذي أشرت إليه ، ومن ثم أخرجه مسلم عقبه، والله أعلم ". نلاحظ أن الحافظ ابن رجب علل إطلاق البرديجي وأبي حاتم النكارة على هذا الحديث بناء على حال الراوي المتفرد به ، وهو عمرو بن عاصم . وعمرو ثقة أخرج حديثه الجامعة، لكن يحتمل أن يكون ضعيفاً عند البرديجي وأبي حاتم ومن ثم يكون حديثه الذي ينفرد به منكراً ، وهذا التوجيه، إنما يصح بناء على ما استقر عليه اصطلاح المتأخرين من أن الحديث المنكر هو: الفرد المخالف لما رواه . الثقات ، والفرد الذي ليس في روايه من الثقة والإتقان ما يحتمل معه تفرده. ومما يدل على ضعف هذا التوجيه أن الحافظ ابن رجب نفسه، فسر كلام الحافظ البرديجي في تعريفه للمنكر (المنكر هو الذي يحدث به الرجل عن الصحابة أو التابعين عن الصحابة لا يعرف ذلك الحديث، وهو متن الحديث إلا من طريق الذي رواه فيكون منكراً). قال ابن رجب: "ذكر هذا الكلام في سياق إذا انفرد شعبة و سعيد بن أبي عروبة أو هشام الدستوائي بحديث عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كالتصريح بأنه كل ما ينفرد به ثقة عن ثقة ولا يعرف المتن من غير ذلك الطريق فهو منكر". فواضح أن الحافظ البرديجي يطلق المنكر على الحديث الذي ينفرد به راويه ولو كان ثقة حافظاً كشعبة وابن أبي عروبة وهشام الدستوائي ونحوهم . إذن فهذا التقرير من الحافظ ابن رجب يوهن توجيهه السابق لاستنكار البرديجي وابن أبي حاتم للحديث السابق . وأما الحافظ ابن حجر فقد وجه نقد البرديجي للحديث على أساس أنه يسمى ما ينفرد به الراوي منكراً إذا لم يكن له متابع، ومقتضى هذا أن النكارة لا تزول على الحديث إلا بمعرفته من وجه آخر، وقد صرح بهذا الحافظ ابن رجب حيث قال معلقاً على استنكار يحيى القطان لحديث "لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام" "... وهذا الكلام يدل على أن النكارة عند يحيى القطان لا تزول إلا بمعرفة الحديث من وجه آخر، وكلام أحمد قريب من ذلك ". وقد حقق شيخنا حمزة المليباري هذه المسألة جيداً جمع فيها بين أقوال هؤلاء النقدة وصنيعهم من خلال ممارستهم النقدية ، قال – حفظه الله - : "والحق الذي أميل إليه أن الإمام أحمد ويحيى والبرديجي لا يستنكرون الحديث لمجرد تفرد ثقة من الثقات ، وإنما يستنكرونه إذا لم يعرف من مصادر أخرى ، إما براوية ما يشهد له من معنى الحديث أو بالعمل بمقتضاه ، ومما يمكن الاستئناس به لتقرير قول الحافظ البرديجي : (إذا روى الثقة من طريق صحيح الواحد ، لم يضره أن لا يرويه غيره إذا كان متن الحديث معروفاً ولا يكون منكراً ولا معلولاً). وقول أحمد : (شر الحديث الغرائب التي لا يعمل بها). أما إطلاق المنكر على كل ما تفرد به ثقة عن ثقة فلا أظن أنه وقع ذلك في كلامهم، وإن كان بعض ما نقل عنهم يوهم خلاف ذلك ، فإنه ينبغي حمله على أن ذلك على حدود معرفتهم لتفادي التناقض بين التصريح والعمل". ثم ذكر حديث عمرو بن عاصم السابق ، وكلام البرديجي وأبي حاتم فيه ، وتوجيه ابن رجب له ثم قال: "والذي أميل إليه أن ذلك الاستنكار إنما هو على حدود اطلاعهما، لأنه إذا كان الحديث معروفاً من جهة أخرى فليس بمنكر حسب تصريحي الحافظ البرديجي حتى ولو كان الراوي المتفرد من الشيوخ الذين هم دون مرتبة الثقات يقول البرديجي: (فأما أحاديث قتادة التي يرويها الشيوخ مثل حماد بن غير طريقهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أنس بن مالك من وجه آخر، ولم يدفع. وإن كان لا يعرف عن أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من طريق عن أنس إلا من رواية هذا الذي ذكرت لك كان منكراً). وحديث عمرو بن عاصم الذي أنكره البرديجي وأبو حاتم كان مروياً معناه من طري أخرى كما سبق". أما الرواية التي تشهد لحديث أنس فقد أخرجها الإمام مسلم في صحيحه عقيب حديث أنس مباشرة لتكون شاهداً له، قال – رحمه الله -: " حدثنا نصر بن علي الجهضمي ، وزهير بن حرب (واللفظ لزهير) قالا حدثنا عمر بن يونس، حدثنا عكرمة بن عمار ، حدثنا شداد ، حدثنا أبو أمامة قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ونحن قعود معه ، إذا جاء رجل فقال : يا رسول الله إني اصبت حداً فأقمه علي فسكت عنه ، وأقيمت الصلاة ، فلا أنصرف نبي الله صلى الله عليه وسلم قال أبو أمامة : فاتبع الرجل رسول الله حين انصرف ، واتبعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . انظر ما يريد على الرجل ، فلحق الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيت حين خرجت من بيتك أليس قد توضأت فأحسنت الوضوء ، قال بلى يا رسول الله ، قال : ثم شهدت الصلاة معنا ، فقال : نعم يا رسول الله ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإن الله قد غفر لك حدك – أو قال – ذنبك". مما سبق نلخص إلى أن هذا الحديث صحيح وإطلاق النكارة عليه من قبل بعض الأئمة كان في حدود اطلاعهم ، والله أعلم . يتبع إن شاء الله...
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الأحد 13 يونيو 2021, 6:15 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: رد: منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها من خلال الجامع الصحيح الثلاثاء 26 فبراير 2013, 1:32 am | |
| المثال الثالث: حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وهبته". فهذا الحديث تفرد به عبد الله بن دينار عن ابن عمر، ثم اشتهر عنه، حتى قال مسلم لما أخرجه في صحيحه: الناس كلهم عيال على عبد الله بن دينار في هذا الحديث . وقال الترمذي بعد تخريجه : حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن دينار، رواه عنه شعبة وسفيان ومالك . قال الحافظ – رحمه الله - : "وقد اعتنى أبو نعيم الأصبهاني بجمع طرقه عن عبد الله بن دينار فأورده عن خمسة وثلاثين نفساً ممن حدث به عن عبد الله بن دينار". فهذا الإسناد (أي عبد الله بن دينار عن ابن عمر) مشهور تروى به أحاديث كثيرة، لكن هذا المتن لم تصح روايته إلا بهذا الإسناد . ومن رواه من طريق أخرى غير هذه الطريق فقد وهم وغلط ن ومن هذه الروايات الخاطئة: رواية يحيى بن سلمي عن عبيد الله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وهبته". قال أبو عيسى: "والصحيح: عن عبد الله بن دينار، وعبد الله بن دينار قد تفرد بهذا الحديث عن ابن عمر، ويحيى بن سليم أخطأ في حديثه". وقال الترمذي في جامعة بعد روايته لهذا الحديث: " ... هذا حديث صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن دينار عن بن عمر، والعمل على هذا عند أهل العلم . وقد روى يحيى بن سليم هذا الحديث عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الولاء وهبته ، وهو وهم وهم فيه يحيى بن سليم وقد روى عبد الوهاب الثقفي ، وعبد الله بن نمير ، وغير واحد عن عبيد الله بن عمر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أصح من حديث يحيى بن سليم". ووجه الوهم هنا ينحصر في تغير لفظ نافع إلى لفظ عبد الله بن دينار ، وإن كان المتن واحداً في الروايتين لان هذا الحديث لا يعرف من رواية نافع عن ابن عمر ، ودليل خطئه مخالفته لأصحاب عبيد الله بن عمر ، فكلهم يجعله من رواية بن دينار عن ابن عمر قال ابن رجب –رحمه الله- وهو يتكلم على حديث عبد الله بن دينار " وهو معدود من غرائب الصحيح، فإن الشيخين خرجاه، ومع هذا تكلم فيه الإمام أحمد وقال: لم يتابع عبد الله بن دينار عليه، وأشار إلى أن الصحيح ما روى نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الولاء لمن أعتق" لم يذكر النهي عن بيع الولاء وهبته . قلت : وروى نافع عن ابن عمر من قوله : النهي عن بيع الولاء عن هبته غير مرفوع وهذا مما يعلل به حديث عبد الله بن دينار والله أعلم".
فالإمام أحمد استند في تعليله لهذا الحديث على جملة من الأمور: أولاً : تفرد عبد الله بن دينار عن ابن عمر بهذا الحديث دون سائر أصحاب ابن عمر كنافع وسالم وغيرهما . ثانياً : بعض أصحاب ابن عمر كنافع يروى في هذا الموضوع متناً مغايراً لما يرويه ابن دينار وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم : "إنما الولاء لمن أعتق" ولم يذكر النهي عن بيع الولاء وهبته . ثالثاً : روى نافع عن ابن عمر "النهي عن بيع الولاء وهبته" لكن جعله موقوفاً على ابن عمر ولم يرفعه للنبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن نافعاً أحفظ أصحاب ابن عمر وقد ميز الموقوف من المرفوع ، يكون حديثه أصح ، هذه أهم الأمور التي استند عليها الإمام أحمد في تعليل حديث ابن دينار. ويفهم من كلام أحمد أن عبد الله بن دينار روى هذا الحديث بالمعنى ولم يلتزم باللفظ، وبهذا صرح أبو بكر بن العربي رحمه الله حيث قال في عارضة الأحوذي : "تفرد بهذا الحديث عبد الله بن دينار ، وهو من الدرجة الثانية من الخبر ، لأنه لم يذكر لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه نقل معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن اعتق". هذه هي الأسس والقرائن التي اعتمد عليها الإمام أحمد في استنكار هذا الحديث وتعليله. إذن ما هي الأسس التي اعتمد عليها البخاري ومن تبعه كمسلم والترمذي وغيرهم في تصحيح هذا الحديث؟ هذه الأسس والقرائن التي اعتمد عليها هؤلاء الأئمة في تصحيح الحديث يمكن حصرها فيما يلي :
1- إن هذا المتن الذي انفرد به عبد الله بن دينار لا يعارض غيره من الأحاديث التي وردت في هذا الموضوع سواء عن ابن عمر نفسه أو غيره كعائشة وما ورد في هذا الباب هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الولاء (*) لمن أعتق" وهو يفيد حصر الولاء في العتق، دون غيره من أسباب التمليك كالبيع والهبة . وقد أشار البخاري – رحمه الله – إلى تداخل الحديثين واتفاقهما في المعنى ، حيث ترجم في كتاب العتق ، "باب بيع الولاء وهبته" ، فأورد فيه حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر ، ثم أورد فيه حديث عائشة ، قال اشتريت بريرة . فاشترط أهلها ولاءها فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعتقيها: فإن الولاء لمن أعطى الورق...". قال الحافظ : ووجه دخوله في الترجمة من قوله في أصل الحديث : "فإن الولاء لمن أعتق" وهو وإن كان لم يسقه هنا بهذا اللفظ ، فكأنه أشار إليه كعادته ، ووجه الدلالة منه حصره في المعتق فلا يكون لغيره معه منه شيء".
2- إن مضمون هذا الحديث قد عمل به أهل العلم من فقهاء الصحابة والتابعين والأئمة رضي الله عنهم وهذا يعتبر شاهداً لصحته . وإلى هذا أشار الإمام الترمذي في جامعه، فإن قال بعد روايته لهذا الحديث: "هذا حديث صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم". وقال ابن عبد البر: اتفق الجامعة على العمل بهذا الحديث إلا ما روي عن ميمونة أنها وهبت ولاء سليمان يسار لابن عباس وروى عبد الرزاق ابن جريج عن عطاء: يجوز للسيد أن يأذن لعبده أن يوالي من شاء. وقال ابن بطال وغيره : جاء عن عثمان جواز بيع الولاء وكذا عن عروة ، وجاء عن ميمون جواز هبته الولاء وكذا عن ابن عباس ، ولعلهم لم يبلغهم الحديث. 3- ومما يدل أيضاً على صحة حديث عبد الله بن دينار في النهي عن بيع الولاء وهبته أنه ورد من طريق شعبة ومالك بن أنس وسفيان الثوري، وحديث عبد الله بن دينار إذا ورد من طريق هؤلاء فهو صحيح. قال أبو جعفر العقيلي: " روى شعبة والثوري ومالك وابن عيينة عن عبد الله بن دينار أحاديث متقاربة عند شعبة نحو عشرين ، وعند الثوري نحو الثلاثين ، وعند مالك نحوها ، وعند ابن عيينة بضعة عشر حديثاً، فأما رواية المشايخ عنه فيها اضطراب". وقال البريديجي: "أحاديث عبد الله بن دينار صحاح من حديث شعبة ومالك، وسفيان الثوري". ويمكن أن يقال أن الإمام أحمد تقيد بحرفية الحديث، وأما الآخرون فنظروا إلى معنى الحديث فوجوده خالياً من التغاير عن مضمون الحديث الذي رواه نافع فصححوه. وهنا نجد ما يتفاضل به نافع عن عبد الله بن دينار من جهة التقيد بحرفية الحديث الذي يحدث به ابن عمر .
المثال الرابع : حديث عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وستون شعبة ، والحياء شعبة من الإيمان". أخرجه البخاري عن عبد الله بن محمد عن أبي عامر العقدي عن سليمان بن بلال به . وأخرجه مسلم عن عبد الله بن سعد، وعبد بن حميد عن العقيد به. ورواه أيضاً زهير عن جرير بن حازم عن سهيل بن عبد الله عن ابن دينار به. رواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل عن حماد عن سهيل به. رواه الترمذي عن أبي كريب عن وكيع عن سيان عن سهيل به، وقال حسن صحيح. ورواه النسائي عن محمد بن عبد الله المحرمي عن أبي عامر العقدي به. وعن أحمد بن سليمان عن أبي داود الحفري وأبي نعيم كلاهما عن سفيان به. وعن يحيى بن حبيب ، عن خالد بن الحارث عن ابن عجلان ببعضه "الحياء من الإيمان". ورواه ابن ماجه عن علي بن محمد الطنافسي عن وكيع به،وعن عمرو بن نافع بن جرير به. وعن أبي بكر بن شيبة عن أبي جمالا الأحمر عن ابن عجلان نحوه. وهذا الحديث معدود من غرائب الصحيح، فإنه تفرد به عبد الله بن دينار، عن أبي صالح ولم يتابعه عليه أحد، ثم اشتهر عن عبد الله بن دينار، ورواه عن جماعة من أصحابه كسهيل بن ابي صالح، ومحمد بن عجلان، وسليمان بن بلال، وهؤلاء كلهم رواياتهم في الكتاب الستة، كما سبق بيانه. وذكر ابن رجب عن العقيلي –وهو يتكلم عن أصحاب عبد الله بن دينار-: " ... وأما رواية المشايخ عنه ففيها اضطراب ، ثم ذكر منهم : يحيى بن سعيد ، وعبد العزيز بن الماجستون ، وسهيلاً بن عجلان (*) ويزيد بن الهاد ، وهؤلاء الثلاثة رووا عن عبد الله بن دينار عن ابي صالح عن أبي هريرة ، حديث الإيمان بضع وسبعون شعبة قال : ولم يتابعهم أحد ممن سمينا من الأثبات ولم تابع عبد الله بن دينار عن أبي صالح عليه أحد". وقد فسر الحافظ ابن رجب المراد من كلام العقيلي فقال: " وقوله العقيلي: لم يتابع عليه ن يشبه كلام القطان، وأحمد والبرديجي في أن الحديث إذا لم يتابع روايه عليه فإنه يتوقف فيه أو يكون منكراً".
فالحافظ العقيلي يستنكر هذا الحديث، وهذا الاستنكار مبني على جملة من الأمور هي: 1- تفرد عبد الله بن دينار بالحديث ، إذ لم يتابعه عليه أحد. 2- إن هذا الحديث إنما يرويه الشيوخ (*) من أصحاب عبد الله بن دينار ، ولم يتابعهم عليه الحافظ. 3- وجود الاختلاف والاضطراب في رواية هؤلاء الشيوخ ، عن عبد الله بن دينار. أما بالنسبة لتفرد عبد الله بن دينار الحديث فلا يضر إذ يضر إذ إن التفرد كان في الطبقات المتقدمة ، والتفرد في هذه الطبقات لا يضر إذ من شأن الحديث ألا ينشر كثيراً ولا تتعدد مخرجه ، وقد تقدم تفصيل هذا في المطلب الأول من هذا المبحث.
أما بالنسبة للنقطة الثانية : وهي تفرد الشيوخ بهذا الحديث . نعم لم يرو الحافظ من أصحاب عبد الله بن دينار هذا الحديث، كشعبة ومالك وسفيان وإنما رواه الشيوخ من أصحابه وهم : سهيل بن عبد الله، وسيهل بن ابي صالح، ومحمد بن عجلان، وسليمان بن بلال ، ويزيد بن الهاد . فأما سهيل بن عبد الله فهو ضعيف ، روى عنه الجماعة. وسهيل بن أبي صالح: صدوق تغير حفظه بآخره، روى له البخاري مقروناً، وتعليقاً، وروى له بقية الجماعة. ومحمد بن عجلان : صدوق إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة. وسليمان بن بلال : ثقة روى عنه الجماعة. ويزيد بن عبد الله بن الهاد : ثقة مكثر ، روى عنه الجماعة. فهؤلاء الشيوخ فيهم الضعيف والصدوق والثقة ، حتى ولو سلمنا بأن هؤلاء جميعاً في مرتبة الشيوخ بالنسبة إلى ابن دينار ، فقد رووا جميعاً هذا الحديث عن عبد الله بن دينار عن أبي هريرة ، فيدل ذلك على أنهم قد حفظوا هذا الحديث . وأما بالنسبة للنقطة الثالثة : وهي وجود الاضطراب في رواية هؤلاء الشيوخ فما وجه هذا الاضطراب ؟ وهل يقدح في صحة هذا الحديث أم لا ؟
قد ذكر العلامة العيني اختلاف الروايات في هذا الحديث، وحاصله ما يلي: - اختلاف في العدد: فبعض الرواة قال بضع وستون، أو بضع وسبعون على الشك، وبعضهم قال: بضع وسبعون، وقال آخر: بعض وستون. - اختلاف في بعض الألفاظ: بعضهم قال: بضع وسبعون باباً، وفي بعضها شعبة، وورد في بعض الروايات: أرفعها وورد في روايات أخرى أفضلها. فهذا الاضطراب لا يقدح في صحة أصل الحديث وإن كان يقدح في ثبوت العدد، ولهذا نظائر وأمثلة في صحيح البخاري منها : حديث الواهبة نفسها . الذي يرويه أبو حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله: إني قد وهبت لك نفسي فقال رجل زوجنيها قال: زوجناكها بما معك من القرآن". فقد اختلف الرواة على أبي حازم فقال مالك وجماعة: فقد زوجناكها، وقال ابن عيينة: أنكحتكها، وقال ابن أبي حازم، ويعقوب بن عبد الرحمن: ملكتكها، وقال الثوري: أملكتكها، وقال أبو غسان: أمكناكها. قال الحافظ: "المقطوع به أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل هذه الألفاظ كلها مرة واحدة تلك الساعة، فلم يبق إلا أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفظاً وعبر عنه بقية الرواة بالمعنى والله أعلم ".
فهذا الاختلاف لم يضر في ثبوت الحديث . فكذلك الاختلاف الواقع في حديث "الإيمان بضع وسبعون ..." لا يقدح في صحته. وإن كان الإمام البخاري –رحمه الله– قد اختار ورجح رواية "بضع وستون ..." فما هو الأساس الذي اعتمده في ترجيح هذه الرواية؟ قد أشار إليه الحافظ بقوله: "ورجع البيهقي رواية البخاري لان سليمان لم يشك، وترجيح رواية بضع وسبعون شعبة لكونها زيادة ثقة . كما ذكره الحليمي ثم عياض – لا يستقيم إذ الذي زادها لم يستمر على الجزم بها ، لا سيما مع اتحاد المخرج، وبهذا يتبين شفوف نظر البخاري وقد رجح ابن الصلاح رواية الأقل لكونه المتيقن". والذي يظهر لي إضافة إلى ما قاله الحافظ ، هو أن سليمان بن بلال أوثق ممن خالفه ، فهذه القرائن كلها مجتمعة ترجح رواية البخاري –رحمه الله-. ومما يدل على صحة هذا الحديث في الجملة ، أنه لا يعارض القرآن ولا السنة، بل يوافقهما لذا نجد الإمام البخاري ذكر قبل هذا الحديث آيتين في نفس معناه، وهما قول تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وأتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وأتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون}. وقوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأمناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون}. قال الحافظ : "وكأن المؤلف (أي البخاري) أشار على إمكان عد الشعب من هاتين الآيتين وشبههما". وأما الأحاديث في هذا المعنى فهي كثيرة جداً قد أوردها الأئمة في مصنفاتهم في أبواب الإيمان والسنة.
مما سبق نستخلص أن البخاري لا يرى أن كل حديث تفرد ه رواية منكراً، بل يراه صحيحاً مقبولاً إذا توفرت فيه الشروط التالية كلها أو بعضها: 1- أن يكون الراوي المتفرد بالحدي ثقة حافظ . 2- أن يكون التفرد في الطبقات المتقدمة ثم يشتهر في الطبقات المتأخرة. 3- أن لا يعارض الحديث الثابت المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم. 4- أن تكون له شواهد من القرآن الكريم أو الأحاديث المرفوعة . 5- أن يكون ما تضمنه الحديث معمولاً به عند أهل العلم ولا يكون مجهوراً غير مستعمل. وحسب وضوح هذه القرائن وكثرتها يكون الحكم على الحديث بالنكارة أو بالشهرة. وهنا تختلف أحكام الأئمة النقاد حسب اجتهادهم واطلاعهم ، ومن خلال هذه الأمثلة المدروسة نطمئن إلى الأحاديث الواردة في صحيح البخاري ، ونعلم أنها منتقاة بدقة كبيرة . قال ابن رجب بعد أن نقل الإمام أحمد أنه يستنكر ما تفرد به بريد بن عبد الله بن أبي بردة، ويزيد بن أنسية ، وإبراهيم التيمي . قال ابن رجب بعد أن نقل الإمام أحمد أنه يستنكر ما تفرد به بريد بن عبد الله بن أبي بردة، وزيد من أنسية ، وإبراهيم التيمي . " ... وأما تصرف الشيخين والأكثرين فيدل على خلاف هذا ، وان ما رواه الثقة عن الثقة إلى منتهاه وليس له علة فليس بمنكر ، وقد خرجا في الصحيحين حديث بريد بن عبد الله بن أبي بردة ، وحديث محمد بن إبراهيم التيمي وحديث زيد بن أبي أنسية. ثم نقل عن الإمام مسلم قوله في مقدمة صحيحه: "حكم أهل العلم والذي يعرف من مذهبهم ، في قول ما يتفرد به المحدث من الحديث أن يكون قد شارك الثقات من أهل الحفظ في بعض ما رواه، وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وجد كذلك ثم زاد بعد ذلك شيئاً، ليس عند أصحابه، قبلت زيادته، فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحافظ المتقنين لحديث وحديث غيره أو كمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل اعلم مبسوط مشترك وقد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على اتفاق منهم، في الكثرة، فيروي عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث ممن لا يعرف أحد من أصحابهما، وليس قد شاركهم في الصحيح الذي عندهم فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس والله أعلم".
المطلب الثالث نماذج لأحاديث أعلها الإمام البخاري بالتفرد رأينا في النماذج السابقة أن التفرد من دلائل العلة ، ولكن قد يكون الحديث صحيحاً لقرائن أخرى تنضم إليه ، كما سبق تفصيله . وفي هذا المطلب اذكر نماذج أخرى لما يتفرد به الراوي ، وتنضم إليه قرائن أخرى يكون الحديث معلولاً عند الإمام البخاري – رحمه الله - .
المثال الأول : حديث النبي صلى الله عليه وسلم " الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معي واحد" فمتن هذا الحديث معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة ، وقد خرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة ومن حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بطرق مختلفة . لكن هذا الحديث رواه كريب عن أبي أسامة عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن جده أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يأكل في معي واحد". وقد استغربه غير واحد من هذا الوجه ، وذكر أن أبا كريب تفرد به منهم البخاري وأبو زرعة ، وظاهر كلام أحمد يدل على استنكار هذا الحديث أيضاً. إذا علمنا أن أبا كريب المتفرد بالحديث ثقة حافظ روى له الجماعة فهل يتسنى لنا الاستدراك على هؤلاء الأئمة ونقول: إنه ثقة حافظ فلا يضر تفرده أم نبحث عن القرائن التي انضمت إلى هذا التفرد، فجعلتهم يحكمون على الحديث بالغرابة ويستنكرونه .
وهذه القرائن هي : 1- تفرد أبي كريب به عن أبي أسامة . 2- تفرد أبي أسامة به عن بريدة. 3- رواية أبي كريب هذا الحديث عن أبي أسامة حال المذاكرة . وقد أشار البخاري – رحمه الله – إلى هذا القرائن فيما نقله عنه الترمذي ، حيث قال بعد رواية هذا الحديث من طريق أبي كريب: " وسألت محمداً بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال : هذا حديث أبي كريب عن أبي أسامة، فقلت : حدثنا غير واحد عن أبي أسامة بهذا فجعل يتعجب ويقول : ما علمت أن أحداً حدث بهذا غير أبي كريب ، قال محمد : وكنا نرى أن أبا كريب أخذ هذا الحديث عن أبي أسامة في المذاكرة". والذين رووا هذا الحديث عن أبي أسامة غير أبي كريب هم : أبو هشام الرفاعي وأبو السائب والحسين الأسود .
فلماذا لم يعتد النقاد بهؤلاء ويعتبروا حديثهم متابعة لأبي كريب تدفع عنه وصف التفرد بهذا الحديث ؟ لم يعتد النقاد بهذه الطرق ، لأنهم علموا عدم صحة سماع هؤلاء لهذا الحديث من أبي أسامة مباشرة ، وإنما سمعوه من أبي كريب وأضافوه إلى أبو أسامة . قال الحافظ ابن رجب: " وذكر لأبي زرعة من رواه عن أبي غير أبي كريب، فكأنه أشار إلى أنهم أخذوه منه، وحسين بن الأسود، كان يهتم بسرقة الحديث ، وأبو هشام فيه ضعف". وكذلك تعجب الإمام البخاري لما قال له الترمذي حدثنا غير واحد عن أبي أسامة بهذا وقال: ما علمت أحداً حدث بهذا غير أبي كريب . وأما القرينة الأخرى، وهي أخذ أبي كريب لهذا الحديث حال المذاكرة فقد وضحها الحافظ ابن رجب يقول: "وما حكاه الترمذي عن البخاري هاهنا أنه قال: كنا نرى أن أبا كريب أخذ هذا عن أبي أسامة في المذاكرة، فهو تعليل للحديث، فإن أبا أسامة لم يرو هذا الحديث عنه أحد من الثقات غير أبي كريب، والمذاكرة يحصل فيها تسامح بخلاف حال السماع والإملاء".
المثال الثاني : حديث النهي عن الانتباذ في الدباء والمزقت. هو حديث صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم مشهور من رواية جماعة من الصحابة : ابن عباس وابن عمر وابن سعيد وأنس وأبي هريرة . ولكن ورد من رؤية شبابة عن شعبة عن بكير عن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الدباء والمزقت. (فهذا الحديث بهذا الإسناد غريب جداً وقد أنكره على شبابه طوائف من الأئمة منهم –أحمد والبخاري وأبوحاتم وبن عدي) والترمذي أيضاً. وقد بين الترمذي بعض الجوانب التي من أجلها أعل النقاد فقال : بعد روايته له من طري شبابة. "هذا حديث غريب من قبل إسناد ولا يعلم أحد حدث به عن شعبة غير شبابه، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من أوجه كثيرة أنه نهى أن ينتبذ في الدباء والمزقت، وحديث شبابه إنما يستغرب لأنه تفرد ه عن شعبة، وقد روى شعبة وسفيان الثوري بهذا الإسناد عن بكير بن عطاء بن روى شعبة وسفيان الثوري بهذا الإسناد عن بكير بن عطاء بن عبد الرحمن بن يعمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الحج عرفة" فهذا الحديث المعروف عند أهل الحديث بهذا الإسناد"..
وتمثل هذه القرائن يما يلي: 1- تفرد شبابة بهذا الحديث دون سائر أصحاب شعبة . 2- شهرة هذا الحديث بغير هذا الإسناد . 3- وجود حديث آخر عن شعبة روي بهذا الإسناد الذي تفرد به شبابه .
وفيما يلي تفصيل هذه النقاط : إن تفرد شبابه عن شعبة بهذا الحديث بهذا الإسناد دون سائر أصحاب شعبة الحافظ الإثبات يثير ريبة في نفس الناقد ، نعم إن شبابه بن سوار ثقة. لكنه ليس من أثبت أصحاب شعبة، كيحيى القطان وابن مهدي ومعاذ بن معاذ، وخالد بن الحارث وغندر (محمد بن جعفر). هؤلاء كلهم لم يرووه من هذا الطري الذي رواه به شبابه . ولو نظرنا في الصحيحين نجد أن الثقات من أصحاب شعبة رووه من طرق عدة، ليس فيهما طريق شبابة . فأما البخاري فإنه يروي هذا الحديث في مواضع متعددة من صحيحه من طريق شعبة عن أبي حمزة عن ابن عباس، حدث عن شعبة بذلك: علي بن الجعد، وغندر، والنضر بن شميل. وأما الإمام مسلم فإنه توسع في ذكر طرق هذا الحديث عن شعبة. فقد أورده ن طريق شعبة عن الأعمش عن إبراهيم التيميي عن الحارث بن سويد عن علي حدث بذلك عن شعبة محمد بن جعفر . وأورده من طريق شعبة عن نصور وسليمان وحماد عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة حدث عن شعبة ذلك يحيى القطان . وأورده أيضاً من طريق شعبة عن يحيى العمراني عن ابن عباس ، حدث عن شعبة بذلك عبد الرحمن بن مهدي، ومحمد بن جعفر. وأورده من طريق شعبة عن محارب بن دثار عن ابن عمر حدث عنه بذلك محمد بن جعفر. وأورده من طري شعبة عن عمر بن مرة عن زاذان عن ابن عمر حدث بذلك أبو داود ومعاذ بن معاذ . فهذه اشهر الطرق لهذا الحديث عن شعبة التي تداولها الثقات من أصحابه، أما طريقة شبابة عن شعبة فلم يشتهر فيتداوله الثقات . أما بالنسبة للنقطة الثالثة وهي وجود حديث آخر عن شعبة بهذا الإسناد وهو "الحج عرفة" فهذا المتن هو الذي يعرف عن شعبة عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أي أن الحديث السابق انقلب إسناده على شبابة بن سوار فجعل إسناد هذا الحديث للحديث السابق . فهذه القرائن مجتمعة جعلت النقاد يحكمون على هذا الحديث بالنكارة وليس لمجرد التفرد.
والنتائج التي نستخلصها مما سبق تتمثل فيما يلي : 1- يعد التفرد من الدلائل القوية لعرفة علل الأحاديث . 2- لا يكتفي النقاد بمجرد التفرد للحكم على الحديث بالنكارة أو الشذوذ، بل لابد من وجود القرائن . 3- إن هذه القرائن تختلف باختلاف الأحاديث، وليس منحصرة. 4- ليس للنقاد عمل مطرد في تفرد الراوي، فلا يقبلونه مطلقاً، ولا يردونه مطلقاً، فهنالك بعض تفردات الرواة صححها البخاري وغيره وهذا النوع يسمى بغرائب الصحيح، كما سبق بيانه في المطلب السابق وهناك تفردات حكم عليها البخاري بالنكارة كما بينته في هذا المطلب. 5- قد تختلف أحكام النقاد على الأحاديث التي وقع فيها التفرد، وهذا بناء على مدى إطلاعهم على طرق الحديث والقرائن المرجحة، وليس اختلافاً في المنهج. يتبع إن شاء الله...
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الأحد 13 يونيو 2021, 6:21 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: رد: منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها من خلال الجامع الصحيح الثلاثاء 26 مارس 2013, 7:34 am | |
| المبحث الثالث المخالفة وأثرها في التعليل مدخل : مقدمات نظرية (تعريف المخالفة ، أسبابها ، ضابطها ، وصورها ، أحكامها ، أثرها). القسم الأول : الاختلاف في سياق الإسناد . المطلب الأول : الاختلاف في الوصول والإرسال . المطلب الثاني : الاختلاف في الرفع والوقوف . المطلب الثالث : الاختلاف في تسمية شيخ الراوي . المطلب الرابع : الاختلاف في زيادة راو في الإسناد وحذفه . القسم الثاني : الاختلاف في سياق المتن . المطلب الأول : الاختصار . المطالب الثاني : الرواية بالمعنى . المطلب الثالث : الإدراج .
مقدمات نظرية : تعريف المخالفة وذكر أسبابها : لم أجد لها تعريفاً ، وقد اجتهدت في تعريفها حسب ممارستي لكتب الحدي ولعلي ، فأقول: "هي أن يروي الرواة عن شيخهم حديثاً ما ، فيقع بينهم تغاير(*) في سياق إسناده أو متنه". وسبب هذا التغاير في بعض الأحيان ، كثيرة طرق هذا الحديث واتساع الشيخ في الرواية، وأحياناً يكون سببه الوهم والغلط . وتكثر المخالفة وتقل حسب كثرة تلاميذ الشيخ وقلتهم ، فكلما كثر أصحابه وتلاميذه كثر الاختلاف في حديثه ، وكلما قل أصحابه وتلاميذه قل الاختلاف في حديثه ، وهذا راجع إلى اختلاف مراتبهم في الضابط والإتقان وطول الملازمة للشيخ أو قلتها .
ضابطها : حتى يكون الاختلاف معتبراً يعين فيه أن يكون المخرج واحداً. قال ابن الصلاح – رحمه الله - : "وينبغي في التعارض أن يكون المخرج واحداً وإلا فتعد الوجوه المختلفة طرقاً مستقلة". قال الحافظ : "وقد فسر ابن العربي الحديث بأن يكون من رواية راو قد اشتهر برواية حديث أهل بلده ، كقتادة في البصريين وأبي إسحاق السبيعي في الكوفيين وعطاء في المكيين ، وأمثالهم ، فإن حديث البصريين مثلاً إذا جاء عن قتادة ونحوه كان مخرجه معروفاً ، وإذا جاء عن غير قتادة نحوه كان شاذاً والله أعلم".
صور المخالفة : يقع الاختلاف بين الرواة في أمور كثيرة غير محصورة فيها ما يؤثر في القبول وفيها ما لا يؤثر فيه ، كاختلافهم في العبارات والألفاظ بحيث لا يغير المعنى المقصود وكذا في التقديم والتأخير، وصيغ التلقي مثل حدثنا وأخبرنا ونحوهما . وجدير بالذكر أن الاختلاف في صيغ التلقي يؤثر أحياناً في الصحة والقبول ، كالاختلاف في التصريح بالسماع بالنسبة إلى رواية من وصف بالتدليس أو الإرسال.
وأما الاختلاف المؤثر فتارة يكون في السند وتارة يكون في المتن ، فالذي في السند يتنوع أنواعاً: تعارض الوصول والإرسال ، وتعارض الوقف مع الرفع ، وتعارض الاتصال والانقطاع ، وتعرض في شيخ الراوي ، مثلاً : أن يروي الحديث قوم عن رجل عن تابعي عن صحابي ، ويرويه غيرهم عن ذلك الرجل عن تابعي آخر عن الصحابي نفسه ، وتعارض في زيادة رجل في أحد الإسنادين ، وتعارض في اسم الراوي ونسبة إن كان متردداً بين ثقة وضعيف ، وتعارض في الجمع والإفراد في الرواية ، مثلاً : أن يروي الحديث قوم عن رجل عن فلان وفلان ويرويه غيرهم عن ذلك الرجل من فلان منفرداً .
وأما الاختلاف في المتن فيتنوع أنواعاً : منها تعارض الإطلاق والتقييد ، وتعارض العموم والخصوص ، وتعارض الزيادة والنقص.
أحكامها : لقد اعتبر كثير من المتأخرين – عند وقوع الاختلاف بين الرواة في الوصول والإرسال والرفع والوقوف – أن الحكم للزائد إذا كان ثقة فيرجع الرفع على الوقف ، والوصل على الإرسال باعتبار أن كلاً من الرفع والوصل زيادة .
وقد ذكر ابن الصلاح – رحمه الله – الخلاف في هذه المسألة ، وحاصله ما يلي : إذا تعارض الوصل والإرسال فالحكم للمرسل وقيل الحكم للأكثر ، وقيل الحكم للأحفظ، سواء أكان المخالف واحداً أم جماعة وصحح الخطيب البغدادي القول الأخير. ونقل الحافظ العلائي عن شيخه ابن الزملاكاني أنه فرق بين مسألتي تعارض الوصل والإرسال والرفع والوقف بأن الوصل في السند زيادة من الثقة فتقبل وليس الرفع زيادة في المتن فتكون علة. وهذه الأحكام العامة بالقبول أو الرد غير مسلمة في منهج المحدثين النقاد ، فإن مذهبهم ليس القبول مطلقاً أو الرد مطلقاً ، بل بحسب القرائن . قال الحافظ – رحمه الله - : "إن تعليلهم الموصول بالمرسل أو المنقطع ، والمرفوع بالموقف أو المقطوع ، ليس على إطلاقه ، بل ذلك دائر على غلبة الظن بترجيح أحدهما على الآخر بالقرائن التي تحفه".
وقال ابن دقيق العيد : " من حكى عن أهل الحديث أو أكثرهم أنه إذا تعارض رواية مرسل ومسند أو رافع وواقف أو ناقص أو زائد أن الحكم للزائد فلم يصب في هذا الإطلاق ، فإن ذلك ليس قانوناً مطرداً ، وبمراجعة أحكامهم الجزئية يعرف صواب ما نقول".
وقد جزم الحافظ العلائي فقال : " كلام الأئمة المقدمين في هذا الفن كعبد الرحمن بن مهدي ، ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل والبخاري وأمثالهم يقتضي أنهم لا يحكمون في هذه المسألة بحكم كلي بل عملهم في ذلك دائر مع الترجيح بالنسبة إلى ما يقوى عند أحدهم في كل حديث".
ويقول الحافظ السخاوي : " إنه لا يحكم في تعارض الوصل والرفع مع الإرسال والوقف بشيء معين ، بل إن كان من أرسل أو أوقف من الثقات أرجح قدم وكذا بالعكس".
أثر المخالفة في التعليل : تعدّ المخالفة من الدلائل القوية التي تدرك بها العلة وقد سبق أن نقلت كلام ابن الصلاح في ذلك، وأكرره هنا لأهميته، قال -رحمه الله-: "ويستعان على إدراكها (أي العلة) بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك". ولا يمكن الوصول إلى العلة والكشف عنها إلا بجمع طرق الحديث المختلفة في سياق واحد، والنظر في كل راو من طبقات الإسناد هل تفرد أم خالف ، قال الخطيب -رحمه الله-: "السبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه ، وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانهم في الحفظ ومنزلتهم في الإتقان والضبط". والناظر في كتب العلل يلاحظ اشتمالها على ذكر طرق الحديث المختلفة ، والمقارنة بينها وذكر اختلاف الرواة فيما بينهم . وقد اهتم الأئمة النقاد بهذه المسألة وأصبحت من أهم معايير نقد الحديث والحكم على الرجال عندهم ، قال الإمام مسلم -رحمه الله-: " وعلامة المنكر في حديث المحدث ، إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضى ، خالفت روايته روايتهم أو لم تكد توافقها ، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث غير مقبوله ، ولا مستعمله". وقال أيضاً : "فبجمع هذه الروايات ، ومقابلة بعضها ببعض يتميز صحيحها من سقيمها، ويتبين رواة ضعاف الأخبار من أضداد هم من الحفاظ ، ولذلك أضعف أهل المعرفة بالحديث عمر بن عبد الله بن أبي خثعم وأشباههم من نقلة الأخبار لروايتهم الأحاديث المستنكرة التي تخالف روايات الثقات المعروفين من الحفاظ". لهذا يحرص علماء الحديث ونقاده على استيعاب طرق الحديث ورواياته من أجل الوقوف على الأخطاء التي فيها والأوهام. قال ابن معين : "لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجهاً ما عقلناه". وقال أحمد : "الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تهمه ، والحديث يفسر بعضه بعضاً". وقال ابن المديني : "الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه". ولأهمية هذه المسألة جعلتها المحور الثاني لهذا الفصل، وسأحرص على أخذ أحكامهم من خلال الواقع النقدي عند الإمام البخاري – رحمه الله – وقد قسمت هذا المبحث إلى قسمين : القسم الأول : الاختلاف في سياق الإسناد ، ويشمل المطالب التالية : الاختلاف في الوصل والإرسال ، الاختلاف في الرفع والوقف ، الاختلاف في تسمية شيخ الراوي ، الاختلاف في زيادة راو واحد وحذفه . القسم الثاني : الاختلاف في سياق المتن : ويشمل المطالب التالية : الاختصار ، الرواية بالمعنى ، الإدراج .
القسم الأول الاختلاف في سياق الإسناد المطلب الأول الاختلاف في الوصل والإرسال المثال الأول : قال البخاري – رحمه الله - : "حدثنا محمد بن خالد حدثنا محمد بن وهب بن عطية الدمشقي حدثنا محمد بن حرب حدثنا محمد بن الوليد الزبيدي أخبرنا الزهري عن عروة بن الزبير عن زيد بن سلمة عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة فقال : "استرقوا لها فإن بها النظرة" . وقال عقيل عن الزهري : أخبرني عروة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، تابعه عبد الله بن سالم عن الزبيدي". ورواه مسلم أيضاً قال : حدثني أبو الربيع سليمان بن داود حدثنا محمد بن حرب قال محمد بن الوليد به سنداً ومتناً. وقد ذكر الدارقطني هذا الحديث في كتابه التتبع وحكى الاختلاف في سنده وصلاً وإرسالاً ولم يحكم فيه بشيء. والاختلاف في الوصل والإرسال دائر بين محمد بن الوليد الزبيدي فقد وصل الحديث وعقيل فقد رواه مرسلاً، والإمام البخاري هنا قد رجح الموصول وأشار المرسل وكذلك الإمام مسلم. فما هي القرائن التي اعتمد عليها الشيخان في ترجيح الطريق الموصولة على المرسلة ؟. لقد أشار الحافظ – رحمه الله – إلى هذه القرائن في شرحه لهذا الحديث فقال: "واعتمد الشيخان في هذا الحديث على رواية الزبيدي لسلامتها من الاضطراب ، ولم يلتفتا إلى تقصير عقيل (*) فيه ، وقد روى الترمذي من طريق الوليد مسلم أنه سمع الأوزاعي يفضل الزبيدي على جميع أصحاب الزهري ، يعني في الضبط ، وذلك أنه كان يلازمه كيراً حضراً وسفراً ن وقد تمسك بهذا من رغم أن العمدة لمن وصل على من أرسل لاتفاق الشيخين على تصحيح الموصول هنا ، والتحقيق أنهما ليس لهما في تقديم الوصل عمل مطرد بل هو دائر مع القرينة ، فمهما ترجح بها اعتمداه ، وإلا فكم حديث أعرضا عن تصحيحه للاختلاف في وصله وإرساله".
وتتمثل هذه القرائن فيما يلي : 1- سلامة رواية الزبيدي من الاضطراب وذلك لأنها وردت من طريق محمد بن حرب وهو حافظ ، وتابعه عليها عبد الله بن سالم الحمصي ، وهو حافظ أيضاً . 2- إضافة إلى ذلك يعدّ الزبيدي من أثبت أصحاب الزهري – رحمه الله – وقد سئل الدار قطني عن اثبت أصحاب الزهري قال : "مالك ، وشعيب بن أبي حمزة وابن عيينة ، ويونس بن يزيد وعقيل والزبيدي"، وإنما عد الزبيدي من اثبتهم لأنه كان طويل الملازمة للزهري سنداً وحفظاً . 3- إن تقصير عقيل في إسناد هذا الحديث يمكن أن يكون سببه الوهم والنسيان ، ويمكن أن يكون سببه الشك وهذا الأخير أرجح وذلك أن الحفاظ المتقنين إذا شكوا قصورا في الأسانيد .
المثال الثاني : قال البخاري -رحمه الله-: "حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع أن عمر قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثني محمد بن مقاتل ، أخبرنا عبد الله أخبرنا معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال : لما قلنا من حنين سأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم ن نذر كان نذره في الجاهلية اعتكاف ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بوفاءه. وقال بعضهم : حماد عن أيوب نافع عن ابن عمر . ورواه جرير بن حازم وحماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم". وقد ذكر الدارقطني – رحمه الله – هذا الحديث في كتابه التتبع وذكر الاختلاف فيه ، ولم يحكم فيه بشيء قال رحمه الله : "وأخرجه البخاري عن أبي النعمان عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع أن عمر قال : نذرت نذراً مرسلاً ووصله حماد بن سلمة وجرير بن حازم ومعمر عن أيوب. ووصله عبد الله عن نافع". فهذا الحديث فيه اختلاف بين أصحاب أيوب فقد أرسله حماد بن زيد ، ووصله حماد بن سلمة وجرير بن حازم ومعمر . والبخاري -رحمه الله-: "إنما أورد طريق حماد بن زيد المرسلة للإشارة إلى أن رواية مرجوحة لأن جماعة من أصحاب شيخه أيوب خالفوه فوصلوه ، بل بعض أصحاب حماد بن زيد رواه موصولاً كما أشار إليه البخاري هنا ".
والقرائن التي اعتمد عليها البخاري في ترجيح الرواية المتصلة على المرسلة تتمثل فيما يلي : 1- وجود الاضطراب في رواية حماد بن زيد فقد رواه عنه أبو النعمان ، مرسلاً كما هو عند البخاري ، وكذا أورده الإسماعيلي من طريق سليمان بن حرب ، وأبي الربيع الزهراني ، وخلف بن هشام كلهم عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع أن عمر كان عليه اعتكاف في الجاهلية. ويرويه بعض أصحاب حماد بن زيد موصلاً ، وهو أحمد بن عبيد الضبي ، كما هو في رواية الإسماعيلي وعند مسلم – ولم يسق لفظه– وعند ابن حزيمة. فأصحاب حماد بعضهم يرويه مرسلاً وبعضهم يرويه موصولاً ، وهذا مما يوهن رواية حماد بن زيد . 2- إذا سلمنا أن هذه الطريق إنما وردت عن حماد بن زيد مرسلة لكثرة من رواها كذلك فهي معارضة برواية غيره ممن رواه عن أيوب مسنداً وهم أكثر عدداً ممن رواه موصولاً.
وهذه الروايات المعارضة لرواية حماد بن زيد هي : 1- رواية جرير بن حازم أشار إليها البخاري وقد وصلها مسلم وغيره من رواية ابن وهب عن جرير بن حازم أن أيوب حدثه أن نافعاً حدثه أن عبد الله بن عمر حدثه أن عمراً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ... 2- رواية حماد بن سلمة وقد أشار إليه البخاري أيضاً ووصله مسلم من طريق حجاج بن منهال قال حدثنا حماد بن سلمة عن أيوب مقرونة برواية محمد بن إسحاق كلاهما عن نافع عن ابن عمر. 3- رواية معمر وقد وصلها البخاري ومسلم. 4- رواية سفيان الثوري وقد وصلها النسائي. فتكون رواية هؤلاء الجماعة أرجح ، لا لكونهم جماعة ولكن بانضمام القرائن ، وهي في رواية حماد بن زيد والقرينة الثالثة. 3- إن حماد صاحب حفظ وليس صاحب كتاب ، ومن عادته أنه ينقص من الحديث إذا طرأ له شك. 4- القرينة الرابعة التي ترجح الطريق الموصولة على المرسلة هي كون الحديث محفوظاً عن نافع موصولاً وقد تابع أيوب على وصله عبيد بن عمر وقد اخرج روايته البخاري وغيره.
المثال الثالث : حديث " لا نكاح إلا بولي " الذي يرويه أبو إسحاق السبيعي. هذا الحديث اختلف في وصله وإرساله ، فقد رواه إسرائيل بن يونس في آخرين : عن جدة أبي إسحاق السبيعي عن أبي بردة عن أبيه أبي موسى الأشعري عن الرسول صلى الله عليه وسلم مسنداً متصلاً. ورواه سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً وسئل البخاري – رحمه الله – عن هذا الحديث ، فحكم لمن وصله وقال : الزيادة من الثقة مقبولة. وقد احتج الخطب البغدادي بهذا على أنه إذا ورد الحديث مرسلاً ومتصلاً فالحكم لمن أوصله إذا كان ثقة وتبعه على ذلك ابن الصلاح في مقدمته ، محتجاً بصنيع الإمام البخاري في ترجيح الموصول على المرسل هنا ، مع أن من أرسله شعبة وسفيان ، وهما جبلان لهما من الحفظ والإتقان الدرجة العالية. فهل يصح أن نأخذ من هذا حكماً كلياً ننسبه إلى الإمام البخاري ونعده منهجاً له كما فعل الخطيب رحمه الله وتبعه على ذلك ابن الصلاح وكثير من المتأخرين ؟ لقد تعقب الحفاظ ابن رجب الخطيب في هذه المسألة وتبين أنها لا تأخذ كحكم كلي مطرد وهذا من خلال الاستقراء لصنيع الإمام البخاري في كتابه التاريخي الكبير فقال : "وهذه الحكاية إن صحت فإنما مراده الزيادة في هذا الحديث ، وإلا فمن تأمل كتاب تاريخ البخاري، تبين له قطعاً أنه لم يكن يرى أن زيادة كل ثقة في الإسناد مقبولة". وبين ابن رجب أن هذا ليس منهجاً للبخاري فحسب بل هو منهج غيره من الأئمة النقاد فقال: "وهكذا الدارقطني يذكر في بعض المواضع أن الزيادة من الثقة مقبولة ، ثم يرد في اكثر المواضع زيادات كثيرة من الثقات ، ويرجح الإرسال على الإسناد فدل على أن مرادهم زيادة في تلك المواضع الخاصة وهي إذا كان الثقة مبرزاً في الحفظ". فالحافظ رد على الخطيب ومن تبعه رداً مجملاً مبيناً أن قبول زيادة الوصل إنما هو لقرائن خاصة في مواضع خاصة ولم يفصل في ذكر تلك القرائن في هذا الحديث. وقد رد أيضاً على الخطيب ومن تبعه كابن الصلاح ، الحافظ ابن حجر –رحمه الله- فقال: "لكن الاستدلال بأن الحكم للواصل دائماً على العموم من صنيع البخاري في هذا الحديث الخاص ليس بمستقيم ، لأن البخاري لم يحكم فيه بالاتصال من أجل كون الوصل زيادة، وإنما حكم عليه بالاتصال لمعان أخرى رجحت عناه حكم الوصل". ثم ذكر هذه القرائن فقال: "منها: أن يونس ابن أبي إسحاق وابنيه إسرائيل وعيسى رووه عن ابن إسحاق موصولاً، ولا شك أن آل الرجل أخص به من غيره . ووافقهم على ذلك أبو عوانة وشريك النخعي وزهير بن معاوية وتمام العشرة من أصحاب أبي إسحاق ، مع اختلاف مجالسهم في الأخذ وسماعهم إياه من لفظه . وأما رواية من أرسله وهما شعبة وسفيان ، فإنما أخذاه عن أبي إسحاق في مجلس واحد، فقد رواه الترمذي فقال: حديث محمود بن غيلان ، ثنا أبو داود ثنا شعبة قال : سمعت سفيان يسأل أبا إسحاق سمعت أبا بردة رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا نكاح إلا بولي" فقال : نعم. فشعبة وسفيان إنما أخذاه معاً في مجلس واحد ، كما ترى ، ولا يخفى رجحان ما أخذ من لفظ المحدث في مجلس متعددة على ما أخذ عنه عرضاً في مجلس واحد . هذا إذا قلنا حفظ سفيان وشعبة في مقابل عدد الآخرين ، مع أن الشافعي رضي الله عنه يقال : "العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد" . فبين أن ترجيح البخاري لوصل هذا الحديث على إرساله لم يكن لمجرد أن الواصل معه زيادة ليست مع المرسل بل لما يظهر من قرائن الترجيح ، ويزيد ذلك ظهوراً تقديمه للإرسال في مواضع أخرى. ثم ذكر حديثاً قال فيه البخاري: الصواب قول مالك مع إرساله، ثم قال عقبه: "فصوب الإرسال هنا لقرينة ظهرت له فيه، وصوب المتصل هناك لقرينة ظهرت له فيه ، فتبين أنه ليس له عمل مطرد في ذلك والله أعلم". وممن صحح الوصل ي هذا الحديث الترمذي – رحمه الله – في جامعه وعلله ، وصححه أيضاً ابن حبان والحاكم . وأسند الحاكم من طريق علي ابن المديني ومن طريق البخاري والذهلي وغيرهم أنهم صححوا حديث إسرائيل وقال الحافظ، بعد أن ذكر كلام الترمذي على هذا الحديث: "ومن تأمل ما ذكرته عرف أن الذين صححوا وصله لم يستندوا في ذلك إلى كوه زيادة ثقة فقط ، بل للقرائن المذكورة المقتضية لترجيح رواية إسرائيل على غيره". سبق أن ذكرت أن الإمام الترمذي قد صحح وسل هذا الحديث في جامعة وعلله الكبير معتمداً على القرائن السابقة التي فصلها الحافظ – رحمه الله – لكن محقق العلل الكبير تحامل على الترمذي ومن وافقه من الأئمة في تصحيح الطريق الموصولة على المرسلة ورماهم بالتعصب المذهبي واتباع الهوى قال : "قد حاول كثيرون تصحيح هذا الحديث ووصله وسلكوا في ذلك كل مسلك لحاجة في أنفسهم أساسها التعصب المذهبي والعياذ بالله". وقال أيضاً: "ما صحح هذا الحديث أحد إلا لهوى في نفسه والعياذ بالله". وما حجته في ذلك إلا مجرد أن هؤلاء الذين خالفوا شعبة وسفيان فيهم بعض الضعف واللين ، وأما الثقات منهم فقد رووا عن أبي إسحاق لما تغير ، وأن إسرائيل ومن تابعه على وصل الحديث ولو كان معهم أمثالهم لا يقفون بجانب شعبة وحده ، فكيف ومعه سفيان الثوري . هذه هي حجته ، ويا ليته كف لسانه عن الخوض في أعراض هؤلاء الأئمة والطعن في نياتهم ، ورواءه الطعن في عملهم ومنهجهم . أقول: إن الترمذي ومن معه من الأئمة الأعلام كالبخاري والحاكم وابن المديني والذهلي وغيرهم ممن صحح وصل هذا الحديث قد علموا أن شعبة والثوري أحفظ من هؤلاء الذين رووا عن أبي إسحاق هذا الحديث ، وهذا قد صرح به الترمذي نفسه في جامعه لكن شريك وإسرائيل هما من اثبت أصحاب أبي إسحاق بعد شعبة والثوري. فهؤلاء الحفاظ النقاد الذين لا شك في صدقهم وأمانتهم على الدين ، لما صحوا هذا الحديث لم يكن بناء على ظاهر الإسناد وأحوال الرواة لأن الثقة قد يخطئ كما أن الضعيف قد يصيب فكيف لو كانوا عشرة أو أكثر فيهم الثقات والضعفاء وسمعوا في مجالس متعددة وأوقات مختلفة . نعم منهم من روى عن أبي إسحاق بعد الاختلاط والتغير ولكن اتفاقهم على وصل هذا الحديث مع كثرة عددهم وأخذهم في أوقات ومجالس متعددة مما يدل على أن أبا إسحاق كان يروي هذا الحديث موصولاً ، ويمكن أن يكون أرسله أحياناً فسمعه منه شعبة وسفيان فروياه كما سمعاه ، فيكون الحكم لمن أوصله ، وهو العلم والعدل ، وليس هو التعصب والهوى . ثم قال : "وقد أراح البخاري ومسلم نفسيهما وأراحا الناس بعدم ذكر مثل هذا الحديث في كتابيهما". نعم لم يذكر البخاري هذا الحديث في كتابه مسنداً ولكن ترجم لما يدل عليه صراحة فقال في كتاب النكاح: "باب من قال لا نكاح إلا بولي" وذكر فيه آيات وأحاديث تدل على اشتراط الولي في النكاح، قال الحافظ –رحمه الله– في شرحه لهذه الترجمة: "استنبط المصنف هذا الحكم من الآيات والأحاديث التي ساقها لكون الحديث الوارد بلفظ الترجمة ليس على شرطه". والظاهر أن المعلق لم يدرك أن النقاد إذا حكموا بترجيح الموصول على المرسل أو العكس، فإن ذلك لا يقتضي صحة الحديث في نفس الأمر ، وإنما هو حكم بما هو الصواب المطابق للواقع ، أي كيف حدث هذا الراوي المختلف عليه في الحديث ، ثم الحكم على الحديث بعد ذلك قوة أو ضعفاً متوقف على النظر في كل شروط الصحة الأخرى . ولعل البخاري لم يخرج هذا الحديث مسنداً، لضعف بعض رواته، أو لوجوه الاختلاف فيه، وإخراج ما هو مجمع على صحته أولى، إذا كان في نفس معناه، كما هو الحال في هذه المسالة فقد أورد فيها الإمام البخاري ثلاث آيات وأربعة أحاديث صحيحة. وعلى العموم حديث " لا نكاح إلا بولي " أقل أحواله أن يكون حسناً مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكثرة شواهده وقد أشار إليها الترمذي بقوله : "وفي الباب عن عائشة وابن عباس وأبي هريرة وعمران بن حصين وأنس" والجمهور على العمل به ومنهم سفيان الثوري رحمه الله ولم يخالف في ذلك إلا أبو حنيفة -رحمه الله-.
أمثلة لأحاديث رجح فيها الإمام البخاري الإرسال على الوصل : ذكرت في الأمثلة السابقة أحاديث رجح فيها الإمام البخاري الوصل على الإرسال وقد نقلت من أقوال الحافظ المتأخرين ما يدل على أن هذا ليس عملاً مطرداً للإمام البخاري ، وادعم تلك النقول بهذين المثالين مما رجح فيه البخاري الإرسال على الوصل بالرغم من أن الواصل ثقة.
المثال الأول : ما رواه الثوري عن محمد بن أبي بكر بن حزم عن الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن شئت سبعت لك". ورواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج أم سلمة وأصبحت عنده قال لها : "ليس بك على أهلك هوان ، إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن ، وإن شئت ثلثت عندك ودرت" فقالت : ثلث. فالخلاف بين مالك والثوري، فالثوري أوصله، ومالك أرسله، والثوري ثقة إمام حافظ ومع ذلك قال الإمام البخاري في تاريخه: "الصواب قول مالك مع إرساله". ويظهر أن الثوري سلك فيه الجادة ، والله أعلم .
المثال الثاني : حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قضى باليمين مع الشاهد" فهذا الحديث اختلف فيه على جعفر بن محمد . قال عبد الوهاب الثقفي : عن جعفر عن أبيه ، عن جابر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم: "قضى باليمين مع الشاهد" وتابعه إبراهيم بن أبي حية. وقال يحيى بن سليم وعبد العزيز بن سلمة، رواية شبابة بن سوار عنه ، عن جعفر بن محمد عن أبيه ، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم "قضى باليمين والشاهد". قال الترمذي -رحمه الله-: "سألت محمداً عن هذا الحديث، فقلت: أي الروايات أصح؟ فقال: أصحه حديث جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ومرسلاً". وقد تبع الإمام الترمذي البخاري في هذا الحكم، فقد قال في جامعه بعد روايته هذا الحديث وذكر الاختلاف فيه "حدثنا علي بن حجر ثنا إسماعيل بن جعفر ثنا جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين والشاهد الواحد ، قال : وقضى بها على فيكم ، وهذا أصح ، وهكذا روى سفيان الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً". وقد وافقهم على ترجيح الإرسال في هذا الحديث الإمامان أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان -رحمهما الله تعالى- قال ابن أبي حاتم: "وسألتهما عن حديث رواه عبد الوهاب الثقفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين ، فقالا : أخطأ عبد الوهاب في هذا الحديث ، إنما هو عن جعفر عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم: مرسلاً". فلماذا رجح البخاري وغيره من الأئمة الإرسال في هذا الحديث بالرغم من أن الذي وصله ثقة فإن عبد الوهاب الثقفي الذي وصله ثقة روى له البخاري وسائر الجماعة.
وقد تابعه على الوصل جماعة هم : السري بن عبد الله السلمي ، وعبد النور بن عبد الله بن سنان ، وحميد بن الأسود ، ومحمد بن جعفر بن أبي كثير وغيرهم. وقال الترمذي بعد روايته لهذا الحديث عن عبد الوهاب الثقفي ، وتابعه إبراهيم بن أبي حية ولم يصح هنا أن تقبل زيادة عبد الوهاب الثقفي ومن تابعه في وصل هذا الحديث ، لأنهم خالفوا من هو أوثق وأثبت منهم في هذا . وهم: مالك بن أنس، وسفيان الثوري، وابن جريج، والدراوردي، وإسماعيل بن جعفر، وعبد الله بن جعفر، فكل هؤلاء رووه مرسلاً. تنبيه: لقد خالف بعض الأئمة النقاد في هذا الحكم ورجحوا الرواية المتصلة على المرسلة فمن هؤلاء الدارقطني -رحمه الله- فقد قال بعد روايته طريق الثقفي ومن تابعه: "والحكم يوجب أن يكون القول قولهم، لأنهم زادوا وهم ثقات وزيادة الثقة مقبولة". وقال الشافعي والبيهقي : "عبد الوهاب وصله وهو ثقة". ولقد صحح حديث جابر الموصول أبو عوانة وابن خزيمة أيضاً. وليس المقام هنا مقام مناقشة هؤلاء الأئمة فيها ذهبوا إليه ، وإنما القصد بيان أنه ليس لإمام البخاري طريقة مطردة في ترجيح الوصل على الإرسال أو العكس ، وإنما الأمر تابع للقرائن دون مجرد الاكتفاء بالنظر في ظاهر الإسناد وأحوال الرجال . وإن كنت أميل إلى ما رجحه البخاري والترمذي وأبو حاتم وأبو زرعة بتصويب الحكم بالإرسال ي هذا الحديث على الوصل ، للقرائن السابقة والكل مأجور على اجتهاده ، والله أعلم.
المطلب الثاني الاختلاف في الرفع والوقف: قد يختلف الرواة فيما بينهم فيرفع أحدهم حديثاً ويقفه الآخر أو العكس. وقد سبق في كلام الأئمة ما يفيد أنه لا يحكم في هذه المسألة بحكم كلي مطرد من تقديم الرفع على الوقف على اعتبار أن الرفع زيادة من الثقة فتقبل كما ذهب إليه كثير من المتأخرين ، وإنما الأمر دائر مع القرائن والمرجحات فتارة يرجع الوقف وتارة يرجح الرفع ، وهذه أمثلة من صنيع الإمام البخاري توضح هذا الأمر .
أمثلة لأحاديث رجح فيها البخاري الرفع على الوقف : المثال الأول : قال الإمام البخاري "حدثنا أحمد بن يونس حديثنا ابن أبي ذنب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إنكم ستحرصون على الإمارة وتكون ندامة يوم القيامة ، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة" . وقال محمد بن بشار : حدثنا عبد الله بن حمران حدثنا عبد الحميد بن جعفر بن سعيد المقبري عن عمر بن الحكم عن أبي هريرة ... قوله". وقد ذكر الإمام الدارقطني – رحمه الله – هذا الحديث في كتابه "التتبع" فقال: "وأخرج البخاري حديث ابن أبي ذنب عن سعيد عن أبي هريرة : "سترحصون على الإمارة وتكون خزي وندامة ، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة" . وقد رواه عبد الحميد بن جعفر بن سعيد المقبري عن عمر بن الحكم عن أبي هريرة موقوفاً غير مرفوع". فالدارقطني – رحمه الله – ذكر الخلاف الذي ذكره البخاري ولم يحكم بشيء . والخلاف هنا بين ابن أبي ذنب وعبد الحميد بن جعفر فقد اختلفا عن شيخهما سعيد المقبري قابن أبي ذنب يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الحميد زاد فيه رجلاً ووقفه على أبي هريرة . والإمام البخاري رجح هنا رواية ابن أبي ذنب على رواية عبد الحميد بن جعفر لأنه روى الأولى مسندة تامة ، ثم عقبها بالرواية الثانية . قال الحافظ -رحمه الله-: "وابن أبي ذئب أتقن من عبد الحميد وأعرف بحديث المقبري منه ، فروايته هي المعتمدة، وعقبه البخاري بطريق عبد الحميد إشارة منه إلى إمكان تصحيح القولين" . فالترجيح هنا رواية ابن أبي ذنب باعتبار أنه أتقن واثبت وأعرف بحديث المقبري من عبد الحميد بن جعفر . قال ابن معين : "أثبت الناس في سعيد ابن أبي ذئب". وقال ابن المديني : "الليث وابن أبي ذئب ثبتان في حديث سعيد المقبري". وقد مال الحافظ إلى أن البخاري يشير إلى إمكان تصحيح الروايتين معاً ، وذكر لذلك أوجهاً كلها مبنية على مجرد الاحتمال والتجويز العقلي . قال – رحمه الله - : "فلعله كان عند سعيد عن عمر بن الحكم عن أبي هريرة موقوفاً ، على ما رواه عبد الحميد ، وكان عنده عن أبي هريرة بغير واسطة مرفوعاً ، إذ وجدت عند كل من الروايتين عن سعيد زيادة ، ورواية الوقف لا تعارض رواية الرفع لأن الراوي قد ينشط فيسند وقد لا ينشط فيقف". إن احتمال وجود هذا الحديث عن سعيد مرفوعاً وموقوفاً احتمال ضعيف ، لأن مبنى هذا الاحتمال على رواية هذا عبد الحميد وهي مخالفة لرواية من هو أثبت وأتقن وأعرف منه بحديث سعيد ، فتكون روايته خاطئة وشاذة ، ومما يقوي الخطأ في روايته أنه زاد فيها رجلاً لم يذكره ابن أبي ذنب . وقول الحافظ " إذا وحدت عند كل من الروايتين زيادة" لا يبرر قبول زيادة عبد الحميد في الإسناد رجلاً ، والواقع أن ابن أبي ذئب حدث كما سمع ولم يزد شيئاً وإنما عبد الحميد هو الذي زاد ونقص . وعلى التسليم بقبول زيادة ابن أبي ذنب الرفع في هذا الحديث ، لا يبرر قبول زيادة عبد الحميد رجلاً في الإسناد ، لأنه ليس عنده من الوثاقة والحفظ ما يرشحه لقبول زيادته ، وخاصة وقد خالف فيها من هو أثبت منه واحفظ . وقول الحافظ : "ورواية الرفع لا تعارض رواية الوقف" . كلا بل الوقف يعارض الرفع ، لأن الوقف معناه أن الحديث من قول الصحابي ، والرفع معناه من قول النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يكون الحديث الواحد بالإسناد الواحد قولاً للصحابي وقولاً للرسول صلى الله عليه وسلم في آن واحد . ثم قال الحافظ : "لأن الراوي قد ينشط فيسند ، وقد لا ينشط فيقف" .
ليس هذا فحسب بل هناك أسباب أخرى منها : - أن الراوي قد يخطئ ويهم ، فيرفع ما يقفه غيره ، أو يقف ما يرفعه غيره . - ومنها أن الراوي قد يشك فيقف الحديث وهذا دأب كثير من الثقات فإنهم إذا شكوا في الحديث وقفوا أو أرسلوه ، والظاهر هنا في هذا الحديث أن عبد الحميد أخطأ في وقفه ، والله تعالى أعلم .
المثال الثاني : قال البخاري -رحمه الله-: "حدثنا مطر بن الفضل حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا العوام، حدثنا إبراهيم أبو إسماعيل السكسكي قال: سمعت أبا بريدة واصطحب هو يزيد بن أبي كبشة في سفر، فكان يزيد يصوم في السفر، فقال له أبو بريدة: سمعت أبا موسى مراراً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذ مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً". وقد ذكر الحافظ الدارقطني هذا الحديث في "التتبع" وبين الاختلاف في رفعه ووقفه فقال: "وأخرج البخاري حديث العوام بن حوشب عن إبراهيم السكسكي عن أبي بريدة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل يعمل صحيحاً مقيماً" لم يسنده غير العوام ، وخالفه مسعر : رواه عن إبراهيم السكسكي عن أبي بردة قوله ولم يذكر أبا موسى ولا النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أجاب الحافظ عن انتقاد الدارقطني وبين القرائن التي من أجلها رجح البخاري رواية العوام المسندة المرفوعة على رواية مسعر الموقوفة فقال: "مسعر أحفظ من العوام بلا شك ، إلا أن مثل هذا لا يقال بالرأي فهو في حكم المرفوع، وفي السياق قصة تدل على أن العوام حفظه ، فإن فيه اصطحب يزيد بن أبي كبشة ، وأبو بردة في سفر فكان يزيد يصوم في السفر فقال له أبو بردة : أفطر فإني سمعت أبا موسى مراراً فذكره . وقد قال أحمد بن حنبل : إذا كان في الحديث قصة دل على أن رواية حفظه ، والله أعلم".
فالقرائن المعتمدة في ترجيح الرفع هي ما يلي : 1- إن هذا الحديث ليس من بل الرأي فيعطي حكم الرفع. 2- في الحديث قصة تدل على أن العوام حفظ الرفع في هذا الحديث . فالترجيح لم يكن لمجرد أحوال الرجال لأن مسعراً أحفظ من العوام فلو كان الترجيح لمجرد حال الإسناد لكان الحكم لرواية مسعر لكن لوجود هذه القرائن رجحت رواية العوام وإن كان دون مسعر في الحفظ .
أمثلة لأحاديث رجح فيها البخاري الوقف على الرفع : هناك أمثلة كثيرة لأحاديث رجح فيها الإمام البخاري الوقف على الرفع ، لقرائن معتبرة منها الأحفظية أو كثرة العدد أو غيرها ، وفيما يلي مثالين على ذلك : المثال الأول : ما رواه أبو كريب ، حدثنا يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : "صلوا في مرابض الغنم ، ولا تصلوا في أعطان الإبل".
قال الترمذي في علله الكبير : " سألت محمد عن هذا الحديث فقال : رواه إسرائيل عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً".
وقال الترمذي في جامعة : " وحديث أبي حصين ، عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم غريب". فهذا الحديث اختلف فيه أبو بكر بن عياش مع إسرائيل فالأول رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والثاني وقفه على أبي هريرة . وقد رجح البخاري –رحمه الله– رواية إسرائيل الموقوفة، على رواية أبي بكر بن عياش المرفوعة مما يخشى أن يكون أبو بكر بن عياش وهم فيه لأنه لما كبر ساء حفظه .
المثال الثاني : ما رواه إبراهيم بن سعيد ، حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق ، عن سفيان ، عن خالد الحذاء ، عن أبي المتوكل ، عن أبي سعيد ، أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الحجامة للصائم. قال الترمذي -رحمه الله-: "سألت محمداً عن هذا الحديث فقال: حديث إسحاق الأزرق ، عن سفيان هو خطأ". وهذا يبين أن الإمام الترمذي حكم على الرواية المرفوعة بالوهم. ثم قال الترمذي : "وحديث أبي المتوكل عن أبي سعيد موقوفاً أصح ، هكذا روى قتادة وغير واحد عن أبي المتوكل عن أبي سعيد قوله . حدثنا إبراهيم بن سعيد ، حدثنا ابن علية ، عن حميد (وهو الطويل) عن أبي المتوكل عن أبي سعيد مثله ولم يرفعه". وقال البزار : لا نعلم أحداً رفعه إلا إحساق عن الثوري . وقال ابن خزيمة: إنما هو من قول أبي سعيد الخدري لا عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا الحديث قد رواه قتادة وحميد الطويل وغيرهما من الثقات عن أبي المتوكل عن أبي سعيد موقوفاً عليه . فالإمام البخاري حكم على الرواية المرفوعة بالخطأ لأنها مخالفة لرواية جامعة من الحفاظ . ولم يتفرد الإمام البخاري بهذا الحكم فقد تبعه عليه كل من الإمام الترمذي –رحمه الله- والبزار وابن خزيمة وأبي زرعة وأبي حاتم الرازيين . قال ابن أبي حاتم: "سألت أبي عن حديث رواه معتمر ابن سليمان عن حميد الطويل عن أبي المتوكل عن أبي سعيد ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرخص في الحجامة والمباشرة للصائم. فقال (أبو حاتم، وأبو زرعة): هذا خطأ إنما هو عن أبي سعيد قوله، رواه قتادة وجماعة من الحفاظ عن حميد عن أبي المتوكل عن أبي سعيد قوله: قلت: إن إسحاق الأرزق، رواه عن الثوري عن حميد عن أبي المتوكل عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم . قالا : وهم إسحاق في الحديث . قلت : قد تابعة معتمر . قالا : وهم فيه أيضاً معتمر". في الأمثلة السابقة أمكن ترجيح الرفع على الوقف أو العكس حسب القرائن والمرجحات، لكن هناك أحاديث تختلف في الرفع والوقف، فيرجح بعض النقاد الوقف، بعضهم يرجع الرفع ويرجح آخرون صحة الطرفين معاً .
وأضرب لذلك مثلاً من صنيع الإمام البخاري – رحمه الله - . حديث الزهري عن سالم ، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم : "من باع عبداً ..." فهذا الحديث اختلف فيه على ابن عمر . فسالم يرويه هكذا : "من باع عبداً ، وله مال ، فماله للمبتاع ، ومن باع نخلاً مؤبراً فتمره للبائع إلا أن يشترط المبتاع" . بينما نافع يقول عن ابن عمر قال : "من باع عبداً ، وله مال ، فماله للبائع إلا أن يشترطه المباع " فقد اتفقنا – رضي الله عنهما – على رفع ما جاء في النخل أما ما جاء في العبد فقد اختلفا في رفعه ووقفه فرفعه سالم ، ووقفه نافع . وقد ذكر الترمذي أنه سأل البخاري عن هذا الحديث فقال : "سألت محمداً عن هذا الحديث وقلت له : حديث الزهري عن سالم عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : "من باع عبدا ..." وقال نافع ابن عمر عن عمر ، أيهما اصح . فقال : إن نافع يخالف سالماً في أحاديث ، وهذا من تلك الأحاديث . وروى سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال نافع عن ابن عمر عن عمر كأنه رأى الحديثين صحيحين ، أنه يحتمل عنهما جميعاً" . فهذا النص من الإمام الترمذي يفيد إمكان صحة الحديثين جمعياً عند الإمام البخاري ، لكن ذكر الترمذي في جامعه عند رواية هذا الحديث . " وقال محمد بن إسماعيل البخاري ، حديث الزهري ، عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أصح" . فهذا النص يفيد أن البخاري يرجح رواية سلالم وهو معارض للنص الأول الذي يفيد صحة الروايتين معاً . والذي يظهر لي أن الإمام البخاري كان يرى صحة طريق سالم كما يراه بعض الأئمة كما سيأتي ثم تراجع عن ذلك ورأي صحة الطريقين معاً، ومما يزيد هذا الاحتمال أن النص الذي يفيد صحة الطريقين، جاء في "العلل الكبير" ومعلوم أن الترمذي ألفه بعد جامعه، بل جرده وأفرده منه حتى إن كثيراً من العلماء يسميه بـ "العلل المفردة" . أما بالنسبة لصنيع الإمام البخاري في صحيحه فلا يستبعد منه أيضاً أنه يرى صحة الطريقين معاً ، إذا إنه ذكر رواية سالم مسنده مرفوعة في كتاب الشرب والمساقاة ثم ذكر عقبه: وعن مالك عن نافع عن ابن عمر في العبد . وأما رواية نافع عن ابن عمر فقد أخرجها في كتاب البيوع، باب إذا باع نخلاً قد أبرت وباب بيع النخل بأصله في كتاب الشروط باب إذا باع نخلاً قد أبرت . فهذا الحديث قد اختلف فيه نظر النقاد فمنهم من رجح رواية سالم، ومنهم من رجح رواية نافع، ومنه من يرى صحة الطرفين معاً . وهو أحد الأحاديث الأربعة التي اختلفت فيها نافع مع سالم، وقفها نافع ورفعها سالم فمن الأئمة من رجح أحدهما على الآخر فيها ومنهم من لم يرجح أحدهما على الآخر ومن هؤلاء الإمام أحمد فقد سئل – فيما نقله عنه المروزي – إذا اختلف فلأيهما تقضي؟ قال: كلاهما ثبت، ولم ير أن يقضي لأحدهما على الآخر ونقل عثمان الدرامي عن ابن معين نحوه . أما بالنسبة لخصوص هذا الحديث فقد رجح جماعة من العلماء رواية نافع منهم مسلم والنسائي. والإمام أحمد رجح في هذا الحديث قول نافع فيما نقله عنه المروزي. وكذلك رجح الدارقطني رواية نافع، قال – رحمه الله – بعد أن ساق رواية سالم وقال نافع: " قال النسائي: سالم أجل في القلب والقول قول نافع". ومقتضى هذا أن رواية سالم في رفع العبد وهم عندهم . يتبع إن شاء الله...
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الأحد 13 يونيو 2021, 6:27 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: رد: منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها من خلال الجامع الصحيح السبت 13 أبريل 2013, 1:57 pm | |
| وأما القرائن التي رجح بها هؤلاء النقاد رواية نافع وحكموا على سالم بالوهم، فتمثل فيما يلي: 1- إن نافعاً ميز بين المرفوع والموقوف مما يدل على حفظه. 2- إن سالماً سلك فيه الجادة. قال الحافظ السخاوي -رحمه الله-: "وكان سبب حكمهم عليه بذلك (أي بالوهم) كون سالم أو من دونه سلك الجادة، فإن العادة في الغالب أن الإسناد إذا انتهى إلى الصحابي قيل بعده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاء هنا بعد الصحابي ذكر صحابي آخر والحديث من قوله كان ظناً غالباً على أن ضبطه هكذا أتقن ضبطاً".
وهناك من النقاد من رجح رواية سالم من هؤلاء: ابن المديني فيما حكاه الترمذي في جامعه وابن عبد البر. وكذلك صححها بعض المتأخرين كالنووي والداودي وغيرهما.
قال النووي: "لم تقع هذه الزيادة في حديث نافع عن ابن عمر، ولذلك لا يضر فإن سالماً ثقة، بل هو أجل من نافع فزيادته مقبولة".
ونقل ابن التين عن الداودي: "هو وهم من نافع والصحيح ما رواه سالم مرفوعاً في العبد والثمرة".
قال ابن التين معقباً على قول الداودي: "لا أدري من أين أدخل الوهم على نافع، مع إمكان عمر أن يكون قال ذلك على جهة الفتوى مستنداً إلى ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وقد سبق نقل الترمذي عن البخاري تصحيح الطريقين معاً. وعلى كل ليس القصد الخروج بحكم فاصل في هذا الحديث -وإن كنت أميل إلى إمكان تصحيح الروايتين معاً -ولكن القصد بيان أن نقاد الحديث قد تختلف أنظارهم واجتهاداتهم في ترجيح الوقف على الرفع أو العكس أو تصحيح الطريقين معاً. بل قد يحصل أن الناقد الواحد يختلف اجتهاده من حين إلى آخر، كما وقع للبخاري في هذا الحديث. والنتيجة التي نستخلصها في هذا المطلب أنه ليس للإمام البخاري حكم مطرد في مسالة اختلاف الرفع والوقف فتارة يرجح الوقف وتارة يرجح الرفع، وتارة يصحح الطرفين معاً، بحسب القرائن ظهوراً وخفاءً والله أعلم.
المطلب الثالث الاختلاف في تسمية شيخ الراوي: قد يختلف الرواة فيما بينهم في تسمية من روى عنه شيخهم، أو من فوقه فيكون الترجيح بينهم خاضعاً للقرائن بغض النظر عن أحوالهم. مثال ذلك، ما رواه البخاري في صحيحه قال: "حدثنا عياش بن الوليد أخبرنا عبد الأعلى حدثنا معمر عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يتقارب الزمان، وينقص العلم، ويلقى الشح، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج" قالوا: يا رسول الله أيما هو؟ قال: "القتل القتل". وقال شعيب، ويونس، والليث، وابن أخي الزهري، عن الزهري عن حميد عن أبي هريرة". وقد ذكر الإمام الدارقطني هذا الحديث في كتابه "التتبع" وأشار إلى ترجيح رواية من خالف معمراً فقال: "أخرج البخاري حديث عبد الأعلى عن معمر عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يتقارب الزمان، ويلقى الشح، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج..." وقد تابع حماد بن زيد عبد الأعلى، وقد خالفهما عبد الرزاق فلم يذكر أبا هريرة وأرسله. ويقال إن معمراً حدث به بالبصرة من حفظه بأحاديث وهم في بعضها، وقد خالفه فيه شعيب، ويونس، والليث بن سعد، وابن أخي الزهري، رووه عن الزهري عن حميد عن أبي هريرة، وقد أخرجا جميعاً حديث حميد أيضا". وقال الحافظ ابن حجر مبيناً قول البخاري: (وقال شعيب، ويونس والليث وابن أخي الزهري عن حميد عن أبي هريرة). "يعني أن هؤلاء الأربعة خالفوا معمراً في قوله عن الزهري عن سعيد فجعلوا شيخ الزهري حميداً لا سعيداً، وصنيع البخاري يقتضي أن الطريقين صحيحان، فإنه وصل طريق معمر هنا، ووصل طريق شعيب في كتاب الأدب، وكأنه رأى أن ذلك لا يقدح لأن الزهري صاحب حديث فيكون عنده عن شيخين، ولا يلزم من ذلك اطراده في كل من اختلف عليه في شيخه، إلا أن يكون مثل الزهري في كثرة الحديث والشيوخ، ولولا ذلك لكانت رواية يونس، ومن تابعة أرجح. وليست رواية معمر مدفوعة عن الصحة لما ذكرته".
فواضح مما سبق ذكره من كلام الدارقطني: أن معمراً يروي هذا الحديث عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الطريق محفوظ عنه إذ رواه اثنان من أصحابه هما: حماد بن زيد، وعبد الأعلى. ويعتبر طريق عبد الرزاق المرسل وهم منه، إذ إنه خالف فيه من هم أكثر وأحفظ. أي أن معمراً كان يروي هذا الحديث مسنداً غير مرسل، والإرسال وهم يلزق بعبد الرزاق. إذن لم يكن معمر يسنده تارة ويرسله تارة، كما فهم ذلك الشيخ مقبل -حفظه الله- في تعليقه على التتبع وجعل هذا قرينة لتعليل رواية معمر، أي أنه اضطرب فيه فتارة كان رسله وتارة يسنده. ومن القرائن التي اعتمد عليها أيضاً لتعليل رواية معمر، وهو أن معمراً كان تارة يحدث به عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وتارة يحدث به عن همام عن أبي هريرة. وهذه القرينة -فيما أرى- غير صحيحة، وذلك لأن الحديث الذي يرويه معمر عن همام عن أبي هريرة، هو حديث آخر مخالف لهذا الحديث في نصه. وهذا نصه كما في صحيح مسلم: "حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تقتل فئتان عظيمتان، وتكون مقتلة عظيمة دعواهما واحدة". فهذا كما ترى حديث آخر مختلف عن الأول في متنه وسنده، فلا يصح أن نقول إن معمراً كان يرويه تارة عن سعيد عن أبي هريرة، وتارة يرويه عن همام عن أبي هريرة، إذن فما هي القرائن التي تفيد ترجيح رواية شعيب ومن معه على رواية معمر؟
هذه القرائن أشار إليها الدارقطني -رحمه الله- وهي: 1- إن معمراً حدث بهذا الحديث بالبصرة، وكان قد وهم في بعض أحاديثه التي حدث بها هناك، لأنه كان يحدثهم بالبصرة من حفظه. 2- ومما يقوي أن الوهم من معمر أنه خالف هذا العدد من الرواة، وكلهم من الثقات وهم: شعيب، ويونس، والليث، وابن أخي الزهري، وهؤلاء كلهم قد اتفقوا في سنده، ويروونه عن الزهري عن حميد عن أبي هريرة، فهذا العدد أولى بالحفظ من الراوي المنفرد، ولو كان ثقة.
ثم قال الدارقطني: وقد أخرجا جميعاً حديث حميد". يشير بذلك إلى أن حديث حميد متفق على صحته، إذا أخرجه البخاري ومسلم. أما حديث سعيد فقد رواه البخاري وأشار إلى علته، وكذلك صنع الإمام مسلم في صحيحه، فقد أورد طرق هذا الحديث في كتاب العلم من صحيحه. 1- قال: حدثنا حرملة بن يحيى أخبرنا بن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب حدثني حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يتقارب الزمان...". 2- حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يتقارب الزمان ويقبض العلم" ثم ذكر مثل حديثهما. فواضح أن الإمام مسلم لما ذكر طرق هذا الحديث عن الزهري قدم حديث يونس ثم حديث شعيب لأنهما الأصح ثم ذكر في آخر الباب حديث معمر إشارة إلى تعليمه، لأن هؤلاء أحفظ واتفقوا على سنده. وقد صرح الإمام الدارقطني أيضاً في علله، بتعليل حديث معمر حيث قال: "حديث يتقارب الزمان يرويه الزهري، واختلف عنه: فرواه معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة. وخالفه يونس بن يزيد وإسحاق بن يحيى: فروياه عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة. وكذلك قال عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن الزهري عن حميد عن أبي هريرة، والمحفوظ حديث حميد". إذاً تأكدنا من خلال هذه القرائن من صحة حديث شعيب ويونس ومن وافقهما، وخطأ حديث معمر. لكن هل البخاري يصحح الطريقين معاً؟ كما نص عليه الحافظ لما قال: "وصنيع البخاري يقتضي أن الطريقين صحيحان، فإنه وصل طريق معمر هنا، ووصل طريق شعيب في كتاب الأدب...". الظاهر أن الإمام البخاري ذكر طريق معمر معللاً لها، ولا يقتضي أنه لما وصلها أنه يصححها لأنه ذكر الخلاف عقبها، فهذا الخلاف مع انضمام القرائن السابقة يقدح في صحة رواية معمر أما طريق شعيب فلا غبار على صحتها سواء أوصلها أم أشار إليها. وقول الحافظ: "كأنه ذلك لا يقدح لأن الزهري صاحب حديث، فيكون عنده عن الشيخين...". هذا كله مبني على التجويز العقلي المجرد، والقرائن السابقة تدل على بطلانه.
المطلب الرابع الاختلاف في زيادة راو في الإسناد وحذفه: قد يجئ الحديث الواحد من طريقين، ولكن في أحدهما زيادة راو، ليس هو في الطريق الأخرى، فتارة يحكم النقاد على أن الزيادة راجحة، بكثرة الراوين لها أو بضبطهم وإتقانهم أو غيرها من القرائن، وتارة يحكم بأن راوي الزيادة وهم فيها، تبعاً للقرائن والمرجحات، وأحياناً يظهر صواب الطريقين، وصحة الوجهين الزائد والناقص على حد سواء، وفي أحيان أخرى يتوقف الناقد في ترجيح إحدى الطريقين على الأخرى أو الحكم بصحتها معاً. فالأئمة النقاد ليس لهم عمل مطرد في الحكم على هذا النوع من الاختلاف من الرواة. وسأذكر فيما يلي نماذج وشواهد من صنيع الإمام البخاري توضح كل حالة من الحالات الأربع السابقة.
الحالة الأول: ترجيح الناقصة والحكم على الزيادة بالوهم. المثال الأول: حديث خزيمة بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في الاستطابة ثلاثة أحجار ليس فيه رجيع". رواه عبده عن هشام بن عروة، عن عمرو بن خزيمة المدني، عن عمارة بن خزيمة عن خزيمة بن ثابت. وقال وكيع عن هشام، عن أبي خزيمة، عن عمارة بن خزيمة، عن خزيمة بن ثابت. وقال أبو معاوية عن هشام بن عروة، عن عبد الرحمن بن سعد، عن عمر بن خزيمة، عن خزيمة بن ثابت. قال الترمذي: "سألت محمداً عن هذا الحديث فقال: الصحيح، ما روى عبدة ووكيع، وأبو معاوية أخطأ في هذا الحديث إذ زاد عن عبد الرحمن بن سعد". وقال أبو زرعة -رحمه الله-: "الحديث حديث وكيع وعبدة". فهذا الحديث يرويه عبدة ووكيع، وأبو أسامة وابن نمير كلهم يقولون هشام بن عروة عن عمر بن خزيمة عن عمارة بن خزيمة عن خزيمة بن ثابت. إلا أن أبا معاوية خالفهم في روايته إذ زاد عبد الرحمن بن سعد بين هشام بن عروة وعمرو بن خزيمة. إلا أن أبا معاوية خالفهم في روايته إذ زاد عبد الرحمن بن سعد بين هشام بن عروة وعمرو بن خزيمة. وقد حكم البخاري على رواية أبي معاوية بالوهم والخطأ وذلك لما يلي: 1- أبو معاوية ضعيف في هشام بن عروة. قال الأثرم قلت لأبي عبد الله (أي الإمام أحمد): أبو معاوية صحيح الحديث عن هشام؟ قال: لا ما هو بصحيح الحديث عنه. 2- خالف من هو أكثر وأحفظ وأثبت في هشام. قال الدار قطني -رحمه الله-: "أثبت الرواة عن هشام بن عروة: الثوري، ومالك، ويحيى القطان، وعبد الله بن نمير، والليث بن سعد". 3- لأبي معاوية رواية يوافق فيها الحفاظ الأثبات عن هشام بن عروة مما يدل على وهمه في الرواية المخالفة لهم. لهذه القرائن حكم الإمام البخاري وغيره من النقاد على رواية أبي معاوية الزائدة بالوهم.
المثال الثاني: حديث أبي مرثد الغنوي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها". هذا الحديث يرويه الوليد بن مسلم، وعيسى بن يونس، وصدقة بن خالد كلهم عن بسر بن عبد الله عن واثلة بن الأسقع عن أبي مرثد. وخالفهم عبد الله بن المبارك فزاد يه أبا إدريس الخولاني بين بسر وواثلة وقد رجح الإمام البخاري الطريق الناقصة على الزائدة. قال الترمذي: "سألت محمداً عن هذا الحديث فقال: حديث الوليد بن مسلم أصح، وهكذا روى غير واحد، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن بسر بن عبيد الله، عن واثلة بن الأسقع. قال محمد: "ويسر بن عبيد الله سمع من واثلة، وحديث ابن المبارك خطأ إذ زاد فيه عن أبي إدريس الخولاني". ولم ينفرد البخاري بهذا الحكم فقد وافقه فيه نقاد آخرون كأبي حاتم الرازي والدارقطني وغيرهما. قال ابن أبي حاتم: "قال أبي: يرون أن ابن المبارك، وهم في هذا الحديث، أدخل أبا إدريس الخولاني بين بسر بن عبيد الله وبين واثلة. ورواه عيسى بن يونس وصدقة بن خالد، والوليد بن مسلم، عن ابن جابر، عن بسر بن عبيد الله، قال: سمعت واثلة يحدث عن أبي مرثد الغنوي عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو حاتم بسر قد سمع واثلة، وكثيراً ما يحدث بسر عن أبي إدريس، فغلط ابن المبارك فظن أن هذا مما روي عن أبي إدريس عن واثلة، وقد سمع هذا الحديث بسر من واثلة نفسه، لأن أهل الشام أعرف بحديثهم".
الحالة الثانية: ترجيح الطريق الزائدة والحكم على الناقصة بالوهم: المثال الأول: حديث ابن عباس قال: مر رسول الله على قبرين فقال: "إنهما ليعذبان...".
هذا الحديث قد ورد من طريقين: الطريق الأولى: منصور عن مجاهد عن عباس. الطريق الثانية: الأعمش عن مجاهد عن طاووس عن ابن عباس. فالطريق الأخيرة فيها زيادة طاووس فهل هذه الزيادة صحيحة أم لا؟
قال الترمذي: "سألت محمداً عن حديث مجاهد، عن طاووس، عن ابن عباس مر رسول الله على قبرين. فقال: الأعمش يقول عن مجاهد عن طاووس عن ابن عباس. ومنصور يقول: عن مجاهد عن ابن عباس، ولا يذكر فيه: عن طاووس. قلت أيهما أصح؟. قال: حديث الأعمش". لكن الإمام البخاري خرج حديث منصور أيضاً في صحيحه فهل تغير اجتهاده أم أخرجه ليبين علته.
ذهب الحافظ ابن حجر إلى أنه يصح الطريق معاً، قال: "وإخراجه له على الوجهين يقتضي صحتهما عندما، فيحمل على أن مجاهداً سمعه من طاووس عن ابن عباس ثم سمعه من ابن عباس بلا واسطة أو العكس". وقد ذكر الدارقطني هذا الحديث في كتابه التتبع وحكى الخلاف فيه، ولم يحكم بشيء. والظاهر من صنيع البخاري في صحيحه أنه كان يرى صحة الطريين إذ إنه أخرج طريق منصور الناقصة في كتاب الطهارة، باب الكبائر أن لا يستتر من بوله معتمداً عليه وحده، ورواه أيضاً في كتاب الأدب، باب من الكبائر، معتمداً عليه وحده. وأما طريق الأعمش فلا شك في صحتها لإطباق الشيخين على تخريجها وباقي الأئمة الستة، ثم حكم البخاري لطريق الأعمش، وذلك لتصريحه الذي نقله عنه الترمذي في علله الكبير، وكتاب العلل أصله مأخوذ من كتاب الجامع للترمذي، أي أنه صنف الجامع أولاً، وكان يسأل فيه البخاري عن العلل ثم أفرده عن الجامع، ولذلك يسميه البعض بـ"العلل المفردة" وجامع الترمذي كان بعد تصنيف صحيح البخاري، فيكون هذا النص متأخراً وهو يقتضي ترجيح رواية الأعمش الزائدة.
المثال الثاني: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب".
قال البخاري -رحمه الله-: "حدثنا عبد الله ابن يوسف: حدثنا الليث عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة أنه سمعه يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا زنت الأمَةُ ، فتبيَّن زناها، فليجلدها ولا يثرب، ثم إن زنت فليجلدها ولا يثرب، ثم إن زنت الثالثة فليبعها ولو بحبل من شعر". تابعه إسماعيل بن أمية عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم". وقد وقع في هذا الحديث اختلاف بين الرواة على أبي سعيد المقبري. وقد وقع في هذا الحديث اختلاف بين الرواة على أبي سعيد المقبري.
وحاصل هذا الاختلاف ما يلي: الليث يقول: عن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة، وقد وافقه على زيادة "أبيه" محمد بن إسحاق". وإسماعيل بن أمية يقول: عن سعيد عن أبي هريرة، وقد وافقه على حذف "أبيه" عبيد الله بن عمر العمري وأيوب بن موسى وأسامة بن زيد ومحمد بن عجلان، وعبد الرحمن بن إسحاق فأي الطريق اصح، الطريق الزائدة أم الناقصة، وما هي قرائن الترجيح. لقد انتقد هذا الحديث الحافظ الدارقطني في "التتبع" وذكر الخلاف ولم يحكم فيه بشيء. والظاهر عند تأمل صنيع البخاري -رحمه الله- أنه يرجح طريق الليث الزائدة وذلك لأنه أوردها متصلة معتمداً عليها في أول الباب، ثم أورد طريق إسماعيل بن أمية تعليقاً، وهذه قاعدة منهجية عند الإمام البخاري، نبه إليها الحافظ -رحمه الله- فقال: "من عادة البخاري إذا كان في بعض الأسانيد التي يحتج بها خلاف على بعض رواتها، ساق الطريق الراجحة عنده مسندة متصلة، وعلق الطريق الأخرى إشعاراً بأن هذا الاختلاف يضر. إما أن يكون للراوي فيه طريقان فيحدث فيه تارة عن هذا، وتارة عن هذا، فلا يكون ذلك اختلافاً يلزم منه اضطراب يوجب الضعف. وإما أن لا يكون له فيه إلا طريق واحدة، والذي أتى عنه بالطريق الأخرى واهم عليه، ولا يضر الطريق الصيحة الراجحة، وجود الطريق الضعيفة المرجوحة". وكذلك بالنسبة لصنيع الإمام مسلم في صحيحه فالظاهر منه أن يرجح طريق الليث الزائد على الطريق الناقصة. وذلك لأنه أوردها أولاً مصدراً بها الباب ومعتمداً عليها، ثم أورد بعدها الطريق الناقصة ليشير إلى الخلاف، ويبين العلة. وهذه الطريقة -رحمه الله- في صحيحه فقد قال: "ثم إنا إن شاء الله مبتدئون في تخريج ما سألت وتأليفه على شريطة سوف اذكرها لك وهو أن نعتمد إلى جملة ما اسند من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقسمها على ثلاثة أقسام ثلاثة طبقات من الناس على غير تكرار إلا أن يأتي موضع لا يستغني فيه عن ترداد حديث فيه زيادة معنى، أو إسناد يقع إلى جنب إسناد، لعلة تكون هناك". ولم ينفرد الشيخان بهذا، فقد سبقهما إلى تعليل الطريق الناقصة وترجيح الطريق الزائدة –الإمام ابن المديني -رحمه الله- حيث قال: "حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها" رواه إسحاق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة. رواه عبد الرحمن بن إسحاق عن سعيد، قال: سمعت أبا هريرة، فنظرت فإذا سعيد لم يسمعه من أبي هريرة. ورواه إسحاق والليث بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة. ورواه أيوب بن موسى عن سعيد عن أبي هريرة. والحديث عندي حديث سعيد عن أبيه عن أبي هريرة. وحديث عبد الرحمن بن إسحاق عن سعيد قال: سمعت أبا هريرة يقول: .... وهم وأخاف ألا يكون حفظه". فالخلاف في هذا الحديث على سعيد المقبري، والنقاد رجحوا رواية الليث بناء على أنه أثبت أصحابه وأحفظ لحديثه فيقدم عند الخلاف. قال الإمام أحمد: "اصح الناس عن سعيد المقبري: ليث بن سعد، يفصل ما روى عن أبي هريرة، وما رواه عن أبي عن أبي هريرة، وهو ثبت في حديثه جداً". وقال ابن المديني: "الليث وابن أبي ذنب: ثبتان في حديث سعيد المقبري". فلكون الليث اثبت أصحاب سعيد المقبري وخاصة أنه يميز بين ما رواه سعيد المقبري عن أبي هريرة مباشرة، وما يرويه عن أبي هريرة بواسطة "أبيه" قدم النقاد روايته المتصلة على الطريق الناقصة.
الحالة الثالثة: ما يحكم فيه بصحة الطريقين معاً الزائدة والناقصة: أحياناً يرد الحديث من طريقين إحداهما زائدة، والأخرى ناقصة من حيث السند، فيظهر عند الراوي بالوجهين ظهوراً بيناً، بتصريحه بذلك ونحوه، وتارة يكون الحكم بصحة الطريقين معاً بحسب الظن القوي الذي يكون عند الناقد، وفيما يلي أمثلة توضح ما ذكرت، من صنيع الإمام البخاري.
المثال الأول: حديث المسيء صلاته، يرويه أبو هريرة، وهو يدور على الطرق التالية: 1- يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة. 2- عبد الله بن نمر عن عبد الله بن عمر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة. 3- أبو أسامة بن عبيد الله بن عمر عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة. 4- ابن وهب عن عبيد الله بن عمر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة. 5- عيسى ابن يونس عن عبيد الله بن عمر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة. نلاحظ أن هذه الطرق كلها -ما عدا الأولى- تتفق في أن الحديث عن عبيد الله بن عمر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة. بينما الطريق الأولى عن يحيى تجعل الحديث عن عبيد الله بن عمر عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة فأي الطريقين اصح، أم كلاهما صحيح؟ لقد حكم الأئمة النقاد بصحة الطريقين معاً، ومن هؤلاء الإمام الدارقطني -رحمه الله- قال: "قد خالف يحيى أصحاب عبيد الله كلهم، منهم: أبو أسامة، وعبد الله بن نمير، وعيسى بن يونس، وغيرهم، رووه عن عبيد الله عن سعيد عن أبي هريرة، فلم يذكروا أباه، ورواه معتمر عن عبيد الله عن سعيد مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويحيى حافظ ويشبه أن يكون عبيد الله حدث به على الوجهين". وقال الحافظ بعد أن نقل كلام الدار قطني السابق: "وقال البزار: لم يتابع يحيى عليه، ورجح الترمذي رواية يحيى. قلت: لكل من الروايتين وجه مرجح، أما رواية يحيى فللزيادة من الحافظ، وأما الرواية الأخرى فللكثرة، ولأن سعيداً لم يوصف بالتدليس وقد ثبت سماعه من أبي هريرة، ومن ثم أخرج الشيخان الطريقتين". يستخلص من كلام الحافظ أن النقاد قد اختلفوا في الحكم على هذا الحديث: - فالإمام البزار يرجح رواية الجماعة، ويرى أن يحيى خالف هؤلاء الحافظ بشيء لم يتابع عليه. - والإمام الترمذي يرجح رواية يحيى على رواية غيره، قال في جامعة – بعد روايته للحديث من طريق يحيى. "وروى ابن نمير هذا الحديث عن عبيد الله بن عمر عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، ولم يذكر فيه عن أبيه عن أبي هريرة، ورواية يحيى بن سعيد عن عبيد الله بن عمر أصح، وسعيد قد سمع من أبي هريرة، وروى عن أبيه عن أبي هريرة". ووجه ترجيح رواية يحيى أنه حافظ وقد زاد فتقبل زيادته. ويرى البخاري ومسلم والدارقطني صحة الطريقين معاً، للقرائن التي أشار إليها الحافظ -رحمه الله-.
المثال الثاني: حديث أبي هريرة "قيل يا رسول الله مَنْ أكرم الناس؟...". هذا الحديث رواه البخاري بإسنادين ناقص وزائد. قال: "حدثنا إسحاق بن إبراهيم سمع المعتمر عن عبيد الله عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم من أكرم الناس؟...". وقال: "حدثني عبد الله بن إسماعيل عن أبي أسامة عن عبيد الله قال: أخبرني سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا". ورواه أيضاً من طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قيل يا رسول الله مَنْ أكرم الناس...".
وحاصل الاختلاف في هذا الحديث ما يلي: - أبو أسامة، وعبده ومعتمر يروونه عن عبيد الله عن سعيد عن أبي هريرة. - ويحيى القطان خالفهم ورواه عن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة، فزاد عن "أبيه". والظاهر من صنيع الإمام البخاري تصحيح الطريقين معاً، وقد أشار إلى هذا الحافظ ابن حجر والحافظ العلائي أيضاً. لكن الإمام الدار قطني مال في علله إلى ترجيح طريق يحيى، فقال بعد أن ذكر اختلاف الرواة: "ويحيى يقول، والقول قول يحيى". وقد ذكر في التتبع وبين الخلاف ولم يرجح شيئاً.
الحالة الرابعة: وهو ما لا يترجح فيه إحدى الطريقين على الأخرى، ولا يغلب على الظن صحتها معاً، لكن يحتمل أن تكون صحيحتين معاً. قال -رحمه الله-: "حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا شعبة قال: أخبرني علقمة بن مرثد سمعت سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيركم مَنْ تعلم القرآن وعلمه". يتبع إن شاء الله...
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الأحد 13 يونيو 2021, 6:33 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: رد: منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها من خلال الجامع الصحيح السبت 13 أبريل 2013, 2:23 pm | |
| وحدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن أبي عبد الرحمن عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه".
وقد ذكر الدار قطني هذا الحديث في كتاب التتبع ، وبين الخلاف فيه وحاصله ما يلي : أن هذا الحديث يرويه شعبة عن علقمة عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان ، وقد تابع شعبة على زيادة سعد بن عبيدة بين علقمة وأبي عبد الرحمن كل من : عبيد الله بن عيسى ، ومحمد بن جحادة ، وموسى بن قيس الحضرمي ، والنصر بن إسحاق السلمي، ومحمد بن جابر وغيرهم عن علقمة . رواه سفيان الثوري عن علقمة عن أبي عبد الرحمن بإسقاط سعد بن عبيدة ، وقد تابعه علي روايته على كل من : عمرو بن قيس ، ومسعر ، وأبو اليسع ، وعمر بن النعمان ، ومحمد بن طلحة ، وأبو حماد ، وحفص بن سليمان ، وأيوب بن جابر ، وسلمة الأحمر، وغياث. فما موقف الحفاظ من هذين الطريقين؟ وهل كلاهما صحيح، أم يرجح أحدهما على الآخر، أم يحتمل أن يكون كلاهما صحيح؟ لقد مال بعض الحفاظ المتأخرين إلى احتمال صحة الطريقين معاً، ومن هؤلاء الحافظ العلائي. قال بعد أن ساق اختلاف سفيان وشعبة فيه: "أخرجه البخاري من الطريقين ، وهو لا يكتفي بمجرد إمكان اللقاء، وقد تابع كلاً من شعبة وسفيان جماعة على ما قال : فيحتمل أن يكون الحديث عند علقمة على الوجهين ، ويحتمل أن يكون أرسله عن إسقاط سعد بن عبيدة". وقال الحافظ : "إن مثل هذا يخرجه البخاري على الاحتمال ، لأن رواية الثوري عند جماعة من الحفاظ هي المحفوظة ، وشعبة زاد رجلاً فأمكن أن يكون علقمة سمعه من سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن ثم لقي عبد الرحمن فسمعه منه". فاحتمال صحة الطريقين غير مستبعد ، لأن كلاً من سفيان وشعبة قد تابعها جماعة من الثقات ، ولم تقم قرينة على ترجيح أحدهما على الآخر . وفي تمام هذا المطلب نخلص إلى أن الترجيح بين الرواة إذا اختلفوا في زيادة راو في إسناد و حذفه ، لا يلزم حالة واحدة مطردة بل يدور مع القرائن والمرجحات ، فتارة يكون الحكم للزائد ، وتارة يكون الحكم للناقص ، وتارة يكون كلا الطرفين صحيحاً ، وتارة لا يستطيع الناقد أن يرجح أحد الطريقين على الآخر مع احتمال كونهما صحيحين معاً . وأما ما يسلكه كثير من الفقهاء والأصوليين والمتكلمين ومتأخري المحدثين من ترجيح الرواية الزائدة على الناقصة دائماً اعتماداً على أن الراوي الثقة إذا زاد تقبل زيادته، واحتمال أنه سمع من الشيخ بالواسطة ثم سمع منه مباشرة، كل هذا مخالف لمنهج النقاد القائم على النظر في الواقع الحديثي المدعوم بالقرائن والدلائل، ويحصل بالاتساع في الرواية والحفظ والفهم ، وليس بالاحتمالات والتجويزات العقلية المجردة .
القسم الثاني الاختلاف في سياق المتن: قد سبق بيان الاختلاف الذي يقع بين الرواة في إسناد حديث من الأحاديث وأوجه هذا الاختلاف ، وكيفية الحكم في كل حالة . وفي هذا المبحث نتعرض للاختلاف في المتن ونذكر أسباب هذا الاختلاف ، مما يكون له أثر كبير في الحكم على الحديث صحة وتعليلاً. وتتمثل هذه الأسباب فيما يلي: الاختصار والرواية بالمعنى، والإدراج: وسأتناول هذه القضايا بأمثلة تطبيقية من صنيع الإمام البخاري.
المطلب الأول الاختصار وأثره في تغيير سياق المتن: قد يختلف الرواة فيما بينهم في سياق متن حديث ما، ويكون سبب هذا الاختلاف أن بعض الرواة ساق الحديث مختصراً، والآخر ساقه بتمامه، فهذا الاختلاف لا يقدح في الطريق التامة، وأما الطريق المختصرة فأحياناً تكون هي أيضاً صحيحة، وقد تكون خاطئة إذا كان الاختصار سبباً لتغيير معنى الحديث وفيما يلي أمثلة توضح ذلك.
قال الإمام البخاري في صحيحه : "حدثنا أحمد بن أبي رجاء حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا جرير بن حازم، سمعت قتادة قال: حدثني النضر بن أنس بن مالك عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شقيصاً من عبد ...". حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من أعتق نصيباً أو شقيصاً في مملوك فخلاصة عليه ، إن كان له مال وإلا قوم عليه فاستسعى به غير مشقوق عليه". تابعه حجاج بن حجاج ، وأبان ، وموسى بن خلف عن قتادة ... اختصره شعبة". وقد انتقد الإمام الدار قطني هذا الحديث فقال بعد أن ساق هذا الحديث من صحيح البخاري: "وقد روى هذا الحديث شعبة وهشام وهما أثبت من روى عن قتادة، ولم يذكرا في الحديث الاستسعاء ، ووافقهما همام ، وفصل الاستسعاء من الحديث فجعله من رواية قتادة...". فهذا الحديث قد اختلف فيه على قتادة . يرويه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة وذكر فيه الاستسعاء ، وتابعه على ذلك كل من : جدير بن حازم ، وحجاج بن حجاج ، وأبان ، وموسى بن خلف . ورواه شعبة ، وهشام الدستوائي ، ولم يذكرا فيه الاستسعاء ، ووافقهما همام، فقد فصل الاستسعاء من الحديث فلم يرفعه ، ووقفه على قتادة . وقد اختلفت أنظار النقاد في الحكم على هذا الحديث . وقد نقل الإمام النووي بعض أقوال من رجح رواية شعبة وهشام لموافقة همام لهما فقال: " ... قال أبو بكر النيسابوري : ما أحسن ما رواه همام وضبطه ففصل قول قتادة عن الحديث. وقال ابن عبد البر : الذين لم يذكروا السعاية أثبت من الذين ذكروها".
وقال أبو مسعود الدمشقي : "حديث همام حسن عندي ، إنه لم يقع للبخاري ولا مسلم ، ولو وقع لهما حكماً بقوله". وقال الحاكم – بعد أن ساق الحديث بسنده عن سعيد عن قتادة ، وذكر فيه الاستسعاء-: "حديث العتق ثابت صحيح وذكر الاستسعاء فيه من قول قتادة ، وقد وهم من أدرجة في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثم ذكره من حديث همام مفصلاً ثم قال : "فهذا أظهر من الأول أن القول الزائد المبين المميز ، وقد ميز همام ، وهو ثبت". وقد ذكر الحافظ أيضاً بعض من رجح رواية هشام وشعبة ، فقال: "ونقل الخلال في العلل عن أحمد أنه ضعف رواية سعيد في الاستسعاء ، وضعفها أيضاً الأثرم عن سليمان بن حرب . فقال النسائي : بلغني أن هماماً رواه فجعل هذا الكلام (أي الاستسعاء) من قول قتادة. وقال الإسماعيلي : قوله (ثم استسعى) ليس في الخبر مسنداً ، وإنما هو قول قتادة مدرج في الخبر على ما رواه همام. وقال ابن المنذر والخطابي: هذا الكلام الأخير من فتيا قتادة ليس في المتن". فهؤلاء الحافظ يرون أن ذكر الاستسعاء مدرج في الحديث من قبل سعيد، وليس هو بمرفوع ، وإنما هو قول قتادة .
والقرائن التي استند إليها هؤلاء النقاد هي: - مخالفة سعيد لمن هو أحفظ منه وهما : شعبة وهشام . - تفرد سعيد بهذا الحديث . - اختلاط سعيد في آخر عمره . - قد ورد هذا الحديث من طريق همام مفصلاً ، فجعل الحديث مرفوعاً، وجعل ذكر الاستسعاء فيه من قول قتادة، وهمام ثقة . وقد أجاب الحافظ ابن حجر على هذه التعليلات.
ونلخصها فيما يلي: 1- سعيد بن أبي عروة ، أعرف بحديث قتادة لكثرة ملازمته له ، وكثرة أخذه عنه من همام وغيره ، وهشام وشعبة وإن كانا أحفظ من سعيد لكنهما لم ينفيا ما رواه ، وإنما اقتصر من الحديث على بعضه وليس المجلس متحداً حتى يتوقف في زيادة سعيد، فإن ملازمة سعيد لقتادة كانت أكثر منهما فسمع منه ما لم يسمعه غيره . 2- سعيد لم ينفرد بهذا الحديث فقد تابعه عليه جرير بن حازم ، وحجاج بن حجاج ، وموسى بن خلف ، وحجاج بن أرطأه . 3- أما تعليل الحديث بكون سعيد بن أبي عروبة اختلط فلا يصح الاعتماد عليه لأن هذا الحديث في الصحيحين وغيرهما من رواية من سمع منه قبل الاختلاط كيزيد بن زريع . 4- أما بالنسبة لرواية همام المفصلة ، فهمام قد انفرد بهذا التفصيل ، وخالف الجميع في القدر المتفق على رفعه ، فإنه جعله واقعة عين وهم جعلوه حكماً عاماً فدل على أنه لم يضبطه كما ينبغي . هذه أهم الردود على القرائن التي اعتمد عليها من أعل حديث سعيد . ولكن الإمام البخاري لم يعل هذا الحديث ، ورأى صحة الطريقين معاً، كما نقل عنه الإمام الترمذي قال : "وسألت محمداً عن هذا الحديث (يعني حديث السعاية) فقلت أي الروايتين أصح؟ فقال : الحديثنا جميعاً صحيحان ، والمعنى فيه قائم ، وذكر فيه عامتهم عن قتادة السعاية إلا شعبة، وكأنه قوى حديث سعيد بن أبي عروبة ، في أمره بالسعاية".
وقد ذكر الحافظ بعض القرائن التي اعتمد عليها البخاري في تصحيح رواية سعيد فقال: "وكأن البخاري خشي من الطعن في رواية سعيد بن أبي عروبة، أشار إلى ثبوتها بإشارات خفية كعادته، فإنه أخرجه من رواية يزيد بن زريع وهو من أثبت الناس فيه وسمع منه قبل الاختلاط. ثم استظهر له برواية جرير بن حازم بمتابعته لينفي عنه التفرد . ثم أشار إلى أن غيرهما تابعهما . ثم قال: اختصره شعبة، وكأنه جواب على سؤال مقدر وهو أن شعبة أحفظ الناس لحديث قتادة، فكيف لم يذكر الاستسعاء(*) فأجاب بأن هذا لا يؤثر فيه ضعفاً لأنه أورده مختصراً، وغيره ساقه بتمامه ، والعدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد". والمقصود هنا بيان أن هذا الاختلاف الذي وقع بين أصحاب قتادة: شعبة وهشام من جهة، وسعيد بن أبي عروبة ، ومن تابعه من جهة أخرى ، ليس سببه الوهم والخطأ المحتمل من أحد الجانبين ، وإنما سببه أن بعض الرواة اختصر الحديث فخالف من ساقه بتمامه فلا تكون روايته سبباً في تعليل رواية من ساق الحديث بتمامه ، ولو كان الذي اختصره أثبت وأحفظ إن كان اختصاره لا يغير معنى الحديث أي أنه يقتصر على بعضه ويترك بعضه، وأما إذا اختصر الراوي الحديث بحيث يتغير عن المعنى الأصلي، فإنه يكون سبباً لتعليل الرواية المختصرة، وإليك مثلاً من صنيع الإمام البخاري. قال البخاري -رحمه الله-: "حدثني محمود حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة قال سليمان بن داود : لأطوفن الليلة بمائة امرأة ، تلد كل امرأة غلاماً يقاتل في سبيل الله فقال له الملك: قل إن شاء الله فلم يقل ونسي، فأطاف بهن، ولم تلد منهن إلا امرأة نصف إنسان، قال النبي صلى الله عليه وسلم "لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان أرجى لحاجته". وقد رواه غير البخاري عن محمود بن غيلان، قال : حدثنا عبد الرزاق أخبرنا محمد على ابن طاوس عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث". فهذا المتن مغاير للمتن الأول، فأيهما الصحيح؟ قال الترمذي: "حدثنا محمد بن غيلان، حدثنا عبد الرزاق عن معمر ابن طاوس ، عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "م حلف فقال إن شاء الله لم يحنث" . سألت محمد عن هذا الحديث فقال : جاء مثل هذا من قبل عبد الرزاق وهو غلط إنما اختصره عبد الرزاق من حديث معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة سيمان بن داود حين قال: "لأطوفن الليلة على سبعين امرأة". فالحديث المحفوظ بهذا الإسناد هو الحديث الوارد في قصة سليمان – عليه السلام – وعبد الرزاق كان يرويه تارة تاماً كما سمعه وتارة يختصره . فلما اختصره جاء بمتن مخالف ومغاير في سياقه للحديث الأصلي ، ورفعه للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قوله : "من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث" فهذا المتن بهذا الإسناد لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم . نعم قد ورد هذا الكلام بغير هذا السند في حديث نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من حلف فقال إن شاء الله فلا حنث عليه". واختلف في وقفه ورفعه والأرجح الوقف. ولقد اعترض ابن العربي على الحكم على عبد الرزاق بالخطأ بسبب اختصاره لهذا الحديث وذلك لأن ما جاء به عبد الرزاق في هذه الرواية لا يناقض غيرها لأن ألفاظ الحديث تختلف باختلاف أقوال النبي صلى الله عليه وسلم في التعبير عنها ، أي يخاطب كل قوم بما يكون أوصل لأفهامهم ، وإنما ينقل الحديث على المعنى. قال الحافظ : "وأجاب شيخنا ، في شرح الترمذي بأن الذي جاء به عبد الرزاق في هذه الرواية ليس وافياً بالمعنى الذي تضمنته الرواية التي اختصره منها ، فإنه لا يلزم من قوله صلى الله عليه وسلم : "لو قال سليمان إن شاء الله لم يحنث ..." أن يكون الحكم كذلك في حق كل أحد غير سليمان وشرط الرواية بالمعنى عدم التخالف ، وهنا تخالف بالخصوص والعموم".
المطلب الثاني الرواية بالمعنى وأثرها في التعليل: كثيراً ما تختلف متون الأحاديث النبوية بسبب الرواية بالمعنى ، وأحياناً لا يؤثر ذلك الاختلاف ولا يقدح في صحة الحديث ، وأحياناً يؤثر في صحة الحديث ويكون سبباً لتعليله، وأضرب لذلك أمثلة من صنيع الإمام البخاري -رحمه الله- .
أمثلة لما تكون فيه الرواية بالمعنى سبباً للتعليل : المثال الأول : قال البخاري : "حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن شهاب عن علي بن حسين، عن عمرو بن عثمان ، عن أسامة بن زيد – رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا يرث مسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم" . فهذا الحديث يرويه مالك وابن جريح وابن عيينة، ويونس ومعمر كلهم عن الزهري عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم" . إلا أن هشيماً رواه عن الزهري بالإسناد المذكور بلفظ : "لا يتوارث أهل ملتين". قال الحافظ : " وقد حكم النسائي وغيره على هشيم بالخطأ فيه ، وعندي أنه رواه من حفظه بلفظ ظن أنه يؤدي معناه ، فلم يصب ، فإن اللفظ الذي أتى به أعم من اللفظ الذي سمعه، وسبب ذلك أن هشيماً سمع من الزهري بمكة أحاديث ولم يكتبها وعلق بحفظه بعضها فلم يكن من الضابطين عنه ، ولذلك لم يخرج الشيخان عنه شيئاً". فالبخاري ومسلم لم يخرجا هذا الحديث لأنه معلول ، وظهرت علته بمخالفة هشيم لسائر أصحاب الزهري ليست قوية ، لأنه لم يكتب الأحاديث التي سمعها من الزهري ، وإنما اعتمد على حفظه فكان أحياناً يروي على سبيل التوهم ، أي يروي الشيء ويظن أنه يؤديه بالمعنى فيقع في الوهم والخطأ . وينبغي التنبيه هنا إلى أن هذا المتن " لا يتوارث أهل ملتين" قد ورد من غير هذا الطريق (فقد رواه الترمذي من حديث جابر، ورواه أبو يعلى من حديث عائشة ، ورواه أصحاب السنن الأربعة من طريقة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وسند أبي داود فيه إلى عمر صحيح" .
المثال الثاني : قال البخاري : "حدثنا حفص بن عمر قال : حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس : "أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر – رضي الله عنهما " كانوا يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين". فهذا الحديث رواه أنس جماعة من الرواة منهم : قتادة، وحميد الطويل، وإسحاق بن أبي طلحة وغيرهم بهذا اللفظ . وفي رواية لمسلم من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن قتادة أنه كتب إليه يخبره عن أنس بن مالك أنه حدثه قال : صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين ، لا يذكرون باسم الله الرحمن الرحيم ، في أول القراءة ، ولا في آخرها". فهذه الرواية مخالفة للرواية الأولى في سياق متنها ، إذ في الأولى إخبار بأن افتتاح القراءة كان بالحمد لله رب العالمين دون تعرض لنفي قراءة البسملة أو إثباتها ، أما الرواية الثانية فهي نافية لرواية قراءة البسملة . فرواية الأوزاعي : من طريق الوليد بن مسلم مخالفة لرواية غيره كشعبة وأيوب وأبي عوانة وقد حكم كثير من الأئمة على رواية الوليد بن مسلم عن الأوزاعي بالوهم . قال الدار قطني : "إن المحفوظ عن قتادة وغيره عن أنس أنهم كانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين ، ليس فيه تعرض لنفي البسملة" . وقال البيهقي : "إن أكثر أصحاب قتادة رووه عن قتادة كذلك ، وهكذا رواه إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة وثابت البناني عن أنس" . وقال ابن عبد البر ، بعد أن روى هذا الحديث من طريق أيوب وشعبة ، وهشام الدستوائي وشيبان بن عبد الرحمن وسعيد بن أبي عروبة ، وأبي عوانة "فهؤلاء حافظ أصحاب قتادة ليس في روايتهم لهذا الحديث ما يوجب سقوط باسم الله الرحمن الرحيم من أول فاتحة الكتاب" . فهذه الرواية معلولة لأنها مخالفة للروايات الأخرى ، مع قرائن انضمت إلى ذلك ، وقد أشار إلى هذه القرائن بعض المتأخرين . قال العراقي : "إن رواية الوليد بن مسلم عن الأوزاعي التي أخرجها مسلم معلولة لأن الوليد يدلس تدليس تسوية" . وقد تعقبه الحافظ ابن حجر في ذلك ، بأنه قد ورد تصريح الوليد بن مسلم بالسماع في طريق أخرى ، وبين أن الأقوى تعليله بأن قتادة ولد أكمه ، وهو لا يكتب ، فيكون قد أمر غيره بالكتابة له وحينئذ فذلك الغير مجهول الحال عندنا ، ولو كان قتادة يثق به ، فلا يكفي ذلك في ثبوت عدالته إلا عند من يقبل التزكية على الإبهام". وقال السيوطي : "إن لحديث مسلم السابق (حديث الوليد بن مسلم عن الأوزاعي) تسع علل : المخالفة من الحفاظ والأكثرين ، والانقطاع ، وتدليس التسوية من الوليد ، والكتابة ، وجهالة الكاتب ، والاضطراب في لفظه ، والإدراج ، وثبوت ما يخالفه عن صحابه ، ومخالفة لما رواه عدد التواتر". إذن فرواية الوليد بن مسلم وهم ، والسبب في وقوع هذا الوهم هو أن الراوي روى هذا الحديث بالمعنى الذي فهمه (فالراوي ظن حين سمع قول أنس – رضي الله عنه – صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان – رضي الله عنهم – فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين ، نفيها بذلك فنقله مصرحاً بما فهمه ، وقال ا يذكون باسم الله الرحمن الرحيم في أول القراءة ولا في آخرها ، وفي لفظ فلم يكونوا يفتتحون القراءة ببسم الله ، وصار بمقتضى ذلك حديثاً مرفوعاً ، والراوي لذلك مخطئ في ظنه" . وممن صرح بأن سبب الوهم من الراوي هو روايته لهذا الحديث بالمعنى ، الإمام ابن الصلاح والحافظ ابن حجر. فهذا المعنى الذي فهمه الراوي خطأ ، والمعنى الصحيح هو كما بينه الشافعي –رحمه الله- قال : "معناه : أنهم كانوا يبتدئون بقراءة فاتحة الكتاب قبل السورة ، وليس معناه أنهم لا يقرؤون باسم الله الرحمن الرحيم". وقد ورد في رواية مسلم من طريق شعبة عن قتادة فلم أسمع أحداً منهم يقرأ باسم الله الرحمن الرحيم ولا يلزم من نفي السماع عدم الوقوع ، بخلاف الرواية المتقدمة. ومن القرائن التي ذكرها الإمام ابن الصلاح وغيره من العلماء على أن رواية الوليد بن مسلم وقع فيها وهم (أنه ثبت عن أنس أنه سئل عن الافتتاح بالتسمية فذكر أنه لا يحفظ فيه شيئاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم). وهكذا يتضح لنا كيف تكون الرواية بالمعنى سبباً لوقوع الراوي في الوهم ، فيكون حديثه معلولاً ، لذا نرى أن الإمام البخاري تجنب رواية هذا الحديث في صحيحه . أما بالنسبة للإمام مسلم فإنه أورد هذا الحديث من طريق شعبة أولاً ، مما يدل على أنه الأصح عنده ثم أورد حديث قتادة من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي .
أمثلة لما لا تكون فيه الرواية بالمعنى سبباً للتعيل: هنا أحاديث رويت بالمعنى ، ولم تتطرق إليها العلة ، وذلك أن الرواية بالمعنى لم تغيرها عن سياقها ، وهذا النوع الذي يختلف فيه الرواة ، ولا يكون فيه تغيير للمعنى ، وإثبات لحكم جديد، يورده الإمام البخاري في صحيحه.
وفيما يلي أمثلة لذلك : المثال الأول : حديث ابن عمر – رضي الله عنه – أنه كان نذر اعتكاف ليلة في الجاهلية فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فأمره صلى الله عليه وسلم أن يفي بنذره ، وفي رواية اعتكاف يوم ، وهذه روايات هذا الحديث ي صحيح البخاري .
قال البخاري : " حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله أخبرني نافع عن ابن عمر – رضي الله عنه – أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال : كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، قال : أوف بنذرك".
وقال أيضاً : "حدثنا عبد الله بن إسماعيل حدثنا أبو أسامة عن عبد الله عن نافع عن ابن عمر أن عمر نذر في الجاهلية أن يعتكف في المسجد الحرام قال : أراه قال ليلة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أوف بنذرك".
وقال البخاري أيضاً : " حدثنا محمد بن مقاتل أبو الحسن ، أخبرنا عبد الله أخبرنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن عمر قال : يا رسو الله إني نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة في المسجد الحرام قال: أوف بنذرك".
وقال أيضاً : "حدثنا أبو النعمان حدثنا محمد بن زيد عن أيوب عن نافع أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال : يا رسول الله إنه كان علي اعتكاف يوم في الجاهلية ، فأمره أن يفي به . ورواه معمر عن أيوب عن ابن عمر في النذر ، ولم يقل (يوم)". وحديث معمر هذا أورده البخاري في صحيحه: "حدثنا محمد بن مقاتل أخبرنا عبد الله، أخبرنا معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: لما قفلنا من حنين سأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم عن نذر كان نذره في الجاهلية اعتكاف، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بوفائه". فقد اختلف على نافع في هذا الحديث، فعبيد الله بن عمر يقول: اعتكاف ليلة، وأيوب يقول: اعتكاف يوم في رواية حماد بن زيد عنه. أما معمر في روايته عن أيوب مجملة لم يذكر مدة الاعتكاف وهو اختصار لا يضر بأصل الحديث وكل من أيوب ، وعبيد الله بن عمر من ثقات أصحاب نافع .
وقد سئل الدار قطني عن اثبت أصحاب نافع فقال: "عبيد الله بن عمر ، ومالك ، وأيوب السخيتاني".
فلما كان المختلفان حافظين ساق البخاري رواية كل منهما لأنه لا تعارض في المعنى بينهما. وبين الحافظ ابن حجر كيفية الجمع بين هاتين الروايتين فقال : "والتحقيق في الجمع بين هاتين الروايتين أن عمر –رضي الله عنه– كان عليه نذر اعتكاف يوم بليلته فسال النبي صلى الله عليه وسلم عنه فأمره بالوفاء به، فعبر بعض الرواة بيوم وأراد بليلته، وعبر بعضهم بليلته، وأراد يومها. والتعبير بكل واحد من هذين عن المجموع من المجاز الشائع الكثير من الاستعمال ، فالحمل عليه أول من جعل القصة متعددة". وقد ذهب الإمام النووي إلى أنها واقعتان : كان على عمر نذران ، ليلة بمفردها، ويوماً بمفرده ، فسأل عن هذا مرة ، والآخر أخرى. وقد رد هذا على النووي كل من الحافظ العلائي وابن حجر وحملا ذلك على الرواية بالمعنى، وهو الصواب – إن شاء الله - .
المثال الثاني : قال البخاري : "حدثنا عبيد الله بن موسى قال : أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والحج ، وصوم رمضان".
هذا أحد ألفاظ الحديث التي ساقها البخاري . وساقه بلفظ آخر ونصه كما يلي : "... عن نافع أن رجلاً أتى ابن عمر فقال : يا أبا عبد الرحمن ما حملك على أن تحج عاماً وتعتمر عاماً، وتترك الجهاد في سبيل الله عز وجل ، وقد علمت ما رغب الله فيه ؟ قال : يا ابن أخي بني الإسلام على خمس : إيمان بالله ورسوله ، والصلوات الخمس ، وصيام رمضان ، وأداء الزكاة ، وحج البيت ...". هذه ألفاظ هذا الحديث في صحيح البخاري ، ويلاحظ أن فيها تغايراً في الألفاظ والعبارات كما يلاحظ اختلاف في التقديم والتأخير ، حيث قدم الحج على الصوم في الرواية الأولى ، بينما آخر في الرواية الثانية ، وقدمت الزكاة عن الحج والصوم في الرواية الثانية، بينما أخرت على الصوم وقدمت على الحج في الرواية الثانية .
وأما الإمام مسلم فقد ذكر هذا الحديث من طرق مختلفة : 1- عن أبي ملك الأشجعي عن سعيد بن عبيدة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "بني الإسلام على خمسة : على أو يوجد الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصيام رمضان، والحج" ، فقال رجال : الحج وصيام رمضان ، قال : "لا ، صيام رمضان والحج" هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم . 2- ... عن سعيد بن طارق قال حدثني : سعد بن عبيدة السلمي ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "بني الإسلام على خمس على أن يعبد الله ويكفر بما دونه ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان" . 3- ... وعن عاصم (هو ابن محمد بن زيد بن عبيد الله ابن عمر) عن أبيه قال : قال عبد الله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان . 4- ثم ساقه من رواية عكرمة بن خالد ، ولفظه مثل لفظ البخاري. ونلاحظ أيضاً أن فيها اختلافاً في الألفاظ ، واختلافاً في التقديم والتأخير بين الحج والصيام . وقد حاول الإمام النووي كعادته أن يوفق بين هذه الروايات بتعدد الواقعة أي أن ابن عمر سمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم على الوجهين. يتبع إن شاء الله...
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الأحد 13 يونيو 2021, 6:38 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: رد: منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها من خلال الجامع الصحيح السبت 13 أبريل 2013, 3:01 pm | |
| وقد استبعد الحافظ هذا الحل فقال: "ولا شك ي أن مثل هذا هنا بعيد جداً، فإنه لو سمعه على الوجهين، لم ينكر على من قال أحدهما، إلا أن يكون حينئذ ناسياً أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله على الوجه الذي أنكره والظاهر القوي أن راوي هذه الطريق قدم فيها الحج على الصيام، ورواه بالمعنى فقدم وآخر ولم يبلغه نهي ابن عمر -رضي الله عنه- عن ذلك محافظة على كيفية ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فهذا الحمل – وهو رواية بعض الرواة لهذه الطريق على المعنى أولى من تطرق النسيان إلى ابن عمر -رضي الله عنه- أو الإنكار للفظ الذي سمعه النبي صلى الله عليه وسلم". وقال الحافظ في الفتح في شرح لحديث ابن عمر من طري حنظلة عن عكرمة: "ووقع هنا تقديم الحج على الصوم، وعليه بنى البخاري ترتيبه، لكن وقع في مسلم من رواية سعد بن عبيدة، عن ابن عمر، بتقديم الصوم على الحج، قال: فقال رجل والحج وصيام رمضان، فقال ابن عمر: لا، صيام رمضان والحج، هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففي هذا إشعار بأن رواية حنظلة التي في البخاري مروية بالمعنى ، إما أنه لما يسمع رد ابن عمر على الرجل لتعدد المجلس ، أو حضر ذلك ثم نسيه ، ويبعد ما جوزه بعضهم أن يكون ابن عمر سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم على الوجهين ، ونسي أحدهما عند رده على الرجل . ووجه بعده أن طرق النسيان إلى الراوي عن الصحابي أولى من تطرقه إلى الصحابي ، كيف وفي رواية مسلم من طريق حنظلة بتقديم الصوم على الحج، ولأبي عوانة من وجه آخر عن حنظلة أنه جعل صوم رمضان قبل، فتنويعه دال على أن روى بالمعنى.
المطلب الثالث الإدراج وأثره في التعليل: قبل بيان أثر الإدراج في تعليل الأحاديث، نتحدث عن تعريفه لغة واصطلاحاً، ثم دوافعه، ثم نتطرق إلى كيفية تعامل الإمام البخاري مع الأحاديث المدرجة في صحيحه.
تعريف الإدراج لغة : الإدراج: لف الشيء بالشيء، والدرج لف الشيء، يقال: درجته، وأدرجته، والرباعي أفصحها، ودرج الشيء في الشيء درجاً، وأدرجه: طواه وأدخله.
تعريفه اصطلاحاً: "هو أن يدخل في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من كلام بعض الرواة فيتوهم من سمع الحديث أن هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم".
دوافع الإدراج: الذي يحمل الرواة على الإدراج أمور كثيرة من أهمها: 1- بيان حكم شرعي . 2- استنباط حكم شرعي . 3- شرح لفظ غريب في الحديث .
ويعرف الإدراك بأمور منها : 1- أن يستحيل إضافة ذلك النبي صلى الله عليه وسلم . 2- أن يصرح الصحابي أنه لم يسمع تلك الجملة من النبي صلى الله عليه وسلم . 3- أن يصرح بعض الرواة بفصل المدرج عن المتن المرفوع ، بإضافة اللفظ المدرج إلى قائله . فالإدراج إذن سبب لغير سياق الحديث سواء في سنده أو متنه ، ويكون سبباً للاختلاف بين الرواة ، فبعض الرواة يميز الحديث المرفوع عما فيه من إدراج ، والبعض يتوهم أن الألفاظ المدرجة من متن الحديث فيرويه كذلك دون تمييز ، فيكون لذلك حديثه معلولاً .
كيفية تعامل الإمام البخاري مع الأحاديث المدرجة في صحيحه: إن الأحاديث المدرجة نوع من أنواع الأحاديث المعلولة ، وبما أن الإمام البخاري قصد من "كتابه" جمع الأحاديث الصحيحة السليمة من العلل على اختلاف أنواعها وأجناسها، فهو من هذا المنطلق يستبعد الأحاديث المعلولة ، ومن ذلك الأحاديث المدرجة ، ومع ذلك نجد الإمام البخاري يخرج في صحيحه الأحاديث التي وقع فيها الإدراج بكيفيات مختلفة.
نحصرها فيما يلي: 1- تخريج الحديث المرفوع دون ما وقع فيه من إدراج . 2- تخريج الحديث من الطريق المميز فيها الإدراج . 3- تخريج الأحاديث المدرجة لوضوح الإدراج فيها ، أو مع الإشارة إليه إذا كان خفياً.
ونضرب أمثلة لكل حالة من الحالات من صحيح البخاري . تخريج الحديث المرفوع دون ما فيه من إدراج: هذا هو الأصل عند الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه هو تخريج الأحاديث الصحيحة دون ما فيها من أوهام سواء أكانت تلك الأوهام في الأسانيد أم في المتون، وسواء أكان الوهم بسب الإدراج أم الاختصار، أم الرواية بالمعنى، أم غير ذلك من الأسباب، هنا بأحاديث وقع فيها إدراج، أخرج البخاري الحديث المرفوع منها فقط دون المدرج.
المثال الأول: حديث أبو مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيده يعلمه التشهد: "التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي، ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد عبده ورسوله". فهذا الحديث يرويه البخاري وبقية الستة هكذا. وأخرجه الدرامي وفي آخره"... فإذا قلت ذلك فقد تمت صلاتك، فإن شئت فقم، وإن شئت فاقعد". فهذه الزيادة ليست من المرفوع، بين ذلك شبابة بن سوار فيما أخرجه الدار قطني وغيره وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، فيما أخرجه أبو يعلى والطبراني في الأوسط.
المثال الثاني: حديث عثمان -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه". هكذا رواه البخاري ومسلم ، ورواه الخطيب وزاد في آخره (وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه ، وذلك أنه منه) . فالمرفوع منه إلى قوله " وعلمه " وأما قوله "وفضل القرآن ... إلى آخره" مدرج من كلام أبي عبد الرحمن السلمي ، ميزه جماعة من الرواة منهم: ابن راهويه، وأبو مسعود، وأحمد بن الفرات الرازي، ويحيى بن أبي طالب.
المثال الثالث: حديث أبي جحيفة -رضي الله عنه- قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان الحسن يشبهه". هكذا روى البخاري ومسلم وغيرهما هذا الحديث. ورواه الخطيب وزاد في آخره وأتى بثوب من النصاب مكتوب عليه صورة شيطان فرمى به وقال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . وقصة الثوب مدرجة لأن أبا جحيفة هو الذي أتى بالثوب ، فقد رواها عنه مفردة إبراهيم بن حميد الرواسي . وقد يخرج البخاري أحياناً ببعض الأحاديث التي وقع فيها الإدراج من طريق يميز فيها رواتها المرفوع من المدرج .
ولذلك أمثلة نذكر منها ما يلي: المثال الأول: حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مات وهو يشرك بالله شيئاً دخل النار، ومَنْ مات وهو لا يشرك بالله دخل الجنة". هذا الحديث وهم فيه أحمد بن عبد الجبار العطاردي والمرفوع منه الجملة الأولى فقط، والثانية موقوفة . كذا ميزه جماعة من الرواة منهم الأعمش أخرجه الشيخان والنسائي. فهذا الحديث رواه البخاري من طريق الأعمش عن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار" وقلت أنا : من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة" .
المثال الثاني : حديث ابن عباس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر ، فأفطر الناس ، فكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه الشيخان . وقوله فكانوا يأخذون بالأحدث... ليس من قول ابن عباس ، بل هو مدرج من قول الزهري بينه معمر فيما أخرجه البخاري وابن إسحاق فيما أخرجه أحمد ، ورواه ابن خزيمة من طريق ابن عيينة فقال: لا أدري هل هو من قول ابن عباس أو من قوله عبد الله أو من قول الزهري.
المثال الثالث: حديث ابن عمر: إن رسول الله نهى عن القران إلا أن يستأذن الرجل أخاه. قال الخطيب: الاستثناء بالاستئذان من قول ابن عمر لا مرفوع، بينه آدم بن أبي إياس عن شعبة أخرجه البخاري وتابع آدم على فصل الوقوف من المرفوع شبابة بن سوار عن شعبة أخرجه الخطيب وعاصم بن علي عن شعبة، أخرجه الطيب، وقد فصله أيضاً عن شعبة سعيد بن عامر الضبعي. والحاصل أن أصحاب شعبة اختلفوا فأكثرهم رواه عنه مدرجاً ، وطائفة منهم رووا عنه التردد في كون هذه الزيادة مرفوعة أو موقوفة ، وشبابة فصل عنه ، وآدم جزم عنه بأن الزيادة من قول ابن عمر ، وتابعه سعيد بن عامر. وقد رجح الحافظ أنه لا إدراج في هذا الحديث واستدل لذلك بأن البخاري اعتمد هذه الزيادة وترجم عليها في كتاب المظالم، وفي الشركة، ولا يلزم من كون ابن عمر ذكر الإذن مرة غير مرفوع، أن لا يكون مستنده فيه الرفع. وقد يخرج البخاري الأحاديث التي وقع فيها الإدراج ولا يبينه إذا كان واضحاً، أو يشير إليه ويصرح به إذا كان خفياً .
وفيما يلي أمثلة على ذلك: المثال الأول: حديث عائشة رضي الله عنها في بدء الوحي "... وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه ، وهو التعبد الليالي ذوات العدد ...". فتفسير التحنث ليس من قول عائشة وإنما هو مدرج من كلام الزهري ولم يصرح البخاري بذلك لوضوح الإدراج فيه .
المثال الثاني: حدث أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المنابذة: وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى رجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه. ونهى عن الملامسة، والملامسة لمس الثوب لا ينظر إليه. فتفسير المنابذة والملامسة من قول الصحابي.
المثال الثالث: حديث ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة، والمزابنة اشتراء التمر بالتمر كيلاً، وبيع الكرم بالزبيب كيلاً. وتفسير المزابنة من كلام الصحابي. هذه أمثلة لأحاديث كثيرة وقع فيها الإدراج ورواها البخاري في صحيحه دون بيان له لوضوحه وأكثر هذه الأحاديث مما وقع فيه الإدراج لتفسير كلمات غريبة في المتن من الصحابي، أو ممن دونه وأحياناً يبين الإمام البخاري الإدراج - وهو أمر قليل جداً -فمن ذلك: ما رواه البخاري في صحيحه قال: "حدثنا عبد الله بن الصباح حديثنا المعتمر، قال: سمعت عوفاً قال: حدثنا محمد بن سيرين أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة . وما كان من النبوة، فإنه لا يكذب" قال محمد: وأنا أقول هذه . قال: وكان يقال الرؤيا ثلاث: حديث النفس، وتخويف الشيطان، وبشرى الله. فمن رأى شيئاً يكرهه فلا يقصه على أحد ، وليقم فليصل، قال: وروى قتادة ويونس وهشام ، وأبو هلال عن أبي سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأدرجه بعضهم كله في الحديث عوف أبين . وقال يونس : لا أحسبه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم في القيد. فقد أشار البخاري إلى الاختلاف الواقع في هذا الحديث من أصحاب ابن سيرين . فقتادة ويونس بن عبيد وهشام بن حسان ، وأبو هلال محمد بن سلم الراسبي رووا أصل الحديث ومنهم من رواه منهم من اقتصر على بعضه . وهشام في روايته عن أدرج الموقوف في المرفوع . وأما عوف الأعرابي فقد ميز في رواته الموقف عن المرفوع .
المبحث الرابع: زيادات الثقات وموقف البخاري منها: المطلب الأول: موقف العلماء والطوائف من زيادة الثقة . المطلب الثاني: نماذج لزيادات مقبولة عند الإمام البخاري . المطلب الثالث: نماذج لزيادات مردودة عند الإمام البخاري .
تمهيد: إن من أهم المسائل التي لها علاقة مباشرة بتعليل الأحاديث مسألة "زيادة الثقات"، وفي واقع الأمر أن هذه المسألة هي فرع عن مسألة المخالفة، لأن الراوي، إذا خالف غيره، فتارة ينقص عليهم، وتارة يزيد في السند أو في المتن. وقد اعتنى المحدثون والفقهاء بزيادات الثقات اعتناءً بالغاً ، فجمعوا الطرق ، وفتشوا الأسانيد والروايات . ليتمكنوا من الوقوف على تلك الزيادات لما لها من آثار مهمة في الفقه والحديث . ولأهمية المسألة أفردتها بمبحث خاص حتى أساهم في الإجابة على إشكال كبير طالما يواجهه المشتغلون بالحديث والتخريج ، فكثيراً ما يجدون في الأحاديث المروية أصولها في الصحيحين زيادات من طرف رواة ثقات ويترت على هذه الزيادات مسائل فقهية مهمة . لكن يفاجؤون لعدم ورودها في الصحيحين، رغم صحة أسانيدها، وأهمية متونها . فيقعون في الحيرة والتذبذب ، فمنهم من يبادر إلى قبولها بناء على صحة ظاهر الإسناد، وحال الراوي الذي انفرد بتلك الزيادة مدعمين موقفهم هذا بأن الشيخين لم يقصدا استيعاب كل الأحاديث الصحية . ومنهم من يردها ويرتاب في صحتها على أساس عدم ورودها في أصول دواوين الإسلام . ومنهم من يتلون فيقبلها تارة إذا وافقت مذهبه ومشربه ويردها إذا خالفت هواه . ويجد كل واحد من هؤلاء في كتب الحديث ومصطلحه ما يدعم به موقفه من الآراء المختلفة المنقولة عن العلماء. وأصبحت القواعد المقررة في علوم الحديث لا تكفي لرفع الخلاف لأن (القواعد المقررة في مصطلح الحديث ، منها ما يذكر فيه خلاف ، ولا يحقق الحق فيه تحقيقاً واضحاً. وكثيراً ما يختلف الترجيح باختلاف العوارض التي تختلف في الجزئيات كثيراً، وإدراك الحق في ذلك يحتاج إلى ممارسة طويلة لكتب الحديث والرجال والعلل مع حسن الفهم وصلاح النية). فمن الصعوبة بمكان الوقوف على قواعد المحدثين في مسألة ما من هذا العلم دون النظر في كتبهم المصنفة في الصحيح والعلل ، ودراسة ذلك دراسة متأنية ومتبصرة من غير مقررات مذهبية سابقة تحول دون الوصول إلى تقرير الحق . وقد أرشد إلى هذا الإمام الحاكم النيسابوري إذ يقول: "إن الصحيح لا يعرف بروايته فقط. وإنما يعرف بالفهم والحفظ وكثرة السماع، وليس لهذا النوع من العلم عون أكثر من مذاكرة أهل العلم والمعرفة . ليظهر ما يخفى من علة الحديث، فإذا وجد مثل هذه الأحاديث بالأسانيد الصحيحة غير مخرجة في كتابي الإمامين البخاري ومسلم. لزم صاحب الحديث التنقير عن علته ، ومذاكرة أهل المعرفة به لتظهر علته" .
ففي هذه الفقرة من الفوائد العلمية ما يكشف بعض الجوانب عن منهج الأئمة النقاد ونذكر منها ما يلي : 1- ليس اعتماد المحدثين في تصحيح الأحاديث على ظاهر الأسانيد فقط ، بل يضاف إليه النظر فيما يمكن أن يدخل الحديث من أوهام وأخطاء . 2- إدراك العلل والأوهام في الأحاديث يحتاج إلى سعة الحفظ والاطلاع على مختلف الطرق والروايات للحديث الواحد ، مع سلامة الفهم ، وحسن القصد . 3- الاهتمام البالغ بالصحيحين من قبل الأئمة ، واعتبارها المعيار الذي تحاكم إليه الأحاديث الأخرى . 4- لا يفهم من كلام الحاكم أن الأحاديث التي لم تخرج في الصحيحين كلها معلولة، وإنما المراد بذلك الطرق التي تشتمل على زيادات أو تفردات وكان ظاهر إسنادها صحيح. وهذا الفهم ضروري إذ لو كان المتبادر أن الأحاديث التي خارج الصحيحين كلها سقيمة ومعلولة ، ما ساغ للحاكم نفسه أن يصنف "المستدرك على الصحيحين" ولما ساغ أيضاً لمن جاء بعده كابن حبان ، وابن خزيمة ، وابن السكن وغيرهم أن يسموا كتبهم بالصحيح . ومن هنا يمكن القول بأن مراده تلك الطرق والزيادات التي يتركها الشيخان ، مع معرفتهما بها وحاجتهما إليها . إذ غالباً ما يتعلق بها فقه عظيم ، مع صحة سندها وتخريجهما لأصل الحديث دون تلك الزيادات . فما هي مبررات هذا الترك ؟ وهل دائماً الزيادة التي ينفرد بها الثقة مرفوضة ؟ وما هي معايير الرفض والقبول ؟ هذا ما سأحاول بمشيئة الله – توضيحيه في هذا المبحث من خلال نماذج مدروسة من صحيح البخاري . وقبل الإجابة على هذه الأسئلة يحسن بنا أن نذكر بمذاهب العلماء والطوائف حول "زيادة الثقة" .
المطلب الأول: موقف العلماء والطوائف من زيادة الثقة: لقد اختلفت أنظار العلماء وتباينت مواقفهم كثيراً ، من زيادات الثقات . واختلطت فيها أقوال المحدثين بأقوال الأصوليين وعلماء الكلام ، ونعرض في هذا المطلب لبيان تلك الآراء – على سبيل الاختصار – دون التعرض لذكر الأدلة ومناقشتها. وبما أن الزيادات قد تكون في الأسانيد كما تكون في المتون . فأقدم الحديث على زيادات الأسانيد وموقف العلماء منها ثم زيادات المتون.
القسم الأول: الزيادة في السند : تتمثل في اختلاف الوصل والإرسال والرفع والوقف أو زيادة راو في الإسناد وحذفه. وقد اختلف العلماء في هذا النوع على أربعة أقوال : القول الأول: ترجيح الوصل على الإرسال ، والرفع على الوقف: وإلى هذا الرأي ذهب كثير من الأئمة المتأخرين . قال الخطيب البغدادي: "وهذا القول هو الصحيح عندما لأن إرسال الحديث ليس بجرح لمن وصله ، ولا تكذيب له ، ولعله أيضاً مسند عند الذين رووه مرسلاً ، أو عند بعضهم، إلا أنهم أرسلوه لغرض أو نسيان ، والناسي لا يقضي على الذاكر وكذا حال راوي الخبر إذا أرسله مرة، ووصله أخرى ؛ لا يضعف ذلك إيصاله لأنه قد ينسى فيرسله ، ثم يذكر بعد فيسنده ، أو يفعل الأمرين معاً عن قصد منه لغرض له فيه". وقال ابن الصلاح: "وما صححه – أي الخطيب – هو الصحيح في الفقه والأصول". وقال الإمام النووي : "الصحيح بل الصواب الذي عليه الفقهاء والأصوليون ومحققو المحدثين أنه روي الحديث مرفوعاً وموقوفاً ، أو موصولاً ومرسلاً حكم بالرفع والوصل لأنها زيادة ثقة ، وسواء كان الرافع والواصل أكثر أو أقل في الحفظ والعدد".
القول الثاني: ترجيح الإرسال على الوصل والوقف على الرفع: وقد حكاه الخطيب البغدادي عن أكثر أصحاب الحديث . بالنسبة لترجيح الإرسال على الوصل، وأما ترجيح الوقف على الرفع فهو مثله فيأخذ حكمه .
القول الثالث: الحكم للأكثر: فإن كان من أرسله أكثر ممن وصله فالحكم للإرسال. وإن كان من وصله أكثر ممن أرسله فالحكم للوصل ، وكذا الرفع والوقف . لأن تطرق السهو والخطأ إلى الأكثر أبعد ، وقد حكى هذا القول الحاكم النيسابوري في "المدخل" عن أئمة الحديث.
القول الرابع: إن المعتبر ما قاله الأحفظ من وصل أو إرسال . فإذا كان من أرسله أحفظ ممن وصله، فالحكم لمن أرسله . وإن كان من وصل أحفظ ، فالحكم له.
وهذه الأقوال كلها نظرية فقط . وقد سبق أن نقلت في "مبحث المخالفة" أقوال بعض الحفاظ المتأخرين التي تبين أن منهج المحدثين على خلاف هذه الأقوال وبينت بالأمثلة المدروسة أن الترجيح خاضع للقرائن .
القسم الثاني: الزيادة في المتن : الخلاف في هذا النوع من الزيادة أكثر من النوع الأول .
ولقد نقلت فيه أقوال كثيرة هذه أهمها: القول الأول: ذهب الجمهور من الفقهاء وبعض المحدثين كابن حبان والحاكم وجماعة من الأصوليين منهم الغزالي في "المستصفى" وجرى عليه النووي في مصنفاته إلى أن زيادة الثقة مقبولة مطلقاً".
القول الثاني: أنها لا تقبل مطلقاً ، لا ممن رواه ناقصاً ولا من غيره . حكاه الخطيب في "الكفاية" عن قوم ، المحدثين، وابن الصباغ في "العدة".
القول الثالث: قبول الزيادة إذا كان الراوي لها غير الذي روى الحديث بدونها ، فأما إن كان راوي الحديث بدون الزيادة هو راويه مع الزيادة فإن هذه الزيادة لا تقبل وإلى هذا القول ذهبت فرقة من الشافعية .
القول الرابع: إن غيرت الإعراب لم تقبل، وإن لم تغير الإعراب. وكان عدد مرات ذكر الزيادة أكثر من الإمساك عنها قبلت . وإن كان العكس ردت وإن تساويا قبلت أيضاً . وقد ذهب إلى هذا فخر الدين الرازي.
القول الخامس: إن كان من لم يرو الزيادة قد انتهوا إلى عدد لا يتصور في العادة غفلة مثلهم عن سماع تلك الزيادة وفهمها . فإن هذه الزيادة لا تقبل ، سواء أبلغ الرواة للحديث بدونها حد التواتر أم لم يبلغوه ، وإن لم ينتهوا إلى هذا الحد قبلت . وإليه ذهب ابن الصباغ والآمدي وابن الحاجب والسمعاني .
القول السادس: تقبل الزيادة إذا سكت الباقون ممن لم يروها عن نفيها ، أما إذا صرحوا بنفي ما نقله عند إمكان اطلاعهم على نقله ، فهذا يعارض قول المثبت ويوهنه . وإليه ذهب إمام الحرمين الجويني.
القول السابع: إن الزيادة تقبل إذا أفادت حكما شرعياً ، وإلا فلا تقبل . ذكر الخطيب في الكفاية ولم ينسبه لمعين.
القول الثامن: وجوب قبول الزيادة من جهة اللفظ دون المعنى. وهذا القول أيضاً حكاه الخطيب في الكفاية ولم ينسبه لمعين.
القول التاسع: تقبل الزيادة في المتون في الفقهاء ولا تقبل من المحدثين الذين لا يهتمون بالفقه، وأن الزيادة في الإسناد فتقبل من المحدثين ولا تقبل من الفقهاء الذين لا يهتمون بالإسناد. وإلى هذا القول ذهب الإمام ابن حبان في مقدمة "صحيحه". هذه أهم مذاهب العلماء من محدثين وفقهاء وأصوليين ومتكلمين في زيادة الثقة. وأكثرها شهرة واستعمالاً القول بقبول زيادة الثقة مطلقاً . وقد نسبه كثير من العلماء إلى جمهور المحدثين ولكن الواقع العلمي النقدي لأئمة الحديث يرده .
وقد نبه على هذا الإمام الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى فقال : "اشتهر عن جمع مع العلماء القول بقبول الزيادة مطلقاً ، من غير تفصيل ، ولا يتأتى ذلك على طريق المحدثين الذين يشترطون في الصحيح أن لا يكون شاذاً ثم يفسرون الشذوذ بمخالفة الثقة من هو أوثق منه ، والعجب ممن أغفل منهم مع اعترافه باشتراط انتفاء الشذوذ في حد الحديث الصحيح ، وكذلك الحسن . والمنقول عن أئمة الحديث المتقدمين كعبد الرحمن بن مهدي ، ويحيى القطان، وأحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وعلي بن المديني والبخاري ، وأبي زرعة ، وأبي حاتم ، والنسائي ، والدار قطني وغيرهم اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها ، ولا يعرف عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة. إذن فمنهج الأئمة ليس هو قبول الزيادة من الثقة مطلقاً ، أو ردها مطلقاً ، وإنما الأمر يدور مع القرائن والمرجحات . وفيما يلي نماذج لزيادات ثقات ردها الإمام البخاري ، وأخرى قبلها موضحاً القرائن التي اعتمد في القبول أو الرد . ومشيراً إلى أثر تلك الزيادات في الأحكام الفقهية.
المطلب الثاني نماذج لزيادات مقبولة عند الإمام البخاري: المثال الأول : قال البخاري – رحمه الله - : "حدثنا محمد (هو ابن سلام)، قال: حدثنا أبو معاوية حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : جاء فاطمة ابنة أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : إني امرأة أستحاض فلا أطهر . أفأدع الصلاة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا إنما ذلك عرق وليس بحيض . فإذا أقبلت حيضك فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي" . قال : وقال أبي : "ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت".
وقال البخاري أيضاً : حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة –رضي الله عنها- قالت : قالت فاطمة بنت حبيش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله إني لا أطهر أفأدع الصلاة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما ذلك عرق ليس بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي".
وقال البخاري أيضاً : حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا سفيان عن هشام عن أبيه عن عائشة أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي" .
وقال أيضاً : حدثنا أحمد بن أبي رجاء ، قال : حدثنا أبو أسامة قال : سمعت هشام بن عروة قال: أخبرني أبي عن عائشة أن فاطمة بنت حبيش سألت النبي صلى الله عليه وسلم قالت : إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة ؟ فقال : "لا إن ذلك عرق ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين ، ثم اغتسلي وصلي" .
وقال أيضاً : حدثنا أحمد بن يونس عن زهير ، قال : حدثنا هشام بن عروة عن عائشة قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي". هذه طرق هذا الحديث في صحيح البخاري ، ونلاحظ أنها متفقة في سياق المتن إلا أن في الطريق الأولى زيادة تفرد بها أبو معاوية وهي (ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت) فهل هذه الزيادة محفوظة ، وما موقف البخاري منها ؟ وقد أدعى بعضهم بأن أبا معاوية فقد انفرد بهذه الزيادة . ولم ينفرد أبو معاوية بذلك فقد رواه النسائي عن طريق حماد بن زيد عن هشام ، وأدعى أن حماداً تفرد بهذه الزيادة . قال أبو عبد الرحمن : لا أعلم أحداً ذكر في هذا الحديث "وتوضئ" غير حماد بن زيد وقد روى غير واحد عن هشام ، ولم يذكر فيه "وتوضئ" . وأومأ مسلم إلى ذلك أيضاً حيث قال بعد روايته لهذا الحديث من طريق حماد بن زيد وغيره في حدث حماد زيادة حرف تركنا ذكره . يتبع إن شاء الله...
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الأحد 13 يونيو 2021, 6:51 pm عدل 1 مرات |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| |
| |
| منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها من خلال الجامع الصحيح | |
|