العناية بالفروسية والحياة العسكرية:
من الحقائق المؤلمة أن الشعوب العربية قد فقدت كثيراً من خصائصها العسكرية، ورزئت في فروسيتها التي كانت معروفة بها في العالم، فكانت رزيئة كبيرة وخسارة فادحة، وكانت سبباً من أسباب ضعفها وعجزها في ميدان الجهاد، فقد اضمحلت الروح العسكرية، وضعفت الأجسام ونشأ الناس على التنعم، وقد حلت السيارات محل الجياد حتى كادت الخيل العربية تنقرض من الجزيرة العربية، وهجر الناس المصارعة والمناضلة وسباق الخيل وأنواع الرياضة البدنية والتدريبات العسكرية، واستبدلوا بها ألعاباً لا تفيدهم شيئاً، فالمهم لرجال التعليم والتربية قادة الشعوب العربية أن يربوا الشبيبة العربية على الفروسية والحياة العسكرية، وعلى البساطة في المعيشة وخشونة العيش والجلادة وتحمل المشاق والمتاعب، والصبر على المكروه!.
وقد كتب المربي الكبير أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى بعض عماله العرب وهم في بلاد العجم: ((إياكم والتنعم وزي العجم وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب، وتمعددوا (254)، واخشوشنوا (155)، واخشوشبوا (256)، واخلولقوا (257)، وأعطوا الركب أسنتها، وانزوا نزوا، وارموا الأغراض (258))).
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً (259) )) وقال: ((ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي (260))).
ومن واجب رجال التربية وولاة الأمر أن يحاربوا بكل قوتهم ما يضعف روح الرجولة والجلادة ويبعث على التخنث والعجز ، من عادات وأدب وصحافة وتعليم ، ويأخذوا على يد الصحافة الماجنة والأدب الخليع الملحد ، الذي ينشر في الشباب النفاق والدعارة والفسوق ، وعبادة اللذة والشهوات ، ولا يسمحوا لهؤلاء التجارة الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا أن يدخلوا في معسكر محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعث ليتمم مكارم الأخلاق، ويفسدوا على الناشئة الإسلامية قلبها وأخلاقهم، ويزينوا لها الفسوق والعصيان، وحب الفحشاء، بثمن بخس دراهم معدودة، وقد شهد التاريخ بأن كل أمة أصيب رجالها في رجولتهم وغيرتهم، ونساؤها في أنوثتهن وأمومتهن، وطغى فيهن التبرج، ومزاحمة الرجال في كل شيء، والزهد في الحياة المنزلية، وحبب إليهن العقم، أفل نجمها وكسفت شمسها، فأصبحت أثراً بعد عين.
هذه كانت عاقبة اليونان والرومان والفرس، وإن أوربا لفي طريقها إلى هذه العاقبة، فليحذر العالم العربي من هذا المصير الهائل.
محاربة التبذير والفرق الهائل بين الغني والصعلوك:
وقد اعتاد العرب لأسباب كثيرة وبتأثير الحضارة الغربية حياة الترف والدعة والاعتداد الزائد بالكماليات وفضول الحياة والإسراف والتبذير، والاستهانة بمال الله في سبيل اللذة والشهوة والفخر والزينة.
وبجانب هذا الترف والنعيم وحياة البذخ والتبذير، جوع وعري وفقر فاضح، يرى الناظر مناظرة الشائنة في عواصم البلاد العربية فتدمع العين ويحزن القلب وينتكس الرأس حياء وخجلاً، فبينا هنالك رجل عنده فضول الثياب وزائدة الطعام والشراب لا يعرف كيف يستهلكه، إذ ببدوي لا يجد قوت يومه وكسوة جسمه، وبينما أمراء العرب وأغنياؤهم على سيارات تباري الريح وتثير النقع، إذا بفوج من النساء والأطفال عليه ثياب سوداء قد أصبحت خيوطاً من طول اللبس يعدو لأجل فلس أو قرص، فما دامت المدن العربية تجمع بين القصور الشامخة والسيارات الفاخرة، وبين الأكواخ الحقيرة والبيوت المتداعية الضيقة المظلمة، وما دامت التخمة والجوع يزخران في مدينة واحدة، فالباب مفتوح على مصراعيه للشيوعية والثورات والاضطراب والقلق لا تقفها دعاية ولا قوة، وإذا لم يسد النظام الإسلامي في بلاده بجماله واعتداله يحل محله نظام جائر بعسفه وقهره عقاباً من الله كرد فعل عنيف.
التخلص من أنواع الأثرة:
لقد أتى على العالم العربي عهد في التاريخ كانت الحياة فيه تدور حول فرد واحد -وهو شخص الخليفة أو الملك- أو حول حفنة من الرجال -هم الوزراء وأبناء الملك- وكانت البلاد تعتبر ملكاً شخصياً لذلك الفرد السعيد والأمة كلها فوجاً من المماليك والعبيد، ويتحكم في أموالهم وأملاكهم ونفوسهم وأغراضهم، ولم تكن الأمة التي كانت يحكم عليها إلا ظلاً لشخصه ولم تكن حياتها إلا امتداداً لحياته.
لقد كانت الحياة تدور حول هذا الفرد بتاريخها وعلومها وآدابها وشعرها وانتاجها، فإذا استعرض أحد تاريخ هذا العهد أو أدب تلك الفترة من الزمان وجد هذه الشخصية تسيطر على الأمة أو المجتمع، كما تسيطر شجرة باسقة على الحشائش والشجيرات التي تنبت في ظلها وتمنعها من الشمس والهواء، كذلك تضمحل هذه الأمة في شخص هذا الفرد وتذوب فيه وتصبح أمة هزيلة لا شخصية لها ولا إرادة، ولا حرية لها ولا كرامة.
وكان هذا الفرد هو الذي تدور لأجله عجلة الحياة، فلأجله يتعب الفلاح ويشتغل التاجر ويجتهد الصانع، ويؤلف المؤلف وينظم الشاعر، ولأجله تلد الأمهات، وفي سبيله يموت الرجال وتقاتل الجيوش، بل ولأجله تلفظ الأرض خزائنها ويقذف البحر نفائسه وتستخرج كنوز الأرض خيراتها.
وكانت الأمة -وهي صاحبة الإنتاج وصاحبة الفضل في هذه الرفاهية كلها- تعيش عيش الصعاليك، أو الأرقاء المماليك، وقد تسعد بفتات مائدة الملك وبما يفضل عن حاشيته فتشكر، وقد تُحرم ذلك أيضاً فتصبر، وقد تموت فيها الإنسانية فلا تنكر شيئاً بل تتسابق في التزلف وانتهاز الفرص.
هذا هو العهد الذي ازدهر في الشرق طويلاً وترك رواسب في حياة هذه الأمة ونفوسها وفي أدبها وشعرها، وأخلاقها واجتماعاتها، وخلّف آثاراً باقية في المكتبة العربية، ومن هذه الآثار الناطقة كتاب (( ألف ليلة وليلة )) الذي يصور ذلك العهد تصويراً بارعاً، يوم كان الخليفة في بغداد أو الملك في دمشق أو القاهرة، هو كل شيء، وبطل رواية الحياة ومركز الدائرة إن هذا العهد الذي يمثله كتاب (( ألف ليلة وليلة )) بأساطيره وقصصه، وكتاب الأغاني بتاريخه وأدبه، لم يكن عهداً إسلامياً، ولا عهداً طبيعياً معقولاً، فلا يرضاه الإسلام ولا يقرّه العقل، بل إنما جاء الإسلام بهدمه والقضاء عليه، فقد كان هذا هو العهد الذي بعث فيه محمد صلى الله عليه وسلم فسماه الجاهلية ونعى عليه وأنكر على ملوكه -ككسرى وقيصر- وعلى أثرتهم وترفهم أشد الإنكار.
إن هذا العهد غير قابل للبقاء والاستمرار في أي مكان وفي أي زمان ولا سبيل إليه إلا إذا كانت الأمة مغلوبة على أمرها أم مصابة في عقلها أو فاقدة الوعي والشعور أو ميتة النفس والروح.
إن هذا الوضع لا يقره عقل، ومن الذي يسوّغ أن يتخم فرد أو بضعة أفراد بأنواع الطعام والشراب ويموت آلاف جوعاً ومسبغة، ومن الذي يسوغ أن يعبث ملك أو أبناء ملك بالمال عبث المجانين، والناس لا يجدون من القوت ما يقيم صلبهم ومن الكسوة ما يستر جسمهم، ومن الذي يسوغ أن يكون حظ طبقة -وهي الكثرة- الإنتاج وحده والكدح في الحياة والعمل المضني الذي لا نهاية له، وحظ طبقة -وهي لا تجاوز عدد الأصابع- إلا التلهي بثمرات تعب الطبقة الأولى من غير شكر وتقدير وفي غير عقل ووعي، ومن الذي يسوغ أن يشقى أهل الصناعة وأهل الذكاء وأهل الاجتهاد وأهل المواهب وأهل الصلاح، وينعم رجال لا يحسنون غير التبذير ولا يعرفون صناعة غير صناعة الفجور وشرب الخمور؟!
ومن الذي يسوغ أن تُجفى أهل الكفاية وأهل النبوغ وأهلا الأمانة ويقصوا كالمنبوذين ويجتمع حول ملك أو أمير فوج من خساس النفوس وسخفاء العقول وفاقدي الضمائر ممن لا همَّ لهم إلا ابتزاز الأموال وإرضاء الشهوات.