منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 أحكام الشريعة الإسلامية

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

أحكام الشريعة الإسلامية Empty
مُساهمةموضوع: أحكام الشريعة الإسلامية   أحكام الشريعة الإسلامية Emptyالجمعة 13 يناير 2012, 12:59 am

أحكام الشريعة الإسلامية

المبحث الأول: تعريف الشريعة الإسلامية

المبحث الثاني: الحاجة إلى الشريعة الإسلامية

المبحث الثالث: نشأة الشريعة الإسلامية وتطورها

المبحث الرابع: سمات الشريعة الإسلامية وكمالها



المبحث الأول

تعريف الشريعة الإسلامية

يراد (بالشريعة) كل ما شرعه الله للمسلمين من دين، سواء أكان بالقرآن الكريم نفسه، أم بسنة الرسول r؛ فهي، لهذا، تشمل أصول الدين، أي ما يتعلق بالله وصفاته والدار الآخرة وغير ذلك من بحوث علم التوحيد.

كما تشمل ما يرجع إلى تهذيب المرء نفسه وأهله، وما يجب أن تكون عليه العلاقات الاجتماعية، وما هو المثل الأعلى الذي يجب أن يعمل لبلوغه أو مقاربته، وما هي الطرق، التي بها يصل إلى هذا المثل، أو الغاية من الحياة، وذلك كله هو ما يعرف باسم علم الأخلاق.

ومع هذا و ذاك، تشمل الشريعة أحكام الله في جميع الأعمال: من حل، وحرمة، وكراهة وندب، وإباحة. وذلك ما نعرفه اليوم باسم (الفقه) المرادف لكلمة (قانون) في عرف المعاصرين.

وفي ذلك نجد أحد الذين عنوا عناية فائقة بتحقيق مصطلحات العلوم، وهو محمد علي التهانوي يقول: "الشريعة ما شرع الله لعباده من الأحكام، التي جاء بها نبي من الأنبياء، صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم، سواء كانت متعلقة بكيفية عمل، وتسمى فرعية وعملية، ودون لها علم الفقه، أو بكيفية الاعتقاد، وتسمى أصلية واعتقادية، ودون لها علم الكلام".

إلى آخر ما جاء في مادة (شريعة)، مما فيه التفرقة واضحة بينها وبين الفقه، وإذ كان قد ذكر ما يفيد أنها قد يراد بها الفقه في بعض الأحيان من باب إطلاق العام، ويراد به الخاص.

ومن قبل "التهانوي" نرى أبا إسحاق الشاطبي، يفرق، عرضًا، بين الشريعة والفقه. وذلك، بأنه، وهو يتكلم في المقدمة العاشرة لكتابه "الموافقات في أصول الشريعة"، يقول: "إن معنى الشريعة أنها تحد للمكلفين حدودا في أفعالهم وأقوالهم واعتقاداتهم، وهو جملة ما تضمنته".

ومعنى هذا، أن الشريعة مرادفة للدين، وليس يراد بها الفقه وحده؛ لأن الفقه لا يتعرض للاعتقادات، كما نعرف جميعا، بل ذلك موضوع علم الكلام أو التوحيد.

وقد عرفت اللغة العربية كلمة "شريعة" قبل كلمة "فقه" بزمن طويل، ذلك بأننا نجد مادة (شرع)، ومشتقاتها وردت في كثير من آي القرآن الكريم، بل نجد كلمة "شريعة" نفسها جاءت في قوله تعالى ]ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ[ (سورة الجاثية: الآية 18). وهذا في مقابلة الشريعة اليهودية، والشريعة النصرانية، ويراد بها الدين بصفة عامة.

على حين أن كلمة "فقه" لم تعرفها لغة العرب بمعناها الذي نريده اليوم، إلا بعد مضي صدر من الإسلام، وفي هذا يقول ابن خلدون، في الفصل الذي عقده للكلام عن علم الفقه وما يتبعه من الفرائض: "الفقه معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين، بالوجوب، والحظر، والندب، والكراهة، والإباحة، وهي متلقاة من الكتاب والسنة، وما نصبه الشارع لمعرفته من الأدلة، فإذا استخرجت الأحكام من تلك الأدلة، قيل لها: "فقه".

ويذكر بعد هذا أن هؤلاء، الذين يستخرجون هذه الأحكام، كانوا يسمون في فجر الإسلام بالقراء. تمييزا لهم من الذين لم يكونوا يقرؤون الكتاب الكريم، إذ كان العرب أمة أمية، كما نعلم. "ثم عظمت أمصار الإسلام وذهبت الأمية من العرب، بممارسة الكتاب وتمكن الاستنباط وكمل (الفقه)، وأصبح صناعة وعلمًا، فبدلوا اسم الفقهاء والعلماء من القراء".

****************************

المبحث الثاني

الحاجة إلى الشريعة الإسلامية

والفقه الإسلامي، مثله مثل كائن حي مادي، أو معنوي، لا ينشأ من لا شيء، ولا يبلغ كماله طفرة واحدة، بل ينشأ من شيء موجود سابق عليه، ويأخذ في السير متدرجا في مراتب الحياة والوجود، حتى يبلغ أقصى ما يقدر له من نضج وكمال، ثم ينال منه الزمن، وأحداثه حتى يدركه الهرم.

والعرب الذين نزل القرآن الكريم بلغتهم، وأصبحوا حملة الإسلام ودعاته، وناشريه في أقطار الأرض، كانوا أمة أمية حقا، ليس لها ما لجيرانها من الروم والفرس، من علوم، وفلسفات، وثقافة عالية.

إنهم لم يكونوا يعنون إلاّ بعلم اللسان، واللغة، والشعر، وبرواية السير، والتاريخ، وبشيء من علم التنجيم، اضطرتهم إليه ظروف الحياة، وعرفوه من التجربة (لا على طريق تعلم الحقائق ولا على سبيل التدريب في العلوم)، كما يقول صاعد الأندلسي المتوفى عام 462 هـ.

ونجد غير (صاعد) هذا، يتعرضون قصدا أو عرضا لحالة العرب العلمية، قبل الرسالة الإسلامية، والباحث يرى الكثير من ذلك فيما رواه العلماء الأثبات، وحفظه لنا التاريخ الصادق الأمين.

ومن هؤلاء العلماء، نجد أبا إسحاق الشاطبي، الذي يذكر أن العرب كان لهم اعتناء بعلوم ذكرها الناس، ومن هذه العلوم "علم النجوم" وما يختص بها من الاهتداء في البر والبحر، واختلاف الأزمان باختلاف سيرها، وتعرف منازل سير النيرين، وما يتعلق بهذا المعنى، وهو معنى مقرر في آيات القرآن الكريم في مواضع كثيرة.

ومنها، علوم "الأنواء"، وأوقات نزول الأمطار ونشوء السحاب وهبوب الرياح المثيرة لها. وهنا نجد الشرع، القرآن الكريم والحديث، قد جاء ببيان حقها من باطلها.

ومنها، علم الطب، الذي كان يقوم على التجارب، لا على الأصول، التي عرفها الأوائل من حكماء اليونان، إلى آخر ما قال فيما يتصل بعلم التاريخ ومعارف أخرى.

وقد كان للعرب مع ذلك، بطبيعة الحال، شيء من القوانين تحكم حياتهم ومعاملاتهم، قوانين لم تصدر حقا عن سلطة تشريعية، كما صار الحال، بعد أن جاء الإسلام، ولكنها كانت أوضاعا وتقاليد وأعرافا. استفادوا أكثرها من البلاد، التي كانوا يعيشون بجوارها، ويتصلون بها اتصالات عرفها التاريخ. ومن هذه البلاد: "الشام"، وقد كان قطرا يطبق فيه القانون الروماني، "والعراق"، حيث كان يسود القانون الفارسي، فضلاً عمن كان في "يثرب" ـ والتي سميت بـ "المدينة"، فيما بعد ـ من اليهود، وقد كان لهم قانونهم وتشريعاتهم المستمدة من الديانة اليهودية، بعد مَا دخلها التحريف والتبديل.

وإلى جانب ذلك نعرف، من تاريخ الأمم والشعوب، أنه كان لكل مجتمع، مهما كانت درجته من الحضارة والرقي الفكري والعملي، حظه من قواعد قانونية يجري عليها، في معاملاته، وعقوده، وتصرفاته المالية، وفي المسائل الشخصية، التي تبنى عليها الأسرة كالزواج ونحوه، وفي علاج جرائم المجتمع، بوضع العقوبات الزاجرة عنها الرادعة لمن يقترفون شيئا منها، وفي غير هذا كله من الشؤون ومسائل الحياة ومشاكلها.

والمجتمع العربي، في شبه جزيرة العرب قبل الإسلام، لم يشذ طبعاً عن هذا الأصل، الذي يقوم عليه بقاء الشخص والنوع والاجتماع والعمران.

عرف العرب في جاهليتهم قواعد قانونية كثيرة، قام عليها مجتمعهم، وكان ذلك في نواح شتى من النواحي، التي عالجها الإسلام فيما بعد. بما جاء به من فقه وتشريعات، وقد أقر الرسول،صلى الله عليه وسلم كثيراً من هذه القواعد، والمبادئ، التي كانت قد تبلورت فصارت أعرافا ينزلون على حكمها، فما كان الإسلام ليغير كل ما كانت عليه الأمة العربية، حتى ما كان صالحاً لبناء مجتمع صالح للحياة الطيبة، ومن ثم، لنا أن نقرر أن الإسلام طرأ على مجتمع له تقاليده وأعرافه وحياته القانونية.

لقد عرف العرب كثيرًا من ضروب المعاملات، كالبيع، والرهن، والشركة، والمضاربة، والإجارة، والسلم. وأقر الإسلام، في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله الأمين، صلى الله عليه وسلم، وفعله وتقريره، غير قليل من أنواع هذه التصرفات، والعقود حين وجدها صالحة للبقاء، وحرم وألغى ما كان غير صالح منها.

وكان من هذا الذي حرمه الربا، لأن فيه أكل أموال الناس بالباطل، كما كان، مما نهى عنه، أنواع من البيوع ـ سيجيء الكلام عنها ـ لما تؤدي إليه من غرر ومنازعات. وهذه الإشارة تحتاج إلى بعض الإيضاح، فلنذكر من الشواهد والأدلة ما يدل على ذلك، الذي نشير إليه.

قال الرسول، r، للسائب بن أبى السائب، وقد جاءه يوم الفتح ]كُنْتَ شَرِيكِي فَنِعْمَ الشَّرِيكُ كُنْتَ لا تُدَارِي وَلا تُمَارِي[ (سنن أبو داود، الحديث الرقم 4196)، وقد روي أيضاً بألفاظ أخرى. وقال ابن هشام، وهو يتحدث عن زواج الرسول r، بخديجة بنت خويلد: "وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم".

من هذين الخبرين، نرى أن العرب عرفوا عقد الشركة، والإجارة، والمضاربة، وهي عقود أقرها الإسلام؛ لأن الحياة العملية لا تقوم بدونها، ثم وضع "الفقه" فيما بعد قواعدها، وشروطها، وحدودها، وذلك ليكون الغرض منها مصلحة المتعاقدين معا، في حدود شرع الله.

كما عرف العرب عقد السلم، وهو شراء الشيء، الذي لم يوجد بعد، بثمن عاجل حال، ولهذا نجد الرسول r، حين ينهى عن بيع المعدوم، لما فيه من الغرر والخطر، يستثنى السلم؛ إذ كان نوعا من المعاملات التجارية المعروفة قبل الإسلام، وبخاصة عند أهل يثرب، ولما يكون في منعه من الحرج، والتضييق على الناس.

وفي هذا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عَنْهُمَا، قَالَ ]قَدِمَ النَّبِيُّ، r، الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ بِالتَّمْرِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاَثَ، فَقَالَ: "مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 2086).

وفي ناحية ما يسمي اليوم في الفقه (بالأحوال الشخصية)، نراهم عرفوا ضروباً مختلفة، من صلة الرجل بالمرأة، وقد أقر الإسلام منها ما يتفق والشريعة، وحرم الأنواع الأخرى، التي لم تكن إلاّ سفاحاً صريحاً.

وفي ذلك تقول عائشة، رضى الله عنها: ]إنَّ النِّكَاحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ يَخْطُبُ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ أَوْ ابْنَتَهُ فَيُصْدِقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 4732). فهذا هو عقد الزواج الذي أقره الإسلام، ووضع له أصوله وحدوده، ليقوم به بيت صالح وأسرة طيبة هي أساس المجتمع، ولم يكن بد فيه من الخطبة والمهر، كما كانت المرأة لا تزوج إلاّ بإذنها.

جاء في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني: "أن الحارث بن عوف المري وفد على أوس بن حارثة الطائي، يخطب إليه إحدى بناته، وكان له ثلاث بنات، فعرض الأمر على الكبرى والوسطى فأبتا، ثم خاطب الصغرى فقال: هذا الحارث بن عوف، سيد من سادات العرب، جاء طالبًا خاطبًا: فقالت: أنت وذاك، فأخبرها بإباء أختيها، فقالت: لكني والله للجميلة وجهًا، الصناع يداً، الرفيعة خلقًا، الحسيبة أبًا، فإن طلقني فلا أخلف الله عليه بخير"، فزوجها الحارث.

إذاً، قد عرف العرب قبل الإسلام، ما أقره الإسلام من الزواج حين جاء، كما عرفوا أيضا فسخ الزواج بالطلاق، وإن لم يكونوا يتقيدون بعدد في الطلاق.

فعَنْ عَائِشَة، رضى الله عنها ، قَالَتْ: ]كَانَ النَّاسُ وَالرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ مَا شَاءَ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَهِيَ امْرَأَتُهُ إِذَا ارْتَجَعَهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ طَلَّقَهَا مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ[ (سنن الترمذي، الحديث الرقم 1113)، ولذلك نزل القرآن الكريم بتحديد عدد الطلقات، وبأنه ليس للزوج بعد الثالثة مراجعة.

وعلى ذلك النحو من صلة الرجل بالمرأة بطريق الزواج، الذي تتقدمه خطبة الزوجة من وليها، نجد زواج الرسول، r بالسيدة خديجة، رضي الله عنها.

فقد روى أبو العباس المبرد المتوفى في عام 285هـ، أن أبا طالب خطب في هذا الزواج فقال: الحمد لله، الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وجعل لنا بلداً حراماً، وبيتاً محجوجاً، وجعلنا الحكام على الناس. ثم إن محمد بن عبدالله ابن أخي ممن لا يوازن به فتى من قريش، إلاّ رجح عليه: "براً وفضلاً وكرماً، وعقلاً ومجداً ونبلاً، وإن كان في المال قُلاً، فإن المال ظل زائل، وعارية مسترجعة. وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصداق فعلي.

ويروي ابن هشام في سيرته أن أبا طالب قال: "ومحمد من قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد، وبذل لها من الصداق ما آجله، وعاجله كذا من مالي، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطب جليل جسيم"، وكان أن تم الزواج، وقام بتزويجها عمها عمرو بن أسد، وابن عمها ورقة بن نوفل، بشهادة صناديد قريش.

من هذا، نرى أن عقد زواج الرسول r، جرى على ما جاء به الإسلام بعد، من صداق يدفع للمرأة، وقيام وليها به، وشهادة ملأ من الناس؛ ليتوافر له ركن العلانية، تمييزا له عن الزنى، والسفاح، ولا عجب! فهو زواج من أعده الله لحمل رسالته، وصانه من أوضار الجاهلية.

وبعد ناحية الأحوال الشخصية، نجد في باب العقوبات، أنهم كانوا يقولون: "القتل أنفى للقتل"، أي أن عقوبة القتل العمد هي القصاص من القاتل، على حين كانت عقوبة القتل الخطأ هي الدية. ولم يقر الإسلام عقوبة القتل العمد والخطأ على ما كان عليه العمل قبله فقط، بل أقر كذلك ما يعرف بالقسامة[1]. حين يقتل قتيل في محلة ولا يدرى قاتله. ففي صحيح مسلم أن النبي r أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية، كما ذكر البخاري في صحيحه صفتها في الجاهلية، في حديث طويل يبين منه أن الرسول r، قضى بها حين قُتِلَ رجل من الأنصار في أرض لليهود، ولم يعرفوا من قتله منهم.

وهكذا عرفنا أنه مهما كان ما عرفه العرب قبل الإسلام من قواعد ومبادئ قانونية، في هذه الناحية، أو تلك من نواحي الحياة العملية، فلا نستطيع أن نزعم أنهم وصلوا من ذلك إلى ما يكفي ليقوم عليه مجتمع سليم، وأمة صالحة للحياة، وما كان يمكن أن يكون الأمر إلاّ كذلك. ونصيب العرب في الجاهلية من الرقي، والحضارة كان نصيبا محدودا إلى درجة كبيرة، ومن أجل هذا وغيره، كانت الحاجة ماسة جدًا إلى الإسلام، وشريعته.

أجل، ظهر الإسلام والعرب، بل العالم كله، في أشد الحاجة إليه، فآتاهم العقيدة الحقة، والشريعة الصحيحة، والنظم، التي يقوم عليها المجتمع، والأمة، لتسهم في بعث العالم، ونهضته، وإخراجه من الظلومات إلى النور، وكان من هذه الشريعة والنظم، ما نسميه بالفقه، أو التشريع الإسلامي.

************************
[1] القسامة: هي حلف خمسين من أهل المحلة، التي وجد فيها القتيل بتخيرهم وليه، بأنهم ما قتلوه ولا عرفوا له قاتلا. ثم يقضى بالدية على أهل المحلة جميعا. من ناحية نظام الأسرة والمعاملات والعقوبات والنظام القضائي، وهو بحث قيم في بابه.

**************************************************************

المبحث الثالث

نشأة الشريعة الإسلامية وتطورها

وهذا "التشريع"، كما نعرفه اليوم، لم ينشأ مرة واحدة كاملا، بل تدرج في مراحل مختلفة، حتى بلغ ما قدر الله له من نضج وكمال، شأنه في هذه الظاهرة شأن كل كائن وجد، وعرف نور الحياة.

على أن الرسول، r، لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى، حتى كان التشريع قد استكمل أهم أصوله، التي قام عليها، واستوى فيما بعد، إذ انقضى بوفاة الرسول r، عهد وضع الشريعة في أسسها وأصولها، فلم يبق للعلماء، والفقهاء بعده، إلاّ الرجوع إلى ما تم في حياته، واستلهام ما أوحى الله إليه من كتاب وسنة، ثم التفريع والتطبيق حسب الظروف، والزمان، والمكان، والمصالح العامة.

بدأ التشريع ينشأ ويتكون، وعماده القرآن الكريم، ثم السنة على اختلاف ضروبها: قوليه، أو فعلية، أو تقريرية. ولم تستمر هذه الفترة إلاّ سنوات قليلة، هي اثنتان وعشرون سنة وأشهر، وفيها نزل القرآن الكريم، وتم نزوله التشريعي بقوله تعالى: ]حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[ (سورة المائدة: الآية 3)[1].

وهنا يجدر بنا أن نلاحظ أن ما نزل من القرآن الكريم بمكة، وهو أقل بقليل من الثلثين من مجموعه، لم يشتمل على كثير من التشريع الفقهي، إذ كان المقصود الأول فيه هو الدعوة إلى الله وتوحيده، ونبذ ما كان يعبد الناس قبل الإسلام من مختلف المعبودات، وإقامة الأدلة على ذلك، وعلى وجود الدار الأخرى، وتسلية الرسول r، فيما كان يلقاه، في سبيل الدعوة، من شدائد، بضرب الأمثال له بقصص أسلافه من الرسل، والأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، أما التشريعات الفقهية التفصيلية، فقد نزل الجانب الأكبر منها في السور المدنية، وهي بالنسبة إلى مجموع القرآن الكريم أكثر من الثلث بقليل.

ولا عجب في أن يكون هذا منهج القرآن الكريم! إن المهم الأول كان صرف الناس عن الأديان الباطلة، وتوجيهم للدين الحق، وكان هذا يتطلب بلا ريب، إقامة الحجج، والأدلة على صحة ما يدعو إليه.

على أن الجانب المكي من القرآن الكريم لم يخل، مع ذلك، من بعض التشريعات العملية ولكن على طريق الإجمال لا التفصيل. وبعد أن تم للرسول r، النصر، ولدينه الحق الثبات، كان قد آن أن يتنـزل الوحي بالتشريعات المفصلة، التي لابد منها لتنظيم حياة المسلمين، ومعاملاتهم، ومجتمعاتهم على هدى الله وما فيه مصلحتهم، وكان محل هذا كله في المدينة.

حقًا، لقد بدأت دولة الإسلام والمسلمين في المدينة، والدولة تتطلب ما تقوم به من نظم، وتشريعات، وقوانين تحدد العلاقات بين أفرادها، وبينها وبين الدول الأخرى، وكان هذا هو السبب في أن أكثر هذه النظم، والتشريعات نشأت في المدينة.

وكان من الحكمة، ومما يتفق وطبائع الأمور، أن لم تنشأ هذه التشريعات مرة واحدة، بل كان ذلك على التدريج، حسب الحاجة، التي تدعو إليها، وفي هذا دفع للحرج عن المسلمين، وأخذهم بالتيسير في التكاليف والأحكام، وبخاصة أنهم كانوا حديثي عهد بحياة لها أعرافها، وتقاليدها التي تختلف في الكثير منها عما جاء به الإسلام.

والذي يقرأ القرآن الكريم، في استقصاء وملاحظة، يرى أن منه ما نزل إجابة عن أسئلة كان بعض المسلمين يتقدم بها إلى الرسول r، إذ يحسون الحاجة إليها، وكان منه تشريعات تنـزل من السماء بلا سؤال. والضرب الأول نجده مصدراً بكلمة "يسألونك"، أو كلمة "يستفتونك".

إذاً، كان التشريع في هذه الفترة لا يقوم، إلا على هذين المصدرين العظيمين القرآن الكريم، والسنة، فكان الرسول، r، إذا سئل عن مسألة، أو جدت حادثة تقتضي حكمًا من الشارع، ينتظر الوحي السماوي، فإن نزل بالمراد تعين الحكم، وإلاّ، كان هذا إيذانًا من الله بأنه وكل إلى رسوله r، أن ينطق بالتشريع اللازم، ومعلوم أنه لا ينطق عن الهوى.

وأحياناً أخرى، كان الرسول r، يجتهد في الحكم، ثم يصدر رأيه، وهنا لا يقره الله على هذا الرأي، إلا إذا كان صوابا. على أن الرسول r، كان، في هذا الاجتهاد يستلهم طبعًا ما نزل من حكم الله وشريعته، مع تقدير للمصلحة، واستشارة لأصحابه، ومن أجل ذلك، يجب أن نجزم بأن كل التشريعات، التي ظفر بها الإسلام في عهد الرسول r، كانت إلهية، إما عن طريق مباشر بنزول القرآن الكريم بها، وإما عن الرسول r، في بادئ الأمر ثم يقره الله عليها.

وليس هنا مجال البحث، في الخلاف بين ما نعي اجتهاد الرسول r، ومجيزيه، فقد اشتد الخلاف، في ذلك، بين علماء الأصول والفقه، ولكل وجهة هو موليها وسنده الذي يستند إليه. ولكن علينا أن نقرر أنه قد جاء في القرآن الكريم نفسه، ما يفيد أنه كان للرسول r، اجتهاد في بعض النوازل والأحداث، وأن الله لم يقره على رأيه، في بعض ما ذهب إليه، وكان من الله سبحانه، لرسوله r، لأجل ذلك، عتاب أحياناً:

1. اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ r ِأَبَا بَكْرٍ وَعَلِيًّا وَعُمَرَ فَقَالَ: ]أَبُو بَكْرٍt يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَؤُلَاءِ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةُ وَالإِخْوَانُ فَأَنَا أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ الْفِدَاءَ فَيَكُونُ مَا أَخَذْنَا مِنْهُمْ قُوَّةً لَنَا عَلَى الْكُفَّارِ وَعَسَى اللَّهُ U َنْ يَهْدِيَهُمْ فَيَكُونُونَ لَنَا عَضُدًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّه rِ مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ قُلْتُ وَاللَّهِ مَا أَرَى مَا رَأَى أَبُو بَكْرٍ وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَنِي مِنْ فُلانٍ قَرِيبٍ لِعُمَرَ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ وَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ وَتُمَكِّنَ حَمْزَةَ مِنْ فُلانٍ أَخِيهِ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قُلُوبِنَا هَوَادَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ هَؤُلاءِ صَنَادِيدُهُمْ وَأَئِمَّتُهُمْ وَقَادَتُهُمْ فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ r مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ فَأَخَذَ مِنْهُمْ الْفِدَاءَ فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ قَالَ عُمَرُ tُ غَدَوْتُ إِلَى النَّبِيِّ r فَإِذَا هُوَ قَاعِدٌ وَأَبُو بَكْرٍ وَإِذَا هُمَا يَبْكِيَانِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ rأَخْبِرْنِي مَاذَا يُبْكِيكَ أَنْتَ وَصَاحِبَكَ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا قَالَ النَّبِيُّ r لَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ الْفِدَاءِ وَلَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ لِشَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 13066).

وأنزل الله تعالى، في صدد هذه المسألة، هاتين الآيتين ]مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(67) لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[ (سورة الأنفال: الآيتان 67، 68)

إذن، اجتهد الرسول r، في هذه المسألة، واستشار بعض أصحابه الأكرمين، ثم أخذ بما أداه إليه اجتهاده، وهو موافقة رأي أبي بكر t، لكن الله سبحانه لم يقره على ما رآه، وأنزل في ذلك قرآناً.

2. استأذن بعض المنافقين الرسول r، في التخلف عن غزوة تبوك متقدمين بأعذار، قبلها الرسول، r، على ضعف فيها، كما تخلف بعض المؤمنين أيضا، وأذن الرسول r، في التخلف عن الذهاب معه في هذه الغزوة للجميع.

لكن الله سبحانه وتعالى، الذي يعلم ما في الضمائر، والنفوس من نيات، لم يرض من نبيه r، هذا الإذن، فأخبره أنه كان أولى به التريث في الإذن لمن استأذنوا، حتى يعلم المنافقين منهم، والصادقين في الاعتذار، إذ إن الأولين، أي المنافقين، كانوا سيتخلفون، وإن لم يأذن لهم.

وفي ذلك أنزل الله تعالى ]لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ[ (سورة التوبة: الآيتان 42، 43).

والتشريع، في هذه الفترة من الدور الأول، كان يعتمد على المصدرين العظميين، القرآن الكريم والسنة، وكان القرآن الكريم يجيء بالقواعد العامة، والأحكام، أو التشريعات بصفة إجمالية، وكان على الرسول r، تفصيل هذا الإجمال، وتحديد تلك القواعد العامة.

وقد تستقل السنة بتشريعات لا نجدها في القرآن الكريم، وإن كانت، طبعًا، لا تخرج عن روحه ومعانية ومقاصده. ولا عجب في شيء من ذلك كله! فمهمة الرسول r، دائمًا هي البيان لرسالته بكل طرق البيان.

ويمكن أم يُقال بإيجاز إن دور الرسول r، كان دور الشارح، للأصل الذي هو القرآن الكريم، إلاّ أنه شارح يلهمه الله تعالى، ويعمل وفق رعايته سبحانه، فلا يُقر على خطأ بحال. ولنذكر بعد ذلك بعض الأمثلة، التي توضح ما قلنا، من أن السنة كانت تقوم بتوضيح ما أجمل الكتاب، وتفصيل ما جاء به من الكليات، حين يكون ذلك ضروريا:

1. أمر الله تعالى، بالصلاة، وشرعها فرضًا علينًا، وجاء ذلك في الكتاب، بالنص تارة وبالإشارة أخرى. إلاّ أنه لم يبين لنا أوقاتها، ولا عدد صلوات كل يوم، أو عدد ركعات كل صلاة، ولا كيفيتها، فجاءت السنة وبينت ذلك كله، حين صلى الرسول r، فعلاً وقال: ]صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 5549). وقد روى لنا أبو هريرة t، وغيره من الصحابة كيفية صلاة الرسول r.

2. وكذلك الأمر في الصوم، فقد فرضه الله بقوله ]شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[ (سورة البقرة: الآية 185).

والرسول r، هو الذي بين أن المراد به الشهر القمري، لا الشمسي، وأنه يجب أن نصوم لرؤية الهلال، ونفطر لرؤيته، كما بين حكم المفطر عامدًا أو ناسيًا، إلى غير ذلك كله من الأحكام المتعلقة بالصوم.

3. ومثل ذلك كانت الزكاة، فقد جاء الأمر بها، في القرآن الكريم بلفظ الزكاة، والصدقة في كثير من الآيات، ومنها قوله ]وَءاَتُواْ الزَّكَاةَ[ (سورة الحج: الآية 78). وقوله: ]خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[ (سورة التوبة: الآية 103). وقوله: ]وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ[ (سورة الأنعام: الآية 141)، وقوله ]وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ(24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ[ (سورة المعارج: الآيتان 24، 25).

إلاّ أن السنة، هي التي بينت لنا نصاب الزكاة، في كل نوع من أنواع الأموال، نعني النقود، والزروع، والثمار، وعروض التجارة، والحيوانات السائمة مثلاً، كما بينت المقدار الواجب في كل نوع منها، وهكذا إلى آخر ما يتعلق بتحديد، هذه الفريضة تحديدًا كافيًا[2].

4. وفي الحج ذكر القرآن الكريم، أنه فرض علينا بقوله تعالى ]فِيهِ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[ (سورة آل عمران: الآية 97)، وبقوله ]وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ[ (سورة البقرة: الآية 196)، وأشار إلى الإحرام بقوله ]ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ[ (سورة البقرة: الآية 196)، وإلى الوقوف بعرفة بقوله: ]لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ[ (سورة البقرة: الآية 198)، وإلى السعي بين الصفا، والمروة بقوله ]إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ[ (سورة البقرة: الآية 158)، وإلى الطواف بالكعبة بقوله ]وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود[ (سورة الحج: الآية 26).

ثم جاءت السنة فبينت كيفية الإحرام، ومواقيته، ومتى يكون واجبا، ومحظوراته الحكم فيمن يرتكب شيئا منها، وعدد مرات السعي وكيفيته، وحدود عرفة، والزمن الذي يجب الوقوف فيه بهذا المشعر، إلى غير هذا وذاك، مما يتعلق بالحج، حتى صار معروفاً تماماً لنا كما فعله رسول الله r، ورواه عنه كثير من صحابته، رضوان الله عليهم.

هكذا كانت السنة مبينة للقرآن الكريم، وفي ذلك يقول الله تعالى: ]بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[ (سورة النحل: الآية 44).

كان الرسول r، مشرعًا بفعله، وقوله، وتقريره، حتى لبعض ما لم يرد في القرآن الكريم، ولو مجملاً كزكاة الفطر، وإن كان الله سبحانه وتعالى، هو المشرع الأعظم، ما دام الرسول r، كان يستلهم دائمًا القرآن الكريم نصه، وروحه، ومقاصده التي ترمي، دائمًا لصالح الفرد، والجماعة معاً.

وبهذا لم ينتقل الرسول r، إلى الرفيق الأعلى، إلاّ وقد كان الفقه تام الأصول الكلية، والقواعد العامة، ولذلك يقول الله تعالى، في آخر عهد الرسول r، ]حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[ (سورة المائدة: الآية 3).

وبعد القرن الأول بقليل: نجد الإسلام أخذ يمتد شرقًا، وغربًا، وشمالاً وجنوبًا، إذ فتح الله سبحانه وتعالى، على المسلمين العراق والشام ومصر، وبلدان شمال أفريقيا، وغيرها.

ولكل من هذه البلاد حضارتها المتشعبة النواحي، ولكل منها أيضًا عاداتها، وتقاليدها، وأعرافها، وقوانينها، وللاختلاط، الذي تم بين العرب المسلمين، وأهالي هذه البلاد المختلفة أثره المحتوم، الذي ظهر فيما بعد بصور شتى في التفكير وغيره.

ومع ذلك كله، كثرت الحوادث، والنوازل، التي تتطلب أحكامًا لها، وظهرت مشاكل تنتظر حلولها، لأن المأثور من تشريعات الرسول r، وأحكامه وأقضيته في الوقائع السابقة أصبح غير مشتمل على الحوادث، والمعاملات، التي تزيد وتتجدد كل آن، فكان لكل هذا أثره في نمو الفقه، والتشريع، وظهور القياس، ومراعاة علة الحكم.

وثمة عامل آخر كان له أثر كبير واضح في هذه الناحية، في هذه الفترة، وما تلاها، وهو هجرة كثير من الصحابة، بعد عهد عمر بن الخطاب t، إلى تلك الأقطار والبلاد، التي عرفها المسلمون ونزحوا إليها، وما جاء نتيجة لذلك من شيوع التحديث عن الرسول r، والتعمق في فهم القرآن الكريم، واستنباط الأحكام، التي شعروا بالحاجة إليها منه، أو مما يرونه صحيحًا من أحاديث الرسول r.

ومن الطبيعي أن يكون لهذه العوامل، أثرها في الفقه، وفي ظهور الاجتهاد والمجتهدين، إذ كان كل من الصحابة القادرين على التعمق في فهم القرآن الكريم، يجتهد في فهمه، وفهم ما ثبت عنده، من حديث الرسول r، فقد يصح هذا الحديث، أو ذاك عند البعض، دون البعض الآخر.

وهكذا بدأ الفقه الإسلامي يتكون، وبدأت أصوله تعرف وتتميز، نعني الكتاب، والسنة، والقياس، والإجماع، وأخذت أعراف وقوانين البلاد المختلفة، التي أصبحت تحت راية الإسلام، وتكون جسم الدولة الإسلامية، تؤثر في الفقه، والتشريع بصفة عامة، تأثيراً غير قليل.

أما في العصور، التي جاءت بعد عصر الصحابة والتابعين، فمن الحق عرفان قدرهم تماما لهم، ووجوب العمل بآرائهم الحقة، هذه الآراء، التي لم يقولوا بها، إلاّ مستلهمين كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة رسوله r، وروح الإسلام، وقد كانوا، بلا ريب، أقرب إلى فهم كل ذلك فهمًا حقًا، منا نحن، هذه الأيام، على أن هذا لا يمنعنا من الأخذ، بعين الاعتبار، تغير البيئات، والأعراف، وما يجب أن يكون لذلك من تأثير.

وإذا كان عمر بن الخطاب t، يتحرى رأي الخليفة الأول، أبى بكر t، كما ذكرنا من قبل، ليأخذ به فإن هذا لا يمنع من القول، إنه حصلت اختلافات بينهما، تمسك فيها عمر برأيه، إذ بان له أنه الحق في زمنه، كما حصلت اختلافات أخرى، بين آراء الصحابة بصفة عامة.

ومن الخير أن نذكر بعض الأمثلة لهذه الاختلافات، التي كانت بين صحابي وآخر، أو بين صحابي وأحد التابعين، في زمن واحد، محاولين تعرف الأسباب، التي أدت إلى هذه الاختلافات.

كان أبو بكر t، في خلافته يسوي بين المسلمين، في أعطياتهم، فلا يفضل أحداً منهم على آخر. فلما ذُكّر بأن الخير في التفاضل، لما للبعض من الفضل على البعض، بسبب سبقه في الإسلام، أو قدمه في الجهاد في سبيل الله، رد بأنه من أعرف المسلمين بهذا، ولكن يدع ذلك لله يثيب عليه، أما الأعطيات فهي للمعاش، فالأسوة فيها خير من الأثرة. وفي هذا يقول في بعض الروايات: "فضائلهم عند الله، فأما هذا المعاش فالتسوية فيه خير".

فلما صارت الخلافة إلى عمر الفاروق t، وجاءت الفتوح بمال كثير، عدل عما كان يراه أبو بكر، إذ رأى ألاّ يسوي بين، من قاتل رسول الله r، ومن قاتل معه، وكان من كلامه في ذلك: "ما أنا فيه (أي في المال)، إلاّ كأحدكم، ولكنا على منازلنا من كتاب الله U، وقسمنا من رسول الله r، فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وغَناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته في الإسلام"، وهكذا، فضل عمر البعض على البعض في العطاء.

والذي يظهر أن عمر tكان ينشد بما ذهب إليه التسوية أيضا، لأن من التسوية بين المسلمين أن يأخذ كل منهم بقدر ما قدم من خير في الإسلام، وبقدر ما هو في حاجة إليه، وليس من التسوية أن يكون الجميع سواء، في المال، الذي آتاهم الله، بما فتح عليهم من البلاد، بجهاد الفاتحين، وبرهبة الإسلام بما صار له من شأن، وشوكة، ونفوذ بفضل السابقين من المجاهدين الأولين.

ولهذا يقول عمر في بعض ما روي عنه في ذلك الأمر: "ما يريد ابن الخطاب بهذا إلاّ العدل، والتسوية"، وذلك حين قال له بعض المسلمين: "يا ابن الخطاب، أنشدك بالله في العدل، والتسوية".

وأكبر من هذا الخلاف أثرًا في بناء الدولة، حينذاك، اختلاف عمر، والصحابة في قسمة الأراضي، التي فتحها الله على المسلمين، أتكون للمحاربين المجاهدين، الذين فتحوها وحدهم، أم تترك لأهلها مع وضع الخراج عليها، لينفق على المسلمين عامة، طوال الأزمان.

ذلك، أنه لما تم فتح العراق، والشام، وغيرهما من الأقطار في عهد عمر، رأى الفاروق ألاّ تقسم الأرض بين الفاتحين، بل تبقى خراجية ينتفعون بها، هم ومن يجيء بعدهم من المسلمين، وكان من كلامه في هذا: كيف بمن يأتي من المسلمين فيجد الأرض قد قسمت وورثت عن الآباء! ما هذا برأي، والله يقول في مصرف الفيء[3] ]لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ(8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ولا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ولا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[ (سورة الحشر: الآيات 8 - 10). ولا يتصور بقاء شيء لمن يأتي بعد أولئك الفاتحين، إذا قسمت الأرض.

لكن المعارضين ذكروا أنه كيف يقف عمر t ما أفاء الله عليهم بأسيافهم على قوم لم يحضروا الحرب،. ثم على أبنائهم وذرياتهم أيضًا من بعد؟! وقال عبدالرحمن بن عوف: ما الأرض والعلوج (أي ملاك هذه الأرض)، إلاّ ما أفاء الله على الفاتحين، يريد أن أربعة أخماسها هي لهم، بنص آية الأنفال التي تقول ]وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامي وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ ءَامَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[ (سورة الأنفال: الآية 41). أما الباقي فيكون للمسلمين.

وهنا، وقد اشتد الخلاف، لم ير عمر t إلاّ أن يستشير، فاستشار المهاجرين الأولين، فاختلفوا فيما بينهم أيضًا، فعمد إلى تحكيم عشرة من الأنصار، خمسة من الأوس وخمسة من الخزرج، رغبة منه في أن يشركوه في الأمانة، التي حملها.

فلما اجتمعوا وتكلم مخالفوه بما يرون من رأي وحجة، قال ـ فيما قال ـ: إنه لم يبق شيء يفتح بعد أرض كسرى، وقد رأيت، بعد صرف الخمس في وجوهه، أن أحبس الأرض بعلوجها، وأضع عليهم الخراج، وفي رقابهم الجزية يؤدونها، فتكون فيئًا للمسلمين الحاضرين، ولمن يأتي بعدهم. أرأيتم هذه الثغور؟ لابد لها من رجال يلزمونها! أرأيتم هذه المدن العظيمة، كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر؟ لابد لها أن تشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم، فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسمتُ الأرضين والعلوج؟

وكانت النتيجة أن أعطى المحكمون، بعد وزن كل رأي ودليله، الرأي لعمر ولم يسع المخالفين إلاّ الرضاء به، وكان هذا إلهامًا من الله وتوفيقًا للخير العام، في العاجل والأجل من الزمان.

ويجب أن نلاحظ في هذه المشكلة، أن كل فريق كان يستند إلى القرآن الكريم، فالمخالفون لعمر كانوا يستندون إلى آية "الأنفال"، وإلى فعل الرسول r، حين قسم خيبر أرض اليهود، بين الفاتحين من باب التشجيع.

أما عمر t، فكان يستند إلى آيات سورة الحشر، وإلى أن الأراضي موضوع النزاع أجلّ وأعظم بكثير من أن تقسم بين الفاتحين وحدهم، وبخاصة أنها كل ما كان المسلمون يرجون فتحه في تلكم الأيام. كما نظر إلى المستقبل البعيد، وفي هذا يقول عُمَرَ بن الخطاب t ]لَوْلا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فُتِحَتْ قَرْيَةٌ إِلَّا قَسَمْتُهَا كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 271)، ولذلك كله كان رأيه في زمنه، وقد تغيرت الحال، فكان هو الرأي السديد الموافق للمصلحة العامة للمسلمين.

وهذا خلاف من نوع آخر، لأنه من صميم الفقه، وفي مسألة من مسائل الميراث. ذلك أنه كان رأي أبى بكر، أن الجد يحجب الإخوة، فلا يرثون معه، كما لا يرثون مع الأب بنص الكتاب والسنة. لكن عمر رأى أن الجد ليس في الحقيقة أبًا. فهو ـ إذاً ـ لا يحجب الإخوة، بل لهم معه في التركة نصيب معروف.

ولعل أبا بكر t نظر إلى قول الله سبحانه وتعالى، حاكيًا عن يوسف u ]وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ[ (سورة يوسف: الآية 38). مع أن يعقوب u هو وحده، الذي كان الأب دون إسحاق، وإبراهيم إذ كانا جدين، أما عمر t، فقد نظر إلى الحقيقة لا إلى المجاز.

وفي ناحية أخرى، ]كَانَ الطَّلاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ r وَأَبِي بَكْرٍt وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ tطَلاقُ الثَّلاثِ وَاحِدَةً فَقَالَ عُمَرُt إِنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 2727)، تبين به الزوجة بينونة كبرى، فليس له أن يسترجعها لعصمته حتى تتزوج غيره، ويدخل بها ثم يطلقها عقوبة لهم على إسراعهم في الطلاق، الذي هو أبغض الحلال إلى الله.

وهنا نجد كثيرًا من الصحابة يخالفونه فيما رأى، ذاهبين إلى أن هذا الطلاق الثلاث طلقة واحدة، متبعين في ذلك النصوص، وحكم الرسول r، وأبى بكر، ومنهم علي، وأبو موسى الأشعري، والزبير بن العوام، وعبدالله بن عباس.

على أنهم كانوا لا يختلفون إلاّ حيث لا يجدون نصًا محكمًا في القرآن الكريم، أو سنة لا ريب فيها عن الرسول r. وفي هذه الحالة، يكون الاجتهاد بالرأي والقياس، كما يكون الأخذ بالمصالح المرسلة، وفي كل حال كانوا يستلهمون القرآن الكريم، وسنة الرسول r.

وإذن تكون مصادر الفقه في هذا العصر، هي المصادر الأربعة المعروفة: الكتاب، السنة، القياس، أو الرأي، ثم الإجماع الذي لابد له من سند، من واحد مما تقدم. وأحياناً يكون مصدر التشريع هو المصالح المرسلة، كما رأينا، كما يكون أحيانًا أخرى العرف، كما كان أيام الرسول r نفسه.

وبعد كبار الصحابة طوال عهد الخلفاء الراشدين، تجيء فترة صغار الصحابة، وكبار التابعين، من أول ولاية معاوية بن أبى سفيان، إلى ما بعد المائة الأولى بقليل.

وتبدأ هذه الفترة "بعام الجماعة"، وهو العام الحادي والأربعون من التاريخ الهجري، إذ اجتمعت فيه كلمة كل المسلمين على خلافة معاوية بن أبي سفيان الأموي بعد نزول الحسن بن علي، رضي الله عنه، له عن الخلافة، وبهذا النزول ابتدأت دولة بني أمية.

هذا وقد تميزت هذه الفترة من حياة الفقه بأمور:

1. فرقة المسلمين سياسيا، إلى خوارج وشيعة وأهل السنة والجماعة، بسبب الاختلافات في الخلافة، وكان لهذا الخلاف الشديد أثره الكبير في الفقه بلا ريب. فإن الخوارج لم يكونوا يعتمدون من الأحاديث إلا ما رواه رجالاتهم، وكذلك الشيعة، أما جمهور المسلمين، فقد كانوا يعتمدون الأحاديث، التي ثبتت صحتها عندهم مهما دخل في أسانيدها، من رجال الفرق الأخرى، متى كانوا ثقات، واستوفت شروط الصحة.

2. وكان من أثر كثرة الفتوح الإسلامية، أن تفرق الصحابة وغيرهم من التابعين في البلدان المختلفة، وبخاصة بعد أن قُتِل عمر بن الخطاب t، الذي كان قد حجر على كبار الصحابة ومنعهم من ترك مدينة الرسول r، وذلك مخافة افتتان الناس بهم، أو افتتانهم بالدنيا الطويلة العريضة، التي أفاء بها اللهU ، على المسلمين، ولكونهم أهل شورى.

وطبيعي أن يكون في هؤلاء الذين تفرقوا في البلدان الإسلامية، المعلمون والقراء، وأهل البصر بالكتاب والسنة، وآراء كبار الصحابة في مسائل الدين، والفقه.

وطبيعي أيضًا أن يصح، من الأحاديث عند البعض، ما لا يصح عند غيرهم، وذلك لعوامل ليس هذا موضع بيانها.

ولهذين الأمرين، ويضاف إليهما زوال عهد عمر t، الذي كان، كما عرفنا، شدد كثيرًا في رواية الحديث، نرى التحديث عن الرسول r، يكثر، فكان كلّ يحدث بما سمع عن الرسول r، بنفسه، أو بواسطة رواة آخرين.

3. وكان، من كثرة التحديث عن الرسول r، من الفرق المختلفة، وفي البلدان المتفرقة، وبلا تثبت أحيانا، أن ظهر الخطأ في نسبة الحديث إلى الرسول r، بل الكذب عمدًا عليه، رغبة من بعض أصحاب الفرق، والمقالات المختلفة في نصرة آرائهم، ومذاهبهم بأحاديث يسندونها إلى الرسول r.

4. وابتعاد بعض خلفاء الدولة الأموية وأمرائها عن سنة السلف الصالح، واعتدادهم في حياتهم وتصرفاتهم بآرائهم، وتفكيرهم الشخصي، بعد أن جعلوا من خلافة المسلمين ملكاً عضوضاً لهم ولأسرتهم.

5. وكان من ذلك كله، أن أخذ صفوة من الصحابة والتابعين، العلماء بالكتاب والسنة


أحكام الشريعة الإسلامية 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

أحكام الشريعة الإسلامية Empty
مُساهمةموضوع: رد: أحكام الشريعة الإسلامية   أحكام الشريعة الإسلامية Emptyالجمعة 13 يناير 2012, 1:01 am

المبحث الرابع

سمات الشريعة الإسلامية وكمالها

هذا، وقد جاء بعد ذلك دور النضج والكمال، وقد كان هذا الدور أطول أدوار الفقه عمرا، حاشا ـ بكل أسف ـ دور التقليد، إذ استمر نحو مائتين وخمسين عاما، فقد بدأ في أوائل القرن الثاني الهجري واستمر إلى منتصف القرن الرابع.

وفي هذا الدور بدأ تدوين السنة ومذاهب الفقه، وفيه ظهرت المذاهب الكبرى التي لا تزال معروفة ومتبعة ـ كل في جهات مختلفة من العالم الإسلامي ـ إلى الآن، نعني مذاهب أبى حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن حنبل من أهل السنة، ومذاهب الزيدية والإمامية من الشيعة.

كما ظهر فيه أيضا فقهاء أعلام آخرون، وكان منهم أصحاب مذاهب مستقلة عرفها التاريخ، إلا أنها اندثرت بمضي الزمن، إذ لم تجد من يقوم بها ويرعاها، ويعمل على تخليدها، كما وجدت المذاهب الأولى.

وينبغي، من أول الأمر، الإشارة إلى أهم الخصائص، التي تميز بها هذا الدور، فكان مرحلة خاصة من مراحل حياة الفقه، وهذه الخصائص هي:

قيام الدولة العباسية بعد سقوط الدولة الأموية، وأول خلفائها أبو العباس عبد الله، الملقب بالسفاح، لكثرة ما تسبب في إراقة دماء خصومه، وكان بدء قيام الدولة العباسية عام 132.

ويعتبر قيام هذه الدولة حدثا ملحوظا في حياة الفقه والتشريع، لأنها قامت باسم الدين وعلى الدين، فلا عجب أن يعنى رجالها بالحياة الدينية، وأن يعملوا على أن تقوم على قانون مستمد من صميم الفقه الإسلامي، فكانت الحاجة ماسة للفقه والفقهاء.

لقد كان حكم العباسيين عاملا قويا من عوامل ازدهار الفقه وتطوره، وفقا للحياة العامة، التي كان عليها المسلمون إبان هذه الدولة، وتمشيا مع ما كان يجد من مشاكل ووقائع، تتطلب أحكاما شرعية لها.

ومن مظاهر تلك العناية الطيبة، ما نعرفه من إجلال الخلفاء العباسيين، أيام عزهم ومجدهم، لرجال الفقه. ومن هذا، نجد الإمام مالك بن أنس يوجه إلى الخليفة هارون الرشيد رسالة ينصحه فيها ويذكره بما يجب عليه لله وللمسلمين، كما نرى هذا الخليفة يرسل إليه بالمسجد ابنيه الأمين والمأمون، ليسمعا منه حديث الرسول r، مع سائر من يحضر مجلسه من المسلمين.

وفي ذلك أيضا نجد الرشيد نفسه يطلب من أبى يوسف، تلميذ أبى حنيفة وصاحبه، أن يضع له كتابا يستهديه في نظم الدولة المالية وإدارتها، فيكتب له مؤلفه المعروف: كتاب الخراج وفي مقدمة هذا الكتاب القيم، يقول للخليفة وهو أقوى سلطان في ذلك العصر.

"فأقم الحق فيما ولاك الله وقلدك... ولا تزغ فتزيغ رعيتك، وإياك والأمر بالهوى والأخذ بالغضب... وكن من خشية الله على حذر، واجعل الناس عندك في أمر الله سواء، القريب والبعيد… وإن الله سائلك عما أنت فيه، وعما عملت به، فانظر الجواب!".

"وإني أوصيك، يا أمير المؤمنين، بحفظ ما استحفظك الله، ورعاية ما استرعاك الله، وألا تنظر في ذلك إلاّ إليه وله، فإنك إلا تفعل، تتوعر عليك سهولة الهدى، وتعمى في عينيك، وتتعفى رسومه، ويضيق عليك رحبه، وتنكر منه ما تعرف وتعرف منه ما تنكر. فخاصم نفسك خصومة من يريد الفلج لها لا عليها، فإن الراعي المضيع يضمن ما هلك على يديه، مما لو شاء رده عن أماكن الهلكة بإذن الله".إلى آخر ما قال.

على أن الخليفة هارون الرشيد، لم يكن الفريد في إجلال الفقهاء، وسؤالهم النصح والتوجيه، فقد كان هذا شأن غيره أيضا من خلفاء هذه الدولة، والأمر معروف لمن شدا شيئًا من التاريخ الإسلامي المجيد.

لا عجب ـ إذن ـ أن يجد الفقه، في هذه الفترة الطيبة من حياته، تربة صالحة للنمو والكمال، ويكون من ذلك نشر سنة الرسول r، وظهور كبار المجاميع فيها، وكثرة ما زخرت به كتب الفقه من الأحكام والتشريعات العملية، وتدوين ذلك كله في مؤلفات رويت عن أئمة الفقه، وكبار أصحابهم، وتلاميذهم المباشرين، ومن بعدهم.

ثم لقد قامت هذه الدولة الجديدة في العراق، مهد المدنية الفارسية، وغيرها من المدنيات التي تواردت على هذه البلاد، فكان أن التقت هذه الحضارات، والعقليات التي تمثلها بالحضارة العربية والعقلية العربية، وأن تعاون في بنائها العقل العربي، والعقل الفارسي، والعقل الرومي، فأخذت من كل عقل بأحسن ما كمن فيه من قدرة الإبداع، وقد ظهر هذا الإبداع في الفقه والتشريع، كما ظهر في نواح مختلفة أخرى.

ثم كان أن قويت الحركة العلمية واشتدت، بسبب عوامل عدة، وكان من أهم هذه العوامل، بلا ريب، ترجمة العلوم، والفلسفة اليونانية للغة العربية، فضلاً عما نقل إلى العربية أيضا من تراث فارس، والروم. ومن الحق، أن حركة الترجمة بدأت أيام الأمويين، ولكنها لم تأخذ قوتها العجيبة وازدهارها الكبير، إلاّ في عهد الدولة العباسية، وخاصة في عهد الخليفة المأمون.

وكان مما نقل إلى العربية منطق أرسطو وفلسفته، وفلسفة غيره من أساطين اليونان. والمنطق ـ كما نعرف ـ يقدم ما يلزم من آلات، ووسائل للوصول إلى المجهول بطريق القياس، والاستنباط. ومن البديهي أن يكون الفقهاء، ومثلهم في هذا مثل سائر العلماء في الميادين المختلفة، قد أفادوا فائدة كبرى من المنطق، وسائر فروع الفلسفة الأخرى. وذلك في طريقة التقسيم والترتيب، لا في الأصول ومناهج التشريع، فإن الفقه الإسلامي هو التشريع الرباني.

ولما كثر التحديث عن الرسول r، وغزر إلى حد كبير، ما روي عنه، أو نسب إليه، من الأحاديث، ندب بعض أعلام المسلمين من رجال الحديث، أنفسهم للفحص عن هذه الأحاديث، وتصنيفها، وبيان صحيحها، والموضوع منها، ثم لتدوينها في دواوين خاصة، يرجع إليها المسلمون كما يرجعون إلى القرآن الكريم، لمعرفة دينهم وشريعتهم، وكان هذا الصنيع فضلاً، وتوفيقاً عظيمين، من الله لحفظ الأصل الثاني للإسلام، وهو سنة رسوله r.

وأهم هذه المجموعات أو الدواوين، هو ما يعرف "بالكتب الستة"، إذ فاق أصحابها في الدقة، والفحص، والاختيار سواهم، ففاقت الكتب نفسها غيرها في الاعتبار، لدى المسلمين، وتقديرهم لها، وأصحاب هذه الكتب هم:

1. أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، المتوفى عام 256 هـ. صاحب كتاب "صحيح البخاري".

2. مسلم بن الحجاج النيسابوري، المتوفى عام 261هـ. صاحب كتاب "صحيح مسلم".

3. أبو داود سليمان السجستاني، المتوفى عام 275 هـ. صاحب كتاب "سنن أبي داود".

4. أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي، المتوفى عام 279هـ. صاحب كتاب " سنن الترمذي".

5. أبو عبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي، المتوفى عام 303 هـ. صاحب كتاب "سنن النسائي".

6. أبو عبدالله محمد بن يزيد القزويني المعروف بابن ماجة، المتوفى عام 273 هـ. صاحب كتاب "سنن ابن ماجة".

هذه المجاميع وأمثالها، ومنها ما صنف على أبواب الفقه المختلفة، والتي أنفق مؤلفوها الأئمة الحفاظ الأعلام ما أنفقوا من جهود، قدمت، بلا ريب، مادة غزيرة خصبة للفقهاء، يستخلصون منها الأحكام الفقهية بجانب القرآن الكريم، ولذلك كان لها أثرها الكبير في نمو الفقه واكتماله.

وأخيراً، كان من الطبيعي، لكل ما سبق، أن تكثر الآراء والفتاوى في المسألة الواحدة، وذلك للاختلاف في اعتبار الحديث صحيحا أو غير صحيح، أو للاختلاف في بعض أصول الفقه نفسها، كالقياس واعتبارها أو عدم اعتبارها من أدلة الأحكام الفقهية.

وكذلك كان طبيعياً أن يتعصب كل فقيه لآرائه، وأن يحتج لها ما وسعه الاحتجاج، وأن يجتهد ـ هو وتلاميذه وأنصاره ـ في إقامتها على أسس وأصول متينة، ينبني عليها ـ منطقيًا ـ كل ما يريد من تطبيقات، وتفريعات.

ومن هنا، كان للفقه مذاهبه الكثيرة المعروفة. ومن هذه المذاهب ما اندثر وذهب مع الزمن، ومنها ما كتب له الخلود حتى اليوم، وإلى ما شاء الله.

*************************************************


[1] نزلت هذه الآية يوم عرفة عام الحج الأكبر في السنة العاشرة من الهجرة. وهي في رأي كثير من المفسرين آخر القرآن نزولاً. بمعنى أنه لم ينزل بعدها شيء من آيات الأحكام. وعلى كل فلم يعش الرسول r بعد نزولها إلا إحدى وثمانين ليلة، على القول المشهور.

[2] فقال في ذلك فيما قال: فيما سقت العيون أو كان عشريا العشر. وما سقى بالنضح نصف العشر. وقال: وفي الركائز الخمس. وقال: ليس في ما دون خمسة أوسق من التمر صدقة. وليس فيما دون خمس أوراق من الورق صدقة. وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة.

[3] الفيىء يراد به هنا الغنيمة

****************************************

الفصل الثاني

خصائص التشريع الإسلامي وأسسه العامة

المبحث الخامس: خصائص التشريع

المبحث السادس: أسس التشريع الإسلامي العامة

****************************************

المبحث الخامس:

خصائص التشريع الإسلامي

للتشريع الإسلامي طبيعة خاصة، وخصائص تميزه من غيره من ضروب الفقه العالمية. ومن هذه الخصائص ما يرجع إلى طبيعة الفقه نفسها، وما يرجع إلى الطريق، الذي سار، ويجب أن يسير فيه حتى يصل إلى الغاية، التي يرضاها، الشارع الحكيم للعالم كله.

وليس من الممكن استيعاب تلك الخصائص، التي مرجعها، بداهة، طبيعته الخاصة، في القدر المحدود من الصفحات، التي خصصت لهذا البحث، ولكن يمكن تعرفها بإجمال مما يأتي:

ويمكن بيان هذا الإجمال بشيء من التفصيل، على ألاّ نتعرض للمقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون، إلاّ بقدر، وفيما تكون المقارنة ضرورية فيه، لأن القصد الأول هو ما يختص بشريعة الإسلام، وحدها.

أولاً: أسسه العامة

جاء الإسلام بعد أن استنفد كل من الأديان السابقة أغراضه، وصارت الإنسانية مستعدة لتقبله، وأحست بالحاجة الملحة لرسالة سماوية، تكون خاتمة الرسالات جميعًا، وتشوقت إلى الدين جديد يسير بها قدمًا إلى حياة العزة والكرامة والسعادة، لا فرق بين جنس وجنس، ولا بين أمة وأخرى، حتى لا يكون للناس جميعًا، إلاّ إله واحد، ويكون العالم كله معبده.

وكانت رسالة الإسلام لذلك، بيان العقيدة الحقة، بعد أن اختلفت في ذلك اليهودية والنصرانية اختلافا كبيرا، مزق العالم إلى فرق كثيرة متعادية، ووضع النظم والقوانين الصالحة لحياة الفرد والجماعة، وبخاصة أن حظ ما سبقه من الأديان السماوية، كان ضئيلاً في هذه الناحية ـ لأن الأديان السابقة كانت تشريعاتها مؤقتة ومحدودة. مؤقتة بزمن ومحدود بفئة، حتى جاء الإسلام فاستوعب الزمان وعم جميع الفئات ـ ومن هذه النظم والقوانين، ما نعرفه اليوم باسم "الفقه".

أساس هذا الفقه إذن هو وحي الله تعالى، هذا الوحي، الذي نجده في كتابه الكريم، وسنة رسوله العظيم،صلى الله عليه وسلم ، الذي لا ينطق عن الهوى، ففي هذين المصدرين، نجد جماع ما نعرف اليوم من أقسام القانون الحديث المختلفة: المدني، والتجاري، والعقوبات، والدستوري، والدولي... إلى آخر فروع القانون العام والخاص.

وكل فقيه مقيد بهذين المصدرين أو الأصلين الأساسيين، وهو مقيد كذلك باستلهام روح الشريعة، ومبادئها، وأصولها، ومقاصدها، وفي ذلك مجال أي مجال! للاجتهاد بلا ريب، ومن ثم كان تعدد المذاهب الفقهية واختلافها.

هذا، في حين أن القانون الوضعي ـ على اختلافه باختلاف الأمم، وعلى تعدد أقسامه وفروعه، وعلى اختلاف المذاهب في طبيعته وكيفية تكونه ـ من عمل الإنسان.

ولهذا عكفوا على دراستها وتفسير نصوصها نصا نصا، كما يفعل مفسرو الكتب المقدسة، كالقرآن الكريم مثلاً، زاعمين أنها حوت كل شيء في بابها.

ولكن يبقي مع هذا وذاك، الفروق الضخمة في النتائج التي تجيء عن الفروق الضخمة أيضا من جعل القانون وليد صاحب السلطان الأعلى في المجتمع، أو اعتباره مشيئة الله العظيم بما فيه صلاح الفرد والمجتمع والإنسانية كلها.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، يبقي الفرق الكبير في النتائج التي تجئ عن الفرق الكبير أيضا من اعتبار القانون وليد مجموعة قانونية وشرحها وتفسيرها لمجموعة نابليون مثلا، وبين إرجاعه إلى نصوص القرآن الكريم والسنة المعصومة من الخطأ، بينما عمل الإنسان مهما كان أمره عرضة للخطأ كما هو عرضة للصواب.

ومن ثمّ، فإن رأي الفقهاء المسلمين في طبيعة الفقه ومصدره، وأنه في أسسه وأصوله العامة يرجع إلى وحي الله لرسولهr ، ليس فيه شئ من العيوب التي يراها رجال القانون للمذاهب المختلفة في تفسير طبيعة القانون وبيان كيفية تكونه، ومن هذه العيوب إهمال العرف وأثره في القانون، وأنه ما دام مصدره التشريع وحده يبقي جامدا لا يتطور حسب الزمان والمكان وطبقا لما توجبه مصلحة الأمة.

وأخيراً فإن من نتائج اختلاف النظريتين لطبيعة القانون والفقه الإسلامي، أن الأحكام الفقهية يكون لها من الاحترام ما لا يكون للأحكام، التي يوجبها القانون، وذلك لاختلاف مصدريهما: الوحي الإلهي من ناحية، وعمل الإنسان من ناحية أخرى.

ومن ثم، تكتسب الأحكام الفقهية الاستقرار، ويعمل بها الآخذون بها عن اقتناع داخلي ورضا نفسي، ما دامت ترجع في أساسها إلى الله العلي الحكيم الذي لا يجيء عنه إلا ما يحقق مصلحة الإنسان، والذي لا يأمر إلا بالمعروف ولا ينهي إلا عن المنكر.

ثانياً: التمهيد لأحكامه

ولا تتحقق الغاية المرجوة من القانون بحسن وضعه وأحكامه فحسب، وإنما تتحقق، مع ذلك، بتنفيذه ممن شُرِّع لهم، على أن يكون هذا التنفيذ بوازع من أنفسهم وقلوبهم. وهذا الوازع يجيء من إيمانهم بعدالة القانون، ورضاهم به، واعتقادهم المثوبة من المشرع على النزول راضين على تشريعاته وأحكامه.

وقد لاحظ شيئا من هذا، فيما قبل التاريخ الميلادي، أحد فلاسفة اليونان وهو أفلاطون المتوفى عام 347 ق.م. فإن الذي يدرس كتابيه الخالدين: "الجمهورية"، و"القوانين"، يتبين أنه كان حريصًا على التمهيد لكل من تشريعاته التي أراد أن يقيم عليها مدينته La Cite الفاضلة المثالية، بما يجعلها مقبولة، ومرضياً عنها من أهل هذه الدولة، أو الجمهورية التي أرادها لبني وطنه، والتي لم يتمكن من تنفيذها.

أما التشريعات الإسلامية كما نعرفها من القرآن الكريم والسنة النبوية، فإنها بلغت الكمال من ذلك كله، إذ قامت جميعها على اعتبارات من الدين والأخلاق تجعلها تبلغ غاية الرضا والإيمان ممن وجهت إليهم من المؤمنين جميعا، لا فرق بين المسلمين وغير المسلمين، وحسبنا أن نشير من ذلك إلى ما يأتي:

للجار على جاره حقوق، وعليه له واجبات، وهي ما تعرف في الفقه بحقوق الجوار. وهذه الحقوق ربما لا يرضى من هي عليه بالتسليم بها، فيضطر صاحبها لاقتضائها إلى الجوء للمحاكم ومن ثم يجدُّ كثير من المشاكل والحوادث والقضايا التي يفصل فيها القضاء ويكون تنفيذها بعد ذلك بقوة القانون، على أن هذا لا يمنع من بقاء الخصومة، والعداء بين المتقاضيين.

لكن الله العليم الحكيم والمشرع الوحيد بحق، والذي يعلم ما طبعت عليه النفس الإنسانية من أنانية وأثرة، يؤكد حق الجار على جاره إلى درجة أنه قرنه بالأمر بعبادة الله وعدم الشرك به، فقال: ]وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامي وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا[ (سورة النساء: الآية 36).

ولذلك، نجد الرسول r، يتناول هذا المعنى فيؤكده في أحاديث كثيرة، نذكر منها قوله ]مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 5556) وقوله ]مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 5559). وقوله ]مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 5560).

فمتى جاء الفقهاء بعد هذا، وبينوا هذه الحقوق، التي للجار، لا يسع من يؤمن حقا بالله وكتابه ورسوله،صلى الله عليه وسلم ، إلا المسارعة بأداء هذه الحقوق، ما دام الدين يبلغ من ذلك إلى حد الأمر بإكرام الجار، لا بإعطائه حقوقه فحسب. وحينئذ، ما الحاجة للقضاء والقانون، إلا لمعالجة من لم يخالط الإيمان قلوبهم، وفطرت نفوسهم على الشح ومنع الناس حقوقهم!

وفي الزكاة، وهي الصدقة المفروضة على ما يملك الإنسان من الأموال النقدية والزروع والأنعام، نجد القرآن الكريم يغرس في نفس المؤمن به أن أداء هذه الزكاة، بل التصدق المندوب إليه بشيء مما يملك، خير للمتصدق نفسه، فيقول ]خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[ (سورة التوبة: الآية 103).

ثم نجد، بعد القرآن الكريم، أحاديث كثيرة في الحث على الصدقة وتغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة، وتصوير هذه العقوبة بصور شنيعة. وبعد ذلك يؤكد للمتصدق أن الله سيعوضه عما أنفق خيرًا كثيرًا، فيقول: ]مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 1351).

والذود عن الوطن من مقاصد الإسلام وكل قانون، ولهذا كتب الله الجهاد على المسلمين، ذودًا عن الوطن، ودفاعًا عن الدين، ونشرًا له، لكنه لم يأمر بذلك أمرا مجردا فحسب، كما يفعل قانون التجنيد مثلاً.

إن الله يعلم أن أكثر النفوس فطرت على الضن بالنفس، كما فطرت على الضن بالمال، ولهذا رغب في الجهاد بضروب الترغيب المختلفة، ويبين أنه خير من الدنيا وما فيها، وأنه لا جزاء له في الآخرة إلا الجنة، ولكل هذا ونحوه، جاء كثير من الآيات والأحاديث.

من هذه الآيات، قوله تعالى ]فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا[ (سورة النساء: الآية 74)، وقوله ]إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْءَانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[ (سورة التوبة: الآية 111).

وبجانب هذه الآيات، نجد هذه الأحاديث عن الرسول r: ]تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَتِهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرُدَّهُ إِلَى مَسْكَنِهِ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَة[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 6909)، ]لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 2583).

وكان، لهذا المنهج في التمهيد لتشريع الجهاد وتحبيب بذل النفس في سبيل الدين، أثره الكبير، بلا ريب، في قلوب المؤمنين. فهذا جابر بن عبد الله يحدث أن رجلاً قال للنبي r يوم أحد: "أرأيت إن قتلت، فأين أنا؟ قال: في الجنة. فألقى تمرات في يده، ثم قاتل حتى قتل".

هذا هو الشأن في الفقه، أما في القانون الوضعي، فلا نجد لذلك مثيلا، حقيقة أن كل تشريع وضعي جدي، يقدم له واضعه بمذكرة إيضاحية تعتبر تمهيدا له، يبين فيها السبب في وضعه، والطرق، التي سلكها فيه، والغاية منه، إلى آخر ما تعنى به أمثال هذه المذكرات، أو التمهيدات لكل قانون جديد.

ولكن هذا شيء، وما انفردت به الشريعة الإسلامية من التمهيد لكثير من أحكامها على الوجه، الذي ذُكر، شيء أخر. فإنه بهذه التمهيدات، التي نجدها هنا وهناك في القرآن الكريم والسنة والآثار، يقتنع المخاطب حقا بأنه يدعو إلى الالتزام بقانون يحقق العدالة والرضا والرحمة لا العدل فقط. وأن في هذا الالتزام والنزول على هذه التشريعات رضا الله ورسوله r، وثوابا للإنسان نفسه في هذه الدار والدار الأخرى. وليس بعد هذا ما يبعث على طاعة القانون.

ثالثاً: جزاؤه دنيوي وأخروي

وهذه خصوصية أخرى تتصل شديد الاتصال بسابقتها، حتى تكاد تكون ملازمة لها، ذلك أن القانون يمكن أن يعرف بأنه مجموعة القواعد، التي تنظم الروابط الاجتماعية، والتي تحمل الدولة الناس على أتباعها، ولو بالقوة عند الاقتضاء، وهو يجازى على انتهاك أحكامه، إلاّ أن هذا الجزاء يكون دنيويا دائما، لأن واضع القانون لا يملك طبعا من أمر الآخرة شيئا، ومن ثم، لا جناح في الدنيا على من يستطيع الإفلات من هذا الجزاء.

أما القانون السماوي، وهو، في أسمى صوره الفقه الإسلامي، فعلى غير ذلك فيما يختص بالجزاء. إنه يثيب ويعاقب في هذه الحياة وفي الدار الأخرى أيضا والجزاء الأخروي أعظم دائما من الجزاء الدنيوي. ومن أجل ذلك، يحس المؤمن بوازع نفسي قوي بضرورة العمل بأحكامه وأتباع أوامره ونواهيه، ولو أمكنه التفلت من الجزاء في هذه الحياة الدنيا، فإن إيمانه يكون باعثًا على أتباع التشريعات، التي تستند إلى كتاب الله، وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم.

والتشريع، الذي يستند إلى الدين، يقصد صلاح الفرد والمجتمع، وهذه غاية نفعية بلا ريب، بيد أنه يريد بناء مجتمع مثالي نقي مما ينافي الدين والأخلاق، ولذلك لا يمكن أن يقر شيئًا ينافي شيئًا منهما.

كما أنه لا يقصد فقط إلى بناء مجتمع سليم. بل إلى سعادة الفرد والمجتمع والبشرية كلها في هذه الدار، وفي الدار الأخرى أيضا. كما يهدف كذلك إلى إحسان قيام الإنسان بواجبه نحو نفسه وإخوانه في الإنسانية،. ونحو الله تعالى بعبادته حق العبادة.

رابعاً: نزعته جماعية

إن التشريع الإسلامي يرمي، إلى صلاح الفرد والمجتمع، فالنزعة السائدة فيه هي النزعة الجماعية، ونقول(جماعية)، لا (اشتراكية)، لأن هذه الكلمة أخذت في هذه الأيام معنى خاصًا حددها، أو قصرها على الناحية المالية، والمقصود (بالجماعة)، معنى أوسع يتناول الناحية المالية، وغيرها حتى ليعم الحقوق والواجبات جميعاً.

وهذه النزعة أو الطابع الجماعي للتشريع الإسلامي نجده واضحا فيما جاء به الإسلام من عبادات، كما هو واضح فيما أتى من أحكام المعاملات، التي نراها في الحياة العملية؛ فكل هذه التشريعات في هاتين الناحيتين، تهدف إلى تهذيب الفرد وصالحه والصالح العام للمجتمع بأسره، والمثل لذلك واضح في تشريعات الإسلام وأحكامه.

من ذلك، مثلاً، حكمة شرعية الصلاة والصوم والزكاة والحج، وحل البيع وتحريم الربا، والأمر برعاية الجار والوفاء بالعقود، وتحليل الزواج لإنشاء الأسرة وتحريم الزنا، وإقامة الحدود صيانة للمجتمع، إلى آخر ما نعرف من الأحكام، التي جاءت بالأمر والنهي والحل والحرمة.

وبعد هذا التعميم لابد من التخصيص، وذلك بالإتيان ببعض الأمثلة المحدودة الواضحة الدلالة على الطابع العام للتشريع الإسلامي وهو الطابع الجماعي.

من حق الزوج أن تكون زوجته في طاعته، لتكون سكنا له، وليثمر الزواج ثمراته المنشودة منه، ولكن هذا الحق مقيد بألا يكون في استعماله ضرر للزوجة، وإلا منع منه القاضي أو حد من استعماله، حتى ليكون للزوجة في بعض حالات الضرر، طلب التطليق منه، ومن ثم، يقول الله تعالى: ]وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ولا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ولا تَتَّخِذُوا ءَايَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[ (سورة البقرة: الآية 231)، وهذا الأمر وإن جاء لحالة التطليق الرجعي، إلا أنه القاعدة في حالة قيام الزوجية أيضا.

ومن حق الحكام أن تسمع لهم الرعية ويطيعهم الشعب، ولكن ذلك مشروط بأن يصدروا في حكمهم وسياستهم للأمة عن المصلحة العامة، وفي هذا نرى الرسول r، يقول ]السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ إِلاَّ أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 5996). وهو كما نرى، أصل من أصول الحكم، له خطره الكبير، إذ إنه يحدد في دقة تامة سلطان الحكام وحقوق المحكوم، وفي أتباعه مصلحة الأمة جميعا.

ويروي الإمام أبو يوسف، أنه لما فتح الله العراق والشام على المسلمين أيام عمر بن الخطاب، أراد فريق كبير من الصحابة قسمة الأرض وما عليها بين أصحاب الحق من المسلمين الفاتحين، لكن الفاروق رأى أن يترك الأرض بيد ملاكها، على أن يدفعوا الخراج والجزية للمصلحة العامة للمسلمين جميعاً، وكان هذا الرأي توفيقا من الله لعمر بن الخطاب، كما عوده في كثير من الحالات.

ومن المعروف أن للمالك الحق في أن يتصرف في ملكه كما يشاء، ومن ذلك حق البيع لمن يريد، كما أن للمشتري الحق في شراء ما شاء، إذا رضي مالكه بيعه له، ومع ذلك، فالفقه الإسلامي أوجب حق الشفعة للشريك أو الجار على ما هو معروف، فيكون له تملك ما اشتراه الأجنبي جبرا عنه وعن المالك، الذي باعه له، وذلك لأن الحقوق لم يشرعها الله لضرر الآخرين بلا ضرورة، أو سبب، كما يعطي المالك حق البيع للجار بثمن المثل.

إن الفقه الإسلامي يحفظ الحق لصاحبه، ويبيح له استعماله كما يريد، ويحميه له من اعتداء الآخرين عليه، بشرط ألا يضار هؤلاء باستعمال صاحب الحق حقه، ضررا يكون أكبر من ضرر الحد من حرية صاحب الحق، وذلك تطبيقا لقاعدة: لا ضرر ولا ضرار، ودفعا لأكبر الضررين بالأخف منهما، فهذه القاعدة تحكم استعمال الحقوق، وفي تطبيقها تحقيق صالح صاحب الحق وصالح غيره معا.

وكذلك، تطبيقا لهذه القاعدة، يبيح التشريع السماوي للمرء أحيانا أن يحفر في أرض غيره مجرى ماء ليروي أرضه البعيدة عن مصدر الماء.

لقد روى يحيى بن آدم القرشي أنه كان للضحاك بن خليفة الأنصاري أرض لا يصل إليها الماء، إلا إذا مر ببستان لمحمد بن مسلمة، فأبى محمد بن مسلمة أن يدع الماء يمر بأرضه، فأتى الضحاك عمر بن الخطاب t، فقال لابن مسلمة: أعليك فيه ضرر؟ قال: لا، فقال له: والله لو لم أجد له ممرا إلا على بطنك لأمررته! وكان أن نفذ ما قضى به، وكان في هذا مصلحة للاثنين معا، فقد جاء ببعض الروايات أن الضحاك، حين أبى عليه ابن مسلمة أن يحفر الخليج بأرضه، قال له: تشرب منه أولاً وأخراً.

تلك الأمثلة، وغيرها كثير، فيها الكفاية لإثبات الطابع الجماعي للفقه الإسلامي، هذا الطابع الذي نجد في القرآن الكريم وسنة الرسول r، وأحكام وآراء الجلة من الصحابة المصدر الأصيل له، وذلك، كما قلنا، لأن الشريعة الإسلامية لم تأت لصالح الفرد وحده، بل لصالح المجتمع كله في أكبر حدوده.

أما القوانين، التي هي من صنع البشر، فلم تلاحظ في أول أمرها هذه النظرة الجماعية أو الاجتماعية السامية، بل كانت تسودها الروح الفردية، ولنأخذ مثلا لذلك. القانون المدني الفرنسي، الذي صدر عام 1804 م.

فقد كان هذا القانون وليد الثورة الفرنسية، التي كان هدفها الأول تحرير الفرد مما كان ينوء به من قيود وأثقال، في السياسة والقانون والاقتصاد وغير ذلك كله من نواحي الحياة العامة فجاءت هذه الثورة عام 1789 لتقرر أن للإنسان باعتباره فردا، حقوقا طبيعية بلغت من القداسة ألا يجوز العبث أو المساس بها، ولو لصالح الآخرين.

ومن ثم، ساد هذا القانون روح فردي قوي يلتئم مع الروح، الذي أملى إعلان حقوق الإنسان، وهو تدعيم حقوق الأفراد وحمايتها، وينظر إلى الفرد باعتباره العنصر الأهم في الحياة لا باعتباره جزءا من كلٍ هو الجماعة، ولقد كان من نتائج ذلك، أن أتى وقت اعتبرت فيه الحقوق مطلقة المدى، وأن صاحب الحق في استعماله سيد لا يسأل عما يترتب على هذا الاستعمال من الأضرار، التي تحيق بغيره.

ومن الحق، أن ما حدث بعد عصر الثورة الفرنسية من تطورات اجتماعية واسعة المدى والأهمية، قد أدى إلى تطور مماثل في القوانين، جعلها تنظر إلى الفرد وحقوقه باعتباره عضوًا في الجماعة، ومن ثم أخذت في الحد من حريته في استعمال حقوقه، فنشأت نظرية سوء استعمال الحقوق La Theorie De Labus Des Droite، والتعسف.

إلا أنه مع ذلك، بقي من الثابت، الذي لا ريب فيه، أن نظرة الشريعة الإسلامية لحقوق الأفراد وتقييدها، مما يحقق مصلحة الجماعة ولا يضر مصلحة الفرد نفسه صاحب الحق، أوسع مدى وأبعد أثرا من نظرة القوانين الحديثة في هذه الناحية. ولهذا نراها جميعا تبيح التعامل "بالربا" مع ما فيه من صالح صاحب رأس المال والضرر بالمحتاج للقرض.

ونعتقد أن هذه التفرقة الواضحة، بين طابع الشريعة الإلهية وطابع القانون البشري، ترجع إلى تفرقة أساسية في أصل حقوق الفرد في الشريعة والقانون.

إن القانون في أول أمره، يعتبر حقوق الفرد حقوقا طبيعية له، فهو يملكها ويتصرف فيها حسب ما يرى، ومن ثم لا حرج عليه ولا تثريب، إن أساء استعمالها. أما الشريعة الإلهية فترى أن الفرد نفسه، وكل ما يعتبر له عادة من حقوق، ملك الله تعالى وحده ومنحة منه لعبيده، ولا يمنح ما يمنح من حقوق الأفراد إلا لغرض حكيم، هو تحقيق الخير للفرد والمجتمع معا، ولذلك نجد تقييد استعمال الحقوق من نواح عديدة مختلفة.

ذلك، بأن من المسلم الذي لا جدال فيه أن وضع الشرائع، إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا، وأن هذا ثابت في جميع الأحكام بالاستقراء.

وهذا ما اختاره أكثر الفقهاء المتأخرين. ويترتب، منطقيا، على ذلك الأساس، وجوب أن يكون الإنسان في عمله واستعماله لحقوقه متفقاً مع قصد الله من التشريع، وإلا كان عمله باطلا، لمناقضته للشريعة ومقاصدها.

خامساً: قبوله للتطور

كل ضرب من الفقه يجب أن يكون، في طبيعته وأدواته وأصوله، ما يجعله قابلا للتطور حسب الزمان والمكان، ليكون صالحا للبقاء، وإلا كان "فقها" ميتا غير صالح للحياة.

والفقه الإسلامي له، من كل ما سبق، ما جعله خالدًا يتطور مع الزمن. وقد ظهر، فيما مضى، بدء هذا التطور وشيء منه في زمن الخلفاء الراشدين أنفسهم. ولو أن رجاله قاموا عليه كما يجب ولم يجمدوا على القديم، ما كانت الأمة الإسلامية بحاجة مطلقا إلى لجوء للفقه والقوانين الغربية تأخذ منها تشريعاتها وقوانينها.

وهكذا صرنا إلى حالة مؤلمة من الأخذ عن الغرب في كل شيء، حتى كأننا أمة ليس لها مقوماتها الذاتية وتقاليدها الطيبة، وإن كنا، بحمد الله تعالى، نرى الآن فجرا جديدا ليوم جديد نعمل فيه لاستقلالنا حتى في التشريع، وهذا بفضل الالتفات للشريعة الإسلامية والإفادة منها وتطبيقها.

ووسائل تطور الفقه الإسلامي كثيرة، ولكن أهمها: الإجماع، والقياس، والاستحسان، ومبدأ المصالح المرسلة، ووجوب رعاية العرف على شروط خاصة، ومنها ألاّ يتعارض مع النص. ونكتفي الآن بالكلام عن العرف بصفته وسيلة من وسائل التطور للفقه، مكتفين في الحديث عنه بالكلام عن نشأته وتعريفه، واعتبار الرسول r نفسه له، وشروط اعتباره، وذكر أمثلة له في أزمنة وأمكنة مختلفة.

العرف في اللغة التتابع، يقال: جاء القوم عرفا، أي بعضهم خلف بعض، ومنه قوله تعالى: ]وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً[ (سورة المرسلات: الآية 1). وينشأ العرف عن العادة، وهي ما يستقر في النفوس من الأمور المتكررة المعقولة عند الطباع السليمة، وذلك لأن اشتقاق كلمة "العادة" من المعاودة مرة بعد أخرى، فإذا تعارفها الناس في بلد أو بلاد عديدة صارت أمرا معروفا أو عرفا. وبعض هذه الأمور المتعارفة يرجع إلى دين الأمة، ومنها ما يرجع إلى تاريخها، ومنها ما يرجع إلى تقاليدها.

وللعرف على المرء سلطان كبير، فهو ينزل على أحكامه، وإن كان لا يوافق على بعضها، كمن يسرف في أمور الزواج، استجابة لداعي العرف، وهو ساخط، إلاّ أنه يخشى أن تصيبه المعرة، إن خرج على ما تعارفه قومه.

ولما للعرف من هذا السلطان، نرى الرسول r، يقر ما كان حسنا منه وبخاصة في باب المعاملات، كما في السلم والمضاربة، وقد تقدم حديث الرسول r.

وفي المضاربة يقول فخر الدين الزيلعي: فإنه r بعث والناس يتعاملونها. فتركهم عليها وتعاملها الصحابة رضى الله عنهم ألا ترى إلى ما يروى أن العباس بن عبد المطلب كان إذا دفع مالاً مضاربة شرط عليه (أي على المضارب الذي يعمل في المال تجارة) ألا يسلك به بحرا، وألا ينزل واديا، وألا يشتري ذات كبد رطب، فإن فعل ذلك ضمن. فبلغ ذلك رسول الله r فاستحسنه.

وإذا كان العرف، عاماً أو خاصاً على الخلاف، يجيز تخصيص الأثر أو "الحديث"، ويترك من أجله القياس، فبالأولى يترك من أجله أقوال الفقهاء، وإن كانوا من أئمة المذهب، لأن هؤلاء الفقهاء يفتون في كثير من أحكامهم بحسب عرف أهل زمانهم، بحيث لو كان هذا الفقيه أو ذاك في زمن العرف الحادث لقال بخلاف ما قال أولا، ولذلك نرى مشايخ المذهب كثيرا ما يذهبون إلى خلاف ما نص عليه المجتهد[1].

ومن هذا، الفتوى أخيرا بجواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم والأذان وإمامة الناس ونحو ذلك، على خلاف ما اتفق عليه الإمام أبو حنيفة وصاحباه، لانقطاع أعطيات من كانوا يلون هذه الأعمال في الصدر الأول، وخوف ضياع القرآن الكريم والدين، لو لم يأخذ من يقوم بهذه الأعمال أجرا عليها.

ومن ذلك أيضا جواز بيع الثمار والخضر على الأشجار والأصول، ولم تكن ظهرت كلها وقت عقد البيع، فقد أجازه بعض العلماء للعرف. ومنه عدم جواز اتجار الوصي بمال اليتيم في هذا الزمن، لفساده بفساد أهله ومسائل أخرى كثيرة، في الإقرار والأيمان والنذور والزواج وغيرها.

وأخيرا، نرى، مما تقدم، مقدار صلاحية الفقه الإسلامي للتطور إلى الخير دائما بوسائله الخاصة، حسب الزمان والمكان وما يتجدد من الأحوال والعادات والأعراف وأن من وسائل هذا التطور رعاية العرف، وأن كتب الفقه مليئة بالأدلة على هذا التطور وبالأمثلة لبناء الأحكام على الأعراف المتجددة، بشرط عدم معارضة العرف للنص الشرعي.

ولذلك لا يصح لنا، في هذه النهضة التشريعية، أن نغل أيدينا وعقولنا عن الإفادة من هذا الفقه، بجمودنا على القديم وحده، دون مسايرة الزمن، الذي يتطور دائما، ما دمنا لا نخرج عن مقاصد الشرع وأصوله الصحيحة.

سادساَ: غايته

لكل نظام غاية يريدها واضعه منه، وإلا كان وضعه عبثاً لا يليق من عاقل. والقانون الوضعي نظام من النظم بلا ريب، فما هي الغاية، التي يقصدها المشرع منه ؟

إن الكلام في هذه الغاية سهل ميسور كل اليسر، إنها ليست إلا استقرار المجتمع، الذي وضع له هذا القانون. وذلك بتنظيمه وبيان حقوق وواجبات كل من أفراده فيما يختص بعلاقاتهم بعضهم مع بعض.

هذه الغاية إذن غاية نفعية محدودة، وهي إقامة النظام في المجتمع على نحو من الأنحاء. وهي غاية يحرص عليها واضع القانون كل الحرص، ولو "اقتضاه ذلك أن يحيد أحيانا عن مقتضى قواعد الأخلاق والدين، فالقانون مثلا يقر بملكية العقار لمن يضع يده عليه خمس عشرة سنة بنية تملكه حتى لو كان غاصبا، كما أنه يقضي بسقوط الحق بالتقادم، إذ يرى أن ذلك أدنى إلى قيام النظام في المجتمع مجاوزاً ما تقضي به قواعد الأخلاق في هذا الخصوص".

والقانون مع هذا لا يقصد إلا غاية نفعية محدودة، كما سبق، ولأن ذلك قد يقتضيه أن يبعد أحيانا عن بعض قواعد الدين والأخلاق نراه يبيح وينظم، هكذا يرون! غير قليل من الأمور، التي لا يبيحها دين أو خلق.

هذا هو القانون الوضعي في عامة صوره ومذاهبه، أما التشريع الإسلامي، فهو نظام آخر في غايته، وذلك من نواحٍ عديدة مختلفة، ومن ذلك بالإجمال دون التفصيل.

فمن ناحية أولى، أن هذا الفقه له مجال لم يتعرض له القانون بحال، وهو تنظيم علاقة الفرد بربه، وذلك بأحد قسميه الكبيرين، نعني قسم "العبادات". فهذه العبادات، من صلاة وصوم وزكاة وحج، تهدف، كما نعلم جميعا، إلى تطهير الروح ووصلها بالله جل وعلا، وتزكية النفس وصحة الجسم، وصلاح الفرد والجماعة معا من وجوه عديدة في هذه الحياة الدنيا، وفي الحياة الأخرى أيضا.

ومن ناحية أخرى، نجد هذا "الفقه"، إذا اقتصرنا على ناحية المعاملات منه، "وهي تشمل فروع القانون المتعددة، قد أوفى على الغاية وضرب المثل الأعلى لرعاية الفرد والمجتمع والإنسانية بعامة".

وذلك بما وضع من مبادئ عامة وأصول كلية، تحكم تصرفات الإنسان، وبما قرره من أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وبما صدر عنه من أن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة، وبما حرمه أو نهى عنه من تصرفات وعقود، تضر بالمجتمع والأمة، وإن كان فيها منفعة لأحد أطرافها.

أما المبادئ العامة والأصول أو القواعد الكلية، فقد حفلت بالكثير منها كتب معينة، مثل كتب "الأشباه والنظائر" لابن نجيم الحنفي والسيوطي الشافعي، و"الموافقات" للشاطبي، و"الفروق" للقرافي. وعلى كل، فسيأتي جانب صالح منها عند الكلام على "أسس التشريع العامة" فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

على أن من هذه الأصول القاعدة، التي تقرر أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة. وهنا نجد الإمام الشاطبي، بعد أن قرر هاتين القاعدتين، ذكر في ذلك تفصيلات، لا نرى من الضروري سردها.

ولكن يمكن تلخيص ما ذكره أن المرء قد يمنع شرعا من عمل هو في الأصل مباح له وفيه مصلحة له، وذلك إذا ترتب عليه ضرر قطعي لغيره، أو يكاد يكون كذلك، أو إذا ترتب عليه ضرر عام، وذلك لأنه لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، "ولأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة"، إلى آخر ما قال.

ويتصل بهذا، نهي الشارع أو تحريمه لبعض التصرفات، التي تضر بالآخرين، مع إجازة القانون الوضعي للكثير منها وإن كان فيها منفعة، والمثل لذلك كثيرة منها:

1. حرم الله تعالى الربا في جميع صوره تحريما قاطعاً، وتوعد عليه بأغلظ عقاب، وذلك إذ يقول: ]الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهي فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[ (سورة البقرة: الآية 275). وإذ يقول في السورة نفسها: ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ[ (سورة البقرة: الآيتان 278، 279).

2. ونهى الرسول r عن "بيع الغرر"، والغرر هو الذي لا يدري هل يحصل، أو لا يحصل، وذلك كبيع الطير في الهواء والسمك في الماء قبل صيده، وبيع ما سينتج من الخضر أو الزرع من هذه الأرض، أو ما سيكون من الفاكهة في هذا البستان، وبيع السيارة الضائعة أو الحيوان الضال. كل ذلك نهى عنه الشارع، لأن فيه مخاطرة أو مقامرة من البائع والمشتري على السواء.

3. وكذلك ثبت ابْنَ عُمَر t كَانَ يَقُولُ "نَهَى النَّبِيُّ r ]أَنْ يَبِيعَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَلَا يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 4746)، وكما يحرم هذا البيع يحرم أن يشترى المرء على شراء أخيه لأن في كليهما ضررا بالآخر، قَالَ رَسُولُ اللَّه r ]لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ[ (سنن ابن ماجه، الحديث الرقم 2332).

4. وبعد هذا كله نجد في الناحية الإدارية، وهي جانب مما يسمى "السياسة الشرعية"، عناية كبيرة من الفقه الإسلامي ورجاله بما فيه المصلحة العامة للمسلمين جميعا، لا بما يحقق مصلحة فرد بعينه أو جماعة بعينها. والفقهاء في هذا يرجعون إلى القرآن الكريم وحديث الرسول المصطفى r، وإلى روح الإسلام عامة.

ونكتفي هنا بمثال واحد، فيه غنية عن سواه في هذه الناحية، وهو خاص بمناصب الدولة وأعمالها ومن يليها.

إن المعروف في الدولة، التي يسودها القانون الوضعي، أن المناصب والأعمال توكل لمن هم أهل لها، والمقياس الأول، إن لم نقل الوحيد في هذه "الأهلية"، هو الشهادة أو الدرجة العلمية، التي يفترض أن الحاصل عليها يكون أهلا لهذا المنصب أو ذلك.

أما في الفقه الإسلامي السياسي، إن صح هذا التعبير، فالمقياس هو الصلاحية الحقة، لا العلم أو الدراية وحدها، بمعنى أنه يجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال الدولة أصلح من يجده لهذا العمل. وفي هذا يقول الرسول r، من ولي من أمر المسلمين شيئا، فوَلى رجلا، وهو يجد من هو أصلح منه للمسلمين، فقد خان الله ورسوله".

ولهذا يقول تقي الدين ابن تيمية في بعض كتبه: "وينبغي أن يعرف (أي ولي الأمر) الأصلح في كل منصب، فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة، كما قال تعالى: ]قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ[ (سورة القصص: الآية 26). ثم يذكر بعد هذا أن القوة في كل ولاية بحسبها، فهي في إمارة الحرب مثلا، ترجع إلى الخبرة بها، وإلى شجاعة القلب، وهي في ولاية الحكم بين الناس، ترجع إلى العلم بالعدل، الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام.

ثم يذكر بعد ذلك أن اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل؛ فالواجب في كل ولاية الأصلح حسب نوع هذه الولاية؛ فيقدم في إمارة الحرب الرجل القوي الشجاع على الضعيف العاجز، وإن كان أكثر أمانة منه، وإن كانت الولاية في حفظ المال ونحو ذلك وجب تقديم الأمين على القوي، وهكذا إلى آخر ما ضربه من مثل تعتبر تطبيقات لمبدأ تقديم الأصلح للولايات والمناصب المختلفة.

هذا؛ وفي الناحية الاجتماعية فيما يختص برعاية المحتاجين، فإن في الفقه الإسلامي نظاماً لا نظير له، في أي قانون وضعي أو دين آخر، ونعني به نظام "الزكاة" التي تؤلف باباً مهما من قسم "العبادات" في الفقه.

إن المشرع الحكيم، وهو الله اللطيف الخبير بعباده والعليم بهم، يعلم أن الناس تتفاوت حظوظهم من المال ومتاع هذه الحياة تفاوتا كبيرا، ولذلك فرض في مال الأغنياء حقا معلوما للسائل والمحروم، كما في القرآن الكريم، وهذا الحق المعلوم يؤخذ من الأغنياء ليعطى للفقراء والمحتاجين معونة لهم من الدولة والأفراد.

وسجل التاريخ أن هذه الرعاية كانت تمتد حتى تشمل المحتاجين من غير المسلمين. فهذا عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، يرى رجلا من "أهل الذمة" يتكفف الناس، فسأله عما ألجأه إلى ذلك، وحين عرف أنه في حاجة إلى العون قال: ما أنصفناه، أكلنا شبيبته وضيعناه عند الهرم! ثم أمر برفع الجزية عنه، وأن يعطى وعياله ما يكفيهم من بيت المال، طوال مدة إقامتهم بدار الإسلام، وصار ذلك مبدأ له ولأمثاله من المحتاجين.

ومما تقدم كله، وهو قليل من كثير، يمكن أن يقال بحق في هذه النواحي كلها: إن الفقه الإسلامي قد أوفى على الغاية، وضرب المثل العليا لرعاية الفرد والمجتمع والإنسانية.

ومنه ظهر بحق، أن لهذا الفقه طبيعة خاصة به، وأن له خصائص ينفرد بها، على غيره من ضروب الفقه والقوانين العالمية، وأن من الخير أن نعرف له قدره، فنجعله الأساس الأول لتشريعاتنا الحديثة، التي نحكم بها في بلدنا وفي غيره من بلاد العروبة والإسلام.

***********************************
[1] ولهذا. لابد للمجتهد والمفتي من معرفة عادات الناس وأعرافهم في زمنه تيسيراً عليهم.


أحكام الشريعة الإسلامية 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

أحكام الشريعة الإسلامية Empty
مُساهمةموضوع: رد: أحكام الشريعة الإسلامية   أحكام الشريعة الإسلامية Emptyالجمعة 13 يناير 2012, 1:04 am


المبحث السادس

أسس التشريع العامة

خلق الله العالم بعنايته، وأحاطه دائما برعايته، فلم يتركه بلا هداة يرشدون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. فكان من رحمته وعدالته أن يرسل له الرسول بعد الرسول. وقد عرفت البشرية كثيرا من رسل الله هؤلاء، وكل كان يرسل إلى قومه وأمته، فكان له عصره الموقوت وناسه المحدودون.

وظل الأمر كذلك، حتى استعدت البشرية لتقبل رسالة عامة، تظل أبد الدهر، وكانت هذه الرسالة هي الشريعة الإسلامية، بعد أن استنفدت الشرائع والديانات السابقة أغراضها، وأصبحت غير وافية بحاجات البشرية، وغير صالحة لكل عصر ومكان، فيما يأتي من الزمان إلى يوم الدين.

وإذا كانت الرسالة الإسلامية ليس بعدها رسالة إلهية أخرى، وإذا كان رسولها هو خاتم النبيين، وإذا كان من النتائج المنطقية لذلك أن أرسل إلى الناس كافة، وجب أن يكون ما فيها من تشريعات قد قامت على أسس تجعلها صالحة للناس عامة، في كل مكان وزمان.

والأمر كذلك حقا، فإن هذه الشريعة، بما قامت عليه من أسس قوية ومرنة معا صالحة حقا لكل بلد وناس وعصر وآن. ولا نجد هنا ضرورة لتعداد هذه الأسس وشرحها في تفصيل ولهذا نكتفي بالإجمال، الذي فيه غَناء، ويكون هذا بالكلام عن هذه الأسس وحدها.

أولاً: عدم الحرج

قول الله تعالى ]َياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[ (سورة المائدة: الآية 6).

ويقول ]وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصّلاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ[(سورة الحج: الآية 78)، ويقول: ]ليس عَلَى الأَعْمي حَرَجٌ ولا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ ولا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا[ (سورة الفتح: الآية 17).

ويقول ]شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[ (سورة البقرة: الآية 185)، ويقول] يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا[ (سورة النساء: الآية 28).

وهكذا، نرى من هذه الآيات أن الله، الرحمن الرحيم، والعالم بتفاوت الناس صحة ومرضا وقوة وضعفا، رفع عنا الحرج ودفع المشقة عن الناس جميعا بعامة، وعن المرضى والمصابين بخاصة.

ولرفع الحرج ودفع المشقة عنا مظاهر كثيرة، منها ما هو في العبادات، ومنها ما هو في المعاملات، ومنها ما هو في العقوبات وما يتصل بها، ولنذكر أمثلة توضح كلا من هذه النواحي:

ففي العبادات نرى أولا عدم كثرة التكاليف، التي جاءت في القرآن الكريم خاصة بها، حتى صار من اليسير القيام بها دون عنت ولا مشقة، كما نرى إباحة قصر الصلاة حال السفر، والفطر للصائم إذا كان مريضا أو على سفر، وهذا ما نجده منصوصا عليه في القرآن الكريم، وإباحة التيمم بدل الوضوء للصلاة، لمن لم يجد الماء أو كان في استعماله ضرر به، وتناول المحرم كالخمر ولحم الخنزير عند الضرورة بقدر الحاجة.

بل، إن الله لم يفرض علينا الصوم إلا شهراً واحداً في العام، وهذا لما يعلمه الله فيه من جهد الجسم والنفس، ومع ذلك أباح الفطر لمن يشق عليه الصوم.

وفي الحج كثير من التكاليف البدنية والمالية، وفي ذلك بلا ريب مشقة على كثير من الناس، ولهذا لم يفرضه إلا مرة واحدة في العمر كله، ثم لم يفرضه إلا على من استطاع إليه سبيلا[1].

والأمر كذلك في الزكاة، فلم يفرضها إلا على القادر، الذي يفيض ماله عن حاجته، وجعلها العشر أو نصف العشر فقط، وهذه نسبة تقل كثيرا عن أنواع من الضرائب، التي تجبيها الحكومات الحديثة، هذه الأيام.

وفي ناحية المعاملات، نجد اليسر شاملا، فليس هناك إجراءات رسمية أو شكلية يجب إتباعها ليكون العقد صحيحا كما كان الأمر عند الرومان، بل تكفي في هذا رغبة المتعاقدين فقط كما هو معروف، ومن ثم لا نجد في القرآن الكريم في جواز العقود إلا شرط الرضا، ومصدق ذلك الآية التي تقول ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا[ (سورة النساء: الآية 29). فإن كلمة "تجارة" تشمل كل أنواع المعاملات.

ومن باب التيسير في المعاملات أيضا، ابتناء كثير من الأحكام على العرف الصحيح نوعا، وفي هذا ملاحظة لاختلاف العرف والعوائد، باختلاف المكان والزمان.

وفي باب العقوبات، نجد أن منها ما يسمي في الفقه "بالحدود" وهي عقوبات الزنا والقذف والسرقة وشرب الخمر، صيانة للعرض والنسل والمال والعقل، وفي هذا، نجد الرسول r يقول ]ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ فَإِنَّ الإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ[ (سنن الترمذي، الحديث الرقم 1344)؛ ولذلك ، يسقط الحد عن السارق لما يقتات به، حفظا لنفسه، إذا كان لا يجد شيئا غيره، وعمن سرق ما يسد حاجته من مال يدعي أن له حقا فيه.

ومن دلائل اعتبار التيسير في التشريعات من أسس الشريعة الإسلامية، أن الله تعالت حكمته، تفضل ورفع عنا تكاليف كثيرة شاقة وعقوبات شديدة ضربها على اليهود جزاء بغيهم وعدوانهم، وفي ذلك نزلت هذه الآيات.

1. ]فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا[ (سورة النساء: الآية 160).

2. ]وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ[ (سورة الأنعام: الآية 146).

3. ]وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ(156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[ (سورة الأعراف: الآيتان 156، 157).

وإذا وضعنا هذه الآيات بجانب آية أخرى يخاطب بها الله سبحانه المسلمين، وهي قوله تعالى ]قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[ (سورة الزمر: الآية 53). نلمس أي رحمة ويسر خص بهما عباده المسلمين المؤمنين به وبما أنزل على رسوله r!

هنا رحمة وسعت كل شيء، ودعوة إلى التوبة، التي تمحو الذنوب، وهناك أخذ بالعقاب الغليظ المتعدد الألوان! هنا، تحليل للطيبات من الرزق، فلا تحريم إلا للخبائث، كالخمر والميتة والخنزير، ووضع لما كان على اليهود من إصر وأغلال! وهناك، هذا الإصر وهذه الأغلال تضرب عليهم، في صور تكاليف ثقيلة وتشريعات شديدة! فهل بعد هذا يسر وتسهيل!

فقد ذكر المفسرون "للإصر" معاني كثيرة، وكلها ترجع إلى الأمر الغليظ الصعب، فمنها، أنه المسخ قردة وخنازير، وأنه الذنب ليس له توبة ولا كفارة، وقد بين "الإصر" في مكان آخر بأنه التشريعات الشديدة، وذلك مثل: أن الجزء النجس من الثوب يجب قرضه، وتحريم الانتفاع بغنائم الحرب، وتحريم العمل يوم السبت، وعدم قبول"الدية" بدل القصاص، والأمر بقتل أنفسهم علامة لتوبتهم.

وهذا كله، فضلا عن تحريم ما حرم عليهم من لحوم بعض الحيوانات وشحوم بعض آخر على ما ذكر من قبل.

ثانياً: رعاية مصالح الناس جميعا

إنه ليكفينا هنا أن نرجع إلى ما ذُكر، من قبل، عن "نزعة الفقه الجماعية"، ففيه غَناء أي غناء، في بيان مقصد التشريع الإسلامي الأول، وهو تحقيق المصالح الحقيقية للناس عادة، لا فرق بين جنس وجنس، وأمة وأخرى. ومن ثم جاء في القرآن الكريم أنه أنزل رحمة للعالمين، ما دام رسوله كان رسولا للناس كافة.

وهنا، يظهر فرق واضح بين التشريع الإسلامي وبين القانون الوضعي، لهذه الدولة أو تلك من دول الأرض جميعاً. لأن كلا منهما يسري في حق جميع المخاطبين بأحكامه،. ولكن المخاطبين بأحكام القانون محدودون بحدود الإقليم، أو بجنس الدولة، التي يعتبر القانون قانونا لها، على حين أن الأمر ليس كذلك في الشريعة الإسلامية.

ذلك بأن مبدأ سريان القانون، حتى يعم جميع المخاطبين به، يكون على أحد هذين النوعين:

1. سريان إقليمي: وهو ما يعبر عنه بمبدأ إقليمية القانون Territorialite de la loi، فيطبق على كل المقيمين في هذا الإقليم من وطنيين وأجانب، ولا يطبق على من يوجد خارجه وإن كان مواطنا.

2. سريان شخصي: وهو ما يعرف بمبدأ شخصية القانون Personnalite de la loi، فيطبق على كل المواطنين، حتى من كانوا خارج الوطن، ولا يطبق على الأجانب، المقيمين في الوطن.

أما الأمر في التشريع الإسلامي، فهو مختلف عن ذلك تماما، إلا في بعض الحالات المستثناة، وهذا من ناحيتين:

1. أن المسلمين جميعا مخاطبون بالتشريع الإسلامي، أينما كانوا في أي بلد من بلاد الله، وهذا ما يخرجه عن نطاق "الإقليمية"، وذلك لأن الإسلام يعتبر المسلمين جميعا أمة واحدة بنص القرآن الكريم، وإن تعددت أوطانهم، التي استخدمت أخيرا[2].

2. وبالنسبة لغير المسلمين، نرى أن الفقهاء قد اختلفوا في مسألة هل يعتبر "الكفار" مخاطبين بأحكام الإسلام من الإيمان والعبادات والعقوبات، أم غير مخاطبين بها جميعا، أم هم مخاطبون بالبعض دون البعض. وفي هذا يذكر ابن عابدين ما نصه.

"الرأي المحرر، في المنار وشرحه لصاحب البحر، أن الكفار مخاطبون بالإيمان وبالعقوبات سوى حد الشرب (لاعتقادهم حل الخمر) والمعاملات. وأما العبادات فقال السمرقنديون إنهم غير مخاطبين بها آراء واعتقادا، وقال البخاريون إنهم غير مخاطبين بها أداء فقط، وقال العراقيون إنهم مخاطبون بهما.

(أي بالأداء والاعتقاد) فيعاقبون عليهما، (وهو المعتمد) ثم ذكر بعد ما تقدم بسطر واحد: "وحاصله، أن لهم حكمنا في العقوبات والمعاملات، إلا ما استثنى، دون الإيمان والعبادات، فلا نطالبهم بهما وإن عوقبوا عليهما في الآخرة". والنتيجة لهذه الناحية وتلك، أن التشريع الإسلامي يعتبر ساريا في حق جميع المخاطبين به سريانا إقليميا وشخصيا معا، إلا بعض ما استثني، وهو قليل.

وإذا كان الأمر كذلك، كان من الطبيعي أن يستهدف هذا التشريع مصلحة الناس كافة، لا فرق بين أجناسهم وأديانهم، وفي هذا يقول الإمام الشاطبي:

"إننا وجدنا (بالاستقراء) الشارع قاصدا لمصالح العباد، والأحكام العادية (أي أحكام المعاملات) تدور معه حيثما دار. فترى الشيء الواحد يُمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز، كالدرهم بالدرهم إلى أجل يمتنع فيه المبايعة، ويجوز فيه القرض، وبيع الرطب باليابس (كالتمر) مثلا يمتنع حيث يكون مجرد غرر وربا من غير مصلحة، ويجوز إذا كان فيه مصلحة راجحة" إلى آخر ما قال.

ومن المعروف أن المصالح تتضارب كثيرا، فربما كان الخير لهذا في ضرر يصيب ذاك، وهنا بينت الشريعة أنه يجب في هذه الحالات تقديم المصلحة العامة على الخاصة، وأن الضرر الأكبر يجب أن يزال بالضرر الأدنى، وفي هذا وذاك يقول الرسول r "لا ضرر ولا ضرار".

ومن باب التطبيق أيضا: إباحة نزع ملكية بعض الناس، توسعة لطريق أو مجرى أو غير هذا وذاك من المنافع العامة، وإيجاب نفقة القريب المحتاج على قريبه، وإكراه المدين الموسر على الوفاء بدينه ولو بالحبس، وفرض الزكاة حقا معلوما في أموال الأغنياء للسائل والمحروم من الناس، وللحاكم أخذها من الأغنياء ولو بالقوة.

ومن باب التطبيق، كذلك، لهاتين القاعدتين، ولقواعد عامة أخرى قام عليها التشريع الإسلامي، يجئ ذكر بعضها، فيما بعد، كان تحريم الربا والقمار، وشرب الخمر، والخداع والتغرير في المعاملات، وأمثال هذا كله، وذلك حفظا للمال والعقل، وتدعيما للأخوة بين المسلمين والآخذين بهذه الشريعة العامة للناس جميعا.

ثالثاً: تحقيق العدل للناس عامة

وهذا ما ينبغي الوقوف عنده طويلا، فليس كالشريعة الإسلامية أي قانون،في رعايتها للعدالة لا للعدل فقط. ولم ترع هذا للمسلمين وحدهم، بل للناس كافة، حتى للأعداء، وإن كانوا في حالة حرب فعلية معنا. فإن هذه الشريعة قد بينت حقوق الفرد والجماعة أيا كان ذلك الفرد وهذه الجماعة، وعملت بأحكامها على صيانة هذه الحقوق لأربابها، وبذلك أصبح الكل آمنا على نفسه وماله وجميع حقوقه.

والقرآن الكريم، وكذلك سنة الرسول العظيم r، مصدر حافل بالآيات، التي ورد فيها الحث على العدل، والأمر به، والوعد بالإثابة عليه، والآيات الأخرى، التي ورد فيها تحريم الظلم والتنفير منه، والتوعد بالعقاب عليه. وقد وردت في القرآن الكريم كلمة "عدل"، ومشتقاتها بالمعنى، الذي نريد نحو 20 مرة، وكلمة "ظلم"، ومشتقاتها نحو 299 مرة. كما أتت فيه كلمة "عدوان"، ثماني مرات! وكلمة "اعتدى"، ومشتقاتها نحو 20 مرة!

ومن هذه الآيات الآمرة بالعدل مع الأولياء والأعداء، على حد سواء:

1. ]إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهي عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[ (سورة النحل: الآية 90).

2. ]إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا[ (سورة النساء: الآية 58).

3. ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا[ (سورة النساء: الآية 135).

4. ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[ (سورة المائدة: الآية 8).

ومن هذه الآيات، ترى مقدار حرص القرآن الكريم على إقامة العدل وعدم التقصير فيه، ولو اقتضانا ذلك أن نشهد به على أنفسنا وأقرب الناس إلينا، وعلى ألا يدفعنا بغض قوم على عدم العدل إليهم، وذلك لأن العدل هو الأساس المتين، الذي لا تقوم الحياة والعالم بدونه.

هذا، ونختم الحديث هنا بإيراد ملاحظتين، وهما:

الأولى: أن الشريعة، التي تقوم على فكرة العدل الكامل على هذا النحو، يجب أن تكون شريعة مثالية تنظر إلى الناس جميعا نظرة واحدة، فهم أمامها سواء لا فرق بين سيد ومسود ونبيل ووضيع، ومن ثم، فهي تعدل بينهم في أحكامها، هذه هي الشريعة الإسلامية.

إن هذه الشريعة لا تنظر بحال ما إلى نبالة المولد، ولا إلى وجاهة الغنى والثروة، بل هي لا تعرف ميزانا يتفاضل به الناس إلاّ التقوى، والعمل الصالح، وفي هذا يقول القرآن الكريم ]يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[ (سورة الحجرات: الآية 13)، ويقول الرسول المصطفى r ]لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلا بِالتَّقْوَى[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 22391).

أمام هذه الشريعة ليس إلاّ العدل المطلق، بقدر ما يتاح لبشر، سواء في ذلك ما يقتضي الثواب أو ما يقتضي العقاب. ومن ذلك أن أسامة بن زيد حب الرسول r، شفع لديه في المرأة المخزومية، التي سرقت، مدفوعا من قريش، فقال الرسولr ]أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 3216).

والثانية: أن القانون الوضعي يقتصر، مبدئياً، على مجرد تحقيق العدل،La justice لا العدالة L'equite ؛ لأن العدل يقتضي المساواة في الأحكام على أساس الوضع الغالب في الحياة، من غير اعتداد بتفاوت الظروف أو اختلاف الجزئيات في الحالات المتماثلة، على حين أن العدالة تقتضي المساواة المجسمة الواقعية في المعاملة للحالات المتماثلة، إذا تماثلت في ظروفها وجزئياتها الواقعية.

وهذا النوع من المساواة لا يستطيع واضع القانون تحقيقها، لأنه لا يستطيع قبل وضعه للقواعد القانونية التنبؤ مقدما بتلك الظروف أو الجزئيات الواقعية، لكل من تلك الأوضاع والحالات المستقبلية.

هذا بينما واضع التشريع الإسلامي في أسسه وقواعده العامة وفي كثير من أحكامه التفصيلية، هو الله العليم بكل شيء والخبير بكل ما كان ويكون إلى آخر الدهر، فهو بلا ريب قادر سبحانه على تحقيق العدل والعدالة معا.

****************************
[1] ورد أن رسول الله r كان يعلم الناس فريضة الحج فسأله رجل ثلاث مرات يقول: كل عام يا رسول الله ؟ والرسول يعرض عنه. فسأله مرة رابعة، فقال الرسول مجيباً له ]والذي نفسي بيده لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت، ما استطعتم! ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم[ وفي هذا نزل قوله تعالى: ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ(101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ[ (سورة المائدة: الآيتان 101، 102).

[2] وفي هذا جاء قوله تعالى: ]إنّ هذِهِ أُمّتُكُم أُمّةً واحِدةً وأنا رَبُّكُم فَاعْبدُونِ[ ( سورة الأنبياء: الآية 92).

**********************************

الفصل الثالث

أحكام الشريعة الإسلامية ومستقبلها

المبحث السابع: وسائل معرفة أحكام الشريعة الإسلامية

المبحث الثامن: مبادئ الشريعة

المبحث التاسع: أحكام الشريعة الإسلامية (الحقوق وأقسامها الأربعة)

المبحث العاشر: مستقبل التشريع الإسلامي

**********************************

المبحث السابع

وسائل معرفة أحكام الشريعة الإسلامية

هناك وسيلتان لمعرفة مبادئ الشريعة الإسلامية وأحكامها: القرآن الكريم والسنة. أما القرآن الكريم فهو كلام الله، وكله لفظةً لفظةً من عنده تعالى، أما السنة. فالمراد بها الروايات التي جاءت عن رسول الله r فلقد كانت حياة الرسول r، من أولها إلى آخرها، شرحاً للقرآن الكريم، وما زال r، منذ بعث إلى الناس وجاءه الوحي، مشتغلاً بتعليم الناس وإرشادهم إلى الطريق المرضي عند الله لقضاء حياتهم، مدة 23 سنة متوالية. ففي هذه المدة غير اليسيرة استمر أصحابه من الرجال والنساء، وعشيرته الأقربون، وأزواجه المطهرات، يستمعون إلى كلامه بغاية من الاهتمام، ويتبعون أعماله، ويستفتونه في كل ما يعرض لهم في حياتهم من مختلف الشؤون والمعاملات، فتارة يأمرهم بشيء وأخرى ينهاهم عن شيء آخر، فيعي الشاهدون أوامره ونواهيه وأحكامه، ويبلغونها الغائبين، وكذلك إذا جاء النبي r بعمل خاص، وعاه عنه الشاهدون، وبلغوه الغائبين، وكذلك كان إذا أتى رجل في صحبته r بعمل، إما أن يسكت عليه أو ينهاه عنه، فكان الناس يحفظون عنه مثل هذه الأمور أيضاً. والذين جاؤوا من بعدهم واتبعوهم بإحسان، حفظوا عنهم كل ما سمعوهم يحدثونه عن رسول الله r ثم، دونوا الأحاديث كلها في الكتب، مع ذكر أسماء الذين رووها عن رسول الله r من أصحابه، وهكذا أصبحت في أيدي الناس مجموعة كبيرة من أحاديث الرسول الله r. وأشهر هذه الكتب، وأكثرها اعتمادا الكتب التي دونها الإمام البخارى، والإمام مسلم، والإمام مالك، والإمام الترمذي، والإمام أبو داود، والإمام النسائي، والإمام ابن ماجة.

أولاً: الفقه

وقد استعرض جماعة من كبار أئمة المسلمين أحكام القرآن الكريم والسنة، ورتبوا بناء عليها قوانين الإسلام المفصلة المنتشرة في الكتب، يريدون بذلك تهيئتها بسهولة لعامة المسلمين. وهذه القوانين المستنبطة من أحكام القرآن الكريم والسنة، هي، التي تعرف "بالفقه". لا يمكن لكل فرد من أفراد الأمة أن يستنبط الأحكام من القرآن الكريم، ما لم يكن عنده من العلم بالسنة ما يتمكن به من معرفة أحكام الشريعة بنفسه، فلا يمكن لمسلمي الدنيا جميعاً أن يتبرؤوا مما في أعناقهم من الجميل لهؤلاء الأئمة الكبار، الذين عانوا المشاق ورتبوا لهم كتب الفقه بعد تحقيق مستمر وجهود مضنية متوالية. ولا شك أنه من نتائج جهود هؤلاء الأئمة الكرام، ما يجد عامة المسلمين اليوم من السهولة في إتباع الشريعة الإسلامية ومعرفة أحكامها.

وقد رتب كتب الفقه رجال كثيرون على أساليبهم، في بدء الأمر، ولكن بقي في آخر الأمر أربعة مذاهب فقهية، وهي التي يتبعها اليوم معظم مسلمي الأرض.

1. الفقه الحنفي: رتبه الإمام أبو حنيفة t بمساعدة ومشاورة أصحابه كأبي يوسف ومحمد وزفر، وغيرهم من العلماء الكبار الآخرين.

2. والفقه المالكي: رتبه الإمام مالك بن أنسt .

3. والفقه الشافعي: رتبه الإمام محمد بن إدريس الشافعي t.

4. والفقه الحنبلي: رتبه الإمام أحمد بن حنبل t.

وقد تم ترتيب هذه المذاهب الفقهية الأربعة، في القرنين الأولين بعد قرن رسول الله r، وإن الاختلافات، التي توجد فيما بينها اختلافات فطرية، فإن كل أمر إذا تعرض له عدة رجال وحاولوا أن يعرفوا حقيقته، فلابد أن تأتي آراؤهم فيه مختلفة، فيما بينها ولو على قدر يسير، ولكن لما كان الجميع أئمة بررة صادقين ورعين، يتبعون الحق ولا يرضون عنه بديلا، فالمسلمون جميعاً يعتقدون صدق مذاهبهم وكونها على الحق.

ولكن من الظاهر أنه لا يمكن أن يتبع الإنسان في أمر من أموره إلا مذهباً واحداً من هذه المذاهب الأربعة، فالذي عليه أكثر علماء المسلمين أن المسلمين ينبغي لهم أن يتبعوا أحد هذه المذاهب؛ وذلك عند طلب العلم الشرعي أما العامي، الذي ليس من طلاب العلم فإنه يستفتي. غير أن هناك جماعة من العلماء يقولون: لا حاجة إلى إتباع مذهب فقهي بعينه. بل يجب على من أوتى العلم أن يستنبط الأحكام من القرآن الكريم والسنة مباشرة، وأما الذين لا علم عندهم ولا يقدرون أن يستنبطوا الأحكام من القرآن الكريم والسنة بأنفسهم، فعليهم أن يتبعوا كل من يرونه على الحق، ويطمئنون إلى علمه وصدقه وتقواه من علماء المسلمين، ويعرف هؤلاء الجماعة بأهل الحديث، وهم على الحق مثل الطوائف الأربعة المذكورة.

ثانياً: علم الأخلاق وأمراض القلوب

إن الفقه يتعلق بظاهر عمل الإنسان فقط، ولا ينظر إلا هل قمت بما أمرت به على الوجه المطلوب أم لا؟ فإن قمت، فلا تهمه حال قلبك وكيفيته. أما الشيء، الذي يتعلق بالقلب ويبحث عن كيفيته، فهو مباحث علم الأخلاق. إن الفقه لا ينظر في صلاتك إلا من حيث توفر الشروط واستكمال الأركان، مثلاً هل أتممت وضوءك على الوجه الصحيح أم لا؟ وهل قرأت في صلاتك ما يجب أن تقرأ فيها أم لا؟ وهل صليت مولياً وجهك شطر المسجد الحرام أم لا؟ وهل أديت أركان الصلاة كلها أم لا؟ فإن قمت بكل ذلك، فقد صحت صلاتك بحكم الفقه. إلا أن الذي يهم علم الأخلاق هو ما يكون عليه قلبك حين أدائك هذه الصلاة من الحالة: هل أنبت فيها إلى ربك أم لا؟ وهل تجرد قلبك فيها عن هموم الدنيا وشؤونها أم لا؟ وهل أنشأت فيك هذه الصلاة خشية الله واليقين بكونه خبيراً بصيراً، وعاطفة ابتغاء وجهه الأعلى وحده أم لا؟ وإلى أي حد نزهت هذه الصلاة روحك؟ وإلى أي حد أصلحت أخلاقك؟ وإلى أي حد جعلتك مؤمناً صادقاً عاملاً بمقتضيات إيمانك؟ فعلى قدر ما تحصل لك هذه الأمور، وهي من غايات الصلاة وأغراضها الحقيقية، في صلاتك، تكون صلاتك كاملة ، وعلى قدر ما ينقصها الكمال من هذه الوجهة، تكون ناقصة.

فهكذا، لا يهم الفقه في سائر الأحكام الشرعية إلا هل أدى المرء الأعمال على الوجه، الذي أُمر به لأدائها أم لا؟ أما علم الأخلاق فيبحث عما كان في قلبه من الإخلاص وصفاء النية وصدق الطاعة عند قيامه بهذه الأعمال.

ويمكنك أن تدرك هذا الفرق بين الفقه والأخلاق، فالفقه يهتم بظاهر العبادة، ويهتم علم الأخلاق بثمرة العبادة وآثارها. مثال ذلك: إذا أتاك رجل، نظرت فيه من وجهتين: إحداهما هل هو صحيح البدن كامل الأعضاء أم في بدنه شيء من العرج أو العمى؟ وهل هو جميل الوجه أو دميمه؟ وهل هو لابس زياً فاخراً أو ثياباً بالية؟

والوجهة الأخرى أنك تريد أن تعرف أخلاقه وعاداته وخصاله ومبلغه من العلم والعقل والصلاح. فالوجهة الأولى وجهة الفقه، والوجهة الثانية وجهة علم الأخلاق. وكذلك إذا أردت أن تتخذ أحداً صديقاً لك، فإنك تتأمل في شخصه من كلا الوجهتين، وتحب أن يكون جميل المنظر وجميل المخبر معاً. كذلك لا تجمل في عين الإسلام إلا الحياة، التي فيها إتباع كامل صحيح لأحكام الشريعة من الوجهتين الظاهرة والباطنة. ومثل الذي طاعته صحيحة في الظاهر، ولكن يعوزه روح الطاعة الحقيقية في الباطن، كمثل جسد جميل الوجه قد فارقه روحه. ومثل الذي في عمله الكماليات الباطنة كلها وليست طاعته صحيحة على حسب الوجه المراد في الظاهر، كمثل رجل صالح دميم الوجه مطموس العينين أعرج القدمين.

وبهذا المثال تعرف العلاقة بين الفقه والأخلاق، ولكن مما يدمي القلب ويبكى العين، أنه لما أصيبت العلوم والأخلاق بالزوال والانحطاط في الأزمان الأخيرة، وحدث بزوالها ما حدث من المفاسد والسيئات، كدّرت الفلسفات من حقيقة الأخلاق الصافية، وتعلم المسلمون كثيراً من الفلسفات غير الإسلامية من الأمم الضالة، وأدخلوها في الإسلام باسم التصوف، وأطلقوا اسم التصوف على كثير من العقائد والطرق الدخيلة، التي لا أصل لها بمبادئ الإسلام. ثم تدرج هؤلاء الناس في شهوات أنفسهم وخرجوا من أحكام الإسلام، وقالوا إنه لا علاقة للأخلاق بالشريعة، فإن هذا في واد، وذلك في واد، وما على المسلم أن يقيد نفسه بأحكام الشريعة. إنك كثيراً ما تسمع بمثل هذه الأوهام والترهات من كثير من الجاهلين، ولكن ليست كلها في حقيقة الأمر، إلا من قبيل الخرافات والأكاذيب. لا يحل لمسلم أن يتحلل من قيود الصلاة والحج والزكاة، ولا يحق لمسلم أن يخالف حكماً من الأحكام، التي بينها الله ورسوله الكريم r عن الاقتصاد والاجتماع والمعاشرة والأخلاق والمعاملات والحقوق والواجبات وحدود الحلال والحرام، ولا يستحق من لا يتبع الرسول r إتباعاً صحيحاً ولا يتقيد بما أرشد إليه من صراط الحق، أن يسمي نفسه مسلمًا، فإن مثل هذا ليس من الإسلام في شيء أبداً.

إن حقيقة الإسلام وجوهره يتمثل في الحب الصادق لله ولرسوله r، الصادق، وإتباع كتاب الله وسنة رسوله، وألا ينحرف المسلم قيد شعرة عن أتباع أحكام الله ورسوله، r فليس علم الأخلاق بشيء مستقل عن الشريعة، وإنما هو القيام بأحكامها بغاية من الإخلاص وصفاء النية وطهارة القلب.

*********************************

المبحث الثامن

مبادئ الشريعة

إن الإنسان إذا تأمل في نفسه، علم أنه قد جاء إلى هذه الدنيا مودَعاً، في نفسه، كثير من القوى، التي تقتضي كل واحدة منها أن يستخدمها ولا يهمل شأنها؛ ففيه العقل والعزم والرغبة، والنظر والسمع والذوق، وقوة اليدين والرجلين، وعاطفة النفرة والغضب، والشوق والحب، والخوف والطمع، وليس شيء منها بعديم المنفعة، وما أوتيه الإنسان إلا لأنه في حاجة إليه. والذي يتوقف عليه نجاحه في هذه الدنيا هو أن يتحقق ما تتطلبه فطرته وطبيعة نفسه؛ ولكن لا يمكن ذلك إلا بأن يستخدم القوى، التي أوتيها في نفسه.

ثم لا يخفى عليك أنك أوتيت وسائل، يمكنك أن تستخدم بها هذه القوة المودعة في نفسك، فأول وسيلة من هذه الوسائل هي جسدك، الذي تجد فيه الأدوات الضرورية كلها، ثم حولك هذه الدنيا، التي انتشرت فيها وسائل مختلفة لا تقع تحت الإحصاء، ففيها الناس من جنسك لمساعدتك، والبهائم لخدمتك، والنباتات والجمادات والأرض والماء والهواء والحر والنور، وما إلى ذلك من الأشياء الكثيرة، التي لا يحصيها إلا الله. والله تعالى ما خلق هذه الأشياء في هذا الكون إلا لتستخدمها وتستمد منها ما يلزمك.

إن الدنيا يوجد فيها نوعان من البشر:

1. النوع الأول: من الذين يستخدمون بعض قواهم عمداً، في الوجوه، التي تفسد عليهم سائر قواهم، أو تجلب المضرة على غيرهم من البشر، أو هم يهملون أدواتهم، التي أودعوها في أنفسهم.

2. والنوع الثاني: من الذين يفعلون كل ذلك من غير قصد من أنفسهم. فرجال النوع الأول من الأشرار، وهم في حاجة إلى قانون شديد يأخذ على أيديهم، ورجال النوع الثاني من الجهال، الذين لا يعلمون شيئاً، وهم محتاجون إلى علم يعرَفهم بالصورة الصحيحة لاستخدامهم قواهم.

ولقد جاءت الشريعة الإسلامية تسد هذه الحاجة، وتحقق هذا الغرض فلا تريد أن تهمل قوة من قواك، أو تمحو رغبة من رغباتك، أو تنفي عاطفة من عواطف نفسك، فهي لا تقول لك اترك الدنيا واقض أيام حياتك في الجبال والغابات والكهوف والمغارات، واشدد على نفسك واكسر سورتها، وذللها بالمصائب والشدائد، وحرم عليها زينة الحياة الدنيا ولذاتها ونعمها كلا! فإنها شريعة وضعها الله، الذي خلق للإنسان هذه الدنيا، فكيف يرضى لكونه بالامحاء والخراب والفناء؟ إن الله تعالى ما أودع الإنسان في نفسه قوة لا تنفعه ولا يحتاج إليها. وكذلك ما خلق شيئا في السماوات ولا في الأرض عبثاً، بل يريد أن يبقى معمل الكون هذا يسير سيراً مستمراً على نظام مدبر ينتفع فيه الإنسان من كل شيء ويستخدم مختلف أسبابه ووسائله، ولكن على وجه لا يضر نفسه ولا أحداً غيره؛ ولهذا الغرض نفسه وضع الله تعالى ما وضع من قواعد الشريعة وضوابطها. وهكذا حرمت هذه الشريعة على الإنسان كل شيء يجلب إليه الضرر، وأحلت له كل شيء يعود عليه بالنفع ولا يضر غيره. إن المبدأ، الذي يقوم عليه بناء الشريعة الإسلامية هو أن الإنسان، من حقه أن يعمل لتحقيق رغبات نفسه وحاجاته، ويسعى في سبيل منفعته الذاتية كيفما يشاء، ولكن من الواجب عليه في الوقت نفسه أن لا يتمتع بهذا الحق إلا من حيث لا يضيع حقوق غيره من البشر بجهله أو شره، بل ينبغي أن يكون مساعداً لهم متعاوناً معهم على قدر وسعه، أما الأمور التي فيها ناحية للنفع وناحية للضرر فتقول فيها الشريعة: إن الإنسان عليه أن يتحمل الضرر الخفيف للنفع الكبير، ويترك النفع التافه، احترازاً من الضرر الشديد.

لا يمكن أن يعرف كل إنسان في كل زمان عن كل شيء أو عمل ما فيه النفع أو الضرر، ولذا وضع الله تعالى وهو العليم الخبير، الذي لا يخفى عليه سر من أسرار الكون ـ نظاماً صحيحاً كاملاً لحياة الإنسان، وما كان الناس ليفطنوا إلى كثير من مصالح هذا النظام في القرون القديمة، ولكن رقي العلم في هذا الزمان قد كشف عنها الغطاء، بل لا يزال الناس يجهلون كثيرا من مصالحه في هذا الزمان أيضاً، ولكنها لا تزال تنكشف وتنجلي لأعين الناس، على قدر ما يكتب للعلم من الرقي والنمو، والذين عولوا على علمهم الناقص وعقولهم الضعيفة، ما وجدوا لأنفسهم بدا في آخر الأمر أن يختاروا قاعدة من قواعد هذه الشريعة نفسها، بعد ما هاموا على وجوههم، وخبطوا في ظلمات الجهل والخطأ والضلال خبط عشواء إلى قرون. أما الذين اعتمدوا على شرع الله، واهتدوا بهديه، واستناروا بنوره، فقد أمنوا عواقب الجهل ومضراته، فهم يواظبون دائماً على قانون، وضع على قواعد العلم الصحيح الخالص سواء أعرفوا ما فيه من المصالح، وما في إتباعه من المنافع، أم لم يعرفوا.



أحكام الشريعة الإسلامية 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

أحكام الشريعة الإسلامية Empty
مُساهمةموضوع: رد: أحكام الشريعة الإسلامية   أحكام الشريعة الإسلامية Emptyالجمعة 13 يناير 2012, 1:07 am

المبحث التاسع

أحكام الشريعة الإسلامية

(الحقوق وأقسامها الأربعة)

تنقسم أحكام الشريعة الإسلامية إلى أربعة أقسام من الحقوق، وهي كالآتي:

أولاً: حقوق الله

إن أول حق من حقوق الله تعالى: أن يؤمن الإنسان به ولا يشرك به، ولا يتّخذ غيره إلهاً ولا رباً. ويؤدى هذا الحق بالإيمان بكلمة "لا إله إلا الله".

والحق الثاني من حقوق الله: أن يذعن الإنسان إذعاناً تاماً لِمَا جاء من عند الله من الحق والهداية ويؤدي هذا الحق بالإيمان "بمحمد رسول الله" r.

والحق الثالث من حقوق الله: أن "يطاع" ويؤدى هذا الحق بإتباع الشريعة، التي بينها كتاب الله المجيد، وأوضحتها وشرحتها سنة رسول الله r، كما سبق بيانه.

والحق الرابع من حقوق الله: أن "يُعبد". ولأداء هذه الحق فرض الله على الإنسان ما فرض من الفرائض والواجبات؛ ولأن هذا الحق أولى من غيره، يجب أن يضحي الإنسان لأدائه بسائر حقوقه لأن العبادة هي غاية الخلق ]وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ[ (سورة الذاريات: الآية 56).

فمثلا إن الإنسان عندما يقوم لأدائه فريضة الصلاة أو الصوم، يضحي بكثير مما عليه من حقوق نفسه: يستيقظ مبكراً ويتوضأ بالماء البارد ويترك كثيراً من أعماله المهمة وأشغاله الشاغلة، غير مرة واحدة في الليل والنهار لأداء فريضة الصلاة، ويدع طعامه وشرابه ويكبح نفسه شهرا كاملا لأداء فريضة الصوم، ويؤثر حب الله على حب المال لأداء فريضة الزكاة، ويقاسي وعثاء السفر وشدائده وينفق كثيراُ من أمواله في الحج ويضحي بنفسه وماله في الجهاد، وكذلك يضحي بما عليه من حقوق الناس لأداء حقوق الله إلى حد قليل أو كثير، ففي الصلاة مثلاً يكف العبد عن خدمة سيده ليعبد سيده الأكبر، ويؤدي ما عليه من حقه، وفي الحج يفتر عن شؤون معاشه وتجارته ويغادر أهله وأبناءه ويسافر إلى بيت الله الحرام مما يمس بحقوق كثير من غير شك، وفي الجهاد لا يقتل الإنسان ولا يقتل إلا لوجه الله تعالى وحده. وكذلك يضحي الإنسان لأداء حقوق الله بكثير من الأشياء، التي يتصرف فيها وهي تحت يده، كالتضحية بالحيوانات وإنفاق المال.

على أن الله تعالى وضع لحقوقه حدوداً، حتى لا يضحي الإنسان بحقوق غيره لأداء حق من حقوق الله إلا إلى حد لا بد منه. خذ لذلك الصلاة مثلاً، فالله تعالى ما أرد بك العسر في أداء الصلاة بل أراد اليسر، فإنك إن لم تجد الماء، أو كنت مريضاً فلك أن تتيمم صعيدا طيباً، وإن كنت على سفر فلك أن تقصر من صلاتك وتجمع فيها، وإن كنت مريضاً فلك أن تصلي قاعداً أو مضجعاً، وللإنسان أن يقرأ في صلاته ما شاء من القرآن كسورة البقرة أو سورة آل عمران، ولكن لا يجوز أن تطيل صلاتك في أوقات شغلك، أو إذا كنت إمامًا لغيرك، ممن لا يطيقون ما تطيق. ثم إن الله تعالى ـ وإن كان يفرح كثيراً إذا تطوع الإنسان وتقرب إليه بالنوافل بعد الصلوات المكتوبةـ ولكنه لا يريد أبداً أن تحرم على نفسك نوم الليل وراحة النهار أو تقضي أوقات الكسب في النوافل، أو تنقطع إلى الصلاة عن شؤون الدنيا كلها، ولا تكترث لما عليك من حقوق عباد الله.

وكذلك قد يسر الله عليك كثيراً في الصوم، فإنه سبحانه ما افترض الصوم على عباده إلا مدة شهر من السنة، ويجوز تأخيره إلى أيام أخر، إذا كان الإنسان مريضاً أو على سفر. ولا يجوز أن تضاف دقيقة واحدة إلى ما حدد للصوم من الوقت، وللصائم أن يأكل ويشرب حتى يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود ـ أي السحر ـ من الفجر، ثم إذا أتم صومه إلى غروب الشمس، فعليه أن يفطر على الفور ثم إن الله تعالى وإن كان يفرح بعبده كثيراً إذا صام صوم التطوع، بعد صيام شهر رمضان المكتوب، ولكنه لا يحب منه أبداً أن يواصل في صومه، وينهك بدنه ويقعد عن أعمال الدنيا.

وكذلك ما قرر الإسلام إلا أزهد مقدار من المال لإيتاء الزكاة، وما فرضه إلا على الذين يملكون النصاب، فمن تطوع بعد ذلك وتصدق بأكثر من ذلك في سبيل الله فإن الله، وإن كان يرضى عنه ويحب عمله، ولكنه لا يريد منه أن يضحي بما عليه من حقوق نفسه وأهله وينفق في سبيله جميع أمواله ويقعد ملوماً محسوراً بين الناس، بل يجب عليه القصد والاعتدال في هذا الباب أيضاً.

ثم انظر إلى الحج، فالمعلوم في بابه أن الله تعالى لم يفترضه إلا على الذين يملكون الزاد، ويقدرون على تحمل وعثاء السفر ومشاقه، ولكن الله قد زاد السهولة فيه، فلم يفترضه على الإنسان إلا مرة واحدة طول عمره، وإن كانت في الطريق الحرب أو الفتنة على نفسه، فله أن يرجئ الحج إلى ما بعد زوال تلك الفتنة، وكذلك قرر أن لابد للإنسان من رضا الوالدين إذا أراد الحج لئلا يتأذيا في غيابه لعجزهما وكبر سنهما. فيتبين من ذلك كله أن الله تعالى قد راعى، كثيرا،ً حقوق غيره في حقوقه جل شأنه.

وأكبر تضحية بالحقوق الإنسانية يؤديها الإنسان في الجهاد، فإن الإنسان في الجهاد يضحي بنفسه وماله، وبنفوس الآخرين وأموالهم، ابتغاء لمرضاة الله، ولكن من قواعد الإسلام ومبادئه الأساسية، أن يتحمل الضرر الخفيف احترازاً من الضرر الشديد، فإذا تفكرت في هذا المبدأ وعرفته، وجدت أن قتل بضع مئات أو ألوف من أفراد البشر أهون ضرراً من أن تعلو في الأرض كلمة الباطل بإزاء الحق، ويغلب دين الله على أمره بإزاء قوى الكفر والشرك والإلحاد، ويعم في الأرض الضلال والإباحية والفوضى. فاحترازاً من هذا الضرر الشديد، أمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يتحملوا، في سبيله وابتغاء وجهه، ما يصيبهم في أنفسهم وأموالهم من الضرر الخفيف. ومع ذلك أمرهم ألا يقتلوا إلا نفساً لا بد من قتلها، وألا يعتدوا على العجزة والنساء والأطفال والجرحى والمرضى، وألا يقاتلوا إلا الذين يقاتلونهم حماية لباطلهم، وألا يعثوا في أرض العدو مفسدين، من غير ما حاجة ولا سبب، وأن يعدلوا بين الأعداء إذا فتحوا بلادهم وانتصروا عليهم، ويوفوا بكل ما يعاهدونهم عليه، ولا سبيل لهم عليهم إذا كفوا أيديهم وأمسكوا عن معاداة الحق ومخالفته ومناصرة الباطل، فيدل كل ذلك على أن الله لم يجز لأداء حقه إلا تلك التضحية بالحقوق الإنسانية التي لابد منها، بل الجهاد من أجل الحقوق الإنسانية وحمل الحق للبلاد، وبيان شريعة الله.

ثانياً: حقوق النفس

وهو القسم الثاني مما على الإنسان من الحقوق، وهي حقوق نفسه.

ولعل العجب يأخذك إذا قلنا: إن الإنسان يظلم نفسه أكثر مما يظلم غيره؛ لأن كل إنسان يحس ويحسب أن نفسه أحب إليه من غيره، ولا أرى أحداً يقر بأنه عدو لنفسه. لكنك إذا تدبرت هذا الأمر قليلاً تبينت لك حقيقته.

من أبرز مواطن الضعف، التي فطر عليها الإنسان أنه إذا غلبته شهوة من الشهوات، انقاد إليها كل الانقياد، ولا يبالي بما يصيبه لأجلها من الضرر في نفسه، سواء أكان يشعر بذلك أم لا يشعر. ترى رجلاً قد افتتن بالسكر، يعمى في سبيله ويتحمل لأجله المضرات القادحة في صحته ونفسه وماله وعرضه، وترى غيره قد أولع بلذة الطعام يأكل كل ما يجد من نافع أو غير نافع، ويعرض نفسه للهلاك في سبيله، وترى ثالثاً صار عبداً لشهواته النفسانية، يأتي بأعمال تجره إلى الهلاك جراً، وترى رابعاً قد أهمته نجاة نفسه، فانقطع إلى تزكية روحه وترقيتها، يناصب نفسه العداء، ويريد أن يدوس كل ما تتطلع إليه من اللذائذ والشهوات، ويأبى أن يحقق حاجاتها، ويجتنب الزواج، ويأنف من الأكل والشراب ويجانف اللباس ويبغضه، حتى أنه لا يكاد يرضى بالتنفس في هذه الدنيا المملؤة بالمآثم في نظره، فيأوي إلى الغابات والكهوف، ويظن أن هذه الدنيا ما بنيت له.

هذه أمثلة قليلة لتطرف الإنسان في هذه الدنيا، وإلا ففي الحياة صور عديدة لهذا التطرف نشاهدها بين كل آونة وأخرى.

وبما أن الشريعة الإسلامية تريد فلاح الإنسان وسعادته، فهي تنبهه إلى الحقيقة الثابتة القائلة: "إن لنفسك عليك حقاً" وهي تمنعه عن كل شيء يضره، كالخمر والحشيش والأفيون وغيرها من الأشياء المسكرة، وعن الميتة والدم ولحم الخنزير وغيره من الوحوش الضارية والمسمومة والحيوانات النجسة، فإن لهذه الأشياء تأثيراً سيئاً في صحة الإنسان وأخلاقه وقواه العقلية والروحية، وتحل له بدلاً منها الأشياء المفيدة الطيبة وتقول له: لا تحرم نفسك من التمتع بها فإن لجسدك عليك حقاً.

وهي تنهاه عن العري، وتأمره أن يتمتع بما أنزل الله له من الزينة في هذه الدنيا، ويستر من جسده الأعضاء، التي يعد من الوقاحة الكشف عنها.

وهي تأمره بالجد في كسب الرزق وتقول له: لا تقبع في بيتك عاطلاً، ولا تمدن يدك إلى الناس مستجدياً جدواهم، ولا ترهق نفسك جوعاً، واستخدم ما قد أنعم الله عليك من القوى، واسع بالطرق المشروعة لنيل ما قد خلق الله في الأرض والسماوات من الوسائل والأسباب لراحتك وتربيتك.

وهي لا تسمح أن يكبح شهوات نفسه كل الكبح، بل تأمره بالزواج لقضاء ما في نفسه من الشهوة.

وهي تمنعه من تذليل النفس وحرمانها من رغد العيش ومتعة الحياة، وتقول له: إنك إن كنت تريد الرقي الروحاني، والتقرب إلى الله، والنجاة في الآخرة فلا حاجة لك ولا داعي إلى ترك الدنيا، فإن ذكر الله تعالى في هذه الدنيا، مع التمتع بلذاتها ومنافعها، واجتناب معصيته وأتباع قانونه وشريعته، لهو أكبر وسيلة، وأنجحها إلى الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.

وهي تحرم عليه الانتحار وتقول له: إن هذه النفس، التي قد أوتيتها، إن هي إلا ملك لله، قد أودعها أمانة عندك لتستخدمها إلى أجل مسمى، وما أوتيتها لتعبث بها وتقضي عليها بيدك.

ثالثاً: حقوق العباد

أمرت الشريعة الإسلامية الإنسان بأداء حقوق نفسه وجسده في جانب، وأمرته في الجانب الآخر ألا يؤدي هذه الحقوق على وجه يمس بحقوق غيره من عباد الله في الدنيا، فإنه إذا قضى شهواته ورغباته على هذا الوجه، نجس نفسه وأضر بغيره، فلأجل ذلك قد حرمت الشريعة النهب والسلب والسرقة، والارتشاء والخيانة والتزوير، والغدر وأكل الربا، فإن المنفعة التي يكسبها الإنسان بهذه الطرق، إنما يكسبها بجلب الضرر إلى غيره في حقيقة الأمر، وكذلك حرمت عليه الشريعة الكذب والغيبة، والنميمة والافتراء، فإن هذه الأمور أيضاً تجلب الضرر إلى غيره من عباد الله، وكذلك حرمت عليه القمار والميسر، فإن منفعته في هذه كلها، لا تكون مبنية إلا على ضرر ألوف من الناس غيره، كذلك حرمت عليه صفقات الغش والغرر وغيرها من الشؤون المالية الأخرى، التي يمكن أن يصيب الضرر فيها أحد الفريقين دون صاحبه. وكذلك حرمت عليه القتل والإفساد في الأرض وإفشاء الفتنة، فإنه لا يحل لأي فرد من أفراد البشر أن يقتل غيره، أو يصيبه بنوع من الأذى للحصول على أمواله، أو إرواء لغليله. وكذلك حرمت عليه الزنى وعمل قوم لوط، فإن هذه الأعمال تفسد عليه صحته وأخلاقه في جانب، وتؤدي إلى تفشي الإباحة والوقاحة والاستهتار في المجتمع في الجانب الآخر وتفضي به أخيراً إلى الأمراض الخبيثة، وتفسد فيها الأنساب، وتحدث الفتن وتخل بالعلائق الإنسانية، وتزعزع قواعد الحضارة والمدنية.

هذه قيود وضعتها الشريعة الإسلامية على الحياة الإنسانية، لئلا يسلب الإنسان حقوق غيره، أو يبخس منها شيئاً؛ أداء لحقوق نفسه وجسده. ولكنه لا يكفي ترقية المدينة الإنسانية وإسعادها ألا يصيب الإنسان غيره بشيء من الضرر، بل لابد لهذا الغرض في الوقت نفسه، أن تكون علائق الناس وصلاتهم فيما بينهم قائمة على وجه يجعلهم جميعاً متعاونين على الخير متناصرين على المصالح الاجتماعية، وفيما يلي خلاصة ما وضعت الشريعة الإسلامية من القوانين لهذا الغرض:

1. إن العلائق البشرية تبتدئ بحياة الأسرة، فلك أن تنظر نظرة في حياة الأسرة قبل غيرها، وما الأسرة في حقيقة الأمر إلا ذلك المجموع، الذي يضم الزوجين وأولادهما. فالذي يضع عليه الإسلام أساس الأسرة هو أنه من واجب الزوج أن يكسب للأسرة ويهيئ لها حاجاتها ويدافع عن أفرادها، وأنه من واجب المرأة أن تدبر شؤون المنزل بما يكسبه الزوج، وتهيئ أكبر راحة ممكنة لزوجها وأولادها، وتعني بتربية الأولاد، وأنه من واجب الأولاد أن يطيعوا أبويهم ويجلوهما، ويخدموهما إذا كبروا، ولأجل أن يبقى نظام الأسرة سائراً على الخير والرشد والصلاح فقد اختار الإسلام تدبيرين:

أولهما: أن جعل الزوج والأب حاكما على الأسرة ناظراً لشؤونها، فإنه كما لا يمكن أن يصلح نظام بلدة من البلدان ويسير أمرها بدون حاكم قائم على شؤونها، أو أن يسير نظام مدرسة من المدارس بدون رئيسها، كذلك من المستحيل أن يصلح ويسير نظام الأسرة بدون أن يكون عليها حاكم ناظر لشؤونها، راعي لأفرادها. ولا بد أن تعم الفوضى والاضطراب في الأسرة إذا كان كل فرد من أفرادها مستقلاً برأيه، غير مسؤول عن شيء من أعماله. ولابد لإزالة هذه المفاسد أن يكون للأسرة حاكم قوام على شؤونها، والرجل هو الذي يمكن أن يكون المسؤول عن تربية أهل البيت وحمايتهم.

والثاني: أنه قد أمر المرأة ـ بعدما ألقى على كاهل الرجل تبعة ما في خارج البيت من الشؤون والمعاملات ألا تخرج من المنزل بدون حاجة تعرض لها، وقد أعفيت لأجل ذلك من المسؤولية، عما في خارج المنزل من الشؤون لتقوم بواجباتها في داخل المنزل حق القيام، بكل هدوء وطمأنينة، ولا يختل نظام المنزل وتربية الأولاد بخروجها من البيت. ولكن ليس معنى ذلك أن المرأة لا يجوز لها أبدا أن تخرج من البيت، بل قد أذن لها بالخروج منه، إذا عرضت لها حاجة إلى ذلك، وإنما تريد الشريعة أن يكون البيت هو الدائرة الحقيقة لواجباتها، ولا تصرف كل ما أوتيت من القوة والذكاء إلا في إصلاح شأن البيت.

وبقرابات الدم وعلائق التزاوج تتسع دائرة الأسرة، فالذين يتصلون فيما بينهم، في هذه الدائرة، قد قررت الشريعة، لإصلاح ذات بينهم وجعلهم متساندين متناصرين فيما بينهم، قواعد مختلفة مبنية على الحكم البالغة. من هذه القواعد:

أ. حرمت الشريعة بعض الذين يتعاشرون فيما بينهم مختلطين من الرجال والنساء على بعض كالأم وابنها والأب وبنته، وزوج الأم وربيبته، وزوجة الأب وابن زوجها، والأخ وأخته بالرحم وبالرضاعة، والعم وبنت أخيه، والعمة وابن أخيها، والخال وبنت أخته، والخالة وابن أختها، وأم المرأة وزوج ابنتها، وأبي الزوج وامرأة ابنه. ومن الفوائد الكثيرة لتحريمها أن أمثال هؤلاء الرجال والنساء تبقى علاقتهم طاهرة نقية وهم يختلطون فيما بينهم بكل حب ومودة وإخلاص، من غير كلفة ولا ارتياب، وهو ما يسمى في الشريعة المحارم على التأبيد.

ب. وقد أحل الإسلام بعد هذه العلائق علاقة الزواج بين أفراد الأسرة الآخرين، ليزدادوا قربة على قرابتهم، وحباً على حبهم، إن الذين يعرف بعضهم عادات بعض وطباعهم وخصالهم، تكون علاقة الزواج بينهم، أكثر نجاحاً منها بين الذين لا يتعارفون فيما بينهم. وكثيراً ما تنشأ في الزواج بين الأجانب صور الخصومة وعدم التوافق، ولأجل ذلك قد آثر الإسلام ذوي الكفاءة على غيرهم للزواج، وهو ما يسمى اشتراط الكفاءة في الزواج.

ج. وفي الأسرة الغني والفقير وذو الميسرة وذو العسرة؛ لذا نص الإسلام على أن أكبر ما على الإنسان من حقوق العباد هو لذوي قرباه، وذلك ما يقال له "صلة الرحم" في الشريعة. وقد تأكد وتكرر ذكر صلة الرحم في القرآن الكريم والسنة، واعتبر قطعها من الكبائر، فإذا نزلت نازلة بذي عسرة، فمن واجب الذين يجدون سعة في أموالهم من أقاربه أن يغيثوه ويمدوا إليه يد المعونة، كما أن حق الأقرباء في الصدقة قد أوثر على حق غيرهم.

د. وقد أوضح الإسلام قانون الإرث من حيث إذا مات رجل وترك من بعده مالاً، فلا ينبغي أن يبقى هذا المال مجتمعاً مرتكزا في محل واحد، بل لابد أن ينال منه كل ذي قرابة نصيبه، فالابن والبنت والزوجة والأب والأم والأخ والأخت أقرب ذوي الحق للإنسان، ولذا بينت الشريعة أنصبتهم في القرابة قبل أن تبين حقوق غيرهم، فإن لم يكونوا موجودين مثلاً، ينال النصيب كل من يليهم في القرابة وهكذا تتوزع ثروة الرجل الواحد بين كثير من ذوي قرباه ويتمتعون بها جميعاً بعد موته. فقانون الإسلام هذا لا نظير له في قوانين العالم القديمة ولا الحديثة، وإن كانت بعض الأمم قد بدأت اليوم في الدنيا تترسم خطا الإسلام في هذا القانون.

2. وبعد علائق الأسرة يتصل الإنسان بأصدقائه وجيرانه وأهل حيه وبلدته، والذين قد تجعلهم الشؤون المختلفة على صلة به، وقد أمر الإسلام بمعاملة هؤلاء جميعا بالصدق والعدل وحسن الخلق. ومن وصايا الإسلام في ذلك، ولا تؤذوا منهم أحداً واجتنبوا فحش القول وسوء الكلام معهم وتناصروا فيما بينكم، وعودوا مرضاكم، واتبعوا جنائز موتاكم، وإذا أصيب منكم أحد بمصيبة فواسوه وأعينوا الفقراء والمحتاجين والعجزة فيكم سراً وخفية، وتعهدوا اليتامى والأيامى منكم بالعطف عليهم، وأطعموا الجائع واكسوا العاري، وانصروا العاطل حتى يجد لنفسه المكسب، وإذا كان قد آتاكم الله من فضله، فلا تسرفوا به في بذخكم وترفكم، وقد حرمت الشريعة عليكم أن تأكلوا وتشربوا في أواني الذهب والفضة وتتزينوا بالملابس الحريرية، وتضيعوا المال في مواضع البذخ والترف. كل ذلك لأن الثروة التي يمكن أن يتمتع بها مئات وألوف من عباد الله، لا ينبغي أن يتمتع بها فرد واحد كيفما يشاء وتشاء شهواته، فإنه من الظلم أن تبقى الأموال، التي يمكن أن يمسك بها ألوف من عباد الله رمق حياتهم، معلقة في جيدك بصورة حلية من الحلي أو زينة لمنضدتك بصورة آنية من الأواني، أو زينة تفرش بها غرفتك. ولكن ليس معنى ذلك أن الإسلام يريد أن يسلبك كل ما عندك من الثروة، بل إن كل ما كسبته أو ورثته من أبويك من الأموال لك ومن حقك المشروع، وأنت مستحق أن تتنعم بثروتك، ويجوز أن يُرى، في ملبسك ومأكلك ومنزلك ومركبك، آثار نعمة الله عليك، ولكن الغرض المقصود من وراء تعاليم الإسلام أن تعيش عيشة طيبة مقتصدة، ولا تكثر من كمالياتك، وأن ترعى في كل ما آتاك الله حقوق ذوي قرباك وأصدقائك وجيرانك وأبناء وطنك وأبناء أمتك وأبناء آدم جميعاً.

3. ولك أن تخرج الآن من هذه الدوائر الضيقة وتنظر في الدائرة الواسعة، التي تشمل مسلمي العالم جميعا، فقد وضع الإسلام في هذه الدائرة، من القوانين والضوابط، ما يجعل المسلمين جميعا متعاونين متناصرين فيما بينهم على الخير والبر والتقوى، ولا يسمح للسيئات والمنكرات ـ في حدود الإمكان ـ بأن ترفع رأسها في الأرض. وفيما يلي نشير إلى بعض هذه القوانين:

أ. أمر الإسلام، حفظاً للأخلاق الاجتماعية، بألا يختلط الرجال، والنساء الأجنبيات فيما بينهم بصورة ماجنة، ولتكن للنساء بيئة غير بيئة الرجال، ولهن أن يصرفن معظم همهن في القيام بواجبات حياة الأسرة، وإن دعتهن الحاجة إلى الخروج من بيوتهن فلا يخرجن متزينات متبرجات؛ وليخرجن بملابسهن البسيطة، وليسترن أجسامهن، وليسترن وجوههن وأيديهن، أيضاً، ما لم تدعهن إلى الكشف عنهما حاجة حقيقة شديدة، وليكشفن عنهما لقضاء هذه الحاجة فقط كالعلاج، وهذا ما يقال له "الحجاب" في الشريعة. ومن جهة أخرى أمر الإسلام الرجال باجتناب النظر إلى نساء غير نسائهم، وإذا وقع نظرهم عليهن من غير قصد فليصرفوه عنهن، ولا يعودوا إليه مرة أخرى، فإن من ذلك ما يعيب أخلاقهم، وإن حاولوا مخالطتهن فهو أشد عيباً لهم، ومن واجب كل رجل ـ وكل امرأة ـ أن يحافظ على أخلاقه ولا يترك المجال لينشأ في قلبه ويخطر بباله ميل، ولو خفيف، إلى قضاء شهواته النفسانية بالخروج عن دائرة الزواج المشروع، فضلا عن أن يحاول ذلك ويسعى وارءه سعياً .

ب. وقد نهى الإسلام -لحفظ الأخلاق الاجتماعية- عن أن يكشف الرجل عما بين سرته وركبتيه، وأن تكشف المرأة ما دون الوجه واليدين من سائر أعضاء جسدها، ولا لقريب من أقاربها الأدنين، وهذا ما يقال له الستر في الشريعة، ومن واجب كل رجل وامرأة أن يحافظ عليه، وقد أراد الإسلام بذلك أن تنشأ في الناس عادة الحياء ولا تشيع بينهم الفواحش والمنكرات، التي تجر صاحبها أخيرا إلى الإباحة والانحلال الخلقي.

ج. لا يحب الإسلام من أعمال الطرب واللهو ما كان مفسداً لأخلاق الناس ومنعشاً لشهواتهم السافلة، ومضيعا لأوقاتهم وصحتهم وأموالهم، ولا شك أن الترويح عن النفس شيء ضروري في حد ذاته، ولا بد منه مع العمل والجد، لتنشئة روح الحياة وقوة العمل في الإنسان، ولكن ينبغي أن يكون لهواً ينشئ النشاط ويرطب الروح، ولا يكون لهوا ينغص الروح ويكثفها. أما أعمال الطرب واللهو السافلة، التي يشاهد فيها ألوف من الأفراد معاً والمناظر الصناعية للإباحية والانحلال الخلقي، فإن هي إلا مما يفسد أخلاق الأمم وعاداتها، وإن كانت جميلة المنظر تسر الناس في ظاهر الأمر، فهي تدمّر الأخلاق وتهدم الحضارات.

د. وللمحافظة على وحدة المسلمين وسعادتهم الجماعية، أمرهم الإسلام أمراً مؤكدا أن يجتنبوا التخالف فيما بينهم، ويبتعدوا عن دواعي التحزب والتفرق، فإن اختلفوا في أمر من أمورهم، فليردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله r بكل إخلاص وصفاء نية، ولكن إذا لم يجتمعوا في بابه على شيء، فليكلوا أمرهم إلى الله، ولا يتنازعوا فيما بينهم، وليتعاونوا على أعمال الفلاح والسعادة الجماعية، ويطيعوا أولى الأمر منهم، ويبتعدوا عن رجال الشر والفتنة، ولا يوهنوا قوتهم، ولا يفضحوا أمتهم بالحروب الداخلية فيما بينهم.

هـ. وقد أذن الله للمسلمين أن يتلقوا العلوم والفنون، ويتعلموا الطرق النافعة من غير المسلمين، ولكنهم نهوا عن التشبه بهم في حياتهم، فإنه لا تتشبه أمة بغيرها، إلا إذا كانت معترفة لنفسها بالذل والهوان والضعة، وللأخرى بالسبق والعلو والرقي، وهذا من أقذر أنواع العبودية، وهو اعتراف سافر بالانكسار والانحطاط، ومن نتائجه اللازمة أن تسود مدنية الأمة المتشبه بها والمحتذى؛ ومن أجل ذلك نهى النبي r المسلمين نهياً شديداً عن أتباع الأمم الأجنبية واختيار مدنيتهم. ومما يفهمه كل من أوتي قليلاً من العقل أن قوة كل أمة لا تقوم على زيها ولا على طراز حياتها، وإنما تقوم على ما لها من العلوم وجودة التنظيم وقوة العمل، فمن كان يريد القوة والكمال والرقي فليتلق عن الأمم الأجنبية ما تحصل به الأمم على أسباب قوتها ورقيها وكمالها، ولا يمل إلى ما تتذلل به الأمم وتقضي على حيويتها ومقوماتها أخيراً.

وقد نهي المسلمون عن أن يعاملوا غير المسلمين بالعصبية وضيق النظر، وعن أن يسبوا آلهتهم ويطعنوا في كبرائهم ويهينوا دياناتهم. وكذلك نهوا عن أن يبدؤوهم بالمخاصمة فما دام غير المسلمين يريدون المصالحة والمسالمة مع المسلمين، ولا يتعدون على حقوقهم فمن واجبهم أن يعاملوهم بالمصالحة والمسالمة. وإن مما يوجبه علينا ديننا الإسلامي، أن نعامل غيرنا بأعلى ما يمكن من عواطف المحبة والمواساة الإنسانية والأخلاق العالية. ومما ينافي أحكام الإسلام وفطرة المسلم أن نعامل غيرنا بالعصبية وسوء الخلق والظلم وضيق النظر، فإنه ما أخرج المسلم للناس إلا ليكون لهم أسوة يتأسون بها في حسن الأخلاق والشرف وسعة الصدر والصلاح، وليجلب قلوبهم بمبادئه الطاهرة المبنية على الحق والعدل.

رابعاً: حقوق سائر المخلوقات

إن الله قد فضل الإنسان على كثير من مخلوقاته، وأذن له أن يتصرف فيها ويخضعها بقوته، ويستخدمها وينتفع منها فيما يريد، وذلك جزء من حقه المشروع، باعتباره أفضل خلق الله في الأرض. ولكن بإزاء كل ذلك رتب الله على الإنسان حقوقاً لهذه المخلوقات، فمنها ألا يضيعها أو يضرها أو يؤذيها من غير حاجة شديدة، وإذا ضرها فعليه أن يضرها بما لا يرى لنفسه بداً منه ويختار لاستخدامها والتمتع بها أحسن الطرق وأعدلها.

وقد فاضت الشريعة الإسلامية بمثل هذه الأحكام المتواترة، فما أذن للإنسان أن يقتل البهائم إلا للغذاء أو اتقاء للمضرة، وقد نهي نهيا شديداً أن يقتلها من غير حاجة على سبيل اللهو والطرب مثلاً، وقد وضع لذبح البهائم المأكولة طريقة هي أحسن الطرق لأخذ اللحم النافع منها، وكل طريقة دون ذلك -وإن كان أقل منه إيذاء للبهيمة- فإنه يضيع كثيراً من فوائد اللحم وإن كان أكثر منه حفظاً اللحم، فإنه أكثر منه إيذاء للبهيمة. والإسلام يتجنب هاتين الناحيتين. ونهى نهياً شديداً عن قتل البهائم بالقسوة والإيذاء وكذلك ما أذن الإسلام بقتل الوحوش الضارية والحشرات السامة، إلا لأن النفس البشرية أجل قدراً وأكثر ثمناً من حياة هذه الوحوش والحشرات ومع ذلك فهو لا يبيح قتلها بالتعذيب والإيذاء.

وكذلك نهى الإسلام نهياً شديدا عن إجاعة الحيوانات، التي نستخدم ظهورها في الركوب أو حمل الأثقال، وعن تكليفها فوق طاقتها، وعن ضربها بقسوة، وكذلك كره الإسلام أن نحبس الطيور من غير حاجة، بل لا يكاد الإسلام يرضى أن نصيب الأشجار، فضلاً عن الحيوانات، بشيء من الضرر، فلنا أن نقطف أزهارها وأثمارها ولكن لا يحق لنا أن نبيدها أو نقلعها من غير حاجة، بل لا يجيز الإسلام، فضلاً عن النباتات ذات الحياة، أن نضيع شيئاً لا حياة فيه، فقد نهى عن صب الماء وإضاعته بدون حاجة.

خامساً: الشريعة العالمية الدائمة

يعد ما سبق خلاصة موجزة لأحكام الشريعة البيضاء، التي أرسل بها نبينا محمد r إلى العالمين إلى أبد الآبدين، ولم يفرق بين الإنسان والإنسان في هذه الشريعة شيء غير العقيدة والعمل. والحق أن جميع الشرائع والديانات، التي قد فرق فيها بين الإنسان والإنسان، بناء على النسل أو الوطن أو اللون، لا يمكن أن تكون شرائع عالمية، فإنه من المستحيل طبعاً أن يصبح فرد من هذا النسل فرداً من ذلك النسل، كما لا يمكن أن ينكمشوا جميعاً ويحددوا أنفسهم في أرض وطن خاص، كما لا يمكن أن يتغير سواد الحبشي أو صفرة الصيني أو بياض الإفرنجي عن فطرته، فالظاهر أن مثل هذه الديانات لا تنشأ ولا تعيش إلا في أمة خاصة من الأمم. وبإزائها جمعاء جاء الإسلام بشريعة عالمية، يمكن لكل من آمن بعقيدتها "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، أن يدخل في الأمة المسلمة ويتمتع فيها بنفس الحقوق، التي يتمتع بها سائر المسلمين، فإنه لا عبرة في هذه الشريعة بالنسل، أو اللغة، أو الوطن أو اللون.

ثم إن هذه الشريعة، شريعة دائمة ليست قوانينها مبنية على أعراف أمة خاصة أو عادات زمن محدود، بل هي مبنية على مبدأ الفطرة، التي فطر عليها الإنسان؛ ولأن هذه الفطرة قائمة في كل زمان أو حال، ينبغي أن تبقى هذه القوانين، التي بنيت عليها قائمة في كل زمان أو حال كذلك.




أحكام الشريعة الإسلامية 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

أحكام الشريعة الإسلامية Empty
مُساهمةموضوع: رد: أحكام الشريعة الإسلامية   أحكام الشريعة الإسلامية Emptyالجمعة 13 يناير 2012, 1:14 am

المبحث العاشر

مستقبل التشريع الإسلامي

ماذا نريد من هذا التشريع؟ حاله بالأمس القريب، حاله اليوم، كيف نصل لما نريد؟ واجبنا في هذا السبيل.

أولاً: ماذا نريد من هذا التشريع؟

والآن، ماذا نريد من هذا التشريع الإسلامي الذي عرفنا الكثير عنه، والذى به صلحت أمة عظيمة سادت البشرية قرونا طويلة؟ إننا لا نريد إلا شيئا واحدا، لنا الحق كل الحق في أن نريده، بل يجب علينا أن نريده ونعمل ونجاهد في سبيله، وهو أن يكون هذا التشريع الإسلامي الأساس الأول لتشريعاتنا، ولكل ما تأخذ به الأمة من قوانين. ولا علينا مع هذا أن نفيد من كل خير نجده في التفكير القانوني لأي أمة من الأمم، بل لعل هذا يكون واجبنا، فما كانت أمة لتستغني عن غيرها في كل شؤونها.إلا مظهرا من مظاهر الاستقلال، الذي تحرص عليه كل أمة، وإنه ليس هناك أضر من الاستعمار الفكري والتبعية القانونية من أمة لأخرى.

إن من المسلَّم به أن القانون هو أساس النظم، التي يقوم عليها بناء الأمة، وليس من الرشد أن تقيم أمة نظمها على أساس مستعار من أمة أخرى، وهو، مع هذا، قد لا يتفق ودينها وماضيها وتقاليدها الطيبة، بل هو يضرّ حاضرها ويقتل مستقبلها.

وإنا لنعلم تماما أن هذا الذي نريد لن يتحقق مرة واحدة وفي زمن قريب، فقد مضى زمنا طويلا ركد فيه الفقه الإسلامي وجمد على حالة واحدة، فلابد من زمن نفيق فيه من هذا النوم، الذي طال أمده، ولا مناص من زمن يطول أو يقصر يتطور فيه هذا الفقه، ليكون منه حلول لكل مشاكل العصر، التي تجدَ وتتغير من حين إلى حين، وهذا ما يحتاج منا إلى عمل جاد متواصل.

وما ينبغي لنا أن نجبن أمام ما يقتضيه ما نريده، من جهد شاق وعمل ضخم، ولا أن نيأس، إن طال بنا الزمن في جهادنا هذا. ونظرة إلى ما كان عليه هذا الفقه الإسلامي بالنسبة للقانون الوضعي بالأمس القريب، ثم إلى ما صار عليه اليوم، تقنعنا بما نقول، وتجعلنا نسير مطمئنين إلى ما نريد، وسيكون إن شاء الله تعالى.

ثانياً: حال الفقه بالأمس القريب

حال الفقه، من الوجهة الرسمية، بالأمس القريب، لا تزال ماثلة أمام أعيننا بواقعها وآثارها ـ فقد نحي عن الحكم والقضاء ـ إلا فيما سموه "الأحوال الشخصية" من الزواج والطلاق والوصية والميراث ـ والإدارة وسياسة الدولة بعامة. فكان أن انزوى بين جدران المعاهد الدينية، وصار لا يعنى أحد بدراسته دراسة علمية جدية، ما دام لا حاجة إليه في القوانين الرسمية وتطبيقها في غير المحاكم الشرعية، وذلك في أغلب بلاد المسلمين، إلا ما رحم ربّك.

وكان ذلك كله، بعد أن أخذت بعض بلاد المسلمين بالقوانين الفرنسية.

صرنا إذا، في هذه الفترة ـ بعد أن تركنا فقهنا الإسلامي الأصيل ـ لا نُعنى إلا بفقه أجنبي دخيل، أو فقه يحتله الأجنبي، إذا أردنا التخفيف من الواقع قليلا واصطنعنا تعبير الأستاذ الدكتور السنهورى، فقد كتب منذ عشرين عاما يقول "علينا أولا أن نمصر الفقه، فنجعله فقها مصريا خالصا، نرى فيه طابع قوميتنا، ونحس أثر عقليتنا. ففقهنا اليوم لا يزال هو أيضا يحتله الأجنبي، والاحتلال هنا فرنسي، وهو احتلال ليس بأخف وطأة ولا بأقل عنتا من أي احتلال آخر، لا يزال الفقه المصري يتلمس في الفقه الفرنسي الهادي المرشد الذي لا يكاد يتزحزح عنه، فهو ظله اللاصق وتابعه الأمين".

ثالثاً: حال الفقه الإسلامي اليوم

ذلك ما كان عليه الفقه رسميا بالأمس القريب، كما ذكرنا، أما اليوم فنرانا خطونا خطوة كبيرة في سبيل الغرض، الذي نقصد. ولهذه النقلة أسبابها، كما أن لها مظاهرها، وسنتناول كلا من هذه الأسباب والمظاهر بكلمة موجزة.

أحست الأمة إحساسا شديدا بشدة وطأة الاحتلال الأجنبي ومعرته، سواء في هذا الاحتلال العسكري والاحتلال الفكري، فهبت جميعا تطلب الاستقلال في كل شيء، وطالبت بهذا بكل وسيلة، وعملت له بما تملك من قوى. ونبغ من رجال القانون من رأى أنه آن للقانون الذي نحكم به أن يكون إسلاميا، يتفق مع ديننا وعقيدتنا، وعملوا لهذا الاستقلال بالطرق، التي رأوها صالحة ناجعة في رأيهم. كما طالبت الشعوب الإسلامية بضرورة أن يكون الحكم بقوانين مأخوذة من الشريعة الإسلامية، لأن "الإسلام دين ودولة" ودنيا وأخرى، وذلك لما جاء به من قوانين صالحة لحكم الجماعة والإنسانية في مختلف شؤونها.

ولا عجب أن ننادي بهذا، ففي الإسلام ـ بتشريعاته ونظمه ـ ما يغنينا عن الأخذ دائما عن الغرب من غير ضرورة.

فإن لكل أمة قانونا يتحاكم إليه أبناؤها، وهذا القانون يجب أن يكون مستمدا من أحكام الشريعة الإسلامية، مأخوذا عن القرآن الكريم، ومتفقا مع أصول الفقه الإسلامي. وإن في الشريعة الإسلامية، وفيما وضعه المشرعون المسلمون، ما يسد الثغرة ويفي بالحاجة وينقع الغلة، ويؤدي إلى أفضل النتائج وأبرك الثمرات.

وإن في حدود الله ـ لو نفذت ـ لزاجراً يردع المجرم، وإن اعتاد الأجرام، ويكف العادي وإن تأصل في نفسه العدوان، ويريح الحكومات من عناء التجارب الفاشلة. وإن التجربة تثبت ذلك وتؤيده، وأصول التشريع الحديث تنادى به وتدعمه، والله تبارك وتعالى يفرضه ويوجبه"

وهناك سبب ثالث نعتقد أنه دفع بعض رجال القانون عندنا إلى تقدير الفقه الإسلامي، والأخذ في العناية به والإفادة منه، ونعني به اهتمام كثير من رجال القانون بهذا الفقه والإشادة به في كثير من مؤتمراتهم في "لاهاي" و"نيس" و"باريس" مثلا.

واهتمام الغربيين بالتراث الإسلامي المجيد يرجع إلى العصور الوسطى، حين أرادوا معرفة عوامل مجد المسلمين ووصولهم إلى مركز القيادة في العالم، الذي كان معروفا حينذاك[1]، فأقبلوا على هذا التراث دراسة وإفادة وترجمة ونشرا لكثير من عيون مراجعه الأصلية.

وكان من آثار هذا الاهتمام الذي لا يزال مستمرا حتى اليوم، أن ظفرنا بكثير من هذه المراجع منشورة بعناية هؤلاء المستشرقين، وأن ظفر العلم أيضا بكثير من مؤلفاتهم ودراساتهم الخاصة القيمة في الفقه وغير الفقه من جوانب ثقافة الإسلام وحضارته.

نريد أن نقول إن هذه العناية من جانب الغربيين، الذين تخصصوا في الفقه الإسلامي وقصروا جهودهم عليه، وإن ما كان منهم ـ ولا يزال ـ من إشادة به باعتباره فقها أصيلا حيا وقابلا للتطور ومسايرة الحياة الحاضرة، وللإسهام في تقدم الفقه العالمي، ربما دفعت الكثير من رجال القانون عندنا للإيمان به وللإقبال على دراسته والانتفاع به.

تلك هي جماع الأسباب، التي أدت إلى أن خطونا خطوة واسعة مباركة في سبيل تحقيق الغرض المنشود، وهو العناية بالفقه الإسلامي ودراسته وجعله الأساس الأول لتشريعاتنا الحديثة، تحقيقا لاستقلالنا، الذي نحرص عليه أشد الحرص. أما مظاهر هذه الخطوة أو النقلة، فإننا نستطيع أن نجملها في هذه الأمور:

1. اتجاه غير قليل من طلاب القانون ورجاله لكتابة بحوث ورسائل دكتوراه في مواضيع من الفقه الإسلامي، أمثال الدكتور شفيق شحاتة في "نظرية الالتزامات في الشريعة الإسلامية"، والدكتور السعيد مصطفى السعيد في"مدى استعمال حقوق الزوجية وما تتقيد به الشريعة الإسلامية والقانون المصري الحديث"، والدكتور صبحي محمصاني في "النظرية العامة للموجبات والعقود في الشريعة الإسلامية". والدكتور محمد ذكى عبد البر في "تحمل التبعة في الفقه الإسلامي".

وذلك إلى مؤلفات وبحوث أخرى، مثل "التشريع الجنائي في الإسلام"، و "الإسلام وأوضاعنا القانونية"، وكلاهما للأستاذ عبد القادر عودة، إلى غير هذا وذاك من الرسائل والمؤلفات والبحوث المختلفة.

2. جعل الفقه الإسلامي مصدراً رسمياً من مصادر القانون المدني الجديد، ولهذا أثره الطيب بلا ريب من ناحيتين، التوسع في الأخذ منه، وأن دراسته أصبحت واجبة على رجال القانون والقضاء.

وعن الناحية الأولى، يقول الدكتور السنهوري بعد أن أشار إلى ما استبقاه القانون الجديد مما كان أخذه القانون القديم من الفقه الإسلامي.

"وقد استحدث التقنين الجديد أحكاما أخرى استمدها من الفقه الإسلامي، وبعض هذه الأحكام الجديدة هي مبادئ عامة، وبعضها مسائل تفصيلية. فمن المبادئ العامة، التي أخذ بها، النزعة الموضوعية، التي نراها تحلل كثيرا من نصوصه، وهذه هي نزعة الفقه الإسلامي، آثرها التقنين الجديد على النزعة الذاتية، التي هي طابع القوانين اللاتينية، وجعل الفقه الإسلامي عمدته في الترجيح.

ومن هذه المبادئ أيضا، نظرية التعسف في استعمال الحق، لم يأخذها التقنين الجديد عن القوانين الغربية فحسب، بل استمدها كذلك من أحكام الفقه الإسلامي، ولم يقتصر فيها على المعيار الشخصي، الذي اقتصرت عليه أكثر القوانين، بل ضم إليها معيارا موضوعيا في الفقه الإسلامي، يقيد استعمال الحق بالمصالح المشروعة، ويتوقى الضرر الجسيم، الذي قد يصيب الغير من استعماله.

وكذلك الأمر في حوالة الدين، أغفلتها القوانين اللاتينية، ونظمتها القوانين الجرمانية متفقة في ذلك مع الفقه الإسلامي، فأخذ بها التقنين الجديد. ومبدأ الحوادث الطارئة imprevision أخذ به بعض التقنينات الحديثة، فرجح التقنين الجديد الأخذ به استنادا إلى نظرية الضرورة ونظرية العذر في الفقه الإسلامي.

ومن الأحكام، التي استحدثها التقنين الجديد مسائل تفصيلية كما قدمنا، وقد اقتبسها من الفقه الإسلامي. ومن هذه المسائل الأحكام الخاصة بمجلس العقد، وبإيجار الوقف، وبالحكر، وبإيجار الأراضي الزراعية، وبهلاك الزرع في العين المؤجرة، وبانقضاء الإيجار بموت المستأجر وفسخه للعذر، وبوقوع الإبراء من الدين بإرادة الدائن وحده.

وعن الناحية الثانية، وهي ناحية ضرورة التوسع في دراسة الفقه الإسلامي، بعد أن صار المصادر الرسمية للقانون الجديد، نرى الأستاذ السنهورى أيضا يقول:

"ولا شك في أن ذلك يزيد كثيرا في أهمية الشريعة الإسلامية، ويجعل دراستها دراسة علمية في ضوء القانون المقارن أمرا ضروريا لا من الناحية النظرية الفقهية فحسب، بل كذلك من الناحية العملية التطبيقية. فكل من الفقيه والقاضي أصبح الآن مطالباً أن يستكمل أحكام القانون المدني، فيما لم يرد فيه نص، ولم يقطع فيه عرف، بالرجوع إلى أحكام الفقه الإسلامي.

ويجب عليه أن يرجع إلى هذه الأحكام، قبل أن يرجع إلى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة، بل لعل أحكام الشريعة الإسلامية، وهي أدق تحديدا وأكثر انضباطا من مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة، هي التي تحل محل هذه المبادئ والقواعد، فتغنينا عنها في كثير من المواطن".

3. ونذكر أخيرا من هذه المظاهر، أن فكرة أن يكون الفقه الإسلامي هو الأساس الأول لكل قوانيننا وتشريعاتنا الحديثة، قد "تبلورت" في أذهان كبار رجال القانون، وأخذت مكانها اللائق بها في تفكيرهم وفي كتاباتهم، وكان من هذا أن رأينا الدكتور السنهوري يقول في بحث آخر له ما ننقله كذلك حرفياً[2].

"والهدف الذي نرمي إليه، هو تطوير الفقه الإسلامي، وفقا لأصول صناعته، حتى نشتق منه قانونا حديثا يصلح للعصر الذي نحن فيه. وليس القانون المصري الجديد أو القانون العراقي الجديد إلا قانونا مناسبا في الوقت الحاضر لمصر أو العراق.

والقانون النهائي الدائم لكل من مصر والعراق، بل لجميع البلاد العربية، إنما هو "القانون المدني"، الذي نشتقه من الشريعة الإسلامية. وقد تكون البلاد العربية عند ظهور هذا القانون قد توحدت سياسيا، فيأتي القانون ليدعم وحدتها، وقد تكون في طريقها إلى التوحيد، فيأتي القانون عاملا من عوامل توحيدها، ويبقى على كل حال رمزا لهذه الوحدة".

رابعاً: كيف نصل إلى ما نريد؟

من الأقوال المأثورة، أنه ليس كل ما يتمنى المرء يدركه، وأنه ما نيل المطالب بالتمني وحده، ولكن بأن تشتد الأمنية فتصير رغبة، وأن تشتد هذه الرغبة بالعزم الصادق عليها فتصير إرادة. ولا يصل الإنسان إلى أن يريد شيئا إلا إن فكر فيه ورآه ممكنا، ثم أجمع أمره عليه وأخذ في تذليل ما يعترضه من صعاب أو عقبات.

وهنا، نريد أن يكون الفقه الإسلامي في مستقبل الأيام الأساس الأول لتشريعنا وأن يكون لنا منه قانون عربي أو إسلامي عام للبلاد العربية الإسلامية كلها. وهذا الذي نريد أمر عظيم، وهو يتطلب منا عملاً جادًّا دائبًا، فما ينبغي لنا ـ إذاً ـ أن نخدع أنفسنا بأن نزعم أننا نريد، ثم لا نعمل ما يجب أن نعمل، ليكون ما نريد أمرا واقعا في مستقبل الأيام.

إن هذه الغاية، التي يرجو كل مسلم الوصول إليها، تلقي علينا ـ معشر رجال الفقه والقانون ـ تبعات ثقالا، وتتطلب من كل فريق منا أن يقوم بواجبه كاملا في هذا السبيل.

إن علينا، معشر المعنيين بالشريعة الإسلامية، بيان هذا الفقه في مراجعه الأولى الأصلية، وهذا لا يتأتى إلا بنشر هذه المراجع نشرا علميا ييسرها للباحثين. ثم علينا بعد ذلك نشر أمهات الكتب الفقهية الأخرى، التي جاءت في العصور التالية، فلا نقتصر منها على مذهب واحد أو على المذاهب الأربعة المعروفة، بل علينا أيضا عرض المذاهب الأخرى، مثل المذهب الظاهري. ففي هذه المذاهب الأخرى كنوز من الثروة الفقهية، وفيها كثير ينفعنا في نهضتنا التشريعية والاجتماعية.

ومتى تم لنا معرفة الفقه الإسلامي في مختلف مذاهبه، كان علينا أن ندرسه على نحو جديد، غير النحو الذي كان يدرس عليه الفقه في العصور السابقة، نعني التاريخية المقارنة، بين بعضها من ناحية، وبينها وبين ضروب الفقه والقوانين الحديثة من ناحية أخرى.

إن هذه الدراسة تساعدنا على التحرر من ربقة التقليد، الذي أخذ منا بالخناق، وتجعلنا نعرف يقينا أن الله لم يخص بالحق كله فقيها أو مذهبا واحدا بعينه، ونقدم مادة خصبة للذين يقومون بالقوانين الوضيعة الحديثة، وذلك ما يعرفهم بما للفقه الإسلامي من منزلة كبيرة، فيفيدون منه أجل فائدة، حتى يكون المصدر الرسمي لما يضعون من قوانين.

فضلا، عن أن هذا النوع من الدراسة، يرسم لنا لوحة أمينة صادقة لجهود العقل الإنساني في هذه الناحية، ولتطور الفكر العالمي فيما يتصل بالتشريع والتقنين؛ ليتناسب مع ما يجد من مشاكل الحياة العملية وأحوالها العديدة المختلفة، وسواء في ذلك جهود الفقهاء في الشرق والغرب من المسلمين وغير المسلمين.

إن على رجال القانون واجبا لا يقل جهدا ولا خطرا عما على رجال الفقه. عليهم أن يعاونوا زملاءهم في دراسة الفقه الإسلامي في سائر نواحيه في البحث الخاص بفروع الفقه وفروع القانون إن هذا الفقه يشتمل على كل النواحي، التي يدرسها القانون بقسيمه "العام والخاص" وبسائر فروعه.

وبذلك التعاون والدرس المشترك، يتبين للمشتغلين بالقانون أن في التراث الفقهي الإسلامي ما يغنينا في نواح كثيرة عن الأخذ عن الفقه والقوانين الأجنبية، وأنه من الميسور أن نشتق من هذا الفقه قانونا عاما صالحا لجميع البلاد العربية الإسلامية، وهذا ما سيكون في يوم ليس بعيدا إن شاء الله تعالى، ما دمنا نطلبه ونريده ونعمل له متعاونين بكل سبيل.

خامساً: لابد من الاجتهاد

ومع هذا وذاك كله، لابد من فتح باب الاجتهاد في الفقه للقادر عليه، فما تخلف الفقه الإسلامي عن القافلة، إلا بسبب سد هذا الباب منذ قرون. ونحن نعلم أن الاعتزاز بتراث الماضين من الأسلاف أمر طبيعي وغرزي في الإنسان، وأنه من العبث والحمق أن نحاول التنكر لهذا التراث والاستغناء عنه، وأنه من المستحيل أن نقيم علما من العلوم من دون أن نفيد من جهود الماضين، وثمار تفكيرهم في دائرة هذا العلم.

ولكنا نعلم مع هذا، أن الجمود من سمات الموت، وأن الحركة هي الخاصة الأولى للحياة، وأن القرآن الكريم، نعى، في كثير من آياته، على التقليد والمقلدين، وقد نهى الأئمة أنفسهم، رضوان الله عليهم، عن تقليدهم بلا حق، وقد نقل هذا النهي عن أبي حنيفة وغيره، ومن ذلك قول الشافعي: مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة من حطب، وفيه أفعى تلدغه، وهو لا يدرى"! ويذكر إسماعيل بن يحيى المزني في أول مختصره في الفقه، بأنه اختصر من علم الشافعي؛ ليقربه على من أراده، مع إعلامه بنهيه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه.

وليس لأحد منا أن يخلط بين التقليد المنهي عنه، وبين الأتباع، الذي أثنى الله عليه بقوله ]وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[ (سورة التوبة: الآية 100)، فيقول إن في التقليد إتباعا يرضاه الله جل ثناؤه. نعم! ليس لنا أن نلجأ لمثل هذا القول، فإن إتباع الجلة من المهاجرين والأنصار ـ في هذه الناحية ـ هو احتذاؤهم في طرق استدلالهم واستنباطهم الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة، والفرق كبير بين هذا وبين التقليد!

وقد ذكر أبو داود أنه سمع الإمام أحمد بن حنبل يقول: "الإتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي r، ثم هو من بعد في التابعين مخير". كما أنه قال أيضاً: "لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الثوري ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا فأين هذا مما نحن عليه اليوم، من تقليدنا غير قليل من الفقهاء المتأخرين زمنا، وجعل آرائهم شرعة واجبة الأتباع؟

على أن للمسألة وجها آخر يوجب علينا الاجتهاد للقادر عليه، وإلا كنا آثمين في حق الفقه والأمة. إن فقهاءنا الماضيين رضي الله عنهم وأثابهم خيرا كثيرا، قد نظروا لدينهم وأمتهم وأنفسهم، وبحثوا عن حكم الله في كل ما كان في أيامهم من حوادث ونوازل ومسائل ومشاكل، فما جبنوا عن مواجهة شيء منها، ولا قصروا في بيان حكم الله ورسوله، r، فيها.

ولكن الزمن يتغير، والمعاملات تجد وتتطور، فكان أن وجد منها اليوم ما لم يكن موجوداً بالأمس، فليس لنا أن نمسك عن بيان حكم الفقه في كل منها متعللين بأن الفقهاء الماضين لم يتكلموا فيها، بل علينا أن نجتهد في ذلك مستفيدين من جهود الماضين، ومعتمدين قبل كل شيء على كتاب الله المحكم وسنة رسوله r، الصحيحة.

إن علينا، إذاً، أن نجتهد في بيان حكم الله في هذه المسائل ونحوها، كالمعاملات، التي جدت في سوق العقود، وبخاصة ما يتصل منها بالاقتصاد، أو، الصناعة، أو، المحاصيل الزراعية، والأعمال، التي تقوم بها البنوك العادية[3]، وبنوك التسليف الزراعي والصناعي، والأعمال، التي تقوم بها الجمعيات التعاونية، مثل إقراض المزارعين مثلاً، ما يحتاجون إليه لزراعاتهم، وأمور الاقتصاد وسياسة المال، والشركات بأنواعها المختلفة، وبخاصة شركات التأمين بمختلف ضروبها وتنوع ميادينها، وسياسة الحكم وأصوله، وعلى أي النظم والقواعد يجب أن يكون حكم الأمة، إلى غير ذلك كله من شؤون الحياة، هذه الحياة التي لا تعرف الجمود ولا الوقوف.

ونحمد الله تعالى أن وفق رابطة العالم الإسلامي إلى إنشاء مجمع الفقه الإسلامي، الذي قدم خدمات جليلة للمسلمين، وأصدر قرارات وبحوثاً مهمة في التشريع الإسلامي والمعاملات المعاصرة.

ونسأل الله أن يبارك في أعمال مجمع الفقه، وأن يعم نفعها المسلمين جميعا.

إننا حين نفعل ذلك، من دراسة الفقه الإسلامي دراسة علمية صحيحة، متعاونين مع رجال القانون، وحين نجتهد في بيان حكم هذا الفقه في المعاملات، التي تجرى بيننا، وفي القواعد العامة، التي تقوم عليها سياسة الحكم ونظم الأمة والدولة، إننا حين نفعل ذلك نصل بالفقه الإسلامي إلى أن يكون هو الأساس الأول لتشريعاتنا وقوانيننا، ومن الله العون والتوفيق لكل خير.

************************
[1] على أنه قد يكون من بواعث هذا الاهتمام في القرن التاسع عشر إلى اليوم بخاصة، ما يرجع إلى الناحية الاستعمارية، رغبة في معرفة ماضي البلاد، التي نكبت باستعمارهم وحاضرهم. ولكن تحقيق هذا ليس من قصدنا الآن.

[2] وذلك بعد أن قرر أن الفقه الإسلامي لا تقل عراقته عن عراقة القانون الروماني وهو لا يقل عنه في دقة المنطق ومتانة الصياغة والقابلية للتطور وهو مثله صالح أن يكون قانونا عالميا بل كان بالفعل قانونا عالميا يوم امتدت دولة الإسلام من أقاصي البلاد الآسيوية إلى ضفاف المحيط الأطلسي وهذا الفقه الإسلامي إذا أحييت دراسته وانفتح فيه باب الاجتهاد قادر أن ينبت قانونًا حديثًا لا يقل في الجدة ومسايرة العصر عن القوانين اللاتينية والجرمانية، بل يتفوق عليها.

[3] مثل الخصم: وتحصيل الأوراق التجارية، وفتح الاعتمادات.

***************************************************

المصادر والمراجع

1. القرآن الكريم.

2. موسوعة الحديث الشريف، الإصدار الثاني، شركة حرف لتقنية المعلومات، مصر، 1998.

3. ابن القيم، "إعلام الموقّعين عن رب العالمين"، دار الفكر العربي، القاهرة، د. ت.

4. ابن خلدون، "مقدمة ابن خلدون"، مطبعة التقدم، د. ن، عام 1322هـ.

5. أبو الأعلى المودودي، "مبادئ الإسلام"، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1968.

6. صحيح البخاري، مكتبة زهران، بالقاهرة .

7. صحيح مسلم، دار إحياء الكتب العربية، عيسى الحلبي.

8. عبد الصبور شاهين، "دستور الأخلاق في القرآن"، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1973.

9. عبدالرحمن حسن حنبكة، "الأخلاق الإسلامية"، دار القلم، دمشق، 1979.

10. كمال الدين عبدالرزاق كاشاني، "شرح منازل السائرين"، دار المجتبى، بيروت، 1995.

11. محمد قطب، "ركائز الإيمان"، دار الأنصار، القاهرة، د.ت.

12. مسند الإمام أحمد، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، 1948.

13. يحيى بن آدم القرشي، الخراج"، ط2، تحقيق أحمد محمد شاكر، المطبعة السلفية، 1352هـ.

14. يوسف القرضاوي، "الحلال والحرام في الإسلام"، دار الاعتصام، القاهرة، 1974.


أحكام الشريعة الإسلامية 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
أحكام الشريعة الإسلامية
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» عيد الحب في ميزان الشريعة الإسلامية
» عيد الحب في ميزان الشريعة الإسلامية
» معايير الانتخاب في الشريعة الإسلامية
» الباب الأول: الفصل الثاني التطرف في الشريعة الإسلامية
» المخزون السياسي في الشريعة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الـعــقـيــــــــدة الإســــلامـيــــــــــة :: كتابات في العقيدة-
انتقل الى: