المبحث العاشر
التدخل الأمريكي وتحويل القضية الفلسطينية إلى الأمم المتحدة
(1945 – 1947)
أولاً: التدخل الأمريكي في القضية الفلسطينية
في الوقت الذي اقتصر فيه التدخل الأمريكي في القضية الفلسطينية خلال الحرب على القرارات والبيانات والتصريحات المؤيدة للموقف الصهيوني والضغط على الحكومة البريطانية من أجل فتح أبواب فلسطين للهجرة اليهودية، فقد تصاعد هذا التدخل بعد الحرب إلى مستوى المشاركة في بحث مستقبل هذا البلد والضغط من أجل فتح أبوابه للهجرة اليهودية وقيام الدولة العبرية فيه، وقد ساعد على ذلك الحالة الاقتصادية السيئة لبريطانيا وحاجتها الماسة للدعم الأمريكي من ناحية، واتجاه حكومة العمال الجديدة إلى تحميل الولايات المتحدة الأمريكية نصيبها من المسؤولية تجاه القضية الفلسطينية من ناحية أخرى.

فعندما تولى حزب العمال الحكم في بريطانيا في نهاية يوليه عام 1945، خلفاً لحكومة المحافظين، شكل مجلس الوزراء لجنة لبحث سياسة الحكومة في الشرق الأوسط بوجه عام وفي فلسطين بوجه خاص، وقامت اللجنة بعملها خلال شهر أغسطس، وقدَّمت تقريراً في شهر سبتمبر أكدت فيه على "أنه لتلبية متطلبات الإستراتيجية البريطانية في المنطقة فإنه من الضروري المحافظة على صداقة العرب وتوحيد المشرق العربي في ظل ميثاق أمن إقليمي يقوم على أساس المشاركة بين الأنداد".

أما بالنسبة إلى فلسطين فقد أوصت اللجنة المشار إليها بما يلي:
1. مواصلة تطبيق سياسة الكتاب الأبيض فيما يتعلق بالهجرة اليهودية مؤقتاً حتى يتم إقرار سياسة جديدة للمستقبل، مع بذل كل جهد ممكن لإقناع العرب بالموافقة على استمرار الهجرة بالمعدلات المعمول بها وقتئذ (1500 مهاجر شهرياً) حتى يتم إقرار السياسة الجديدة.

2. إبلاغ حكومة الولايات المتحدة الأمريكية ـ قبل الاتصال بالعرب ـ بأن الحكومة تدرس وضع سياسة جديدة بعيدة المدى بالنسبة إلى فلسطين تزمع عرضها على المنظمة العالمية (الأمم المتحدة) في الوقت المناسب.

وفي الوقت التي كانت فيه اللجنة البريطانية السابقة لازالت تبحث الموقف في فلسطين لتحديد السياسة البريطانية تجاهها بعد الحرب، كانت الحركة الصهيونية التي أصاب زعماءها القلق من عدم إعلان الحكومة البريطانية الجديدة نواياها تجاه فلسطين قد وصلت إلى الرئيس الأمريكي الجديد "هاري ترومان" بواسطة "إيلي جاكسون" صديقه الحميم وشريكه السابق في محل خردوات في "مينسوتا" قبل انتخاب ترومان عضواً في الكونجرس واختياره نائباً لروزفلت.

وعلى ذلك تجاهل الرئيس ترومان آراء معاونيه بعدم اتخاذ قرارات تؤثر سلباً على المصالح الأمريكية النامية في الشرق الأوسط، وطلب من الحكومة البريطانية السماح بتهجير مائة ألف لاجئ يهودي أوروبي إلى فلسطين، ولما كان طلب الرئيس الأمريكي لا يتمشى مع التوجهات البريطانية الجديدة، فقد كان رد الحكومة البريطانية هو طلب تشكيل لجنة برلمانية مشتركة (إنجليزية/ أمريكية) تكون مهامها كما يلي:
1. بحث الإجراءات الكفيلة بتحسين أوضاع اليهود في البلدان الأوروبية التي تعرضوا فيها للاضطهاد النازي والفاشي.

2. بحث الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في فلسطين من حيث علاقتها بالهجرة اليهودية، وبحث الإجراءات الكفيلة بالسماح بنسبة معقولة من الهجرة اليهودية إلى فلسطين في المستقبل القريب.

3. بحث احتمال حل مشكلة اللاجئين اليهود في أوروبا بفتح أبواب الهجرة إلى بلدان أخرى منها الولايات المتحدة الأمريكية ودول الكومنولث البريطاني.

وقد واجه اقتراح تشكيل اللجنة المشتركة الرئيس ترومان بمشكلة دقيقة في الوقت الذي كان فيه الرأي العام الأمريكي ـ الذي تأثر بالدعاية اليهودية ـ يساند المطالب الصهيونية، والبلاد مقبلة على انتخابات مجلس النواب والتجديد النصفي لمجلس الشيوخ، إلا أن الرئيس ترومان اختار الموافقة على تشكيل اللجنة المشتركة حتى لا ينفرد البريطانيون بتقرير السياسة التي يرونها تجاه فلسطين.

وفي 13 نوفمبر 1945 أوضح أرنست بيفن وزير الخارجية البريطانية في مجلس العموم أن الحكومة ستنفذ توصيات اللجنة المشتركة إذا ما جاءت بالإجماع، كما أعلن قرار الحكومة باستشارة العرب حول ضمان المحافظة على عدد المهاجرين المسموح شهرياً (1500مهاجر)، وكان ذلك العدد مرتبطاً باستكمال الأعداد التي قررت في الكتاب الأبيض (75 ألف مهاجراً أصلياً بالإضافة إلى 25 ألف آخرين للمساهمة في حل مشكلة اللاجئين اليهود في أوروبا إذا ما كانت الحالة الاقتصادية تسمح بالأعداد الأخيرة).

وتشكلت اللجنة البرلمانية المشتركة من اثنى عشر عضواً نصفهم من الإنجليز والنصف الآخر من الأمريكيين، وعلى ضوء مشاورات اللجنة مع كل من العرب واليهود في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفلسطين والمشرق العربي، فإنها وضعت في 20 إبريل 1946 تقريرها الجماعي الذي ضمنته عدة مبادئ هي:
1. عدم انفراد اليهود أو العرب بالسيطرة على فلسطين.

2. عدم تحول فلسطين إلى دولة عربية أو دولة يهودية.

3. أن يوفر شكل الحكومة التي ستقوم في فلسطين ـ وفقاً لضمانات دولية ـ الحماية التامة للديانات والمقدسات الإسلامية والمسيحية واليهودية في البلاد.

وانتهت اللجنة في تقريرها إلى رفض تقسيم فلسطين، وأكدت على أن "أي محاولة في ذلك الوقت أوفي المستقبل القريب لإقامة دولة فلسطينية مستقلة أو دولتين فلسطينيتين مستقلتين (إحداهما يهودية والأخرى عربية) لابد أن تؤدي إلى حرب أهلية قد تهدد السلام العالمي". وخلصت اللجنة إلى ضرورة بقاء فلسطين دولة موحدة ثنائية القومية تحت الانتداب البريطاني تمهيداً لوضعها تحت وصاية الأمم المتحدة، ومطالبة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأخرى بفتح أبوابها لاستقبال عدد من اللاجئين اليهود. (اُنظر خريطة تقسيم فلسطين)

وتقدمت اللجنة بعدد من التوصيات الخاصة بتطوير فلسطين من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية، كما أوصت بإصدار مائة ألف تصريح هجرة إلى فلسطين تمنح قدر الإمكان خلال عام 1946" والإسراع بخطى الهجرة بالشكل الذي تسمح به الظروف، وخضوعها في المستقبل إلى اتفاق وسط بين العرب واليهود، وطلبت اللجنة في تقريرها أن تبادر الوكالة اليهودية إلى التعاون الفعال مع دولة الانتداب في قمع الإرهاب والهجرة غير الشرعية".

وقد تفاوتت ردود الفعل البريطانية والأمريكية تجاه التوصيات السابقة التي أجمعت عليها اللجنة البرلمانية المشتركة، فبالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية تجاهل الرئيس ترومان رغبة الحكومة البريطانية في العمل المشترك تجاه القضية الفلسطينية وأصدر تصريحاً، أعده له مساعده اليهودي الصهيوني ديفيد نايلز، رحب فيه بتوصية اللجنة حول هجرة المائة ألف يهودي إلى فلسطين وتجاهل باقي التقرير ـ الذي حاولت اللجنة أن تجعله متوازناً حتى يحظى بموافقة إجماعية من أعضائها ـ مشيراً إلى أن باقي التوصيات تحتاج دراسة متأنية.

أما بالنسبة إلى بريطانيا، فقد صرح "كلمنت أتلي" رئيس وزرائها في مجلس العموم في أول مايو 1946 بأن التقرير يتضمن التزامات على المدى البعيد لا ترغب الحكومة البريطانية في الاضطلاع بها قبل أن تتأكد من مدى استعداد الولايات المتحدة الأمريكية للاشتراك في تحمل المسؤوليات العسكرية والمالية المترتبة عليها، كما أعلن أن الحكومة البريطانية لن تسمح بهجرة مائة ألف يهودي إلى فلسطين إلا إذا جرى نزع سلاح المقاتلين العرب واليهود وحل المنظمات الإرهابية الصهيونية وأبدت الوكالة اليهودية استعدادها للتعاون في هذا الشأن.

وقد هدد موقف الرئيس الأمريكي من تقرير اللجنة وعدم رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في تحمل أية أعباء عسكرية في فلسطين توصيات اللجنة البرلمانية المشتركة[1] بالتجميد، لولا أن اتفقت في النهاية الحكومتان الأمريكية والبريطانية على مجموعة من الإجراءات تساعدهما على تقريب وجهات النظر وتحديد مواقفهما النهائية من توصيات اللجنة البرلمانية، وقد تلخصت تلك الإجراءات فيما يلي:
1. قيام كل من الحكومتين باستطلاع رأي الحكومات العربية واليهودية حول ما جاء في تقرير اللجنة البرلمانية المشتركة.

2. التقاء وفدين من خبراء الحكومتين لبحث المطالب المترتبة على توصيات اللجنة البرلمانية وخاصة ما يتعلق منها بالالتزامات العسكرية والمالية.

3. تضع الحكومة الأمريكية نصب عينيها اقتراح الحكومة البريطانية بعقد مؤتمر تحضره كل الأطراف المعنية في المرحلة الثالثة من المشاورات.

وشكلت الحكومة الأمريكية وفدها برئاسة "هنري جريدي" نائب وزير خارجيتها كما شكلت الحكومة البريطانية الوفد المناظر برئاسة "هربرت موريسون" رئيس مجلس العموم وبدأت المباحثات بين الوفدين في لندن في يوليه 1946، في الوقت الذي تزايدت فيه القلاقل في فلسطين ووصل الإرهاب اليهودي مداه، وخلال أسبوعين توصل الجانبان إلى صيغة تقرير قدم إلى الحكومتين وعرف باسم "خطة جريدي ـ موريسون"، وكانت تلك الخطة تقضي بتحويل فلسطين إلى دولة إتحادية من ثلاث مناطق إحدها عربية وأخرى يهودية ومنطقة خاضعة للسيطرة البريطانية تشمل منطقتي القدس والنقب، مع تحول الانتداب إلى وصاية بريطانية ووجود حكومة مركزية تشرف على شؤون الدفاع والسياسة الخارجية والجمارك ورسوم الإنتاج، على أن تشرف الحكومتان العربية واليهودية على شؤون الإدارة المحلية والزراعة والصحة العامة والتجارة والصناعة.

وأوصى الوفدان في تقريرهما أنه إذا تمت الموافقة على خطتهم وقبلت الولايات المتحدة الأمريكية المشاركة في التكاليف المالية المترتبة عليها فسوف يُسمح بدخول مائة ألف يهودي إلى فلسطين خلال العام الأول، وبعد ذلك يتحدد العدد الذي يُسمح به من المهاجرين على ضوء طاقة الاستيعاب الاقتصادية للبلاد، كما قدم الوفدان خطة لتطوير فلسطين والبلدان المجاورة اقتصادياً، واقترح الوفد الأمريكي أن يطلب الرئيس ترومان من الكونجرس 300 مليون دولار من أجل هذا التطوير.

وقد رأت الحكومة البريطانية في هذه الخطة حلاً متوازناً للقضية الفلسطينية في ضوء الاعتبارات التالية:
1. تحقق تلك الخطة وضعاً شبيهاً بالاستقلال لخمسة وسبعين في المائة من السكان العرب.

2. توفر الخطة ضمانات فعالة للأقلية العربية في المنطقة اليهودية.

3. تسمح هذه الخطة بمنح اليهود قدراً من الإشراف على الهجرة وتنمية الأراضي داخل المنطقة اليهودية بحيث يمكنهم تطوير مشروع الوطن القومي فيها دون قيود.

4. يمكن تنفيذ هذه الخطة تحت إشراف الدولة المنتدبة دون اللجوء إلى الأمم المتحدة.

5. تضمن الخطة نواة التطور الدستوري على أساس إمكان توسيع منطقتي الحكم الذاتي بالتدريج بنقل السيطرة فيها من الحكومة المركزية إلى الحكومتين في هاتين المنطقتين.

6. إلغاء الانتداب على فلسطين على المدى البعيد إما بتقسيمها أو تكوين نظام فيدرالي يشمل كل المناطق تبعاً لما يسفر عنه تنفيذ تلك الخطة.

أما في الولايات المتحدة الأمريكية فقد رفض الرئيس ترومان الخطة برمتها، وقرر السير في طريق منفصل بعيداً عن بريطانيا بالنسبة إلى معالجة القضية الفلسطينية وعدم المشاركة في المرحلة التالية الخاصة بعقد مؤتمر في لندن يحضره كافة الأطراف المعنية، في الوقت الذي أصر فيه على إدخال المائة ألف يهودي إلى فلسطين أرضاءً ليهود الولايات المتحدة الأمريكية، وهكذا ترك ترومان بريطانيا تتخبط وحدها وتجني الثمار المرة لقطعها وعد بلفور ودعمها للمشروع الصهيوني في فلسطين.

ثانياً: فشل الحلول البريطانية وتحويل القضية الفلسطينية إلى الأمم المتحدة
قررت الحكومة البريطانية في صيف عام 1946 التشاور مع كل من العرب واليهود على ضوء ما انتهى إليه وفداً الخبراء الإنجليز والأمريكيين، وكانت الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية قد تلقت طلباً من الحكومتين البريطانية والأمريكية لإبداء رأيها فيما جاء بتقرير اللجنة البرلمانية الإنجليزية الأمريكية الذي أعلن في ربيع ذلك العام وأثار سخط العرب، لأنهم شعروا أن ذلك التقرير يلغي ما جاء بالكتاب الأبيض لعام 1939 الذي انعقدت عليه آمالهم.

ولم يكن اليهود أقل سخطاً على ذلك التقرير، لأنه لم يعترف بقيام الدولة اليهودية في فلسطين، وفرض قيود على الهجرة اليهودية إليها، كما طالب بحل المنظمات شبة العسكرية.

ولم يمنع الموقف العربي والصهيوني المعلن من تقرير اللجنة البرلمانية المشتركة الحكومة البريطانية من توجيه الدعوات في 25 يوليه 1946 إلى دول الجامعة العربية و الوكالة اليهودية والهيئة العربية العليا لحضور مؤتمر في لندن يعقد في سبتمبر من نفس العام، في محاولة أخيرة لحل المشكلة الفلسطينية عن طريق التفاوض، وبينما قبلت الدول العربية الدعوة فقد رفضتها الهيئة العربية العليا لفلسطين لأنه لم يُسمح للحاج أمين الحسيني برئاسة وفدهم، كما رفضت الوكالة اليهودية الحضور لعدم قبول الحكومة البريطانية ضم الزعماء الصهيونيين المعتقلين إلى وفد الوكالة، أما حكومة الولايات المتحدة الأمريكية فقد اعتذرت عن أن يمثلها في المؤتمر مندوبون بصفة مراقبين.

وعندما بدأ مؤتمر لندن أعماله في لانكستر هاوس يوم 9 سبتمبر، بادر الوفد البريطاني إلى طرح خطة الاستقلال الذاتي الإداري باعتبارها أول البنود في أجندة المؤتمر، إلا أن الوفود العربية هاجمت تلك الخطة لأنها ستؤدي في النهاية إما إلى تقسيم فلسطين أو سيطرة اليهود عليها، لأن السماح بهجرة غير مقيدة في القسم اليهودي الوارد في تلك الخطة سيؤدي إلى تزايد إعداد اليهود بما يحقق لهم الأغلبية العددية ومن ثم السيطرة على الحكم في البلاد.

وعندما رأى الوفد البريطاني إجماع الوفود العربية على رفض خطة الاستقلال الذاتي الإداري فإنه طالبهم بتقديم مقترحات بديلة على أساس عدم التزام الحكومة البريطانية بالخطة التي عرضتها، فقدمت الوفود العربية خطتها البديلة التي تقوم على العناصر التالية:
1. قيام دولة موحدة في فلسطين تضم أغلبية عربية دائمة وتحصل على استقلالها بعد فترة انتقال قصيرة (سنة أو سنتين) تحت الانتداب البريطاني، يجرى فيها الحكم بموجب دستور ديموقراطي.

2. يحصل اليهود ممن يتمتعون بالمواطنة الفلسطينية الكاملة على الحقوق المدنية الكاملة على قدم المساواة مع مواطني فلسطين الآخرين.

3. توفير ضمانات خاصة لحماية الحقوق الدينية والثقافية للأقلية اليهودية.

4. ضمان سلامة الأماكن المقدسة وحرية الممارسات الدينية في كل أنحاء فلسطين.

5. منح الأٌقلية اليهودية نسبة من عدد مقاعد المجلس التشريعي تتمشى مع نسبة عدد المواطنين اليهود إلى إجمالي المواطنين الفلسطينيين.

6. ضرورة حصول أي تشريع خاص بالهجرة وانتقال الأراضي على موافقة الأغلبية العربية في المجلس التشريعي.

7. عدم تعديل الضمانات الخاصة بالأماكن المقدسة إلا بموافقة الأمم المتحدة، وضرورة الحصول على موافقة أغلبية الأعضاء اليهود في المجلس التشريعي لتعديل أي ضمانات تتمتع بها الأقلية اليهودية.

8. عقد معاهدة تحدد العلاقة المستقبلية بين الحكومة البريطانية وحكومة الدولة الاتحادية.

فطلبت الحكومة البريطانية مهلة لدراسة الخطة العربية البديلة، ومن ثم تأجل استئناف المباحثات لمدة شهرين (حتى يناير عام 1947). والحقيقة أن تأجيل المؤتمر لم يكن لدراسة الخطة العربية فحسب، فقد آثرت الحكومة البريطانية الانتظار حتى ينتخب المؤتمر الصهيوني الثاني والعشرون مجلساً تنفيذياً جديداً كان يُؤمل أن يكون أكثر اعتدالاً من سابقه، بما يسمح بالمشاركة اليهودية في المؤتمر، إلا أن بريطانيا واجهت خلال هذه الفترة مزيداً من الإرهاب الصهيوني، وتعرضت سياستها في فلسطين لنقد شديد من كل من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية.

وتحت ضغط المنظمات الصهيونية الأمريكية أصدر الرئيس ترومان بياناً في الرابع من أكتوبر 1946، يستعرض فيه جهود إدارته تجاه القضية الفلسطينية ويطالب بريطانيا بفتح أبواب فلسطين لاستقبال المهاجرين اليهود على الفور دون انتظار حل القضية الفلسطينية، وأبدى استعداد الحكومة الأمريكية للمساعدة في هذا الشأن، كما طالب بتحرير قوانين الهجرة في البلاد المختلفة لحل مشكلة اللاجئين في أوروبا، وأشاد بتقرير اللجنة البرلمانية المشتركة التي أخذت بتوصيته الخاصة بتهجير مائة ألف لاجئ يهودي من أوروبا إلى فلسطين، كما أشار إلى تأييد الرأي العام في الولايات المتحدة الأمريكية لإنشاء دولة يهودية في منطقة كافية من فلسطين. (اُنظر ملحق تصريح رئيس الولايات المتحدة الأمريكية (مستر ترومان) في 4 أكتوبر 1946)

وقد كان لبيان الرئيس ترومان أسوأ الأثر في فلسطين والبلاد العربية، حيث شجع ذلك البيان المنظمات الإرهابية اليهودية على تشديد ضغطها على حكومة الانتداب، كما اندلعت المظاهرات في البلدان العربية ضد الولايات المتحدة الأمريكية واحتجت حكوماتها على ذلك البيان، كما أرسل الملك عبدالعزيز آل سعود خطاباً إلى الرئيس ترومان يبدي فيه دهشته من البيان المشار إليه الذي يتعارض مع الوعود التي قطعها الرئيس روزفلت له، وأوضح للرئيس ترومان الظلم الذي يمكن أن يحيق بالعرب نتيجة للسياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية والذي يمكن أن يؤثر على العلاقات العربية تجاه الولايات المتحدة الأمريكية (اُنظر ملحق كتاب الملك عبد العزيز آل سعود إلى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية (مستر ترومان) 15 أكتوبر 1946).

ولم يكن الرئيس الأمريكي وحده الذي خذل الحكومة البريطانية في هذه المرحلة الحرجة من معالجة القضية الفلسطينية، ففي ديسمبر من نفس العام خيب المؤتمر الصهيوني الثاني والعشرون أيضاً ظن الحكومة البريطانية وأسقط آمالها التي عقدتها عليه بانحيازه الكامل إلى فريق المتشددين الذي كان يتزعمه بن جوريون.

وقبل أن يستأنف مؤتمر لانكستر هاوس أعماله في 21 يناير 1947 ناقش مجلس الوزراء البريطاني مذكرة وضعها وزير الخارجية حول الحلول الثلاثة المقترحة للمشكلة الفلسطينية حتى يقرر المجلس الحل الذي يتم عرضه على كل من العرب واليهود عند استئناف المؤتمر لأعماله[2]، وقد تلخصت تلك الحلول فيما يلي:
1. تنفيذ التقسيم وفق ما طالب به اليهود دون حاجة إلى فترة انتقال يقوم خلالها نظام الاستقلال الذاتي الإداري.

2. إقناع العرب بقبول حصة نهائية وإن كانت كبيرة من المهاجرين اليهود مقابل إقامة دولة موحدة مستقلة وفق ما طالب به العرب في المؤتمر.

3. تطبيق نظام الاستقلال الذاتي الإداري في إطار دولة ثنائية القومية طبقاً لخطة اللجنة البرلمانية المشتركة خلال فترة انتقال يتم بعدها تقسيم فلسطين إلى دولتين إحداهما عربية والأخرى يهودية.

وقد وافق مجلس الوزراء البريطاني على الحل الأخير كأساس للمناقشات مع الوفود العربية عند استئناف المؤتمر، على أن يكون مفهوماً أن هذا الحل سيؤدي في النهاية إلى الاستقلال بشرط الحفاظ على حق بريطانيا في وضع قواتها في فلسطين إلا أن الحكومة الأمريكية تمسكت بالتقسيم الفوري ـ الذي رأته أسهل الحلول من حيث التنفيذ وأقلها ضرراً ـ وإن أبدى وزير خارجيتها استعداد حكومته لمساندة قيام دولة ثنائية تمهيداً للتقسيم إذا ما فشلت الحكومة البريطانية في الحصول على موافقة كل من العرب واليهود.

وفي محاولة للتوفيق بين المطالب العربية واليهودية التي تساندها الولايات المتحدة الأمريكية، توصل وزير الخارجية البريطانية إلى صيغة ظن أنها قد ترضي الطرفين أطلق عليها اسم "خطة بيفن". وقد نصت تلك الخطة على قيام دولة اتحادية تتمتع بالحكم الذاتي المباشر تحت الوصاية البريطانية لمدة خمس سنوات تحصل بعدها على الاستقلال المباشر، مع السماح بدخول أربعة آلاف يهودي شهرياً لمدة سنتين وتوفير ضمان للأقلية اليهودية بعد الاستقلال.

وعندما عُرضت "خطة بيفن" على اليهود، يوم 10 فبراير، وعلى العرب، بعد ذلك بيومين، رفضها الجانبان من دون نقاش، وعلى حين عاد اليهود إلى خيارهم الثاني وهو العودة إلى أوضاع، الانتداب عام 1939 (قبل إصدار الكتاب الأبيض)، طالب بعض العرب بالانسحاب البريطاني الفوري من فلسطين مؤكدين أنهم سيضعون حلاً نهائياً للمشكلة خلال الصدام المحتوم، إلا أن مجلس الوزراء البريطاني رفض الاقتراح اليهودي بالعودة إلى أوضاع ما قبل الحرب لأنها ستؤدي إلى استلام اليهود للسلطة في فلسطين، كما رفض المطالب العربية.

وإزاء الضغوط الأمريكية والصهيونية وفشل الحكومة البريطانية في التوصل إلى حل يرضي الطرفين وضغوط الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعرضت لها بريطانيا عام 1947، قررت الحكومة البريطانية تخفيف مسؤولياتها في الشرق الأوسط، وعلى ذلك قررت تحويل المشكلة الفلسطينية برمتها إلى الأمم المتحدة.

وأوضح ارنست بيفن وزير الخارجية البريطانية أمام مجلس العموم يوم 23 فبراير 1947 الأسباب التي دعت الحكومة إلى اللجوء إلى الأمم المتحدة بقوله "لقد عجزت بريطانيا عن التوفيق بين السماح لليهود بغزو فلسطين، وبين مراعاة صك الانتداب في عدم الإضرار بمصالح سكانها الآخرين، وقد أصدرت بريطانيا الكتاب الأبيض الذي حدد الهجرة إلى فلسطين ليوقفها فيما بعد، وأقر المجلس الموقر هذا الكتاب الذي أثار معارضة اليهود وتشدد العرب وإصرارهم على الاستقلال الكامل، ومما زاد تعقيد القضية أن أمريكا زجت بنفسها فيها، وأخذ الرئيس ترومان يوالي تصريحاته عنها، ولو وقف أمر هذا التدخل عند إدخال مائة ألف مهاجر يهودي إلى فلسطين لكان في الإمكان معالجته، ولكن الحديث يدور حول المجئ بالملايين، وليس من العدل المساواة بين مصالح العرب أصحاب البلاد وبين اليهود الطارئين على فلسطين، إلا أن بريطانيا لا تستطيع أن تفرض حلاً نهائياً بالقوة لأنها دولة منتدبة، ولذا أصبح من واجبها أن ترفع الأمر إلى الأمم المتحدة، لتقر وتفرض الحل الذي تراه".

وفي 12 أبريل 1947 طلبت الحكومة البريطانية رسمياً من السكرتير العام للأمم المتحدة أن يدعو لعقد دورة طارئة للجمعية العامة بقصد تشكيل لجنة خاصة تقوم بالإعداد لبحث المشكلة الفلسطينية في الدورة العادية التالية للجمعية العامة.


*******************************
[1] ناقشت هيئة الأركان الأمريكية المشتركة موضوع إرسال قوات أمريكية إلى فلسطين، ثم نصحت في 21 يونيه بعدم اشتراك الولايات المتحدة الأمريكية عسكرياً لتنفيذ توصيات اللجنة المشتركة لأن ذلك سيؤدي إلى تهديد المصالح الأمريكية في المنطقة.
[2] نتيجة لرفض الوكالة اليهودية حضور مؤتمر لانكستر هاوس بالشروط البريطانية، فقد أجرت الحكومة البريطانية معهم مباحثات غير رسمية أثناء المؤتمر بواسطة وزير المستعمرات..