المبحث الخامس
السياسة البريطانية وتهويد فلسطين
(1920 ـ 1939)
أولاً: صك الانتداب
في الوقت الذي كان فيه المجلس الأعلى للحلفاء يتخذ الإجراءات اللازمة لفرض معاهدة "سيفر" على تركيا عام 1920، كانت الحكومة البريطانية تقوم بأولى خطواتها التنفيذية لتقنين انتدابها على فلسطين بإعداد صك الانتداب الذي سيصدر به قرار من عصبة الأمم. وفي هذه المرحلة ظهر التنسيق التام بين الحكومة البريطانية وزعماء الحركة الصهيونية لإعداد الوثيقة القانونية والدولية التي تستطيع بريطانيا الارتكاز عليها في تهويد فلسطين. وكان سبيلهما إلى ذلك هو تضمين صك الانتداب تصريح بلفور والوسائل العملية لخلق الكيان الإسرائيلي في فلسطين.
وعلى ذلك شُكلت عدة لجان صهيونية عملت جنبا إلى جنب مع وزارة الخارجية البريطانية لإعداد صك الانتداب على فلسطين، الذي جاء مضمونه وصياغته مطابقين للنص الذي سبق أن قدمته المنظمة الصهيونية العالمية إلى الحكومة البريطانية في 15 يوليه 1919، وفي الرابع والعشرين من يوليه 1922 صَّدقت عصبة الأمم المتحدة على الصياغة البريطانية الصهيونية لذلك الصك.
وقد اشتمل صك الانتداب على مقدمة وثمان وعشرين مادة، كانت بمثابة الدستور الذي حُكمت بموجبه فلسطين، ودليل العمل الذي سارت عليه الإدارة البريطانية لتهويدها طوال سنوات الانتداب، فقد اشتملت مقدمة ذلك الصك على نص تصريح بلفور ومصادقة عصبة الأمم على انتداب بريطانيا على فلسطين، وتخويلها مسؤولية تنفيذ ذلك التصريح، وقد اختصت المواد 2، 4، 6، 7، 11، 22، بإنشاء الوطن القومي اليهودي، وشكلت في جملتها مخططاً متكاملاً لتحقيق هذه الغاية. (اُنظر ملحق صك الانتداب على فلسطين) و(النص الإنجليزي Mandate for Palestine)
فقد نصت المادة الثانية على مسؤولية الدولة المنتدبة عن "وضع البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومي اليهودي وفقاً لما جاء في ديباجة ذلك الصك".
كما نصت المادة الرابعة على إنشاء وكالة يهودية مُعترف بها وجعل هذه الوكالة عنصراً رسمياً من عناصر الحكم في فلسطين "لإسداء المشورة إلى إدارة فلسطين والتعاون معها في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية وغيرها من الأمور التي قد تؤثر في إنشاء الوطن القومي اليهودي، ومصالح السكان اليهود في فلسطين، ولتساعد وتشترك في ترقية البلاد على أن يكون ذلك خاضعاً دوماً لمراقبة الإدارة، ويعترف بالجمعية الصهيونية كوكالة ملائمة مادامت الدولة المنتدبة ترى أن تأليفها ودستورها يجعلانها صالحة ولائقة لهذا الغرض، ويترتب على الجمعية الصهيونية أن تتخذ ما يلزم من التدابير بعد استشارة حكومة صاحب الجلالة للحصول على معونة جميع اليهود الذين يبغون المساعدة في إنشاء الوطن القومي اليهودي".
أما المادة السادسة فقد ألزمت حكومة الانتداب "أن تسهل هجرة اليهود في أحوال ملائمة، وأن تشجع بالتعاون مع الوكالة اليهودية المشار إليها في المادة الرابعة، حشد اليهود في الأراضي الأميرية والأراضي الموات غير المطلوبة للمنافع العمومية.
كما ألزمت المادة السابعة حكومة الانتداب بتسهيل حصول اليهود على الجنسية الفلسطينية من خلال "سن قانون للجنسية، ويجب أن يشتمل ذلك القانون على نصوص تسهل اكتساب الجنسية الفلسطينية لليهود الذين يتخذون فلسطين مقاماً دائماً لهم".
أما المادة الحادية عشرة فقد أعطت لحكومة الانتداب حق إحالة مشروعات التنمية الاقتصادية إلى الوكالة اليهودية مادامت سلطات الانتداب لا تقوم بهذه المشروعات، وعلى ذلك نصت هذه المادة على إمكان قيام هذه الوكالة "بإنشاء أو تسيير الأشغال والمصالح والمنافع العمومية.
وجاءت المادة الثانية والعشرون لتجعل من اللغة العبرية أحد اللغات الرسمية الثلاث لفلسطين (الإنجليزية والعربية والعبرية).
أما المواد 13، 14، 15، 16، فقد تناولت مسؤولية الدولة المنتدبة (بريطانيا) في الحفاظ على الأماكن المقدسة، وضمان الوصول إليها، وكفالة الحرية الدينية لجميع فئات المجتمع، واختصت المواد 1، 3، 12، 17 بسلطات حكومة الانتداب التي جردت الأغلبية العربية الساحقة من حقوقها السياسية، وأعطت لتلك الحكومة السلطات الكاملة في التشريع والإدارة والعلاقات الخارجية ومسائل الدفاع والأمن والمرافق.
وقد أعطت المادة الخامسة والعشرون من صك الانتداب الدولة المنتدبة الحق، بموافقة عصبة الأمم، في أن ترجئ أو توقف تطبيق ما تراه غير قابل للتطبيق من مواد هذا الصك، ومن ثم وافق مجلس عصبة الأمم على استثناء منطقة شرقي الأردن من تطبيق مواد صك الانتداب المتعلقة بإنشاء الوطن القومي اليهودي، وخَّول بريطانيا مسؤولية الانتداب على شرقي الأردن الذي كان جزءاً من سورية الداخلية. (اُنظر خريطة حدود فلسطين تحت الانتداب).
وبالرغم من إشارة مقدمة الصك ومواده الثماني والعشرون إلى اليهود والصهيونيين (الذين لا يزيد عددهم في فلسطين آنذاك عن 10% من السكان) اثنتي عشرة مرة، فإن ذلك الصك تجاهل تماماً عرب فلسطين (الذين كانوا يمثلون أكثر من 90% من السكان)، فلم يرد في مواد الصك أو مقدمته أية إشارة إلى الشعب العربي القاطن في ذلك البلد.
وهكذا جاء صك الانتداب محققاً للمطالب الصهيونية الثلاث لتهويد فلسطين (الأرض والهجرة والاقتصاد)، فبالنسبة للمطلب الأول ألزمت المادة السادسة حكومة الانتداب بتمليك الأراضي الحكومية (وهو ما كان يقدر بأكثر من 45% من أراضي فلسطين) لليهود، فإذا أضفنا إلى ذلك الأراضي الموات (البور) فإن النسبة ترتفع كثيراً، وبالنسبة للمطلب الثاني ألزمت نفس المادة حكومة الانتداب بتسهيل الهجرة إلى فلسطين، وضمنت المادة الحادية عشرة تحقيق المطلب الثالث بسيطرة اليهود على اقتصاد ذلك البلد، ثم جاءت المادة الرابعة لتلزم حكومة الانتداب بالاعتراف بالوكالة اليهودية وصلاحياتها في الإشراف على كل ما يتعلق باليهود في فلسطين، على عكس العرب الذين أصبحوا خاضعين مباشرة للإدارة البريطانية.
وبوضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني بموجب ذلك الصك، تكون الدول الاستعمارية قد وضعت حجر الأساس في بناء الحاجز الغريب في فلسطين لعزل المشرق العربي عن مغربه، وبقي أن تقوم الدولة المنتدبة والمنظمات اليهودية بدورها في استكمال تأسيس ذلك الحاجز وإقامة بنيانه.

ثانياً: وضع فلسطين في الأحوال السياسية والإدارية والاقتصادية التي تسمح بإقامة الوطن القومي اليهودي (1920 ـ 1939)
1. تطوير الأوضاع السياسية والإدارية في فلسطين لصالح اليهود

سارعت الحكومة البريطانية على أثر مؤتمر سان ريمو بوضع انتدابها على فلسطين موضع التنفيذ، دون انتظار استكمال تقنين ذلك الانتداب وتصديق عصبة الأمم عليه، فقامت تلك الحكومة باستبدال حكمها العسكري لذلك البلد بإدارة مدنية عينت على رأسها "السير هربرت صموئيل" أحد غلاة الصهاينة البريطانيين كأول مندوب سامي لها في فلسطين.
وكانت السياسة البريطانية التي طبقتها حكومة الانتداب خلال سنوات حكمها لفلسطين تقوم على ثلاثة تعهدات عامة نص عليها صك الانتداب هي: وضع البلاد في الأحوال السياسية والإدارية والاقتصادية التي تسمح بإقامة الوطن القومي اليهودي، وتسهيل الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتشجيع الاستيطان اليهودي فيها.
وشرع المندوب السامي فور وصوله إلى القدس في تنفيذ التعهدات السابقة، فعلى الصعيد السياسي والإداري، لم يقم السير هيربرت صموئيل بتشكيل حكومة وطنية وإجراء انتخابات لتشكيل مجلس تشريعي لاتخاذ الحكم شكله الدستورى، وإنما اكتفى بتشكيل مجلس تنفيذي لمعاونته في الحكم ومجلس استشاري يضم عشرة موظفين بريطانيين وسبعة من العرب (4 من المسلمين وثلاثة من المسيحيين)، بالإضافة إلى ثلاثة من اليهود، لاقتراح مراسيم القوانين اللازمة لتهويد فلسطين.
كما قام بتعيين "نورمان بنتويتش" أحد غلاة الصهاينة نائباً عاماً، بالإضافة إلى ثلاثة من اليهود على رأس إدارات الهجرة، والسفر والتجارة، والمساحة.
وحكم هربرت صموئيل البلاد بقوانين مدنية تفتقر إلى الشرعية، وغريبة عن البلد الذي يُحكم بها، وضرب عرض الحائط بالقوانين العثمانية التي كانت سارية ـ من ناحية شرعيتها على الأقل ـ حتى توقيع معاهدة لوزان في 24 يوليه 1923، وبذلك سلب الشعب الفلسطيني حقه الشرعي في حكم نفسه وتشريع قوانينه.
ونتيجة للضغوط العربية والاضطرابات التي عمت البلاد عام 1921 ورفض الشعب العربي في فلسطين لسياسة حكومة الانتداب وعمليات التهويد فيها أصدر "ونستون تشرشل" وزير المستعمرات البريطانية في 22 يونيه 1922 الكتاب الأبيض الأول للسياسة البريطانية في فلسطين محاولاً فيه تهدئة المشاعر العربية، ومؤكداً على أن تصريح بلفور لا يعني تحويل فلسطين بأكملها إلى وطن قومي لليهود، وإنما يعني أن وطناً كهذا سيؤسس في فلسطين، وأن الوطن القومي لا يعني دولة يهودية، كما أنه لن ينشأ فوراً وإنما بالتدريج ومرور الزمن، وفي المقابل أكد تشرتشل التزام بريطانيا بتنفيذ وعد بلفور وضرورة استمرار الهجرة اليهودية طبقاً لقدرة البلاد الاقتصادية، كما نص الكتاب الأبيض على تشكيل مجلس تشريعي، كخطوة على طريق الحكم الذاتي، وأكد استثناء فلسطين من تعهد الاستقلال الذي التزمت به الحكومة البريطانية في مكاتباتها مع الشريف حسين. (اُنظر ملحق الكتاب الأبيض الذي أصدره وزير المستعمرات البريطانية "مستر تشرشل" في يونيه 1922)

وفي الأول من سبتمبر 1922 ـ بعد خمسة أسابيع من تصديق عصبة الأمم على صك الانتداب ـ أصدر هيربرت صموئيل دستوراً لفلسطين لم يُستَشر فيه شعبها أو قياداته الوطنية. ونص الفصل الثالث من هذا الدستور على قيام مجلس تشريعي يستعاض به عن المجلس الاستشاري، يرأسه المندوب السامي ويتألف من اثنين وعشرين عضواً، منهم عشرة أعضاء من الموظفين (بحكم مناصبهم)[1]، واثنا عشر عضواً منتخباً من غير الموظفين (8 مسلمون، 2 مسيحيون، 2 من اليهود)، وكان للمندوب السامي حق الترجيح إذا تساوت الأصوات، وهو ما يعني أنه سيكون للمندوب السامي وموظفيه واليهود الأغلبية في هذا المجلس الذي حُرِم عليه أن ينظر في أي موضوع يخالف نظام الانتداب أو سياسة الحكومة تجاه إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
كما لا تعتبر قوانينه سارية إلا إذا وافق عليها المندوب السامي، الذي كان من حقه أن يعطل المجلس في أي وقت يشاء، وأن يضع القوانين الضرورية للمحافظة على الأمن العام وكفالة انتظام الإدارة الحكومية، واحتفظ ذلك الدستور بحق ملك بريطانيا في رفض أي قانون يكون المندوب السامي قد وافق عليه خلال سنة من تاريخ هذه الموافقة.
ونص الدستور المشار إليه على إنشاء محاكم صلح ومحاكم مركزية في الأقضية التي يعينها المندوب السامي[2]، ومحاكم أراضي للنظر في المسائل المتعلقة بملكية الأموال غير المنقولة، ومحكمة جنايات، ومحكمة عليا، لها صفة محاكم الاستئناف، ثم محاكم للأحوال الشخصية لكل من المسلمين والمسيحيين واليهود، وقرر الدستور جواز استخدام اللغات الإنجليزية والعربية والعبرية، في المحاكم والمجلس التشريعي، وجعل نشر جميع القوانين والإعلانات الرسمية باللغات الثلاث أمراً وجوبياً.
ولما كان تشكيل المجلس التشريعي والشروط التي وضعها الدستور بشأن صلاحياته قد أفرغت ذلك المجلس من مضمونه وجعلته مجرد واجهة دستورية للحكم، فقد رفض الشعب العربي في فلسطين وقيادته الوطنية ذلك الدستور ومجلسه التشريعي، كما رفضوا التعاون مع حكومة الانتداب، وقرروا مقاطعة الانتخابات الخاصة بذلك المجلس، وإزاء تلك المقاطعة، ألغت حكومة الانتداب الإجراءات التي اتخذتها لتشكيل المجلس التشريعي، وعاد المندوب السامي يحكم البلاد بمعاونة المجلس الاستشاري.
وحاولت حكومة الانتداب بعد ذلك إغراء القيادات الوطنية الفلسطينية للتعاون في حكم البلاد من خلال مجلس استشاري يُعين أعضاؤه من غير الموظفين على نفس الأسس التي وردت في قانون انتخابات المجلس التشريعي، ووجه المندوب السامي الدعوة إلى ثمانية من المسلمين واثنين من المسيحيين العرب ليكونوا أعضاء في هذا المجلس، فقبلوا، إلا أن سبعة منهم انسحبوا بعد ذلك استجابة لطلب اللجنة التنفيذية العربية بعدم التعاون مع حكومة الانتداب التي كانت تراها حكومة غير شرعية.
وأدى اندلاع العنف في البلاد نتيجة للاستفزازات الصهيونية في النصف الثاني من أغسطس عام 1929 إلى إيفاد الحكومة البريطانية لجنة تحقيق برئاسة "السير والتر شو" وأعقبتها بإيفاد "السير جون هوب سمبسون" (الخبير العالمي في موضوعات الهجرة) فيما بين عامي 1929، 1930، وقد اعترفت لجنة شو والخبير سمبسون ـ شأنهما شأن اللجان اللاحقة ـ بأن السبب الأساسي للموقف المضطرب في فلسطين هو ذلك الصراع المحتدم بين الجهود والآمال القومية لكل من العرب واليهود في تلك البلاد.

وأوضحت تقارير هذه اللجان ـ التي قُدمت إلى الحكومة البريطانية في مارس وأغسطس من عام 1930 ـ أن الثورة العربية التي اندلعت في أغسطس 1929 ترجع في حقيقتها إلى الأسباب التالية:
أ. خشية العرب أن تؤدي الهجرة اليهودية المستمرة ووضع اليهود أيديهم على الأرض العربية إلى أن يتحولوا في نهاية الأمر إلى أقلية في وطنهم، خاصة وأن المطالب الصهيونية تزداد يوماً بعد يوم على حساب العرب الذين لا يعرفون أين ومتى ستنتهي هذه المطالب.
ب. خشية العرب من السيطرة السياسية والاقتصادية اليهودية على مقدرات البلاد وأن تؤدي الهجرة اليهودية المستمرة إلى انتشار البطالة بين العرب.
ج. إحساس العرب بأن موقفهم يزداد سوءاً كلما انتقلت قضيتهم السياسية إلى لندن، حيث يكون الصهاينة أقوى نفوذاً في دفع قضيتهم أمام الحكومة البريطانية ولجانها، بل وأمام الرأي العام البريطاني، ونتيجة لذلك بدأ العرب يتساءلون عن مدى قدرة واستعداد الحكومة البريطانية لتنفيذ وعودها، بعد أن لاحظ العرب أنه كلما وضعت إحدى اللجان الملكية توصية في صالحهم، دفع النفوذ الصهيوني في البرلمان والصحافة إلى تعديل تلك التوصية لصالح الصهاينة، وهو ما أفقدهم الثقة في الحكومة البريطانية.
وقد أيدت تقارير لجنة شو والخبير سمبسون كثيراً من المخاوف العربية، وبعد أن انتقدت سياسة الهجرة اليهودية التي تسببت في الأزمة الاقتصادية والبطالة بين العرب في عام 1927 ـ 1928، طالبت تلك التقارير بفرض قيود أشد على هجرة اليهود إلى فلسطين وعمليات بيع الأراضي إلى المؤسسات الصهيونية.
وإزاء ما جاء في تقارير لجنة شو والخبير سمبسون أصدرت الحكومة البريطانية في أكتوبر عام 1930 بياناً جديداً عن سياستها في فلسطين (عرف باسم الكتاب الأبيض لعام 1930) استند في مجموعه على النتائج والتوصيات الواردة في تلك التقارير (اُنظر ملحق كتاب باسفيلد الأبيض (أكتوبر عام 1930))، أكدت فيه أنها لن تتخلى عن التزاماتها في صك الانتداب تجاه فريقي السكان في فلسطين، سواء بالنسبة لوضع فلسطين في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومي اليهودي أو ترقية وصيانة الحقوق المدنية والدينية لجميع سكان فلسطين.
وتعرض البيان للمشكلة الدستورية التي رأت الحكومة البريطانية حيالها السير في منح الفلسطينيين درجة من الحكم الذاتي تتمشى مع صك الانتداب، وذلك بتشكيل مجلس تشريعي على الأسس الواردة في مشروع المجلس التشريعي لعام 1922، مع تعيين بديل من غير الموظفين ليشغل مكان العضو الذي يتعذر انتخابه بسبب عدم التعاون أو لأي سبب آخر.
وبالنسبة للأراضي رأت الحكومة البريطانية إجراء تحسين في أساليب الزراعة والري، وحماية المستأجرين لضمان عدم إخراجهم من الأرض، مع تشكيل جميعات تعاونية بين الفلاحين.
أما بالنسبة للهجرة فقد أكد بيان الحكومة البريطانية على ضرورة وضع قُدرة البلاد الاقتصادية في الاعتبار عند تحديد عدد المهاجرين الذين يُسمح لهم بدخول فلسطين، وأنه إذا كانت الهجرة الواسعة تسبب حرمان السكان العرب من فرص العمل وتنشر البطالة بين اليهود فإنه يتحتم على حكومة الانتداب خفض الهجرة أو وقفها ريثما يتسنى للعاطلين فرص العمل.
وما أن أذيع ذلك البيان حتى قامت قيامة اليهود والمنظمات الصهيونية وشنوا حملة كبرى على سياسة الحكومة البريطانية في البرلمان وأمام الرأي العام البريطاني، بسبب ما أشار إليه بيان الحكومة البريطانية عن إيقاف الهجرة مؤقتاً في أحوال تفشي البطالة، وإزاء تلك الضغوط وجه "رامزي ماكدونالد" رئيس الوزراء البريطاني خطاباً مفتوحاً إلى الدكتور حاييم وايزمان ـ رئيس المنظمة الصهيونية والوكالة اليهودية في ذلك الوقت ـ ينفي فيه جزءاً كبيراً وإن لم يكن كل جوانب هذا البيان الذي اعترض عليه الصهاينة أشد الاعتراض، ونفى الخطاب أي تفكير للحكومة البريطانية في حظر الهجرة اليهودية أو شراء اليهود للأراضي الفلسطينية. (اُنظر ملحق كتاب رسمي من رئيس الوزراء رمزي ماكدونالد إلى الدكتور وايزمن رئيس الوكالة اليهودية لفلسطين في 13 فبراير 1931)
أما العرب الذين غضبوا بسبب ما أسموه بالخطاب الأسود، فقد تزايدت شكوكهم في نوايا الحكومة البريطانية وقدرتها على مواجهة الاعتراضات الصهيونية القوية وتنفيذ أي توصية أو وعد من وعودها الرسمية السابقة، التي أيدت حق العرب في أرضهم، خاصة بعد تزايد الأطماع الصهيونية في فلسطين، التي لم تعد تكتفي بتطويع ذلك البلد لليهود وإنما أصبحت تطالب بالمساواة الكاملة مع العرب دون مراعاة لفارق القوة العددية بينهما.
في الوقت الذي لم تقم فيه الحكومة البريطانية بأية خطوة نحو تحقيق ما جاء في كتابها الأبيض، فإنها حرصت على تنفيذ كتابها الأسود، فقد استمرت فلسطين مفتوحة للهجرة اليهودية التي أخذت أبعاداً جديدة ابتداءاً من عام 1933 بعد وصول هتلر للسلطة في ألمانيا وتزايد الهاربين من الاضطهاد النازي، كما استمرت عمليات انتقال الأراضي إلى أيدي اليهود تسير في طريقها المرسوم. وظل الشعب العربي في فلسطين محروماً من مجلس نيابي مادام اليهود فيها أقلية، وبدأت حكومة الانتداب تعاون في تسليح اليهود على نطاق واسع، وتدريبهم على استخدام الأسلحة، بعد أن أصبحت عملية تأمين اليهود ومستعمراتهم من الأهداف الرئيسية للوكالة اليهودية في ذلك الوقت.
وقد أدت عمليات إغراق البلاد بالمهاجرين اليهود والتوسع في انتقال الأراضي إلى أيدي المؤسسات الصهيونية إلى تصاعد الموقف العربي في فلسطين إلى حد الثورة التي انفجرت عام 1936. وقد أدت تلك الثورة إلى إيفاد الحكومة البريطانية لجنة تحقيق ملكية جديدة إلى فلسطين في 11 نوفمبر 1936، وأوضحت اللجنة في تقريرها الذي قدمته إلى الحكومة البريطانية، أن السبب الحقيقي للثورة هو رغبة العرب في الاستقلال القومي وكراهيتهم وتخوفهم من فكرة الوطن القومي اليهودي.
ولأول مرة يصف تقرير رسمي بريطاني الوعود المبذولة لليهود والعرب بأنها متضاربة، وأن نظام الانتداب نفسه نظام فاشل، ونبهت اللجنة الحكومة البريطانية إلى أن الأمل الوحيد لتحقيق بعض مطالب الجانبين وإتاحة فرصة ـ ولو ضئيلة ـ للسلام النهائي يتأتى فقط بإنهاء الانتداب وتقسيم البلاد إلى دولتين منفصلتين إحداهما يهودية والأخرى عربية، مع احتفاظ بريطانيا بالسيطرة على عدة جيوب لتضمن الوصول إلى الأماكن المقدسة، دون عوائق، وقد وافقت الحكومة البريطانية على تقرير اللجنة الملكية وشكلت لجنة أخرى (هي لجنة وودهيد) لوضع خطة تفصيلية لتقسيم فلسطين وإعطائها صلاحيات مرنة لتعديل الحدود التي اقترحتها لجنة بيل سواء بالنسبة للدولة العريبة أو اليهودية أو منطقة الانتداب البريطاني. (اُنظر ملحق تقرير اللجنة الملكية لفلسطين 7 يوليه سنة 1937) و(خريطة مشروع لجنة بيل)
وقد تمثل قبول الحكومة البريطانية لمبدأ التقسيم وقيام دولة يهودية على جزء من فلسطين عاملاً مشجعاً لليهود دفع المؤتمر الصهيوني الذي عُقد في زيورخ خلال أغسطس عام 1937 إلى قبول مبدأ التقسيم ولكن بشرط أن يحصل اليهود على مساحة كبيرة بدرجة كافية لدولتهم، أما العرب فقد اعترضوا بشدة على فكرة التقسيم واستأنفوا الثورة المسلحة ضد البريطانيين.
وواجهت حكومة الانتداب تجدد الثورة العربية بمنتهى العنف وأعمال القمع، وألقت القبض على عدد كبير من الزعماء الفلسطينيين مما أرغم بعض هؤلاء الزعماء على الفرار من البلاد، مثل الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين، كما قتلت وأعدمت سلطات الانتداب عدداً كبيراً من الثوار بلغ عددهم طبقاً لما جاء في أحد المصادر الفلسطينية نحو ثلاثة آلاف شهيد، وقد أدت الأعمال القمعية والتعسفية البريطانية إلى ازدياد اشتعال الثورة بدلاً من إيقافها، مما دفع الحكومة البريطانية إلى إرسال تعزيزات عسكرية برية وجوية من قواتها في مصر وقبرص ومالطة إلى فلسطين لإخماد تلك الثورة التي استمرت مشتعلة منذ استئنافها في أواخر سبتمبر 1937 حتى بداية الحرب العالمية في خريف عام 1939.
أما لجنة وودهيد التي شكلتها الحكومة البريطانية لوضع الخطة التفصيلية لتقسيم فلسطين، فقد حضرت إلى القدس في 27 أبريل 1938، في الوقت الذي كانت فيه الثورة العربية مشتعلة، فقاطعها العرب وتظاهروا ضدها، وبعد أن بحثت الموقف على الطبيعة حتى 3 أغسطس عادت اللجنة إلى لندن وقدمت تقريراً متشائماً أوضحت فيه رفض العرب تماماً لمبدأ التقسيم وعدم تحمس اليهود نسبياً له، فضلاً أنه من المستحيل تقسيم فلسطين بطريقة عادلة مقبولة من الجانبين، ومن ثم فإن مبدأ التقسيم لن يُكتب له النجاح.
وعلى أثر تلقي التقرير السابق قررت الحكومة البريطانية العدول عن فكرة التقسيم، ودعت ممثلين عن عرب فلسطين والدول العربية والوكالة اليهودية لمؤتمر يُعقد في لندن في شهر مارس 1939 للبحث عن حل تقبله كل الأطراف، وكان دعوة مصر والعراق والمملكة العربية السعودية وشرق الأردن واليمن لحضور مؤتمر لندن أول اعتراف بريطاني رسمي بأهمية القضية الفلسطينية بالنسبة لكل العرب وحقهم في استشارتهم والرجوع إليهم فيما يتعلق بمصير واحدة من البلدان العربية. إلا أن مؤتمر لندن انتهى بالفشل لإصرار كل من العرب واليهود على مواقفهم.
وإزاء فشل المؤتمر الذي عقدت عليه الآمال لتسوية القضية الفلسطينية قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، أصدرت الحكومة البريطانية في 17 مايو 1939 بياناً سياسياً جيداً (الكتاب الأبيض لعام 1939) توضح فيه سياستها تجاه فلسطين خلال العشر سنوات التالية، والتي تلخصت فيما يلي: (اُنظر ملحق كتاب مكدونالد الأبيض (17 مايو عام 1939)) 
أ. إن بريطانيا سوف تحكم فلسطين لمدة عشر سنوات قادمة تهدف خلالها إلى تكوين دولة فلسطينية مستقلة يشترك في حكمها العرب واليهود، فإذا تمكن الجانبان من التعاون خلال هذه الفترة فسوف يتاح لهما دور متزايد في حكم فلسطين، وإلا فسوف يؤجل ذلك الاستقلال.
ب. السماح بهجرة 75 ألف يهودي إلى فلسطين خلال السنوات الخمس التالية للوصول بعدد اليهود في هذا البلد إلى ما يقرب من ثلث مجموع السكان، على أن تخضع أي هجرة لاحقة لموافقة العرب.
ج. فرض قيود شديدة على بيع الأراضي لليهود في بعض المناطق، والحظر الكامل على البيع في مناطق أخرى.
وقد لاقى هذا البيان الرفض من جانب العرب لأنه جعل تحقيق الاستقلال منوطاً بمساهمة اليهود والتعاون معهم في حين أن اليهود ممتنعون عن المساهمة في دولة غير يهودية، ولأنه جعل إعلان الاستقلال بعد عشر سنوات أو تأجيله منوطاً بالظروف، فضلاً أنه جعل القرار النهائي لبريطانيا.
وعلى الجانب اليهودي آثار البيان البريطاني غضباً عارماً، واتهموا بريطانيا بخرق ما جاء في صك الانتداب، وهددوا بأنهم لن يقبلوا وجود فلسطين كدولة عربية يتحول اليهود فيها إلى أقلية دائمة، وبدأت منظماتهم السرية في شن هجمات إرهابية ضد حكومة الانتداب ومنشآتها الرسمية.

2. تطوير الأوضاع الاقتصادية في فلسطين لصالح اليهود
لما كان وضع فلسطين في أحوال اقتصادية تسمح بإقامة الوطن القومي اليهودي أحد الالتزامات البريطانية في صك الانتداب، فقد عملت الإدارة البريطانية منذ يومها الأول في فلسطين على دعم وتطوير الاقتصاد اليهودي، من خلال التشريعات القانونية لتشجيع وتسهيل الاستثمارات اليهودية في هذا البلد، ومنح الأقلية اليهودية حقوق امتياز المشروعات الاقتصادية الضخمة فيه، وبدخول ونمو القطاع الاقتصادي اليهودي في فلسطين، أصبح هناك نوعان متباينان من الاقتصاد في هذا البلد: الأول، اقتصاد يهودي زراعي صناعي سريع النمو، تضخ فيه موجات الهجرة فيضاً متواصلاً من العمالة المدربة، ورؤوس الأموال اليهودية، والثاني، اقتصاد عربي زراعي في معظمه، متوسط النمو يعاني من قلة رأس المال ونقص العمالة المدربة.
وقد انعكس هذا التباين على معدلات نمو هذين الاقتصادين فيما بين عامي 1922 و1939، فقد نما الاقتصاد العربي بثبات خلال هذه الفترة وحقق قطاع الصناعة فيه نموا ارتفع بإنتاجه إلى 200% بالنسبة لما كان عليه في بداية هذه المرحلة، إلا أنه لم يصل إلى معدلات نمو الصناعة اليهودية في نفس المرحلة، والتي أسهمت بأكثر من 80% من إجمالي الناتج الفلسطيني عام 1939.

أ. تطوير قطاع الزراعة لصالح اليهود
يمكن القول أنه في بداية هذه المرحلة كانت فلسطين بلداً زراعياً بشكل عام، ويشير الإحصاء الذي أجرته حكومة الانتداب عام 1922 إلى أن نحو 71% من العرب مقابل 18% من اليهود كانوا من سكان الريف، إلا أن القطاع الزراعي، اليهودي بدأ ينمو بشكل متصل نتيجة للعناية الكبيرة التي أولتها الوكالة اليهودية للاستيطان الزراعي والتسهيلات الكبيرة التي قدمتها الإدارة البريطانية في هذا الشأن.
فقد شرعت حكومة الانتداب فور تشكيلها عام 1920، وقبل أن يصدر صك انتدابها على فلسطين في إلغاء القوانين والأنظمة العثمانية التي تمنع اليهود من امتلاك الأموال غير المنقولة في فلسطين، واستبدلتها بقوانين جديدة تسمح بنقل أراضي الدولة والأراضي العربية إلى اليهود سواء بصفتهم الشخصية أو عن طريق المؤسسات الصهيونية في فلسطين، وكان أبرز هذه القوانين:

(1) قانون انتقال الأراضي رقم (39) لعام 1920
اشترط ذلك القانون موافقة حكومة الانتداب على بيع الأراضي، ومنع انتقالها إلا لمن كان مقيماً في فلسطين، وقد وُضع ذلك القانون لخفض ثمن الأراضي وطرح المعروض منها للبيع أمام اليهود بأسعار مخفضة، فقد اشترطت المادة السادسة من ذلك القانون أن يكون مالك الأرض مقيماً في فلسطين وأن تتوفر لديه نية زراعتها بنفسه، على ألا تزيد مساحة الأرض الزراعية للمالك عن ثلاثمائة دونم، بينما منحت المادة الثانية من ذلك القانون المندوب السامي سلطات استثنائية بالموافقة على عمليات البيع التي لا تنطبق عليها الشروط الواردة في المادة السادسة. وفي ظل هذا القانون أضطر ملاك الأراضي العرب الذين لا يقيمون في فلسطين أو تزيد مساحـة ما يملكونه عن 300 دونم أو لا يزرعون أراضيهم بأنفسهم إلى عرض أرضهم للبيع، ولما كانت حالة صغار الملاك والفلاحين الأجراء لا تسمح لهم بشراء المساحات الكبيرة التي عرضت للبيع في ظل هذا القانون، فقد كان المشترون المستعدون دائماً للشراء هم اليهود ومؤسساتهم الصهيونية، بينما سمحت السلطات الاستثنائية للمندوب السامي ببيع مساحات كبيرة من الأراضي لإقامة المستوطنات الصهيونية سواء كانت تلك الأراضي ملكاً للأفراد أو ملك للدولة.

(2) قانون الأراضي المحلولة
اصدر هربرت صموئيل ذلك القانون في الحادي عشر من أكتوبر 1920 بغية إيجاد أراضي لتوطين المهاجرين اليهود الذين تعدت معدلات هجرتهم في عهده قدرة البلاد على الاستيعاب، وحرمان الفلاحين من تلك الأراضي التي كانوا يستفيدون منها طبقاً للقوانين العثمانية، وطبق ذلك القانون بأثر رجعي مطلق للاستيلاء على تلك الأراضي من الفلاحين العرب الذين كانوا يزرعونها وبيعها لليهود والمؤسسات الصهيونية.

(3) قانون الأراضي رقم (2) لعام 1921
أجاز ذلك القانون للمحاكم أن تأمر ببيع الأراضي وفاء للرهونات التي وقع كثير من الفلاحين العرب ضحاياها لاضطرارهم إلى التعامل مع المرابين بعد أن أغفلت سلطات الانتداب البنك الزراعي العثماني، ولعبت محاكم الأراضي التي أمر بتشكيلها المندوب السامي هربر صموئيل وأوكل مسؤوليتها إلى النائب العام الصهيوني نورمان بنتويتش ـ دوراً كبيراً في نزع ملكية كثير من الأراضي التي وقع أصحابها في براثن المرابين.

(4) قانون الأراضي الموات (البور)
أصدر هربرت صموئيل ذلك القانون في 16 فبراير 1921، وبموجبه استطاعت حكومة الانتداب سحب كافة الأراضي البور التي قام المزارعون العرب باستصلاحها ولم يقوموا بتسجيل ملكيتهم لها وسلمتها للوكالة اليهودية مجاناً طبقاً للمادة السادسة من صك الانتداب.

(5) قانون الأراضي رقم (28) لعام
سارت حكومة الانتداب في عهد "اللورد بلومر" خليفة صموئيل على درب سلفه، فسنت ذلك القانون الذي يمنح صاحب أي مشروع الحق في وضع يده على الأرض اللازمة لمشروعه، إذا فشل في التفاوض مع مالكها على شرائها أو تأجيرها خلال خمسة عشر يوماً، وأعطى هذا القانون صاحب المشروع الحق في اللجوء إلى محكمة الأراضي ذات الاختصاص إذا منعه مالك الأرض من وضع يده عليها، فإذا اقتنعت المحكمة بحق صاحب المشروع في وضع يده بمقتضى ذلك القانون، فإنها تصدر قراراً بتسليم الأرض إليه.
وقد سمحت هذه القوانين بزيادة الرقعة الزراعية التي يمتلكها اليهود من 650 ألف دونم عام 1920 إلى مليون دونم في عام 1929، وهو ما جعل هذه المرحلة تشهد تطوراً سريعاً في نمو المستوطنات الزراعية التعاونية (الموشاف) والجماعية (الكيبوتز)، وبنهاية عام 1938 كان عدد المستوطنات الزراعية الإسرائيلية قد بلغ 233 مستوطنة مساحتها 917 455 1 دونم، ويسكنها 120 ألف نسمة تمثل 27% من إجمالي عدد اليهود بفلسطين.

ب. تطوير قطاع الصناعة لصالح اليهود
كانت الصناعات القائمة في فلسطين قبل الانتداب البريطاني في عداد الصناعات التحويلية البسيطة التي تعتمد في معظمها على الإنتاج الزراعي، وباستثناء صناعة الخمور، التي تكفل بها اليهود، كان قطاع الصناعة قطاعاً عربياً بوجه عام، وخلال سنوات الانتداب تزايد حجم القطاع الصناعي اليهودي تدريجياً حتى بلغ 35% من حجم قطاع الصناعة في فلسطين عام 1928.
واتسم عقد العشرينيات بسيطرة اليهود على الصناعات الرئيسية الكبيرة والصناعات الآلية، حيث احتكروا امتياز شركات الكهرباء وأسسوا مصنعاً للأسمنت، ومصنعاً لإنتاج الزيوت النباتية والحيوانية في حيفا عام 1929 ومطاحن فلسطين الكبرى التي بدأ تشغيلها عام 1932، وأدخل اليهود بعض الصناعات الجديدة كالطباعة والمصنوعات الجلدية المزخرفة، وطبقاً للبيانات الرسمية البريطانية فقد تزايد عدد المنشآت اليهودية من عام 1925 إلى عام 1937 بنسبة 190.3%، كما تزايد عدد العاملين في هذه المنشآت بنسبة 348.8%، ورأس المال المستثمر فيها بنسبة 629.45%.
وتوضح بعض الإحصائيات البريطانية عامي 1935، 1939 مقارنة أوضاع القطاعين الصناعيين العربي واليهودي في فلسطين، حيث يوضح إحصاء عام 1935 أن اليهود يسيطرون على 872 منشأة صناعية مقابل 340 منشأة عربية، وأن اليهود يستخدمون في منشآتهم السابقة 678 13 عاملاً مقابل 4117 عاملاً فقط في المنشآت العربية، كما بلغت الاستثمارات اليهودية في الصناعة 4.391 مليون جنيه فلسطيني في مقابل 704 ألف جنيه فقط في القطاع الصناعي العربي، وفي الوقت الذي كان فيه القطاع الصناعي اليهودي ينتج ما قيمته 6 مليون جنيه فلسطيني (ج.ف)، كان ناتج القطاع الصناعي العربي لا يزيد عن 545 1 مليون جنيه فلسطيني، وبالإضافة إلى ذلك كان اليهود يسيطرون على 90% من الامتيازات الصناعية التي منحتها حكومة الانتداب حتى عام 1935، والتي بلغ رأسمالها 789 5 مليون (ج.ف) وتستخدم 2619 عاملاً، وتبلغ قيمة إنتاجها 151 2 مليون (ج.ف). (اُنظر جدول مقارنة قطاعي الصناعة اليهودي والعربي (عام 1935))
ويوضح الجدول مقارنة القطاعين الصناعيين اليهودي والعربي عام 1935، التي تبرز تفوق القطاع الصناعي اليهودي في كافة عناصر المقارنة، سواء بالنسبة لعدد المنشآت الصناعية (2.78 : 1)، وعدد العمال بأجر (3.89 : 1)، أو بالنسبة للناتج الإجمالي (5.17: 1)، وقيمة رأس المال المستمثر (13.64 : 1)، أو حتى بالنسبة لقدرة القوة المحركة (41.01 : 1)، وهو ما يعني السيطرة اليهودية شبه الكاملة على قطاع الصناعة في ذلك الوقت.
ويوضح (جدول توزيع الصناعات المختلفة بين القطاعين العربي واليهودي (عام 1939)) الذي بُنى على الإحصائيات البريطانية عام 1939 أن القطاع الصناعي اليهودي كان لازال متفوقاً على القطاع العربي سواء من الناحية العددية أو النوعية، بينما يوضح (جدول مقارنة الناتج الإجمالي لقطاعي الصناعة العربي واليهودي (عام 1939)) تفوق الناتج الإجمالي لقطاع الصناعة اليهودية عام 1939، مقارنة بالقطاع العربي. ففي الوقت الذي بلغ فيه الناتج الإجمالي للقطاع الصناعي اليهودي 68.4% من إجمالي الناتج الصناعي الفلسطيني، لم يزد الناتج الإجمالي للقطاع الصناعي العربي عن 17.5% من ذلك الناتج، وإذا أضفنا إلى الناتج اليهودي ما يخص الاحتكارات اليهودية في قطاع الامتيازات الصناعية (التي يملك اليهود ما يقرب من 90% منها)، فإن نسبة مساهمة اليهود في إجمالي الناتج الصناعي الفلسطيني في ذلك العام ترفع إلى أكثر من 80% من ذلك الناتج.

ج. منح اليهود الامتيازات الاحتكارية الصناعية
(1) شركة الكهرباء الفلسطينية

عملاً بالمادة الحادية عشرة من صك الانتداب على فلسطين التي أعطت الدولة المنتدبة صلاحية "وضع ما يلزم من الأحكام لاستغلال أي من موارد البلاد الطبيعية، أو الأعمال والمصالح والمنافع العمومية الموجودة في البلاد أو التي ستؤسس فيما بعد"، عمد هربرت صموئيل في 12 سبتمبر عام 1921 إلى منح امتياز توليد الكهرباء في فلسطين لمدة 70 عام إلى أحد رجال المال اليهود هو "بنحاس روتنبرج"، وعندما عجز الأخير عن تدبير رأس المال المطلوب للمشروع وقدره مليون جنيه إسترليني قامت الحكومة البريطانية بإقراضه 951 657 جنيهاً إسترلينياً لاستكمال رأس المال المطلوب.

وطبقاً لشروط ذلك الامتياز كان من حق شركة الكهرباء ما يلي:
(أ) استخدام مياه نهر الأردن وروافده لتوليد الكهرباء اللازمة لفلسطين وشرق الأردن.
(ب) تحريم استعمال هذه المياه في أي أغراض أخرى إذا ما تعارضت مع عمليات توليد الكهرباء، على أن تقوم الشركة بتعويض أصحاب الأراضي المضارة من قطع المياه عنها طبقاً لما يقرره المندوب السامي وحده.
(ج) احتكار الإنارة في كل فلسطين عدا مدينة القدس التي كانت السلطات العثمانية قد منحت أحد اليونانيين امتياز إنارتها عام 1914.
(د) إنشاء محطات توليد الكهرباء في شرقي الأردن ـ عدا مدن عمان والكرك والسلط ـ بموافقة حكومة شرق الأردن.
وبموجب حقوق الامتياز السابقة احتكر اليهود إنتاج وتوزيع الكهرباء في فلسطين وشرقي الأردن وتحكموا في مستقبل المياه العربية في المنطقة، إذ بموجب هذا الامتياز كان لا يحق للعرب إقامة مشاريع إنمائية واستثمارية تعتمد على مياه نهري الأردن واليرموك العربيتين إلا بموافقة اليهود.
وقد حققت شركة الكهرباء الفلسطينية ـ بسبب حقوق امتيازها الاحتكارية أرباحاً طائلة، وقفز رأسمالها من مليون جنيه إسترليني عند تأسيسها إلى خمسة ملايين عام 1939.

(2) شركة استغلال معادن البحر الميت
تقدم المهندسان الفرنسيان "كارش" و"غانديون" في 19 فبراير عام 1925 بطلب إلى الحكومة البريطانية للمصادقة على منحهما امتياز استغلال أملاح البحر الميت ومعادنه، فأجابتهما بالموافقة في بادئ الأمر، إلا أنها تراجعت بعد ذلك عن تلك الموافقة وأعطت ذلك الامتياز إلى اليهوديين "نوفومسكي" و"تولوخ" عام 1927 بصفتهما وكيلين عن شركة البوتاس الفلسطيني التي حصلت على حق الاستغلال لمدة خمسة وسبعين عاماً. وقد أعطى ذلك الامتياز لليهود حق احتكار استغلال أي منطقة في البحر الميت لاستخلاص الأملاح والمواد الكيماوية، والأولوية في استئجار أي منطقة مجاورة لذلك البحر لا يزيد بعدها عن خمسة كيلو مترات. وقد بلغت أرباح تلك الشركة التي لا تدفع إلا إيجاراً أسمياً قدره جنيه واحد ـ ثلاثة وعشرون مليون دولار عام 1939 وحده.

د. تطوير القوة العاملة لصالح اليهود
كان تدبير القوة العاملة اللازمة لبناء وتطوير الاقتصاد اليهودي في فلسطين أحد المهام الرئيسية التي أخذتها على عاتقها الوكالة اليهودية بمساعدة حكومة الانتداب، وقد عمل هربرت صموئيل منذ بدء الإدارة المدنية في فلسطين على سن قوانين الهجرة التي تساهم في جلب قوى العمل اللازمة لبناء الوطن القومي اليهودي في فلسطين وتطوير اقتصاده، فسن أول قانون للهجرة في السادس من أغسطس عام 1920، بعد أقل من شهرين من تعيينه مندوباً سامياً في هذا البلد، وقد سمح ذلك القانون بدخول فلسطين كل الأشخاص الذين لهم موارد مستقلة لا تقل عن ألف جنيه، إلا أن المادة الرابعة من هذا القانون أجازت دخول "كل شخص ينتسب إلى المهن الحرة ولديه راس مال لا يقل عن خمسمائة جنيه". أما بالنسبة للحرفيين فقد أجاز ذلك القانون دخول فلسطين "كل شخص حاذق في إحدى المهن أو الحرف أو الصنائع، ولديه أو تحت تصرفه المطلق (دون تحديد في الزمن) راس مال لا يقل عن 250 (ج.ف)، ويجوز لمدير المهاجرة عند حسبان (حساب) رأس المال، أن يأخذ بعين الاعتبار قيمة الأدوات والمخزونات التي يملكها والتي لاغنى عنها لحرفته أو صناعته ...". وهو ما يعنى خصم قيمة أدوات الحرفيين من نصاب المائتين وخمسين جنيهاً. وقد أجاز ذلك القانون للجنة الصهيونية في فلسطين إدخال ستة عشر ألفاً وخمسمائة يهودي إلى فلسطين كل عام بشرط أن تكون مسؤولة عن إعالتهم مدة سنة كاملة.
وعندما أدرك الصهيونيهن والبريطانيون أن هذا القانون لا يحقق الإسراع بمعدلات الهجرة إلى المستويات المطلوبة، ألغت السلطات البريطانية في 3 يونيه 1921 شرط مسؤولية اللجنة الصهيونية عن إعالة المهاجرين، وعندما أثبتت التجربة أن ذلك التعديل غير كاف لدفع عجلة الهجرة بمعدلات أسرع، أصدرت حكومة الانتداب تعديلاً جديداً لذلك القانون عام 1924، ثم أصدرت عام 1925 قانوناً جديداً فضفاضاً لتسهيل الهجرة أجرت عليه تعديلين في يوليه 1926 وديسمبر 1927، ثم أصدرت قانوناً جديداً عام 1928 وآخر عام 1933 للإسراع بمعدلات الهجرة لتحقيق التحول الديموجرافي في تركيب السكان وتوفير القوى العاملة اللازمة لبناء المشروع الصهيوني في فلسطين.
ويوضح (جدول التوزيع النسبي لفئات المهاجرين اليهود طبقاً لأعمارهم (عام 1928 – 1948)) التصنيف النوعي للمهاجرين الذين دخلوا فلسطين منذ عام 1928 وحتى قيام الدولة عام 1948 بالنسبة لقدراتهم الإنتاجية، ومن هذا الجدول يتضح أن الفئات المعالة (الاحداث والشيوخ) كانوا يشكلون أقل من ربع عدد المهاجرين (23.2) وبإضافة أعداد اليهود الذين استوطنوا فلسطين قبل عام 1928 فإن نسبة الفئات المعالة بين اليهود ترتفع إلى 36% من إجمالي أعدادهم، أما بالنسبة لعرب فلسطين فقد كانت هذه النسبة تقرب من نصف أعدادهم (48%)، وهو ما يعني أن نسبة أعداد اليهود في العمرالإنتاجي كانت تمثل 64% من عدد اليهود، بينما كانت في الجانب العربي لا تزيد عن 52% من عدد السكان العرب.
وطبقاً للإحصائيات البريطانية الرسمية كانت القوى العربية العاملة في فلسطين عام 1936 لا تزيد عن 28.5% من تعداد السكان العرب، بينما وصلت نظيرتها الإسرائيلية إلى ما يقرب من 44.5% من تعداد السكان اليهود. كما كان متوسط عدد الأفراد الذين يعولهم العامل الفلسطيني هو 2.51 فرداً، بينما كان متوسط عدد الأفراد الذي يعولهم العامل اليهودي لا تزيد عن 1.24، ويعكس (جدول حجم قوة العمل العربية واليهودية وتوزيعها على القطاعات الاقتصادية (عام 1936)) حجم قوة العمل العربية واليهودية عام 1936، وتوزيعها على القطاعات الاقتصادية المختلفة، ويوضح هذا الجدول أنه بالرغم من أن قوة العمل اليهودية كانت تمثل ما يقرب من 66% من قوة العمل العربية، فإنه باستثناء قطاع الزراعة الذي تفوق فيه عدد العاملين العرب وقطاع التجارة والنقل الذي تساوت فيه قوتا العمل العربية واليهودية، فقد تفوقت الأخيرة في باقي القطاعات الاقتصادية.
******************************
[1] الأعضاء بحكم وظائفهم هم: كاتم السر العام، والنائب العام، ومدير المالية، ومدير الشرطة والسجون، ومدير الصحة، ومدير الأشغال العامة، ومدير المعارف، ومدير الزراعة، ومدير الجمارك، ومدير التجارة والصناعة.
[2] الأقضية: هي مصطلح إداري مفرده قضاء، وهو عبارة عن منطقة تشكل جزءاً من منطقة إدارية أكبر مساحة يطلق عليها لواء.