منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 كَلاَّ دلالتها ومواقعها في القرآن الكريم

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52683
العمر : 72

كَلاَّ دلالتها ومواقعها في القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: كَلاَّ دلالتها ومواقعها في القرآن الكريم   كَلاَّ دلالتها ومواقعها في القرآن الكريم Emptyالإثنين 19 ديسمبر 2011, 8:52 am

كَلاَّ دلالتها ومواقعها في القرآن الكريم

إعداد
الدكتور / محمد محمد عبد العليم

مدرس البلاغة والنقد بكلية اللغة العربية
جامعة الأزهر الشريف


المقدمة

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

وبعد

فلقد حظيت (كلا) باعتبارها أداة للردع والرد على ما سبقها من سياقات، وباعتبارها أداة تنبيه واستقبال لما هو آت منها.. باهتمام جل النحاة وأهل اللغة فهي كما ألمحتُ لا يخلو منها كلام ولا يستغنى عنها بحال.. لكن العجيب أنها لم تحظ باهتمام أهل البيان ولم تشغل مع غيرها من حروف المعاني حيز تفكيرهم اللهم إلا لماماً في بعض المباحث الوثيقة الصلة بمتعلقات الفعل، وحتى هذه لم يتطرق البلاغيون في مباحثهم المتصلة بتلك المتعلقات للحديث عن (كلا) من قريب ولا بعيد.

ونحن لو تتبعنا مدى ما لهذه الكلمة من دور في ثنايا الكلام وأعطافه لوجدنا أنها من الناحية البيانية من الأهمية بمكان.. فهي كما سيتضح من خلال هذه الدراسة تتسع لكثير من المقامات التي لا يجمل السياق ولا يتم على أكمل وجه إلا بها، وهي لكونها للردع والزجر في الأصل والأساس فقد اقتضى الحال أن تجئ في القرآن المكي، وفي ذلك مراعاة لحال المخاطبين وما يتناسب مع طبيعتهم وغطرستهم حيث الألفاظ القوية التي تقرع أسماعهم وتصخ آذانهم وتملأ قلوبهم خوفاً من الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وتلك خصيصة من خصائها.

ناهيك عما تحمله هذه الأداة من إيجاز فهي كلمة تحمل المعاني الكثيرة، وتثير الدلالات العديدة التي تذهب فيها النفس كل مذهب، وعلى أي الأحوال تقدر – في الأغلب الأعم– مع ما قبلها فتكون مؤكدة ومكررة لمضمون ما سبق، وهي إن عاد مضمونها الذي قد يمليه مقتضى الحال وقرينة السياق على ما بعدها تكون منبهة وممهدة لما يليها، وشديدة الصلة بما يسمى بيانيا بالاستئناف البياني بل هي من أعظم الأساليب المحققة له، وهي فضلاً عن كل ما ذكرنا شديدة الصلة بباب الفصل والوصل في مفهوم البلاغيين بل لا أبالغ إن قلت هي مصدر إلهامهم في تأصيل قواعد هذا الباب، إذ بالوقوف عليها – على ما سنرى– تفيد معنى وبوصلها بما بعدها تفيد آخر، وفي ذلك من إثراء اللغة واتساعها ما لا يخفى.

لأجل هذا وغيره طالتها العديد من الدراسات من نحو ما سطره في شأنها أبو الحسين أحمد بن فارس ت 395هـ ، وما دبجه أبو محمد مكي ابن أبي طالب ت 437هـ، بله أن كلها دراسات أقل ما يقال فيها أنها مقصورة على مراعاة جوانب الوقف والابتداء فهي – من ثم – لا تعدو كونها دراسات في نطاق الأحكام العالقة بهذا الجانب من الدراسات القرآنية.

والأمر بهذا يحتاج إلى دراسة جادة تكشف عن المقامات التي يجمل الإتيان فيها بهذه الأداة, وتستكنه أسرارها، وتستنطق دلالاتها، وآمل أن تكون هذه الدراسة خطوة في هذا الطريق، وأن تستتبعها دراسات فكلمات كتاب الله لا تنفد وعطايا تنزيله لا حدود له، والله من وراء القصد وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.


المبحث الأول
(كلاّ) في اصطلاح النحويين وأهل اللغة

أولاً : دلالة (كلا) في اصطلاح النحاة من حيث اللفظ


اختلف النحويون وأهل اللغة في الأداة (كلا) هل هي بسيطة أم مركبة؟ فذهب سيبويه والخليل والأخفش والمبرد والزجاج وأكثر البصريين إلى القول بحرفيتها فهي عندهم وعند جمهور النحاة حرف رباعي محض، بسيط غير مركب، كما أنه مهمل لا يعمل شيئاً.

وذهب ثعلب إلى أنها من الحروف المركبة كـ (هلاّ)، وهي عنده مركبة من كاف التشبيه و(لا) النافية أو التي للرد، وذلك أن العرب إذا نفت شيئاً قالت: هو كلا ولا.

قال الشاعر:
أصاب خصاصة فبدا كليلاً
كلا وانغل سائره انغلالا

وإنما شددت اللام نتيجة زيادة لام أخرى بعد الكاف أدغمت في لام (لا) النافية لتخرج عن معناها التشبيهي ولتدفع عن (كلاّ) توهم بقاء معنى الكلمتين: التشبيه والنفي، لأن تغير لفظ الكلمة دليل على تغير معناها، وأيضاً لتقوية المعنى باعتبار أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وفيما ذكره ثعلب ومن لف لفه نظر، يقول ابن فارس في الصاحبي: "وهذا ليس بش و(كلاّ) كلمة موضوعة لما ذكرناه على صورتها في التثقيل"، أي على تشديد اللام، وجعل الألف أصلية لحرفيتها، وفي معنى ما ذكره قال ابن يعيش: "(كلاّ) حرف على أربعة أحرف كـ (أمّا) و(حتى) وينبغي أن تكون ألفه أصلاً لأنا لا نعلم أن أحداً يوثق بعربيته يذهب إلى أن الألف في الحروف زائدة".

وجنح ابن العريف إلى أنها مركبة من (كَل) و(لا) وهذا المذهب دون سابقه بل هو من الضعف بمكان لأن (كَل) ليست من الحروف بسبب ولا دليل على تركيبها مع (لا)، فضلا عن أن هذا لم يقل به أحد من أهل العلم، قال صاحب رصف المباني: "هي بسيطة عند النحويين إلا أن ابن العريف جعلها مركبة من (كل) و(لا)، وهذا كلام خلف، لأن (كل) لم يأت لها معنى في الحروف فلا سبيل إلى ادعاء التركيب من أجل (لا)، إذ لا يدّعى التركيب إلا فيما يصح له معنى في حال الإفراد، وما ذكره لم يوافق فيه أحداً ممن ادعى التركيب في غيره".

وقيل: بل هي مركبة من (ألا) التي للتنبيه، و(لا) النافية، يقول الإربلي: "ومع ظهور ضعفهما - يعني هذا الأخير وما ذكره ثعلب - لا دليل عليهما". وقد ناقش ابن فارس القول بتركيبها ورده ثم قال: "فإن قال قائل فما الأصل فيها؟ قلنا: إن (كلاّ) كلمة موضوعة للمعاني التي قد ذكرناها مبنية هذا البناء، وهي مثل (إنّ) و(لعل) و(كيف) وكل واحدة من هذه مبني بناء يدل على معنى، فكذا (كلاّ) كلمة مبنية بناء يدل على المعاني التي نذكرها"

وقول مكي إن (كلاّ) تكون اسماً على مذهب الكسائي الذي يرى أنها بمعنى (حقاً)، وكذا قول الرضي: إنها "إذا كانت بمعنى (حقاً) جاز أن يقال: إنها اسم بنيت لكون لفظها كلفظ الحرفية، ولمناسبة معناها لمعناها، لأنك تردع المخاطب عما يقوله تحقيقاً لضده"، فيه نظر لأن اشتراك الاسم بين الاسمية والحرفية قليل ومخالف للأصل ومحوج لتكلف دعوى علة لبنائها، لأجل هذا حكم النحاة بحرفيتها إذا كانت بمعنى (حقاً) أيضاً لما فهموا من أن المقصود، تحقيق الجملة كالمقصود بـ (إنّ) فلم يخرجها ذلك عن الحرفية.

ولفظ (حقاً) في حد ذاته هو بلا خلاف "مصدر منصوب بالفعل المقدر له، فيعمل فيما بعده نصباً" على معنى وتقدير: أحق ذلك حقاً. أما إيقاع المصدرية على (كلاّ) نفسها فلم يقل به – فيما أعلم – سوى أبو الفتح في المحتسب، اعتماداً على بعض القراءات الواردة في هذا الشأن ونقله عنه غيره، فقد أوضح أن ثمة قراءة بتنوين (كلا) في قوله تعالى: (واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً . كلا)، ثم ذكر أنه "ينبغي أن تكون (كلاّ) هذه مصدراً كقولك: (كل السيف كلاً) فهو إذاً منصوب بفعل مضمر فكأنه لما قال سبحانه: (واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً) قال الله سبحانه راداً عليهم: (كلا) ووقف، أي (كلّ هذا الرأي والاعتقاد كلاً) و(رأوا منه رأياً كلاً)، كما يقال ضعفاً لهذا الرأي .. ثم قال من بعد (سيكفرون)، فهناك إذاً وقفان، أحدهما: (عزاً) والآخر (كلا) من حيث كان منصوباً بفعل مضمر لا من حيث كان زجراً وردعاً" ولعل ما ذكره من هذا الرأي الغريب يعضده قراءة (كلاً سنكتب ما يقول.. مريم/79) بالتنوين أيضاً، وفيه كما ذكر العكبري وجهان، أحدهما: هي مصدر(كلّ) أي أعيا أي كلّوا في دعواهم وانقطعوا، والثاني هي بمعنى الثقل، أي حملوا كلاً. وفي تقديري أن ثبوت هاتين الروايتين محمول على كونها فعلاً، وأن ذلك ليس بمانع أن تظل (كلا) الأداة – أداة الردع والزجر – حرف على وضعها الأصلي الذي ارتضاه النحاة وأهل اللغة.


ثانياً: دلالة (كلا) من حيث المعنى:

تأتي (كلا) عند ثعلب وابن العريف وسيبويه وأكثر البصريين لتفيد معنى الردع والزجر قال صاحب الكتاب: "وأما (كلا) فردع وزجر"، ولا معنى لها عنده وعندهم إلا ذلك حتى إنهمٍ يجيزون أبداً الوقف عليها والابتداء بها وبما بعدها، وحتى قال جماعة منهم: متى سمعت (كلاّ) في سورة فاحكم بأنها مكية لأن فيها معنى التهديد والوعيد وأكثر ما نزل ذلك بمكة، لأن أكثر العتو كان بها.

وصرح الزمخشري وأبو حيان إلى أنها كذلك وإن لم يكن شئ قبل (كلاّ) يتوجه إليه الردع والزجر، وحجته في ذلك دلالة الكلام عليه، وسيأتي التعقيب على هذا الكلام والرد عليه.

ويرى الكسائي وأبو حاتم ومن وافقهما أن معنى الردع والزجر ليس مستمراً فيها فزادوا فيها معنىً ثانياً يصح عليه أن يوقف دونها ويبتدأ بها، ثم اختلفوا في تعيين ذلك المعنى على ثلاثة أقوال:


أحدها: للكسائي ومتابعيه قالوا:

تكون بمعنى حقاً، فيبتدأ بها لتأكيد ما بعدها فهي في حكم الاسم وموضعها في موضع النصب على المصدر والعامل محذوف.


وثانيها: للنضر بن شُميل والفراء ومن وافقهما، قالوا:

(كلاّ) حرف تصديق يأتي جواباً لكلام سابق لفظاً أو تقديراً ويكون بمعنى (نعم) و(لا)، أو على حد قول ابن يعيش في شرح المفصل نقلاً عن الفراء هي حرف ردّ يكتفى بها كـ (نعم) و(بلى) إثباتاً ونفياً وبذا تكون صلة لما بعدها كقولك: (كلاّ ورب الكعبة) بمعنى إي ورب الكعبة، وحملوا عليه قوله تعالى: (كلاّ والقمر)، وركّب ابن مالك هذه المذاهب الثلاثة، مذهبي الكسائي والنضر إضافة لمذهب سيبويه وعامة البصريين، فجعلها مذهباً واحداً.. قال في التسهيل: "(كلاّ) حرف ردع وزجر، قد تؤوّل بـ (حقاً) وتساوي (إي) معنىً واستعمالاً".


وثالثها: لأبي حاتم السجستاني ومن شايعه، قالوا:

تكون بمعنى (ألا) الاستفتاحية، كذا نص عليه ابن هشام صاحب المغني، ونسب المرادي هذا الأخير وما قبله لأبي حاتم فقال: "ذهب أبو حاتم ووافقه الزجاج إلى أنها تكون رداً للكلام الأول، وتكون للتنبيه ويستفتح بها فتكون بمعنى (ألا)"، وابن هشام في ذلك تابع لابن يعيش، والقول بإفادة (كلاّ) للرد هو مذهب أبي عبد الله الباهلي وهو قريب من معنى الردع.

ومن المعاني التي تأتي (كلاّ) لتفيدها من غير المعاني الأربعة السابقة أنها تأتي بمعنى (لا) فتكون لنفي ما تقدم قبلها من الكلام، غير أن هذا النفي يأخذ صوراً متعددة فقد يأتي لمجرد الردع تقول لشخص: (فلان يبغضك) فيقول: كلاّ ردعاً له أي: ليس الأمر كما تقول، وقد يجئ النفي مصحوباً بالإنكار وذلك إذا أخبر عن غيره بشئ منكر، فيذكر بعده (كلاّ) بياناً لكونه منكراً كقوله تعالى: (واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً. كلاّ.. مريم/81, 82) أي ليس الأمر كذلك، فيكون نفياً على سبيل الإنكار، وقد يجئ بعد الطلب لنفي إجابة الطالب كقولك لمن قال لك (إفعل كذا): كلاّ، أي لا يجاب إلى ذلك، وقد يأتي كذلك وتكون (كلاّ) من كلام المتكلم بما قبلها، كما في قول الله تعالى: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلاّ.. المؤمنون /100)، وهي على أيٍّ حرف دال على هذا المعنى ولا موضع لها من الإعراب، ولا تستعمل عند حذاق النحويين بهذا المعنى إلا في الوقف عليها فتكون زجراً ورداً وإنكاراً لما قبلها لأن فيها معنى التهديد والوعيد، وهذا مذهب سيبويه والخليل والأخفش والمبرد والزجاج وغيرهم، ومن شواهد كلاّ المفيدة للنفي قول العجاج:


قد طلبت شيبان أن تُصاكِموا
كلاّ ولمّا تَصْطَفِق مآتمُ

وكان الرماني قد ذهب إلى أن (كلاّ) "تأتي على ضربين أحدهما أن تكون ردعاً ونفياً كقوله تعالى: (ليكونوا لهم عزاً. كلاّ.. مريم/81, 82)، وقوله تعالى: (قال أصحاب موسى إنا لمدركون. قال كلاّ.. الشعراء/ 61, 62) أي على طريق الزجر والردع، والثاني أن يكون بمعنى حقاً ومنه قوله تعالى: (كلاّ إن الإنسان ليطغى.. العلق/6)" .

وذكر بعضهم أنها تأتي صلة للكلام فتكون بمعنى (إي)، ونسب المرادي هذا الأخير للباهلي أيضاً وقال: إنها عنده "تكون على وجهين" وذكرهما، غير أن صاحب الفتوحات الإلهية فيما عُرف بحاشية الجمل استنكر استلزامها لأن تكون صلة في الكلام بمعنى (إي)، لأن (إي) وإن كان حرف جواب إلا أنه "مختص بالقسم" وحمل عليه بعضهم قوله تعالى: (كلاّ والقمر.. المدثر/32)، غير أن الرضي آثر جعلها هنا بمعنى حقاً، وقال معلقاً: "يجوز أن يجاب بجواب القسم كما في الآية، وأن لا يجاب كقوله تعالى: (كلا بل تحبون العاجلة.. القيامة/20)"، على الرغم من أنه صرح في موضع آخر بأن مما "يقوم مقام القسم.. (كلاً) إذا لم يكن ردعاً نحو (كلا لينبذن في الحطمة.. الهمزة/4)" وذلك – بالطبع – يستلزم الجواب حتماً ولو مقدراً.

وقيل: إن (كلاّ) تأتي أيضاً بمعنى سوف كذا ذكره المرادي بلفظ التضعيف، ونسبه السيوطي للفراء وابن سعدان وفيه نظر، لمجئ حرف التسويف بلفظه بعد (كلاّ) كما هو الحال في قول الله تعالى: (كلا سوف تعلمون.. التكاثر/3).

ومهما يكن من أمر فقد تحصل مما ذكر أن لـ (كلاّ) - من غير المعاني التي تفيدها مع النفي ثمانية معان أكثرها اطراداً هو مجيؤها للردع والزجر.


مناقشة ما ذكر من الآراء سالفة الذكر:

بعد أن ظهر ضعف القول بتركيب (كلا) وترجح ما ذكره سيبويه والخليل وأكثر البصريين من القول بحرفيتها وبساطتها.. تجدر الإشارة إلى أن ما ذكروه من قصر المعنى في (كلا) على الردع والزجر بحجة أن أكثر ما نزل ذلك في مكة, وأن أكثر العتو كان بها، ومن أن ذلك يستلزم أن يكون المقام المعبر عنه بـ (كلاّ) دائماً وأبداً مقام تهديد ووعيد .. فيه نظر، ذلك أن لزوم المكية إنما يكون عن اختصاص العتو بها لا عن غلبة، وإلا فكيف تأَتى الإيمان لأبي بكر وعليّ ومن نحا نحوهما ممن رقت قلوبهم لما نزل من الحق وآمنوا – لأول وهلة – بدعوة الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه.

فحمل (كلا) على الردع والزجر، كذا على الإطلاق وعلى العموم – مع ما ذكرنا – فيه ما فيه من التكلف، الذي يدل عليه وعلى ما سبق ذكره، عدم ظهور معنى الزجر والردع في (كلاّ) المسبوقة في التنزيل بنحو (في أي صورة ما شاء ركبك.. الانفطار/8)، (يوم يقوم الناس لرب العالمين.. المطففين/6)، (ثم إن علينا بيانه .. القيامة/19) لمنافاة سياقات هذه الآيات وما جاء على شاكلتها مع مقامي التهديد والوعيد اللذين يستلزمهما معنى الردع والزجر، بل ولاختلافهما مع ما جاء بعدها في توجيه الخطاب وصورته، وإنا لواجدون مصداق ذلك عندما نقرأ ما جاء منها على الترتيب قول الله تعالى: (كلا بل تكذبون بالدين.. الانفطار/9) وقوله: (كلا إن كتاب الفجار لفي سجين.. المطففين/7) وقوله: (كلا بل تحبون العاجلة.. القيامة/20)

حيث جاءت أولى آيتي الانفطار بصورة المفرد وجاء الخطاب فيها موجهاً لمطلق الإنسان الوارد ذكره في قوله قبل: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم.. الانفطار/6)، بينا جاء في الآية التي تلتها وصدرت بــ (كلا)، موجهاً لأهل مكة المكذبين بالقيامة والحساب .. كما جاء في أولى آيتي المطففين في سياق الحديث عن البعث، بينا جاءت الآية التي تلتها على الاستئناف، فـ (كلاّ) فيها في معني (ألا) الاستفتاحية، ولا يصلح جعلها لغير ذلك وإلا لاستلزم نفي البعث وهو ما لا سبيل للآية إليه.. وجاء في أولى آيتي القيامة في سياق الحديث عن عدم تمهل النبي صلى الله عليه وسلم لما يتلوه عليه جبريل عليه السلام من كلام الله، وجاء النسق الكريم فيما أعقبها متحدثاً عمن عجلت لهم الدنيا بخيرها وشرها وغيبت عنهم الآخرة، مما حاشاه صلى الله عليه وسلم – مع اختلاف السياق – أن يكون واحداً منهم.

وابتناءً على ما سبق فقول من قال من المفسرين: فيما ذكر ردع عن ترك الإيمان بالتصوير في أي صورة ما شاء الله، وعن ترك الإيمان بالبعث، وعن العجلة بالقرآن تعسف ظاهر، إذ لم يتقدم في الأولين حكاية نفي ذلك عن أحد، كما أن طول الفصل في الثالثة بين (كلاّ) وذكر العجلة يحول دون حمل المعنى على الردع والزجر حيث فصل بين قوله: (لا تحرك به لسانك لتعجل به.. القيامة/16) وقوله: (كلا بل تحبون العاجلة.. القيامة/20) بثلاث آيات هي قوله: (إن علينا جمعه وقرآنه. فإذا قرأناه فاتبع قرآنه. ثم إن علينا بيانه.. القيامة/17- 19)، فضلاً عن أن السياق نفسه – على ما هو ظاهر بأدنى تأمل في سابق الآيات ولاحقها - لا يعين على جعل المعنى كذلك.

يضاف إلى كل ما سبق في عدم جواز قصر المعنى في (كلاّ) على الردع والزجر، أن أول ما نزل من القرآن هو الخمس آيات الأولى من سورة العلق، ثم نزل: (كلا إن الإنسان ليطغى.. العلق/6)، فجاءت بذلك في افتتاح كلام، فأنى لـ (كلا) أن يكون مجيئها للردع والزجر وهما يقتضيان كلاماً سابقاً يستدعي أن يزجر عنه؟ كذا أفاده ابن هشام في المغني والفيروزابادي في البصائر وما ذكراه يعني بالضرورة أنه وإن ناسب أن يأتي المعنى في (كلا) مفيداً الزجر والردع في كثير من الآيات الواردة فيها، فإن هذا لا يعني لزومها لهذين المعنيين في كل ما ورد في التنزيل، وهذا ما يميل إليه الباحث ويطمئن إليه ويرتضيه، إذ من الآيات الواردة فيها هذه اللفظة – حتى من غير ما ذكرنا على ما سيأتي في المبحث الثاني من هذه الدراسة - ما لا يتناسب البتة مع هذا المعنى.

ويعد ما ذكره صاحبا المغني والبصائر – في الحقيقة– ترجيحاً لما ارتآه أبو حاتم والكسائي والنضر بن شُميل من أن معنى الردع والزجر ليس مستمراً فيها ومن أنها تأتي – أحياناً- بمعنى (ألا) الاستفتاحية على ما ارتآه الأول ومتابعوه، وبمعنى (حقاً) على ما ذهب إليه الثاني ومتابعوه، وبمعنى (نعم) و(لا) أي حرف تصديق فيكون جواباً على ما ارتآه الثالث ومتابعوه، وإن كان الأول -من بين هذه الثلاث أعني رأي أبي حاتم– هو الأكثر اطراداً إذ لا يتأتى قول الكسائي ومن لف لفه في نحو قول الله تعالى: (كلا إن كتاب الفجار لفي سجين.. المطففين/7)، وقوله: (كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين.. المطففين/18)، وقوله: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون.. المطففين/15)، لأن الحرف (إنّ) لا بد أن يكسر بعد (ألا) الاستفتاحية ولا يكسر بعد (حقاً) ولا بعد ما كان بمعناها، ولأن تفسير حرف بحرف أولى من تفسير حرف باسم فإن اشتراك اللفظ بين الاسمية والحرفية قليل ومخالف للأصل ومحوِج لتكلف دعوى علة لبنائها، وليس الأمر كذلك بالنسبة لـ (حقاً) التي لا تأتي إلا منونة على ما هو العكس من (كلاّ)، وقد أخطأ الشوكاني خطاً فادحاً حين ذكر في حق آية المطففين ما نصه: "عند أبي حاتم أن (كلاّ) بمعنى حقاً متصلة بما بعدها، على معنى: حقاً إن كتاب الفجار لفي سجين"، ففاته بذلك الصواب مرتين مرة حين نسب القول باستخدام (كلاّ) بمعنى (حقاً) إلى أبي حاتم بينا هو في الحقيقة منسوب للكسائي، ومرة أخرى حين حمل عليه معنى الآية الكريمة، بينا هي في مثل هذه الآية لا تكون كذلك لكسر الهمزة بعد الأداة (كلا)، وما أكثر الأخطاء التي وقع فيها أهل التأويل بسبب عدم مراعاة هذه الفروق الدقيقة وعدم جعلها في الاعتبار.

هذا وكما لا يتأتى قول الكسائي في نحو قوله تعالى: (كلاّ إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون.. المؤمنون/100)، وقوله: (كلاّ إن معي ربي سيهدين.. الشعراء/62) لذات السبب يعني لما سبق ذكره من أن لو كانت بمعنى (حقاً) لفتحت همزة (إنّ) لأن (إن) تفتح همزتها وجوباً بعد (حقاً) وهي هنا مكسورة.. لا يصح كذلك أن تكون (كلاّ) في الآيتين المذكورتين حرف جواب كما هو مذهب النضر والفراء ومن تبعهما، لأنها لو كانت حرف جواب لاختل المعنى فيهما، ولدلت في آية المؤمنون على الوعد بالرجوع إلى الدنيا، لأن (نعم) أو ما في معناها كـ (إي) إذا وقعت بعد الطلب دلت على الوعد فإن قيل لك: (أعط فلاناً كذا) فقلت: نعم كان قولك (نعم) وعداً بالإعطاء، و(كلاّ) في آية المؤمنون وقعت بعد الطلب وهو (ارجعون)، وعليه فلو حملناها على معنى (نعم) لكانت وعداً من الله عز وجل بالرجوع إلى الدنيا والله تعالى لم يعد أحداً بالرجوع إلى الدنيا، لأن سنته الماضية في عباده التي سبقت بها إرادته وعلمه أن أحداً ما لا يرجع إلى الدنيا بعد مفارقتها، فحينئذ لا يصح حمل (كلاّ) في الآية الكريمة على هذا المعنى، وإذا بطل أن تكون بمعنى (حقاً) وبمعنى (نعم) تعين أن تكون إما للردع والزجر، وإما للاستفتاح وهذان المعنيان لا ينبو عنهما لفظ الآية ولا ينفر منهما معناها.

والشئ بالشئ يذكر، فما قيل في آية المؤمنون يقال مثله في قوله من سورة الشعراء: (قال أصحاب موسى إنا لمدركون. قال كلاّ إن معي ربي سيهدين.. الشعراء/61, 62)، أما عدم جواز جعلها بمعنى (حقاً) فلما سبق من أن لو كانت بمعنى (حقاً) لتعين فتح الهمزة بعد (كلاّ)، بينا هي بعدها في الآية الكريمة مكسورة، وأما عدم جواز جعلها بمعنى (نعم) – كما هو مذهب الفراء – فلأن (نعم) بعد الخبر تدل على التصديق ولا يصح إرادة التصديق هنا لأنه سيترتب عليه أن يكون المعنى (أنتم مدركون) وليس ذلك معنى الآية، فيتعين أن تكون (كلاّ) في هذا النظم الكريم أيضاً إما بمعنى الردع والزجر وإما بمعنى الاستفتاح، فقد تحقق في هذين الموضعين مذهب أبي حاتم دون مذهب الكسائي والفراء, الأمر الذي يعني – على ما ارتضاه ابن هشام – أن مذهب أبي حاتم هو الأكثر اطراداً والأوسع تناولاً.

وصفوة القول، أن (كلاّ) لا تكون بمعنى (حقاً) بحال إذا كسرت بعدها همزة (إن) بل يتعين حينئذ أن تكون للردع أو الاستفتاح كما في آيتي المؤمنون والشعراء، وقد تفيدهما معاً إذا صلح الموضع للردع وغيره، كما يمتنع كونها للزجر إذا لم يكن قبلها ما يصح الرد عليه، كما في قوله تعالى: (وما هي إلا ذكرى للبشر. كلاّ والقمر.. المدثر/31، 32).


يقول ابن هشام في مغني اللبيب:

"إذا صلح الموضع للردع ولغيره كما في قوله تعالى: (أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهداً . كلاّ سنكتب ما يقول.. مريم /78، 79) وقوله: (واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً. كلا سيكفرون بعبادتهم.. مريم /81، 82)، جاز الوقف على (كلاّ) على احتمال أن تكون للردع، وجاز الابتداء بها على احتمال أن تكون بمعنى (ألا) الاستفتاحية أو بمعنى (نعم)، والأرجح حملها على الردع لأنه الغالب فيها، وقد تتعين للردع أو الاستفتاح نحو (رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلاّ إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يبعثون.. المؤمنون/100)، لأنها لو كانت بمعنى (حقاً) لما كسرت همزة (إن)، ولو كانت بمعنى (نعم) لكانت للوعد بالرجوع لأنها بعد الطلب كما يقال: (أكرم فلاناً) فتقول: (نعم)، وكذا قوله تعالى: (قال أصحاب موسى إنا لمدركون. قال كلا إن معي ربي سيهدين.. الشعراء/61، 62)، وذلك لكسر (إن) ولأن (نعم) بعد الخبر للتصديق، وقد يمتنع كونها للزجر نحو (وما هي إلا ذكرى للبشر. كلا والقمر.. المدثر /31، 32) إذ ليس قبلها ما يصلح رده، وقول الطبري وجماعة: إنه لما نزل في عد خزنة جهنم: (عليها تسعة عشر.. المدثر/30) قال بعضهم: اكفوني اثنين وأنا أكفيكم سبعة عشر، فنزل: (كلا) زجر له، قول متعسف لأن الآية لم تتضمن ذلك"


مواضع (كلاّ) في القرآن الكريم:

وقعت (كلاّ) في النظم الكريم في ثلاثة وثلاثين موضعاً من خمس عشرة سورة كلها في النصف الثاني من القرآن وليس في النصف الأول منها شئ، كما لوحظ أن ورود هذه الكلمة كان فيما نزل بمكة فلم ينزل بالمدينة منها شئ، لذا قيل: (متى سمعت كلاّ في سورة فاحكم بأنها مكية).

ومن المناسب أن نشير إلى مواضع هذه الكلمة في القرآن الكريم كيما يتسنى لنا – فيما يلي من مباحث – معرفة أيٍّ من هذه المعاني السابق ذكرها، أنسب للسياق وأولى بالوقف والابتداء، وأجدر بأن يحمل عليه تأويل ومعنى هذه اللفظة التي كثر ورودها في آي الذكر الحكيم، ويمكن إجمال هذه المواضع وحصرها فيما يلي:

1، 2- موضعان في سورة مريم هما قول الله تعالى: (كلاّ سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مداً.. مريم/ 79)، وقوله: (كلاّ سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً.. مريم/ 82).

3- وموضع في سورة المؤمنون هو قوله تعالى: (لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلاّ إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون.. المؤمنون/100).

4، 5 - وموضعان في سورة الشعراء هما قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام: (قال كلاّ فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون.. الشعراء/15)، وقوله على لسانه أيضاً: (قال كلاّ إن معي ربي سيهدين.. الشعراء /62).

6- وموضع في سورة سبأ هو قوله تعالى: (قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلاّ بل هو الله العزيز الحكيم.. سبأ /27).

7، 8- وموضعان في سورة المعارج هما قوله تعالى: (كلاّ إنها لظى.. المعارج/15)، وقوله: (كلاّ إنا خلقناهم مما يعلمون.. المعارج/39).

9، 10، 11، 12- وأربعة في سورة المدثر هي قوله تعالى: (كلا إنه كان لآياتنا عنيدا.. المدثر/16)، وقوله: (كلا والقمر.. المدثر/32)، وقوله: (كلا بل لا يخافون الآخرة.. المدثر/53)، وقوله: (كلا إنه تذكرة.. المدثر/54).

13، 14 ، 15- وثلاثة في سورة القيامة هي قوله تعالى: (كلا لا وزر.. القيامة/11)، وقوله: ( كلا بل تحبون العاجلة.. القيامة/20)، وقوله: (كلا إذا بلغت التراقي.. القيامة/ 26).

16، 17- وموضعان في سورة النبأ هما قوله تعالى: (كلا سيعلمون.. النبأ/4)، وقوله: ( ثم كلا سيعلمون.. النبأ/5).

18، 19- وموضعان في سورة عبس هما قوله تعالى: (كلا إنها تذكرة.. عبس/11)، وقوله: ( كلا لما يقض ما أمره.. عبس/ 23).

20- وموضع في سورة الانفطار هو قوله تعالى: (كلا بل تكذبون بالدين.. الانفطار/ 9).

21، 22، 23، 24- وأربعة في سورة المطففين هي قوله تعالى: (كلا إن كتاب الفجار لفي سجين.. المطففين/7)، وقوله: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون..

المطففين/14)، وقوله :(كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجبون.. المطففين/15)، وقوله: (كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين.. المطففين/ 18).

25، 26- وموضعان في سورة الفجر هما قوله تعالى: (كلا بلا تكرمون اليتيم.. الفجر/17)، وقوله: ( كلا إذا دكت الأرض دكاً دكاً.. الفجر/21).

27، 28، 29- وثلاثة في سورة العلق هي قوله تعالى: (كلا إن الإنسان ليطغى.. العلق/6)، وقوله: (كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية..العلق/ 15)، وقوله: (كلا لا تطعه واسجد واقترب.. العلق/ 19).

30، 31، 32- وثلاثة في سورة التكاثر هي قوله تعالى: (كلا سوف تعلمون.. التكاثر /3)، وقوله: (ثم كلا سوف تعلمون.. التكاثر/4)، وقوله: (كلا لو تعلمون عين اليقين.. التكاثر/ 5).

33- والموضع الأخير هو ما جاء في سورة الهمزة، وهو قوله سبحانه: (كلا لينبذن في الحطمة.. الهمزة/ 4).


أثر تحديد المعنى في الوقف على (كلاّ) والابتداء بها:

في إشارات لافتة لبعض ما كتب في تحديد معنى (كلاّ) في التنزيل ذكر بعض أهل العلم أنه حين يقتضي السياق في النسق الكريم جعل (كلاّ) بمعنى (حقاً) فإنه يبتدأ بها لتأكيد ما بعدها، وكذا الحال عندما تأتي بمعنى (ألا) لاستفتاح الكلام فإنه أيضاً يبتدأ بها لتعلقها كذلك بما بعدها .. أما حين يستلزم السياق أن ترد لتحقيق معنى الزجر والردع، وكذا عندما يتناسب أن تكون مؤدية لمعنى ما ذكر كأن تكون للرد أو للنفي فإنه يوقف حينذاك عندها، وما ذلك إلا لتعلقها في الحالتين بما قبلها.

يقول الرضي في شرحه على الكافية وإبّان حديثه عن أداة (كلاّ): "إن كانت بمعنى (حقاً) لم يجز الوقف عليها لأنها من تمام ما بعدها، ويجوز ذلك إذا كانت للردع لأنها ليست من تمام ما بعدها، وكان الفعل الذي هي من تمامه محذوف لأن الحرف لا يستقل".

وتكاد تكون كلمة القراء من أهل التجويد والقراءات والوقوف مجتمعة على ضرورة مراعاة هذه الفروق الدقيقة التي غابت عن كثير من النحاة وأهل اللغة والتفسير يقول ابن برهان فيما نقله عنه صاحب جواهر الأدب: "والذي عليه العلماء أن (كلاّ) يحسن الوقف عليها إذا كانت رداً للأول، ويحسن الابتداء بها إذا كانت بمعنى (ألا) و (حقاً) كقوله تعالى: (كلاّ إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون.. المطففين/15) قلت – والكلام هنا للإربلي – ولا يخفى على الذهن السليم صحة هذا وحقيقته"، وفي رصف المباني: "والصحيح أنه يوقف عليها في بعض المواضع مع وصل ما قبلها بها، وفي بعض المواضع يوقف على ما قبلها وذلك بحسب مواضعها من المعنى وهذا لا يتبين إلا بتتبع مواضعها واحداً واحداً" وهذا كلام جيد حري بالاعتبار وأجدر بالأخذ به وأولى بالاتباع من التعميم في ذلك.

فقد ذكر سيبويه والخليل أن الوقف على (كلاّ) والابتداء بها يكون جائزاً على كل حال، "وإليه ذهب الزجاج في جميع القرآن"، وذكر ثعلب أنه لا يوقف عليها في جميع القرآن وحجته في ذلك أنها جواب والفائدة تكون عادة بما بعدها، وبمثله قال الكسائي وأبو حاتم السجستاني غير أن حجة الكسائي في ذلك أنها تأتي على معنى حقاً لتأكيد ما بعدها، وحجة أبو حاتم أنها للتنبيه وافتتاح الكلام، وقال بعضهم: يوقف عليها في جميع القرآن لأنها بمعنى (انتبه) إلا في موضع واحد هو قوله تعالى: (كلاّ والقمر.. المدثر/32).

والأصوب فيها أنها في هذه الآية إما أن تكون رداً لكلام قبلها فتكون بمعنى (لا) فيحسن – من ثمّ – الوقف عليها لكونها في معنى: ليس الأمر كذلك، وإما أن تكون بمعنى (حقاً) أو تنبيهاً كـ (ألا) – وهو الذي عليه الأكثر – ويكون ما بعدها استئناف للقسم وجوابه فلا يحسن حينذاك الوقف عليها، كذا أفاده ابن يعيش في المفصل وبنحو ذلك ذكر الزركشي في البرهان أن من القراء "من نظر إلى المعنيين فيقف عليها إذا كانت بمعنى الردع، ويبتدئ بها إذا كانت بمعنى التحقيق، وهو أولى" وسيأتي تفصيل القول في ذلك.
وبتقديري أن مراعاة مثل هذه الضوابط لأجل الوقف على (كلاّ) والابتداء بها هو الأليق بالسياق والأبلغ في مراعاة مقتضى الحال، وهذا لا يتبين – على حد قول المالقي– إلا بتتبع مواضعها والتعرف على سياقاتها وهو ما تكشف عنه -بمشيئة الله تعالى- الصفحات التالية من هذه الدراسة.


المبحث الثاني
مقامات كلا في آي الذكر الحكيم

كلا في مقام التوجيه والإرشاد:


يستكنه هذا المقام في المواطن التي ليس فيها نص ثابت قاطع وقت نزول الوحي أولها تعلق باجتهادات النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بقصد التصويب فيما أعمل فيه صلى الله عليه وسلم عقله من نحو قوله سبحانه: (بل الإنسان على نفسه بصيرة. ولو ألقى معاذيره. لا تحرك به لسانك لتعجل به. إن علينا جمعه وقرآنه. فإذا قرأناه فاتبع قرآنه.
ثم إن علينا بيانه. كلا بل تحبون العاجلة. وتذرون الآخرة.. القيامة/14- 21) – إن صح تعلق الآية التي بها كلا بما قبلها – وقوله: (وأما من جاءك يسعى. وهو يخشى. فأنت عنه تلهى. كلا إنها تذكرة.. عبس/ 8- 11).

ففي هذه الآيات يظهر بوضوح من خلال سياقاتها أن (كلاّ) ارتبطت ببعض ما كان عليه صلوات الله وسلامه عليه من أحوال، ويسئ الظن به صلى الله عليه وسلم من يطلق على معنى (كلاّ) في مثل هذه المواطن معنى الزجر والردع، ذلك أنه فضلاً عن أن هذا لا يليق بمن جعله خالقه الذي اصطفاه وأعطاه وأولاه، سيد ولد آدم وخاتم النبيين وأشرف خلق الله أجمعين، فإن السياق لا يعين عليه.

ففي آية القيامة وإن وضح الارتباط بين قوله تعالى: (لا تحرك به لسانك لتعجل به)، وقوله: (كلاّ بل تحبون العاجلة) بذكر العجلة في الآيتين وبيان أنها مما جبل عليه بنو البشر، إلا أن البون شاسع بين عجلةِ من خيَّره ربه فاختار الرفيق الأعلى وآثر ما عند الله، وهي عجلةٌ في حب الخير والتطلع لاستقبال وحي السماء والشغف لسماع آي التنزيل من قبل أن يقضى إليه وحيه مخافة أن ينفلت منه – على ما يقتضيه كلام ابن عباس فيما أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي والطبراني والبيهقي حيث ذكر رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعالج من التنزيل شدة فكان يحرك به لسانه وشفتيه مخافة أن ينفلت منه، يريد أن يحفظه"،.. وعجلةِ من انكبوا على الحياة الدنيا على حساب الآخرة.. سيما مع ما ذكره الطيبي فيما نقله عنه الآلوسي من أن قول الله تعالى: (كلاّ بل تحبون العاجلة)، متصل بقوله: (ولو ألقى معاذيره)، إذ "يقال للإنسان عند إلقاء معاذيره: كلا إن أعذارك غير مسموعة، فإنك فجرت وفسقت وظننت أنك تدوم على فجورك وأن لا حشر ولا حساب ولا عقاب وذلك من حبك العاجلة والإعراض عن الآخرة".

ولا مخرج من الربط بين الآيتين الوارد فيهما مفردة العجلة، إلا أن يكون مجيئ ذلك على سبيل الاستطراد أو الاعتراض، فقد "كان من عادة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إذا لقن القرآن أن ينازع جبريل عليه السلام القراءة، وقد أنفق عند التلقين للآيات السابقة ما جرت به عادته من العجلة فلما وصل إلى قوله تعالى: (ولو ألقى معاذيره)، أوحى إلى جبريل عليه السلام بأن يلقي إليه رسول الله ما يرشده إلى أخذ القرآن على أكمل وجه فألقى تلك الجمل على سبيل الاستطراد، ثم عاد إلى إتمام ما كان فيه بقوله تعالى: (كلا بل تحبون..) إلخ، مثاله الشيخ إذا كان يلقن تلميذه درساً أو يلقي إليه فصلاًَ، ورآه في أثناء ذلك يعجل ويضطرب، يقول له: لا تعجل ولا تضطرب، فإني إذا فرغت إن كان لك إشكال أزيله أو كنت تخاف فوتاً فأنا أحفظه، ثم يأخذ الشيخ في كلامه ويتمّه".

ويرى بعض أهل التأويل أن "يكون الخطاب في (لا تحرك) إلخ، لسيد المخاطبين صلوات الله وسلامه عليه حقيقة، أو لكل من يصلح له، فيكون من باب إياكِ أعني واسمعي يا جارة، وجعل ضمير (به) ونظائره، ليوم القيامة. والجملة اعتراض جئ به لتأكيد تهويله وتفظيعه، فكأنه لما ذكر سبحانه مما يتعلق بذلك اليوم الذي فتحت بعظامه ما يتعلق، قوى داعي السؤال عند توقيته وأنه متى يكون؟ وفي أي وقت يبين؟ وبخاصة وقد استقر أن السؤال عن ذلك إذا لم يكن استهزاء مما لا بأس به، فقيل: (لا تحرك به) أي بطلب توقيته لسانك، وهو نهي عن السؤال على أتم وجه، كما يقال لا تفتح فمك في أمر فلان (لتعجل به)، يعني لتحصِّل علمه على عجلة، (إن علينا جمعه) أي ما يكون فيه من الجمع ، (وقرآنه) وهو ما يتضمن شرح أحواله وأهواله من القرآن، (فإذا قرآناه) وتلونا عليك ما يتعلق به، (فاتبع قرآنه) بالعمل بما يقتضيه من الاستعداد له، (ثم إن علينا بيانه) إظهاره وقوعاً بالنفخ في الصور وهو الطامة الكبرى".

وهذا التوجيه فضلا عن أن فيه ما فيه من التكلف فإن ظاهر الآية لا يساعده، وأبلغ منه أن تجعل هذه الآيات معترضة مع حملها على ظاهر معناها وهو ما فطن إليه بعض أهل التأويل، يدل علي ذلك – مع ما ذكرناه عن ابن عباس – ما ورد عن الضحاك من أنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف أن ينسى القرآن، فكان يدرسه حتى غلب ذلك وشق عليه فنزل (لا تحرك به..) إلخ فالرواية الأخيرة وإن أخفت وراءها وجه العتب والترغيب، فإنها مع ذلك التمست العذر للرسول صلى الله عليه وسلم فيما كان يصنع، وخلعت على (كلاّ) مسحة الإشفاق فيما كان يقع منه صلى الله عليه وسلم ويصدر عنه.

ومهما يكن من أمر فالعجلة الواردة في حقه صلوات الله عليه ليس نقصاً ولا عيباً بخلاف ما عليه سائر البشر، وعليه فهي وإن كانت من الكمالات بالنسبة إليه وإلى إخوانه من الأنبياء عليهم السلام كما قال موسى عليه السلام: ( وعجلت إليك رب لترضى.. طه/84).. إلا أن صدورها من النفس اللوامة التي تلوم صاحبها على ترك المبادرة إلى أفعال الخير، يجعل وقوعها من النفس المطمئنة يكون على صورة أكمل، مما يعني أن النهي عن العجلة على هذا النحو الوارد إنما هو نقل له عليه السلام من مقام كامل إلى أكمل منه وذلك – بالطبع – يبتعد بـ (كلاّ) عن أن تكون للردع والزجر.

وما أجمل ما ذكره صاحب روح المعاني في هذا الصدد – تأكيداً على ما ذكرنا – من أن "(كلاّ) هنا إرشاد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وأخذ به عن عادة العجلة، وترغيب له عليه الصلاة والسلام في الأناة، وبالغ سبحانه في ذلك لمزيد حبه إياه باتباعه وهذا هو ما يتناسب ومقام النبي عليه السلام الرفيع، وفي قوله: (بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة) إيذان بأن الإنسان وإن كان مجبولاً على ذلك إلا أن مثله عليه السلام ممن هو في أعلى منصب النبوة لا ينبغي أن يستفزه مقتضى الطباع البشرية، وأنه إذا نهى صلى الله عليه وسلم عن العجلة في طلب العلم والهدى فهؤلاء ديدنهم حب العاجلة وطلب الردئ، كأنهم نزلوا منزلة من لا ينجع فيهم النهى فإنما يعاتب الآدمي ذو البشرة، ومنه يعلم أن هذا متصل بقوله سبحانه: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) فإنه ملوح إلى معنى ( بل تحبون) إلخ.

وفي قوله (لا تحرك) – على هذا – تدرج ومبالغة في التقريع، والتدرج وإن كان يحصل لو لم يؤت بقوله سبحانه: (لا تحرك) إلخ، إلا أنه يلزم حينئذ فوات المبالغة في التقريع، وأنه إذا لم تجز العجلة في القرآن – وهو شفاء ورحمة – فكيف فيما هو فجور وثبور؟.. كما فيه الاستطراد المؤدى مؤدى الاعتراض بصورة أبلغ لظهور المناسبة، تلك التي يقول عنها أبو حيان: "يظهر أن المناسبة بين هذه الآية وما قبلها أنه سبحانه لما ذكر منكر القيامة والبعث معرضاً عن آيات الله تعالى ومعجزاته، وأنه قاصر شهواته على الفجور غير مكترث بما يصدر منه، ذكر حال من يثابر على تعلم آيات الله تعالى وحفظها وتلقينها والنظر فيها وعرضها على من ينكرها رجاء قبوله إياها ليظهر بذلك تباين من يرغب في تحصيل آيات الله تعالى ومن يرغب عنها، والأمر في ذلك كما قال الشاعر: (وبضدها تتميز الأشياء) وبهذه المقارنة يكون جانب التقريع قد امتزج واصطبغ بجانب الحث على تعقل الأمور وإيثار الآخرة على الأولى.

وبنفس هذا الأدب الجم في حق النبي عليه السلام، عالج الإمام أبو الفضل ما جاء في آيات سورة عبس، فذكر في روح المعاني أن القرآن إنما عبر بـ (كلا) في الآية الكريمة (كلا إنها تذكرة): "مبالغة في إرشاده صلى الله عليه وسلم إلى عدم معاودة ما عوتب عليه، وقد نزل ذلك – كما في خبر رواه ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس – بعد أن قضى صلى الله عليه وسلم نجواه وذهب إلى أهله".

وجواب من قال لماذا لم يعلم الله رسوله عليه السلام من وقت حضور ابن أم مكتوم بما تضمنه هذا التوجيه؟: "أن العلم الذي يحصل عن تبيين غفلة أو إشعار بخفاء يكون أرسخ في النفس من العلم المسوق من غير تعطش، ولأن وقوع ذلك بعد حصول سببه أشهر بين المسلمين وليحصل للنبي صلى الله عليه وسلم مزية كلا المقامين: مقام الاجتهاد ومقام الإفادة.. ونظير هذا ما ضربه الله لموسى عليه السلام من المثَل في ملاقاة الخضر وما جرى من المحاورة بينهما، وقول الخضر لموسى: (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا .. الكهف/68)، ثم قوله له: (ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا.. الكهف/82)، وقد سبق مثله في الشرائع السابقة كقوله في قصة نوح: (يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح.. هود/46) وقوله لإبراهيم: (لا ينال عهدي الظالمين.. البقرة/124)" وفي بعض الآثار أنه صلوات الله وسلامه عليه بعد أن نزل ما نزل، ما عبس في وجه فقير ولا تصدى لغني، وتأدب الناس بذلك أدبا حسناً حتى روي عن سفيان الثوري أن الفقراء كانوا في مجلسه أمراء.

والذي يبدو أن مناط العتاب الذي تؤتيه لهجة الآية والذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوته من كثرة ما يقول لابن أم مكتوم (مرحباً بمن عاتبني فيه ربي)، إنما هو عتاب على العبوس والتولي لا على ما حفّ بذلك من المبادرة بدعوة كافر إلى الإسلام عساه أن يسلم، أو تأخير إرشاد مؤمن إلى شعب الإسلام عساه أن يزداد تزكية، لأن ما سلكه النبي صلوات الله عليه في ذلك من إيثار الأولى على الثانية لا يستدعى عتابا، إذ ما سلك إلا ما وسعه فيه الاجتهاد، "ومن القواعد المستقراةِ من تصاريف الشريعة والشاهدة بها العقول السليمة تقديم درء المفاسد على جلب المصالح، ونفي الضر الأكبر قبل نفي الضر الأصغر، فلم يسلك النبي صلى الله عليه وسلم إلا مسلك الاجتهاد المأمور به فيما لم يوح إليه فيه، وهو داخل تحت قوله تعالى لعموم الأمة: (فاتقوا الله ما استطعتم.. التغابن/16) وهو القائل: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلىّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما اقتطع له قطعة من نار)، وهو القائل: (أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر).. وهو حديث صحيح المعنى وإن كان في إسناده تردد فلا قِبل له بعلم المغيبات إلا أن يطلعه الله على شيء منها، فلا يعلم أن هذا المشرك مضمر الكفر والعناد وأن الله يعلم أنه لا يؤمن، ولا أن لذلك المؤمن في ذلك صفاء نفس وإشراق قلب لا يتهيأ به له في كل وقت، وبذلك يستبين أن ما أوحى الله به إلى نبيه عليه السلام في هذه السورة، هو وحي له بأمر كان مغيبا عنه وهو حين أقبل على دعوة المشرك وإرجاء إرشاد المؤمن، لم يكن في ظاهر حالهما ما يؤذن بباطنه، وما أظهر الله في هذه الآيات غُيب علمه, إلا لإظهار مزية مؤمن راسخ الإيمان أو تسجيل كفر مشرك لا يرجى منه الإيمان، مع ما في ذلك من تذكير النبي عليه السلام بما يريده ويحبه من رفع شأن المؤمنين أمام وفي صدور المشركين".

والنكتة في تأنيث الضمير في قوله تعالى: (إنها تذكرة) خصوصية تحميل الكلام أكثر من معنى لجواز عوده إلى الدعوة التي تضمنها قوله: (فأنت له تصدى)، أو إلى الموعظة فيكون المعنى أن هذه الموعظة ليست ملاماً وإنما هي تذكرة لك يا محمد وتنبيه لما غفلت عنه، أو إلى الآيات التي قرأها النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المجلس، وفي عود الضمير عليها في جملة: (فمن شاء ذكره) بالتذكير، تنبيه على أن المراد آيات القرآن، فهي جملة تعليلية لما أفادته (كلا) ببيان علو رتبة القرآن العظيم الذي استغنى عنه من تصدى عليه السلام له، وهي أيضا جملة اعتراضية قصد منها الترغيب في الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والحث على حفظه والاتعاظ به، واقتران الجملة المعترضة بها بالفاء – دون الواو – صرح به ابن مالك في التسهيل واستجازه من غير نقل اختلاف فيه، وتناوُل الزمخشري في الكشاف عند الكلام على قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر.. النحل/43،الأنبياء/7)، نص في ذلك.

يتبع إن شاء الله...


كَلاَّ دلالتها ومواقعها في القرآن الكريم 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52683
العمر : 72

كَلاَّ دلالتها ومواقعها في القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: رد: كَلاَّ دلالتها ومواقعها في القرآن الكريم   كَلاَّ دلالتها ومواقعها في القرآن الكريم Emptyالإثنين 19 ديسمبر 2011, 8:57 am

كلا في مقام الطمأنة ورباطة الجأش وبث السكينة:

ويكثر مجيئ (كلا) لتحقيق هذا الغرض, في سياق الحديث عن نبي الله موسى عليه السلام ربما لكثرة ما عرض له من شدائد وفظائع كان السبب المباشر في جلها هم أعداؤه ومناوئوه من بني البشر ليزيل من نفسه الخوف منهم.. ولك أن تتأمل هذا وأنت تتصفح قول الله تعالى في سورة الشعراء: (وإذ نادى ربك موسى أن ائتِ القوم الظالمين. قوم فرعون ألا يتقون. قال رب إني أخاف أن يكذبون. ويضيق صدرى ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون. ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون. قال كلا فذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون. فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين. أن أرسل معنا بنى إسرائيل.. الشعراء/10-17) وقوله في مواجهة موسى لفرعون وملئه: (فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون. قال كلا إن معي ربى سيهدين.. الشعراء/61-62)

ففي معرض الحديث في الموطن الأول عن تكليف الله لكليمه موسى بشأن دعوة فرعون وملئه، أوضحت الآيات ما أبداه موسى عليه السلام من تخوف من أمور ثلاثة هي:

تكذيبهم إياه، وضيق صدره منهم، وامتناع انطلاق لسانه جراء تلجلجه بسبب ذلك -على نحو ما يشاهد في كثير من الفصحاء إذا اشتد غمهم وضاقت صدورهم، حتى لا تكاد تبين عن مقصود كلامهم- هذا إن قلنا: إن تعلله بذلك إنما كان بعد دعائه عليه السلام بحل العقدة واستجابة الله تعالى له بإزالتها بالكلية، وقيل إن المزال منها فقط هو ما يمنع من أن يفقه قوله عليه السلام وإن بقى له منها يسير لكنة.. وأيا ما كان, فالمراد من ضيق الصدر ضيق القلب وعبر عنه بما ذكر مبالغة ويراد منه الغم.

ثم هذا الكلام منه عليه السلام ليس تشبثاً بأذيال العلل والاستعفاء عن امتثال أمره عز وجل وتلقيه بالسمع والطاعة, بل هو تمهيد عذر في استدعاء عون الله له على الامتثال وإقامة الدعوة على أتم وجه، يدل عليه قوله: (فأرسل إلى هارون)، إذ في الإرسال إليه حصول هذه الأغراض كلها، وكان موسى عليه السلام قد قتل القبطي خباز فرعون بالوكزة التي ذكرها، فتسمية ذلك ذنباً إنما هو بحسب زعمهم بما ينبئ عنه قوله تعالى لهم: (فأخاف) أي إن أتيتهم وحدي (أن يقتلون) بسبب ذلك، ومراده بهذا استدفاع البلية وخوف فوات مصلحة الرسالة وانتشار أمرها كما هو اللائق بمقام أولى العزم من الرسل عليهم السلام، فإنهم يتوقون لذلك كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم حتى نزل عليه (والله يعصمك من الناس).

وفى الكشاف أنه عليه السلام "فرَق أن يقتل قبل أداء الرسالة.. والدليل عليه ما جاء بعده في قوله: (كلا فاذهبا) من كلمة الردع والموعد بالكلاءة والدفع، لأنه استدفعه بلاءهم فوعده الدفع بردعه عن الخوف, والتمس منه المؤازرة بأخيه فأجابه بقوله (فاذهبا) أي اذهب والذي طلبته وهو هارون" انتهى من كلام الزمخشري، بله إن تفسيره بعد، لآية (كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون)، وقوله: "كأنه قيل: ارتدع يا موسى عما تظن فاذهب أنت وهارون", كذا بما قد يفهم منه الشدة ويشتمّ منه التغليظ في القول، يتنافى مع سياق الآيات ومع ما توحي به من بث الطمأنينة في قلبي النبيين الكريمين موسى وهارون عليهما من الله الصلاة السلام.

وأرى مع ابن عاشور أن "الجمع بين قوله (بآياتنا)، وقوله: (إنا معكم مستمعون) تأكيد للطمأنينة ورباطة لجأشهما" وأن (كلا) حرف إبطال ونفي لقوله: (فأخاف أن يقتلون) أي كلا لن يقتلوك، وفى هذا الإبطال استجابة لما تضمنه قوله: (ولهم علىّ ذنب وأخاف أن يقتلون) من التعريض بالدعاء وسؤال النصر والتأييد أن يكفيه شر عدوه حتى يؤدى ما عهد الله إليه على أكمل وجه, وهو شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: (اللهم إني أسألك نصرك ووعدك, اللهم إن شئت لم تعبد في الأرض)".

يؤيد ما اخترناه جملة (إنا معكم مستمعون)، فقد جاء في (معكم) بالضمير العائد إلى موسى وهارون وفرعون ليدل على أنه سبحانه شاهد لهما عليه, كما آثر النظم اصطفاء كلمة (مستمعون) التي هي أشد مبالغة من (سامعون) لكون أصل الاستماع: تكلف السماع والتكلف كناية عن الاعتناء، فكأنه أراد بمعية العلم هنا معية علم خاص بما يجرى بينهما وبين فرعون وملئه وهو العلم الذي توافقه العناية واللطف, بل والبشارة بعلو أمرهما واتباع القوم لهما.

فالنظم الكريم على هذا كناية عن عدم إهمال تأييدهما وعن كف فرعون عن أذاهما وهو مع هذا تعليل لنفي الخوف, ومزيد تسلية لهما بضمان كمال الحفظ والنصرة كقوله تعالى: (إنني معكما أسمع وأرى.. طه/46), ولا يبعد أن يكون قوله: (إنا معكم مستمعون) "من مجاز الكلام يريد: أنا لكما ولعدوكما, كالناصر الظهير لكما عليه إذا حضر واستمع ما يجرى بينكما وبينه, فأظهركما وغلّبكما وكسر شوكته عنكما ونكسه", وإنما لم يوصف سبحانه على هذا الوجه بالمستمع على الحقيقة, لأن الاستماع جار مجرى الإصغاء والله منزه عنه، كما أن الاستماع من السمع بمنزلة النظر من الرؤية كما في قوله تعالى: (قل أوُحى إلىّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجبا.. الجن/1), ويقال: استمع إلى حديثه وسمع حديثه: أي أصغى إليه وأدركه بحاسة السمع ويرى البعض أن جملة (إنا معكم مستمعون) استعارة تمثيلية, مثل سبحانه حاله عز وجل بحال ذي الشوكة قد حضر مجادلة قوم يستمع ما يجرى بينهما ليمد أولياءه ويظهرهم على أعدائهم مبالغة في الوعد بالإعانة, ولا تجوّز على هذا الوجه في شئ من مفرداته ولا يكون (مستمعون) مطلقا عليه تعالى فلا يحتاج إلى جعله بمعنى سامعين, وجوز آخرون أن يكون (إنا معكم) فقط تمثيلاً لحاله عز وجل في نصره وإمداده بحال من ذكر, ويكون الاستماع مجازاً عن السمع، وهو بحسب ظاهره لكونه لم يطلق عليه سبحانه كالسمع, والقرينة استحالة حضوره – تعالى شأنه – في مكان.

وأبعد النجعة من حمل المعية والاستماع على حقيقتهما وجعل المراد بهما الملائكة، إذ لا بد في الكلام على هذا التقدير من إرادة الإعانة والنصرة وإلا فمجرد معية الملائكة عليهم السلام واستماعهم لا يطيّب قلب موسى عليه السلام.

وأيا ما كان فالظرف في موضع الخبر لـ (إنّ)، و(مستمعون) خبر ثان, أو الخبر (مستمعون) والظرف متعلق به, أو متعلق بمحذوف وقع موقع الحال من ضميره وتقديمه للاهتمام أو للفاصلة أو للاختصاص بناء على أن يراد بالمعية الاستماع في حقه سبحانه.

وتأتى اللقطة الثانية لذلك المشهد الذي يصور طرفاً آخر من قصة الصراع التي عايشها موسى عليه السلام مع اللعين فرعون متمثلة هذه المرة في قوله تعالى في نفس السورة: (فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون. قال كلا إن معي ربى سيهدين.. الشعراء/61, 62) ومشتملة أيضاً على (كلا) المفاد منها نزع الخوف من صدر موسى وأصحابه, وطمأنته عليه السلام بإحلال معيته سبحانه الخاصة ورعايته المنوطة بأوليائه ونصراء دعوته على النحو السابق.. بله أن تلك المعية لازَمته فيما سبق في مقام المحاورة مع فرعون والمجادلة بالتي هي أحسن والمجاذبة لأطراف الحديث أملاً في هدايته وطمعاً في إسلامه, بينا لازمته هذه المرة إبان مواجهته ومجابهته بعد أن أدى عليه السلام رسالته وأقام من خلال الآيات التي أجراها الله على يديه حجته، فكانت النهاية التي أجملها القرآن في قوله: (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فسأل بنى إسرائيل إذ جاءهم فقال لهم فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا. قال قد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا. فأراد أن يستفزه من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعاً.. الإسراء/101- 103)

والآيات هنا تحكي ما حاصله أن موسى عليه السلام لما طال به المقام ببلاد مصر وأقام بها حجج الله وبراهينه على فرعون وملإه دون جدوى، دعا عليهم بقوله: (ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا أطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.. يونس/88) وأجاب الله دعاءه فأمره أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً من مصر وأن يمضى بهم حيث يؤمر دون إذن من فرعون, الأمر الذي أثار حفيظته، وكان هذا الفرعون الجبار العنيد قد تسلط عليهم يستعملهم في أخسّ الأعمال ويكدهم ليلاً ونهاراً في أشغاله وأشغال رعيته، ويقتل مع ذلك أبناءهم ويستحي نساءهم إهانة لهم واحتقاراً, وخوفاً من أن يوجد منهم الغلام الذي كان قد تخوف هو وأهل مملكته منه فيكون هلاكه وذهاب دولته على يديه.

وقد كان. فقد أغرقهم الله في اليم الذي فرقه الله لموسى فجاوزه هو ومن معه من بنى إسرائيل وأقر أعينهم وهم ينظرون إلى فرعون وجنده وقد أغرقوا في صبيحة يوم واحد, وأورثهم بعد ذلك ديارهم وأموالهم وملكهم بعد أن أخرجهم الله منها, كما قال: (فأخرجناهم من جنات وعيون. وكنوز ومقاماً كريم. كذلك وأورثناها بنى إسرائيل. فأتبعوهم مشرقين. فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون. قال كلا إن معي ربى سيهدين. وأوحينا إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم. وأزلفنا ثم الآخرين. وأنجينا موسى ومن معه أجمعين. ثم أغرقنا الآخرين. إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين.. الشعراء/57-67). فورود (كلا) – على ما هو متضح من جو السورة – إنما جاء على لسان موسى لأصحابه إرشاداً إلى أن تدبير الله عز وجل يغنى عن تدبيره, ونفياً بشدة لما تأكد على ألسنتهم من قولهم: (إنا لمدركون) كذا بـ (إنّ) واللام وإسمية الجملة, وبثاً للطمأنينة في نفوسهم ثقة بموعود الله وتأييده ونصره.. يدل عليه إسناد المعية إلى الرب في (إن معي ربي) ذلك الإسناد المشعر بمصاحبة لطف الله به وعنايته بتقدير أسباب نجاته من عدوه, فقد أمر الله موسى أن يضرب البحر (فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) فمرت بطرقه أسباط بني إسرائيل, والنكتة في حذف الفعل (فضرب) المقدر الإشارة إلى سرعة امتثاله عليه السلام, ووجه اقتصارها على نفسه أن طريق نجاتهم بعد أن أدركهم فرعون وجنده لا يحصل إلا بفعل يقطع دابر العدو، وهذا الفعل خارق للعادة فلا يقع إلا على يد رسول, وهذا وجه اختلاف المعية بين ما في هذه الآية وبين ما في قوله تعالى في قصة الغار: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا.. التوبة/40)، لأن تلك معية حفظهما كليهما بصرف أعين الأعداء عنهما.

وإنما قدم الظرف في آية الشعراء لأجل الاهتمام بأمر المعية التي هي مدار النجاة المطلوبة. وقيل للحصر, وقيل لأن المخاطب فيها بنو إسرائيل وهم أغبياء لا يعرفون الله عز وجل إلا بعد النظر والسماع من موسى عليه السلام, بينما المخاطب في آية التوبة هو الصديق وهو ممن يرى الله قبل كل شئ، وأيضاً لاختلاف المقام، نظم نبينا صلى الله عليه وسلم صاحبه معه في المعية ولم يقدم له ردعاً ولا نفياً بل خاطبه على نحو مخاطبة الله تعالى له صلى الله عليه وسلم عند تسليته بما صورته النهى عن الحزن, ولم يكن كلام موسى عليه السلام ومخاطبته لقومه على هذا النحو وسبحان من هذا كلامه.


كلا في مقام التنبيه على الخطأ

نوه لهذا الغرض الزجاج فذكر فيما نقله عنه ابن يعيش – في المفصل 9 /16 – بأن "(كلا) ردع وتنبيه, وذلك قولك لمن قال لك شيئاً تنكره نحو: (فلان يبغضك وشبهه) أي ارتدع عن هذا وتنبه عن الخطأ فيه" ، ثم ذكر من شواهد القرآن في ذلك قوله تعالى في سورة الفجر: (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربى أكرمن. وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربى أهانن. كلا.. الفجر/15-17), وقال معلقاً ومبيناً علة ووجه الدلالة على هذا الغرض: "أي ليس الأمر كذلك لأنه قد يوسع في الدنيا على من لا يكرمه من الكفار وقد يضيق على الأنبياء والصالحين للاستصلاح"، وتلك حقيقة لا يعلم الحكمة من ورائها على وجه الدقة والتفصيل سوى علام الغيوب سبحانه وإن ذكر فيما أعقب ذلك من آيات، بعض الأسباب الظاهرة التي بها تتهيئ النفس البشرية لتقبله.

وتجدر الإشارة إلى أن مناط الردع الحاصل من التعبير بـ (كلا) والمستوجب التنبيه فيه على الخطأ هو قول الإنسان: (ربى أكرمن) عقيب إكرام الله له وإنعامه عليه, وقوله: (ربى أهانن) بعيد ابتلائه بقلة الرزق أو بشظف العيش فهو إذا تُفضِّل عليه بالخير وأكرم به اعترف بتفضيل الله تعالى وإكرامه, وإذا لم يُتفضل عليه سمى ترك التفضيل هوانا وليس به, وما ذلك منه إلا تأول باطل إذ ليس حالة الإنسان في الدنيا دليلاً على منزلته عند الله, وإنما يعرف ذلك بالطرق التي أرشد سبحانه إليها من نحو قوله تعالى: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا.. الكهف/103-105)

فرب رجل في نعمة في الدنيا هو مسخوط عليه, ورب أشعث أغبر مطرود بالأبواب لو أقسم على الله لأبره, وبذا يظهر أن مناط الردع المدلول عليه بـ (كلا) والمراد له التصويب والتنبيه هو جعل الإنعام علامة على إرادة الله إكرام المنعَم عليه وجعل التقتير علامة على إرادة الإهانة وإلا لو شاء إهانة الكافر في الدنيا لأجل الكفر, لأهان جميع الكفرة بتقتير الرزق عليهم.

ويفاد من ذلك أن لا تنافى بين إثبات إكرام الله الإنسان بقوله (فأكرمه) وبين إبطال ذلك بقوله: (كلا) لأن الإبطال وارد على ما قصده الإنسان بقوله (ربي أكرمن)، والوجه في عدم تعرض القرآن لتبيين ذلك ومجيئه هكذا على نحو مجمل.. الاكتفاء بتذييل أحوال الأمم الثلاث عاد وثمود وفرعون في نعمتهم بقوله: (إن ربك لبالمرصاد) بعد قوله: (فصب عليهم ربك سوط عذاب).

وإنما صدر قوله بعد (بل لا تكرمون اليتيم. ولا تحاضّون على طعام المسكين. وتأكلون التراث أكلاً لما. وتحبون المال حباً جما.. الفجر/17-20) بحرف (بل) للإضراب الانتقالي وللترقي من ذم الإنسان بالقبيح من القول إلى الأقبح من الفعل، وللتنبيه على ظنهم بأنهم وإن أكرمهم الله فإنهم لم يكرموا عبيده شحاً بالنعمة، إذ يحرمون أهل الحاجة من فضول أموالهم ويستزيدون من المال ما لا يحتاجون، وجاء ذلك في صورة ما يعرف بلاغة بالاحتباك، لأنه لما نفى إكرامهم اليتيم وقابله بنفي حضهم على طعام المسكين المستلزم لنفى إطعامهم, علم أنهم لا يحضون أولياء الأيتام على إكرام أيتامهم.

والنكتة في مجئ الالتفات إلى الخطاب بعد الغيبة تشديد التقريع وتأكيد التشنيع والقصد إلى مواجهتهم بشحهم على المال فضحاً لدخائلهم على نحو ما جاء في قوله تعالى: (يقول أهلكت مالاً لبدا. أيحسب أن لم يره أحد.. البلد/6-7)

ولا يخفى ما أضفته استعارة أكل التراث للانتفاع بالشيء انتفاعاً لا يبقى منه شيئا, وكذا استعارة الجمّ الموصوف به حب المال، والمعروف في لغة العرب بالكثرة, لمعنى القوى الشديد.. على هذه المعاني التي أفادها الالتفات, وما أحدثته من أثر بالغ حتى يرعوي عن الوقوع فيما يشبه معاندة قضاء الله وقدره من كان له قلب، ويتنبه لخطورة ذلك ويصحح من سلوكه فيرضى - من ثم- بما يُرضي ربه.

ومن شواهد القرآن في التنبيه على الخطأ والقصد إلى تصحيحه وتصويبه من خلال حرف الردع والزجر ما جاء في قوله سبحانه: (بل تحبون العاجلة. وتذرون الأخرة. وجوه يومئذٍ ناضرة. إلى ربها ناظرة. ووجوه يومئذٍ باسرة. تظن أن يفعل بها فاقرة. كلا إذا بلغت التراقي. وقيل من راقٍ. وظن أنه الفراق. والتفت الساق بالساق. إلى ربك يومئذٍ المساق.. القيامة/20-30) فقد جاءت (كلا) في سياق هذا النظم الكريم ردعاُ لأولئك الذين أشربت قلوبهم بحب الدنيا وإيثار العاجلة على الآخرة كأنه قيل: ارتدعوا يا قوم وتنبهوا إلى ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة وتنتقلون إلى الآجلة, فيكون الحرف بمثابة التحذير والتنبيه على حتمية ترك محبة العاجلة وعلى العناية بما هو أبقى.. وليس الردع في قوله: (كلا بل تحبون العاجلة) للتأكيد على سؤال الإنسان (أيان يوم القيامة؟)، أعنى على إحالة البعث باعتباره واقعاً مشاهداً عند الاحتضار، إذ يَرد على هذا الأخير ما سبق أن ذكرته من الربط بين الردع الأول وقوله: (لا تحرك به لسانك لتعجل به) وصدوره – على القول بالربط بين العجلة في الآيتين – ممن لا ينكر البعث.

فالردع في هذا السياق – ابتناء على ما سبق – ردع على ما تضمنه النظم الكريم من إيثار العاجلة على الآخرة للتنبيه إلى ما تنقطع عنده ما بين المخاطبين به وبين العاجلة من العلاقة من مشاهد الاحتضار وبلوغ النفس لأعالي الصدور قبيل خروج الروح وعدم وجود من يدفع كل ذلك أو ينجي صاحبه منه، والاستعداد – من ثم – لهذه اللحظات بتحصيل الأعمال المقربة إلى الله.. وفى تقديم (إلى ربك) على متعلقه وهو (المساق) اهتمام به لكونه محل الإنكار منهم.

وسلك في الجمل التي أعقبت حرف الردع بعد (إذا) مسلك الإطناب لتهويل حالة الاحتضار على الكافر, وفى ذلك إيماء إلى أن الكافر يتراءى له مصيره في حال احتضاره وقد دل عليه حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)، قالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا نكره الموت, قال: ليس ذاك لكن المؤمن إذا حضره الموت بُشر برضوان الله وكرامته فليس أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حُضر بُشر بعذاب الله وعقوبته فليس شئ أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه .

وفي معنى ما سبق من تصويب ما يظن أنه الصواب والتنويه على الخطأ فيما يعتقد أنه الحق، والتنبيه على من تخفى عليه حقيقة الأمر فيه، ما ذكره الطاهر في تفسير قوله سبحانه (ألا يظن أُولئك أنهم مبعوثون. ليوم عظيم. يوم يقوم الناس لرب العالمين. كلا إن كتاب الفجار لفي سجين.. المطففين /4-7) حيث أفاد ذلك قائلاً: "( كلا) إبطال وردع لما تضمنته جملة (ألا يظن أُولئك أنهم لمبعوثون) من التعجب من فعلهم التطفيف، والمعنى: كلا بل هم مبعوثون لذلك اليوم العظيم ولتلقى قضاء رب العالمين فهو جواب مما تَقّدم".


كلا في مقام الاستبعاد وقطع الأمل والرجاء

ويبدو ذلك واضحاً في كثير من الآيات التي تأتي في سياقاتها (كلا) منبئة عنه، من نحو قوله سبحانه: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون. لعلى أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون.. المؤمنون/ 100،99)، وقوله: (يوم تكون السماء كالمهل. وتكون الجبال كالعهن. ولا يسأل حميم حميماً. يبصرونهم يود المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذ ببنيه. وصاحبته وأخيه. وفصيلته التي تؤيه. ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه. كلا إنها لظى.. المعارج/8-15)، وقوله: (ذرني ومن خلقت وحيداً. وجعلت له مالاً ممدوداً. وبنين شهوداً. ومهدت له تمهيداً. ثم يطمع أن أزيد. كلا إنه كان لآياتنا عنيداً.. المدثر/11-16).

فمن الواضح أن (حتى) في آيات سورة (المؤمنون) متصلة بقوله قبل: (وإنا على أن نريك ما نعدهم به لقادرون.. المؤمنون /95) فتكون وما بعدها وصفاً لعذابهم في الآخرة، وهذا يرجح أن يكون ما سبق ذكره في السورة من العذاب من نحو قوله: (حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون.. المؤمنون / 77)، عذاباً في الدنيا، ويصح صرفه على عذاب الآخرة فيكون إجمالاً وما في قوله: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون) إلخ تفصيل له.

وضمير الجمع في قول هذا الغافل (رب ارجعون) تعظيم للمخاطب سبحانه وهي طريقة معروفة لدى العرب، وما أعقبه من جملة الترجي (لعلي أعمل صلحاً فيما تركت) في موضع العلة لمضمون (ارجعون) والترك فيها مستعمل في حقيقته وهي معنى التخلية والمفارقة، ويجوز أن يراد به معناه المجازي، وهو الإعراض والرفض فيكون معناه: لعلي أُسلم وأعمل صالحاً في حالة إسلامي الذي كنت أتأبى عليه وأرفضه، ويكون حينئذ مشتملاً على وعد بالامتثال وعلى اعتراف بالخطأ فيما سلف. ورُكب بهذا، النظم الموجز قضاء لحق البلاغة، و(كلا) على أيٍّ من الحالين ردع للسامع ليعلم أن ما تطلع إليه الكافر من طلب الرجع مستبعد تماماً بعد أن فات أوانه وقضى الله فيه بأمر، فهو من كلامه سبحانه.

وأبعد من زعم أنها من قول من عاين الموت وأنه يقول ذلك لنفسه على سبيل التحسر والتحزن، ويؤيد ذلك ما ورد في السياق من قوله: (إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) كذا بالإخبار عما غاب عن بني البشر، ولا عجب من وصف الكلمة في النظم الكريم بقوله: (هو قائلها) مع كون ذلك معلوماً، لأن الخبر مستعمل في معنى: أنه لا وصف لكلمته غير كونها صدرت من فِيِّ صاحبها، وبذا يعلم أن التأكيد بحرف (إنّ) لتحقيق المعنى الذي استعمل فيه الوصف، فهو في معنى: هو قائلها لا محالة، لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة وتسلط الندم عليه، فتقديم المسند إليه لتقوية الحكم، وعلى معنى هو قائلها وحده لا يبعد أن تكون للاختصاص، وفيه ما يدل على مزيد الاستبعاد لكونه في معنى أنه لا يجاب إليها ولا تسمع منه، بتنزيل الإجابة والاعتداد منزلة قولها، حتى كأن المعتد بها شريك لقائلها، ومثل هذا متداول فيقول من كلمه صاحبه بما لا جدوى تحته: (اشتغل أنت وحدك بهذه الكلمة وكلم بها نفسك)، يعنى أنها مما لا تُسمع منك ولا تستحق الجواب.

ومن المعلوم بداهة والمعروف بلاغة والمألوف استعمالاً استخدام الكلمة ليراد بها الكلام كقوله تعالى: (ولقد قالوا كلمة الكفر.. التوبة/74)، وهي ليست كلمة وإنما هي كلام، ونظير ذلك ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: (ألا كل شئ ما خلا الله باطل).

وقريب مما سبق من مجئ (كلا) في الاستبعاد وقطع الأمل والرجاء، ما ورد في سياق حديث المجرم الذي يتمنى يوم القيامة (لو يفتدي من عذاب يومئذٍ ببنيه. وصاحبته وأخيه. وفصيلته التي تؤويه. ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه)، فقد جاء القول الكريم (كلا) لإبطال ما يخامر نفوس المجرمين من الودادة، والأصل فيه أن يكون رداً لكلام سابق لكنه هنا نزّل ما هو مضمر في نفوسهم منزلة الكلام، لأن الله مطلع عليه وعالم به، ولا يبعد أن يكون حرف الردع في هذا السياق لإبطال ما يتفوه به من تمنى ذلك على وجه الحقيقة كما جاء في قوله سبحانه: (ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً.. النبأ/40)، يقوي ويعضد من شأن ذلك الأخير أنه سبحانه عبر عن صريح ما جاء في آية النساء بقوله تعالى: (يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض.. النساء/42)

أي يصيرون من ترابها، ولكن هيهات أن يكون لهم ذلك أو شئ منه، فلقد عاين كل منهم (لظى) التي أعدت له تدعوه وتتعقبه على الرغم من إدباره عنها وتوليه منها، وبلغ الأمر إلى حيث يتمنى كل مجرم أن يفتدي بأقرب الناس إليه، وأعلقهم بقلبه بعد أن يبصر بعضهم ببعض فيقال لأحدهم: انظر ماذا يقاسي قريبك فلان؟ فما يمنعهم من سؤال الشفاعة أو النصرة أو المنفعة إلا اشتغال كلٍّ بحال نفسه نسأل الله العفو والمعافاة في الدين والدنيا والآخرة.

وفي قوله عز من قائل في حق الوليد بن المغيرة المخزومي: ( كلا إنه كان لآياتنا عنيداً) على إثر طلبه المزيد وطمعه في الاستزاده فيما ابتلاه الله به – على كفره وعناده كما جاء في قوله سبحانه: (وجعلت له مالا ممدودا. وبنين شهودا. ومهدت له تمهيدا. ثم يطمع أن أزيد)– ردع وإبطال لطمعه في الزيادة وقطع كذلك لرجائه، وقد كان الوليد يلقب في قريش بالوحيد لتوحده وتفرده باجتماع مزايا له لم تجتمع لغيره وهو كثرة الولد وسعة المال ومجده ومجد أبيه من قبله، وكان مرجع قريش في أمورهم لأنه كان أسن من أبى جهل وأبى سفيان، فلما عرف بلقب الوحيد كان هذا الكلام إيماءً إليه لاشتهاره به، وجاء النعت بذلك بعد فعل (خلقت)، ليصرف هذا الوصف عما كان مرادا به فينصرف إلى ما يصلح لأن ينكشف به حقيقة أمره، وليكون المعنى على التهديد والوعيد (ذرني ومن أوجدته وحيداً من المال والبنين والبسطة)، فيُغير حينئذ عن غرض المدح والثناء الذي كانوا يخصونه به إلى غرض الافتقار إلى الله الذي هو حال كل مخلوق، بل وإلى غرض الذم بجعله وحيداً في الخبث والشرارة أو وحيداً عن أبيه لأنه كان دعيا لم يعرف نسبه للمغيرة حقيقة كما ألمحت إليه الآية الكريمة: (عتل بعد ذلك زنيم.. القلم/13)

ويروى عن ابن عباس في ثرائه أن ماله من الإبل والغنم والجواري والخيام بلغ بين ما بين مكة والطائف وأن كل هذا المال كان يبلغ ألف دينار أو يزيد وأن بستاناً له بالطائف كان لا ينقطع ثماره صيفا وشتاءً، كما امتن الله عليه بنعمة البنين الذين وصفهم القرآن بأنهم شهود، لأنهم لم يكونوا يفارقونه فهو مستأنس بهم لا يشغل باله بمغيبهم وكانوا يشهدون معه المحافل فكانوا فخراً، وقد قيل أنهم كانوا عشرة بنين وقيل ثلاثة عشر أبناء منهم ثلاثة أسلموا وهم خالد بن الوليد والوليد وهشام، فلما طمع –على ما عليه من كفر وعناد– في طلب المزيد كان الجواب: (كلاّ)، ردعا له واستبعاداً واستنكاراً لطمعه وحرصه، لمنافاة ما كان يطمع فيه مع كفران النعم ومعاندة المنعم والمقصود إبلاغ هذا إليه مع تطمين النبي صلى الله عليه وسلم بأن الوليد سينقطع عنه مدد الرزق لئلا تكون نعمته فتنة لغيره من المعاندين، فيغريهم حاله بأن عنادهم لا يضرهم لأنهم لا يحيون بعد هذه، كما حكى الله من قول موسى عليه السلام (ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.. يونس/ 88).

وفي هذا الردع إيذان بأن كفران النعمة سبب لقطعها كما قال تعالى: (لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد.. إبراهيم/7)، وجاء قوله بعد (إنه كان لآياتنا عنيداً) كالتعليل لما قبله فكأنه قيل: لم زجر عن طلب المزيد وما وجه عدم لياقته؟ فقيل: لأنه كان معانداً لآيات المنعم التي هي دلائل توحيده أو آيات كتابه حيث قال فيها ما قال، والمعاندة تناسب الإزالة وتمنع من الزيادة وهو ما حدث بالفعل، قال مقاتل: ما زال الوليد بعد زوال هذه الآية في نقص من ماله وولده حتى هلك.


كلا في مقام الإقسام على ما يتوهم الشك فيه

ومجيئ كلا لهذا الغرض عرض له أيضا كثير من أهل اللغة لظهوره في نحو قوله تعالى: (كلا والقمر) قال في الصاحبي: "وربما كانت – يعني كلا مع إفادتها لمعنى الردع والزجر – صلة ليمين كقوله جل ثناؤه" وذكر الآية ثم علق عليها بقوله: "وهي وإن كانت صلة ليمين، راجعة إلى ما ذكرناه قال الله جل ثناؤه (كلا لا تطعه) فهي ردع عن طاعة من نهاه عن عبادة الله جل ثناؤه ونكتة بابها النفي والنهي". انتهى من كلام ابن فارس ومؤدي ما قاله أن دلالة (كلا) على الردع لا يمنع جعلها للقسم، وفيما قاله نظر لما سبق أن ذكرنا من أن كلا في قوله تعالى: (كلا والقمر) لا تعلق لها بما قبلها، وهذا يمنع أن تكون للردع، ويقال أن معنى (كلا والقمر) ألا والقمر كذا كان أبو زكريا الفراء يقوله.

وفي إشارة لافتة إلى ما أوضحت قال الرضي في شرحه على الكافية: "وقد تكون كلا بمعنى حقا كقوله تعالى (كلا والقمر) و(وكلا إن الإنسان ليطغى) فيجوز أن يجاب بجواب القسم كما في الآية – يعني بها آية المدثر – وأن لا يجاب كقوله تعالى: (كلا بل تحبون العاجلة) و (كلا إذا بلغت التراقي) وليست للردع إذ لا معنى لها إلا بالنظر إلى ما قبلها".

ويلاحظ هنا ما انتاب كلام الرضي من خلط بين ما كانت دلالة (كلا) فيه على القسم لوجود الواو المشعرة به، وما كانت دلالتها فيه بمعنى (حقا)، وما يتعين حمله على معنى الاستفتاح، كما أن قوله: قد لا يجاب عنها بجواب قسم كقوله: (كلا بل تحبون العاجلة)، فيه نظر.

وقد تابع الرضي فيما ذكره، الإربلي حيث ذكر في جواهر الأدب أنها "تأتي بمعنى حقاً كقوله تعالى: (كلا والقمر)، (كلا إن الإنسان ليطغى)، ويجوز أن تجاب بجواب القسم كهذه الآية وألا تجاب كقوله تعالى: (كلا بل تحبون العاجلة)، (كلا إذا بلغت التراقي)" ويرد على كلامه ما يرد على كلام الرضي.

والذي يفهم من نص كلامي الإربلي والرضي أن (كلاّ) في آية العلق وآيتي القيامة للقسم غير أنه لا جواب لها، بينا هذه الآيات الكريمة – على ضوء ما سبق ذكره – لا تفيد القسم من قريب ولا بعيد حتى نبحث عما إن كان لها جواب أم لا، كما أن وجود (بل) في بعضها – لكونها للإضراب – يمنع من ذلك.

وقول صاحب الصحاح إنها "قد تكون بمعنى حقا كقوله تعالى (كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية)" نص على أن مجئ (كلاّ) بمعنى حقاً لا ينافي إفادتها للقسم المدلول عليه باللام الموطئة للقسم، وهو ما صرح به في قوله: "وقد تحمل المعنيين كما في قوله: (ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا)" وهو في معنى ما ذكر في الجواهر وشرح الكافية، وهذا وإن تعلق المعنى فيه – على الاحتمالين – بما بعد الأداة (كلا)، خلافاً لمن قال بإمكانية الجمع بين القسم والردع، إلا أن المرجح في تقديري أن يتعين حمل المعنى على القسم في حال وجود ما يدل عليه كما هو الحال في آية العلق حيث اللام الموطئة.

ثم إن قول الرضي عن الآيات التي استشهد بها بأنها جميعا بمعنى حقاً وليست للردع وتعليله ذلك بأنه "لا معنى له إلا بالنظر إلى ما قبلها".. أيضا فيه نظر، إذ دلالة (كلا) على أن تكون بمعنى حقاً كما سنرى لا يمنع من إفادتها لمعنى الردع والزجر، وإنما يتأتى ذلك بحمل السياق الذي ورد فيه الأداة على أكثر من معنى، فما تعلق من ذلك بما سبق ساغ جعله للردع وما تعلق منه بما بعدها ساغ جعله بمعنى حقاً.

وإنما تظهر ثمرة الخلاف في عدم تنافي إفادة (كلاّ) التي هي للردع للدلالة على معنى حقاً، في الوقوف على (كلا) والابتداء بها لأنها إن كانت بمعنى (حقا) لا يوقف عليها بل يبتدأ بها لكونها من تمام ما بعدها، والعكس من ذلك عند دلالتها على معنى الردع.

والحق أن ذلك متروك لنظم الآيات وسياقاتها وأنه قد يستساغ في الموضع الواحد جعلها للمعنيين بل هذا هو السائد عند علماء الوقوف، وعليه فهي إن استسيغ جعلها "بمعنى حقا لم يجز الوقف عليها لأنها من تمام ما بعدها ويجوز ذلك إذا كانت للردع لأنها ليست من تمام ما بعدها" على ما ذكره الرضي وناقض فيه نفسه.

وفي إفادة كلا في قوله تعالى ( كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر. كلا والقمر. والليل إذ أدبر. والصبح إذا أسفر. إنها لإحدى الكبر. نذيرا للبشر. لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر.. المدثر31/37) للردع والنفي مع دلالته على القسم يقول ابن عاشور: "(كلا) حرف ردع وإبطال والغالب أن يقع بعد كلام من متكلم واحد أومن متكلم وسامع مثل قوله تعالى: (قال أصحاب موسى إنا لمدركون. قال كلا إن رب سيهدين.. الشعراء/61, 62)

فيفيد الردع عما تضمنه الكلام المحكي قبله.. ويجوز تقديمه على الكلام إذا أريد التعجيل بالردع والتشويق إلى سماع ما بعده، وهو هنا محتمل لأن يكون إبطالاً لما قبله من قولهم: (ماذا أراد الله بهذا مثلاً.. المدثر/31) فيكون ما بينهما اعتراضاً، ويكون قوله: (والقمر) ابتداء كلام فيحسن الوقف على (كلا)، ويحتمل أن يكون حرف إبطال مقدما على الكلام الذي بعده من قوله: (إنها لإحدى الكبر. نذيرا للبشر) تقديم اهتمام لإبطال ما يجيء بعده من مضمون قوله (نذيراً للبشر) أي من حقهم أن ينتذروا بها، فيحسن أن توصل في القراءة بما بعدها" وهذا وجه دلالة كلا في الآية على الردع.

أما وجه دلالتها على القسم فيأتي من جهة أن "الواو المفتتح بها هذه الجملة – جملة ( كلا والقمر ) – واو القسم، وهذا القسم يجوز أن يكون تذييلاً لما قبله مؤكداً لما أفادته (كلا) من الإنكار والإبطال لمقالتهم في شأن عدة خزنة النار، فتكون جملة (إنها لإحدى الكبر) تعليلاً للإنكار الذي أفادته ( كلا) ويكون ضمير (إنها ) عائداً إلى ( سقر) أي هي جديرة بأن يتذكر بها فلذلك كان من لم يتذكر بها حقيقياً بالإنكار عليه وردعه، وجملة القسم على هذا الوجه معترضة بين الجملة وتعليلها أو يحتمل أن يكون القسم صدراً للكلام الذي بعده، وجملة (إنها لإحدى الكبر) جواب القسم، والضمير راجع إلى (سقر) أي إن سقر لأعظم الأهوال، فلا تجري في مُعاد ضمير(إنها) جميع الاحتمالات التي جرت في ضمير (وما هي إلا ذكرى)، وكان الزمخشري قد أجاز ذلك فأساغ عودهما إلى سقر وإلى البلايا أو الدواهي أو الآيات، ومعنى كونها إحداهن – برأيه – أنها من بينهن واحدة في العظم لا نظيرة لها كما تقول هو أحد الرجال وهي إحدى النساء كما أساغ عود الضمير للذكرى، كونهم ممن لا يتذكرون فقد أنذروا فلم ينتذر أكثرهم فهي على نحو قوله (وأنى لهم الذكرى).

وقد أضيف إلى التأكيد بـ (إن) تأكيد بالأيمان فأقسم سبحانه بالقمر والليل والصبح لزيادة التأكيد فإن التأكيد اللفظي إذا أكد بالتكرار يكرر ثلاث مرات غالباً، أقسم في أولها بمخلوق عظيم ثم جاء الإقسام في تالييه بحالين عظيمين من آثار قدرة الله تعالى، ونكتة القسم بالقمر والليل إذ أدبر والصبح إذا أسفر، أن هذه الثلاثة تظهر بها أنوار من خلال الظلام فناسبت حالي الهدى والضلال في قوله: (كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء)، ففي هذا القسم إذاً تلويح إلى تمثيل حال الفريقين من الناس عند نزول القرآن بحال اختراق النور في الظلمة"انتهى من التحرير بتصريف يسير وهو كلام جيد حري بأن يؤخذ في الاعتبار وقد قاله الطبري وجماعة من أهل التأويل وهو يتضمن ردا على ما ذكره ابن هشام ومن لف لفه فقد صرح بأنه "يمتنع كونها – أي كلا – للزجر في نحو قوله (وما هي إلا ذكرى للبشر كلا والقمر)"، وحجته في ذلك أن "ليس فيها ما يصلح رده"، وأن ما قيل من "أنه نزل في عدد خزنة جهنم (عليها تسعة عشر).. فنزل قوله: (كلا) زجراً له قول متعسف"، والحق أن القول في ذلك ما قاله صاحب المغني، لما سيأتي من كون البدء بها هو المختار والله تعالى أعلم بمراده.

ومما كان المقام فيه مقام إقسام على ما أفاده السياق، ما جاء في قوله سبحانه: (أرأيت الذي ينهى. عبدا إذا صلى. أرأيت عن كان على الهدى. أو أمر بالتقوى. أرأيت إن كذب وتولى. ألم يعلم بأن الله يرى. كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية.. العلق/9-15)، وكان أبو جهل قد قال فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: هل يعفر محمد وجهه (أي يسجد في الصلاة) بين أظهركم؟ فقيل: نعم فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته فأتى رسول الله وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيده، فقيل له: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو دنا لاختطفته الملائكة عضوا عضوا)، قال: فأنزل الله. أي الآيات التي أعقب سبحانه الردع فيها بالوعيد الشديد على فعله إذا لم يرتدع وينته عنه.

وقد تأكد هذا الوعيد باللام الموطئة للقسم وبنون التوكيد الخفيفة في (لنسفعاً) التي يكثر دخولها في القسم المثبت، وهي إنما كتبت في المصحف ألفا رعيا للنطق لها في الوقف لأن أواخر الكلم أكثر ما ترسم على مراعاة النطق في الوقف، والجملة جواب للقسم في (لئن لم ينته) أما جواب الشرط للأداة (إن) فمحذوف دل عليه جواب القسم، والسفع: هو القبص الشديد بجذب، والناصية: هي مقدم شعر الرأس، وأداة التعريف فيها للعهد التقريري أي لنأخذنّ بناصية الذي ينهاك يا محمد عن الصلاة.

ويتضح من سياق الآيات الكريمة (ويل لكل همزة لمزة. الذي جمع مالا وعدده. يحسب أن ماله أخلده. كلا لينبذن في الحطمة.. الهمزة/1ـ4) أن حرف الردع جاء فيها بما يفيد الإقسام أيضا والقصد منه إبطال أن يكون المال مخلداً لذاك الذي صار الهمز واللمز ملكة فيه، وإنما استكنه ذلك من الصيغة التي ورد بها (همزة لمزة)، فهما – كما هو بين – وصفان لمحذوف تقديره ومعناه: (ويل لكل شخص همزة لمزة)، فمن حذف موصوفه يعلم أن الوصف قائم مقامه ومن ثم أضيف إليه (كل)، وهذان الوصفان هما من ألزم صفات أهل الشرك، وأتبعا بـ (الذي جمع مالا وعدده) لزيادة تشنيع صفتيه الذميمتين بصفة الحرص على المال، وهذا إنما ينشأ عن بخل النفس والتخوف من الفقر، والوجه فيه إدخال أولئك الذين عرفوا بهذه الصفة كما عرفوا بهمز المسلمين ولمزهم لتعيينهم في هذا الوعيد.

والسر في عدم العطف بالواو في قوله (الذي جمع مالاً وعدده.. الهمزة/ 2) ومجيئه في صورة النعت، أن ذكر الأوصاف المتعددة للموصوف الواحد يسوغ أن يأتي بدون عطف كما جاء في قوله تعالى (ولا تطع كل حلاف مهين. همازٍ مشاءٍ بنميم. مناع للخير معتدٍ أثيمٍ. عتل بعد ذلك زنيم.. القلم/10-13)، فعلى القول بأن جملة (يحسب أن ماله أخلده) في موقع الحال يكون قد استعملت للتهكم على الموصوف بالهمز والحرص، لأنه لا يوجد من يحسب أن ماله أخلده فيكون الكلام على سبيل التمثيل أو التشبيه البليغ الذي يشبه فيه حالهم بحال من يحسب أن المال يقيهم الموت ويجعلهم خالدين.. وعلى القول باستئنافها يكون خبراً مراداً به الإنكار أو على تقدير همزة استفهام محذوفة بقصد التقريع أو التعجب.

ومهما يكن من أمر فمجيء (أخلده) كذا بصيغة الماضي هو إمعان وتأكيد وزيادة في التهكم به وتصويره في صورة الموقن بأن ماله سيخلده لا محالة حتى لكأنه قد حصل له ذلك بالفعل وثبت، وهذا أقصى ما يتمناه ذلك الغافل، لانعدام إيمانه بحياة أخرى خالدة، ومن هنا يجئ القول الحكيم: (كلا لينبذن في الحطمة)، مُصدراً بحرف الردع والتأكيد المتعدد كالصدمة له لإبطال ما حسبه ولزجره عن التلبس بالحالة الشنيعة التي جعلته في حال من يطمئن ويوقن أن المال يخلد صاحبه، أو لإبطال حرصه في جمع المال جمعاً يمنع به حقوق الله فيه، وفي ذلك من الوعيد ما لا يخفى.

يتبع إن شاء الله...


كَلاَّ دلالتها ومواقعها في القرآن الكريم 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52683
العمر : 72

كَلاَّ دلالتها ومواقعها في القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: رد: كَلاَّ دلالتها ومواقعها في القرآن الكريم   كَلاَّ دلالتها ومواقعها في القرآن الكريم Emptyالإثنين 19 ديسمبر 2011, 9:01 am

(كلاّ) في مقام التهديد والوعيد

وبتأمل ما جاء في قوله تعالى: (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً. أطلع الغيب أم اتخذ عند الله عهدا. كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مداً. ونرثه ما يقول ويأتينا فرداً. واتخذوا من دون الله آلهةً ليكونوا لهم عزا. كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً. ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا. فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عداً.. مريم /77- 84)، وقوله: (عم يتساءلون.عن النبإ العظيم. الذي هم فيه مختلفون. كلا سيعلمون.. النبأ /1-4)، وقوله: (وتأكلون التراث أكلاً لماً. وتحبون المال حباً جماً. كلا إذا دكت الأرض دكاً دكا.. الفجر/19، 20)، وقوله: (ألهاكم التكاثر. حتى زرتم المقابر. كلا سوف تعلمون. ثم كلا سوف تعلمون.. التكاثر/1-4)..

وبتتبع الطريقة التي انتظمت بها هذه السياقات نلمس نبرة التهديد والوعيد الشديدين، كما نبصر ما ألمع إليه حرفي التنفيس: (السين) و(سوف) من فظاعة ما ينتظره أولئك المتحدث عنهم في جميع هذه الآيات وفيمن في شأنهم نزلت، وما وقع عليهم من إيعاد هو لا محالة حاصل، لكونه سبحانه لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه وإليه يرجع الأمر كله.

فالآيات المذكورة من سورة مريم تشير إلى ما كان من شأن خباب بن الأرت مع العاص بن وائل السهمي وتحكي ما قاله الأخير وما سجله على نفسه من تكذيب بالله وبالبعث واليوم الآخر.. ففي الصحيح أن خباب كان يصنع السيوف في مكة، فعمل للعاص بن وائل سيفا وكان ثمنه دينا على العاص، وكان خباب قد أسلم فجاء يتقاضى دينه من العاص فقال له العاص بن وائل: لا أقضيكه حتى تكفر بمحمد، فقال خباب وقد غضب: لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ويبعثك، فقال العاص أو مبعوث أنا بعد الموت؟ قال: نعم، قال العاص متهكما: إذا كان ذلك فسيكون لي مال وولد وعند ذلك أقضيك دينك، فنزلت الآيات.

فالاستفهام في قوله تعالى (أفرأيت) مستعمل في التعجب من قصة العاص الذي نزلت في حقه هذه الآيات، ولفت الذهن إلى معرفتها أو إلى تذكرها "والإيذان أنها من الغرابة والشناعة بحيث يجب أن ترى ويقضى منها العجب.. والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، أي أنظرت فرأيت الذي كفر بآياتنا الباهرة التي حقها أن يؤمن بها كل من شاهدها" والخطاب فيها لكل من يصلح له الخطاب، ويجوز أن يكون خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم، وعلى القول بأن (أرأيت) بمعنى أخبر تكون الفاء على أصلها، والمعنى: أخبر بقصة هذا الكافر عقب حديث أولئك الذين قالوا: (أي الفريقين خير مقاما وأحسن ندياً)، غير أن الذي يستدعيه جزالة النظم الكريم هو جعل الفاء للعطف على مقدر محذوف، ليكون المعنى: انظر يا محمد إلى هذا الكافر فتعجب من حالته وجراءاته الشنيعة كذا ذكره أبو مسعود.

وعلى أي فجملة (أطلع الغيب) جواب لكلامه على طريقة الأسلوب الحكيم بحمل كلامه على ظاهر عبارته من الوعد بقضاء الدين من المال الذي سيجده حين يبعث، فالاستفهام في قوله: (أطلع الغيب) إنكاري وتعجيبي، و(اطلع) افتعل من طلع للمبالغة في حصول فعل الطلوع وهو الارتقاء.. ومن أجل هذا أطلق الإطلاع على الإشراف على الشيء، لأن الذي يروم الإشراف على مكان محجوب عنه يرتقي إليه من علو فالأصل إن فعل (اطلع) قاصر غير محتاج إلى التعدية، قال تعالى: (قال هل أنتم مطلعون. فاطلع فرآه في سواء الجحيم.. الصافات/55)، فإذا ضُمّن معنى (أشرف) عدى بحرف الاستعلاء، كقوله تعالى: (لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا.. الكهف/18).

قال في الكشاف: "ولاختيار هذه الكلمة شأن، يقول: أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب" أي حتى ادعى أن يؤتى في الآخرة مالا وولدا وأن يقسم عليه؟، ذلك أن في اختيارها رداً لكلمته الشنعاء وإظهاراً لبطلانها إثر ما أشير إليه بالتعجب منها، لأنه لما قال: ( فسيكون لي مال وولد) عني أن ماله وولده راجعان إليه يومئذ، والمعنى على حد قول ابن عاشور: أأشرف على عالم الغيب فرأى مالاً وولدا معدّين له حين يأتي يوم القيامة أو صائرين معه في الآخرة، (أم اتخذ عند الرحمن عهدا) بأنه معطيه ذلك فأيقن بحصوله؟ فإنه لا يتوصل إلى العلم به إلا بأحد هذين الطريقين إما مكاشفة ذلك ومشاهدته وإما إخبار الله بأنه سيعطيه إياه.

والمتعلِّق (عند), ظرف مكان هو استعارة بالكناية، يشبه الوعد بصحيفة مكتوب بها تعاهد وتعاقد بينه وبين الله موضوعة عنده سبحانه، لأن الناس كانوا إذا أرادوا توثيق ما يتعاهدون عليه كتبوه في صحيفة ووضعوها في مكان حصين مشهور كما كتب المشركون صحيفة القطيعة بينهم وبين بني هاشم ووضعوها في جوف الكعبة، وفي تعقيبه بقوله: (سنكتب ما يقول)، إشارة إلى هذا المعنى بطريقة مراعاة النظير، وفي التعرض لعنوان الرحمانية إشعار بعلية الرحمة لإيتاء ما يدعيه، كما أن استحضار مدلوله أجدر في وفائه بما عهد به من النعمة المزعومة لهذا الكافر، وفي اختياره تورك على المشركين الذين قالوا: وما الرحمن؟ والكلام بجملته مجاراة مع اللّعين بحسب منطوق مقاله، أي على طريقة كلامه مع خباب التي كانت كذلك.

وقوله (كلا) ردع له عن التفوه بتلك العظيمة وتنبيه على خطته، والتعبير بحرف التنفيس في قوله: (سنكتب ما يقول) لبيان أن ذلك واقع لا محالة، وهو كقوله تعالى: (كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) والمعنى في الآية الأولى: سنظهر أنا كتبنا، أو سننتقم منه انتقام من كتب جريمة الجاني وحفظها عليه، فإنه نفس الكتبة لا تكاد تتأخر عن القول لقوله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد.. ق/ 18)، ومبنى العبارة على الاحتمال الأول تنزيل إظهار الشيء الخفي منزلة إحداث الأمر المعدوم بجامع أن كلا منهما إخراج من الكون إلى البروز فيكون استعارة تبعية مبنية على تشبيه إظهار الكتابة على رءوس الأشهاد بإحداثها، ومدار الاحتمال الثاني تسمية الشيء باسم سببه فإن كتابة جريمة المجرم سبب لعقوبته قطعاً.

ومعنى (كلا) في الآية الثانية ردع عن اعتقادهم الباطل وإنكار لوقوع ما علَّقوا به إطماعهم الفارغة من اتخاذ الأصنام آلهة (ليكونوا آلهة عزا) ووصلة إليه سبحانه وشفعاء عنده، فيكون مقابل قوله: (واتخذوا من دون الله آلهة) وفيه تمام المقابلة، أي بعد أن تكلفوا جعلهم آلهة لهم سيكفرون بعبادتهم وهذا هو الأظهر في حمل الآية عليه، والتعبير بالفعل (سيكفرون) وبحرف الردع قبله يرجح هذا الحمل كما يرجحه ما ولي هذه الآيات من قول الله تعالى: (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا. فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا.. مريم/ 83، 84)، إذ هي كالتذييل لتلك الآيات والتقرير لمضمونها لأنها تستخلص أحوالهم وتتضمن تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في إمهالهم وعدم التعجيل بعقابهم.

ولا صحة للقول بتشتيت الضمائر لوضوح عود الضمير في (سيكفرون) على المشركين وعوده في (يكونون) على آلهتهم، خلافا لمن أساغوا عودهما إلى المشركين ليكون المعنى: سيكفر المشركون بعبادة الأصنام ويدخلون في الإسلام ويكونون ضداً على الأصنام يهدمون هياكلها ويلعنونها بعد أن كانوا يحبونها كحب الله ويعبدونها من دونه.

وما قيل في آية مريم من ردع مقصوده التهديد والوعيد، يقال مثله في قوله من سورة النبأ (كلا سيعلمون.. النبأ/4) فإنه صريح في المراد بالاختلاف في قوله قبل: (عم يتساءلون. عن النبأ العظيم. الذي هم فيه مختلفون.. النبأ 1- 3) وأنه اختلاف في كيفية الإنكار إذ من هؤلاء المتسائلين من ينكره لإنكار الصانع المختار ومنهم من ينكره بناء على استحالة إعادة المعدوم بعينه.

والقول بجمع (مختلفون) على الاختلاف بالنفي والإثبات بناء على تعميم التساؤل لفريقي المسلمين والكافرين على أن سؤال الأولين ليزدادوا خشية واستعداداً وسؤال الآخرين ليزدادوا كفراً وعناداً.. يرده قوله تعالى: (كلا سيعلمون)، فإنه بيّن في أن المراد به اختلاف الجاهلين به المنكرين له إذ عليه يدور الردع والوعيد، والقول بتخصيص ضمير (يعلمون) بهم مع عموم الضميرين السابقين للكل مما ينبغي تنزيه التنزيل عن أمثاله، وفي (إرشاد العقل السليم): أن مما يؤدي "إليه جليل النظر والذي يقتضيه التحقيق ويستدعيه النظر الدقيق أن يحمل اختلافهم على مخالفتهم للنبي عليه الصلاة والسلام بأن يعتبر في الاختلاف محض صدور الفعل عن المتعدد حسبما ذكر في التساؤل، فإن الافتعال والتفاعل صيغتان متآخيتان – كالاستباق والتسابق والانتضال والتناضل إلى غير ذلك – يجري في كل منهما ما يجري في الأخرى لا على مخالفة بعضهم لبعض من الجانبين، لأن الكل وإن استحق الردع والوعيد لكن استحقاق كل جانب لهما ليس لمخالفته للجانب الآخر إذ لا حقيقة في شئ منهما حتى يستحق من يخالفه المؤاخذة، بل لمخالفته عليه الصلاة والسلام، والحق أن (كلا) ردع لهم عن التساؤل والاختلاف بالمعنيين المذكورين، و(سيعلمون) وعيد لهم بطريق الاستئناف وتعليل للردع، والسين: للتقريب والتأكيد، وليس مفعوله بالذي ينبئ عنه المقام من وقوع ما يتساءلون عنه ووقوع ما يختلفون فيه كما في قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعداً عليه حقاً ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ليبين لهم الذي يختلفون فيه.. النحل /38 ،39) فإن ذلك عار عن صريح الوعيد بل هو عبارة عما يلاقونه من فنون الدواهي والعقوبات، والتعبير عن لقائهم بالعلم لوقوعه في معرض التساؤل والاختلاف ليرتدعوا عما هم عليه فإنهم سيعلمون عما قليل حقيقة الحال إذا حلّ بهم العذاب والنكال".

والوجه في عدم وجود سبق لذكرهم يصحح عود الضمير إليهم، كون ذكرهم متكرر في القرآن فصاروا معروفين بالقصد من بعض ضمائره وإشاراته المبهمة، كالضمير في قوله تعالى: (حتى توارت بالحجاب.. ص/32) فإن المراد بها الشمس، ولما كان الاستفهام مستعملاً في غير الفهم – يعني على غير معناه الحقيقي – حسن تعقيبه بالجواب عنه بقوله: (عن النبأ العظيم) لبيان شأن ما ينبغي السؤال عنه إثر تفخيمه بإبهام أمره وتوجيه أذهان السامعين نحوه وتنزيلهم منزلة المستفهمين.

ونكتة إيراد (النبأ العظيم) على طريق الاستفهام من علام الغيوب سبحانه، التنبيه على أنه لانقطاع قرينه وانعدام نظيره، خارج عن دائرة علوم الخلق خليق بأن يعتني بمعرفته ويسأل عنه، كأنه قيل عن أي شيء يتساءلون ألا أخبركم به؟ ثم قيل بطريقة الجواب: عن النبأ العظيم، على منهاج قوله تعالى (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار.. غافر/16) فـ (من) متعلقة بما يدل عليه المذكور من مضمر حقه أن يقدر بعدها مسارعة إلى البيان ومراعاة لترتيب السؤال، ووصف النبأ بالعظيم هنا زيادة في التنويه به لأن كونه وارداً من عالم الغيب زاده عظماً في أوصافه وأهواله، فوصفه كذلك باعتبار ما وصف به من أحوال البعث فيما نزل من آيات القرآن قبل نزول هذه الآية، ونظيره قوله تعالى: (قل هو نبأ عظيم .أنتم عنه معرضون .. ص /67، 68).

وجئ بالجملة الاسمية في صلة الموصول (الذي هم فيه مختلفون ) دون أن يقول: الذي يختلفون فيه ونحو ذلك لتفيد أن الاختلاف في أمر هذا النبأ متمكن منهم ودائم فيهم لدلالة الجملة الإسمية على الدوام والثبات، أي هم راسخون في الاختلاف فيه فمن جازم باستحالته يقول: (إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين.. المؤمنون/ 37)، ومن شاك يقول: (لا ندري)، وتقديم الجار والمجرور (فيه) على متعلقه (مختلفون) للاهتمام بالمجرور وللإشعار بأن الاختلاف ما كان من حقه أن يتعلق به مع ما في التقديم من رعاية الفاصلة.

وجاء الردع بعد كل هذا للذين يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون على ما يحتمله الاختلاف من المعاني المتقدمة، لإبطال الاختلاف في ذلك النبأ وإبطال ما تضمنته جملة (يتساءلون) من تساؤل أريد به الاستهزاء وإنكار الوقوع، وفي ذلك إثبات لوقوع ما جاء به النبأ وأنه حق، لأن إبطال إنكار وقوعه مفض إلى إثبات وقوعه، فموقع الجملة (يتساءلون) على هذا موقع الجواب عن السؤال، ومن أجل ذلك فصلت ولم تعطف لأن ذلك طريقة السؤال والجواب.

على أن الكلام وإن كان إخباراً عنهم فإنهم المقصودون به فالردع موجه إليه بهذا الاعتبار، ومن محاسن هذا الأسلوب في الوعيد أن فيه إيهاماً بأنهم سيعلمون جواب سؤالهم الذي أرادوا به الإحالة والتهكم وصوروه في صورة طلب الجواب، فهذا الجواب من باب قول الناس: الجواب ما ترى لا ما تسمع.

وجاء الردع في سورة التكاثر شبيه بما هو عليه في سورة النبأ في التكرير وفي توجيه الخطاب وفي طريقة العرض الذي جاء بها الردع، فـ "الخطاب – على حد ما جاء في التحرير – للمشركين بقرينة غلظة الوعيد بقوله: (كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون) وقوله: (لترون الجحيم) إلى آخر السورة" كما يدعو إلى جعل الخطاب لهم إحالة أن يكون هذا من خلق المسلمين، ويدعو إليه أيضاً جو السورة وما ذكر في سبب نزولها فقد ورد عن ابن عباس والكلبي ومقاتل أنها نزلت في مفاخرة جرت بين بني عبد مناف وبني سهم حين تفاخروا وتعادوا وتكاثروا بالسادة والأشراف فقال كل من الفريقين: نحن أكثر منكم سيدا وأعز عزيزا وأعظم نفرا، فكثرهم بنو عبد مناف، فقال بنو سهم إن البغي أفنانا في الجاهلية فعادونا بالأحياء والأموات فكثرهم بنو سهم، والمعنى على ذلك أنكم تكاثرتم بالأحياء (حتى زرتم المقابر) أي حتى إذا استوعبتم عددهم صرتم إلى التفاخر والتكاثر بالأموات فعبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة المقابر تهكما بهم، وقيل كانوا يزورون المقابر فيقولون هذا قبر فلان وهذا قبر فلان فيفتخرون بذلك، وقيل المعنى ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد حتى متم وقبرتم مضيعين أعماركم في طلب الدنيا معرضين عما يهمكم من السعي لأخراكم فتكون زيارة القبور عبارة عن الموت.

فمع مراعاة سبب النزول في مفاخرة بني عبد مناف وبني سهم بكثرة السادة منهم تكون الزيارة مستعملة في معناها الحقيقي ويكون قوله (حتى زرتم المقابر) غاية، أي ألهاكم التكاثر حتى وصل بكم الحال إلى عد القبور، وهذا الوجه يجمل معه حمل قراءة (أألهاكم التكاثر) كذا بالاستفهام التقريري عليه، والعرب يكنون بالقبر عن صاحبه، وعلى القول باحتمال أن يكون المعنى ألهاكم التكاثر حتى إذا صرتم إلى المقابر انقطعت أعمالكم وانقضت أعماركم، يكون المراد بزيارة المقابر الحلول فيها بالموت فيكون في فعل الزيارة تعريض بهم بأن حلولهم في القبور يعقبه خروج منها، والتعبير بالفعل الماضي (زرتم) لتنزيل المستقبل منزلة الماضي لأنه محقق وقوعه مثل (أتى أمر الله.. النحل /1) وفي هذا من التوبيخ ما فيه، وقد أتبع هذا التوبيخ على التلهي بالتكاثر بالوعيد وبحرف الردع (كلا) ليفيد الزجر والإبطال لدعاوى الجاهلية هذه، وجاء التعبير بالفعل (تعلمون) مسبوقا بحرف التسويف ليفيد تحقيق العلم، والنكتة في حذف مفعوله ظهور أن المراد به: تعلمون سوء مغبة لهوكم بالتكاثر عن قبول دعوة الإسلام، فهو محذوف للعلم به.

وما سبق أن ذكرناه في مقام التنبيه من أن قوله سبحانه في سورة الفجر: (كلا بل لا تكرمون اليتيم .ولا تحاضّون على طعام المسكين . وتأكلون التراث أكلاً لماً. وتحبون المال حباً جماً.. الفجر/17 -20)، جاء ردعاً عن ظن الإنسان وادعائه أن ابتلاء الله له بالنعيم دليل إكرامه وأن العكس من ذلك صحيح، كما جاء انتقالاً من بيان سوء أقواله إلى بيان سوء أفعاله.. أعقبه فيما هو في صورة الردع أيضاً، قوله تعالى: (كلا إذا دكت الأرض دكاً دكاً. وجاء ربك والملك صفاً صفاً . وجئ يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى .. الفجر/21- 23)، فقد جاءت (كلاّ) ردعاً لهم عن الأعمال المعدودة قبله، وقوله: (إذا دكت الأرض دكا دكا) إلخ، استئناف جئ به بطريق الوعيد تعليلاً للردع، وانتقالاً به من تهديدهم بعذاب الدنيا الذي في قوله: (ألم تر كيف فعل ربك بعاد.. الفجر/6) الآيات، إلى الوعيد بعذاب الآخرة، فإنهم إن استحقوا بما حل بالأمم قبلهم أو أمهلوا فأخر عنهم العذاب في الدنيا، فإن عذاباً لا محيص لهم عنه ينتظرهم يوم تدك الأرض دكاً حتى تنكسر ويذهب كل ما على وجهها من جبال وأبنية وقصور، فيذكرون حينها قسراً صدق وعيد الله فلا ينفعهم التذكر ويندمون ولات ساعة مندم.

والمقصود من هذا الكلام هو قوله: (فيومئذ لا يعذب عذابه أح.. الفجر/ 25) إلخ، وقوله: (يا أيتها النفس المطمئنة.. الآية 27من سورة الفجر)، وأما ما سبق من قوله: (إذا دكت الأرض) إلخ، فهو توطئة وتشويق لسماع ما يجئ بعده، وتهويل لشأن يوم القيامة، وحاصل ذلك أن الإنسان الكافر يتوهم الحوادث على غير ما بها ولا يصغي إلى دعوة الرسل، فيستمر طول حياته في عماية، لذا لزم زجره زجراً مؤكداً يحمل معنى التهديد والوعيد ليرعوي عما هو فيه، ويفكر في عواقب الأمور عله يتحسس أقواله وأفعاله فيحسن التصرف فيهما.

والتكرير في (دكاً دكاً) يجوز أن يكون أولهما منصوباً على المفعول المطلق المؤكد لفعله وقد قصد منه رفع احتمال المجاز عن (دكت)، إذ كان حدوث ذلك أمراً خارقاً للعادة فاقتضى المقام تأكيده لتحقيق وقوعه تحقيقاً ينفي عنه المجاز أو المبالغة، كما اقتضى تكريره و تأكيده تأكيداً لفظياً لزيادة تحقيق إرادة مدلول الدك الحقيقي، وإنما يمنع من تأكيد النكرات في غير هذا تأكيداً لفظياً, كون النكرة حكماً لا محكوماً عليه كقوله صلوات الله عليه: (أيما امرأة نكحت نفسها من غير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل)، وكون الثاني غير الأول كما في قوله تعالى: (وجاء ربك والملك صفاً صفاً) فهو من ثم لتكرير المعنى.


كلا في مقام تقرير الكلام وتأكيده

ونرمق فيما سبق من آيات سورتي النبأ والتكاثر من قول الله تعالى: (كلا سيعلمون . ثم كلا سيعلمون.. النبأ/4 ،5)، وقوله: (كلا سوف تعلمون . ثم كلا سوف تعلمون . كلا لو تعلمون علم اليقين.. التكاثر/3- 5) ويلحق بهما ما جاء في سورة المدثر من قول الله تعالى: (كلا بل لا تخافون الآخرة. كلا إنها تذكرة.. المدثر/53،54)، والمطففين من قول الله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون. كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون.. المطففين/14، 15)، والعلق من قول الله تعالى: (كلا لا تطعه.. العلق/19) بعد قوله: (كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية.. العلق/15).. نرمق نبرة التأكيد والتقرير لما سبق من كلام، ومعلوم ما يحدثه تأكيد الكلام من ترسيخ المعنى في النفس ومن تثبيته، ونلحظ ذلك في كل ما سبق من آيات.

ففي سورة المدثر وبعد أن أضرب سبحانه عن ذكر بعض من أحوال وأقوال أهل الكفر من أمثال أبي جهل وعبد الله بن أبي أمية إبان قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن نؤمن لك حتى يأتي إلى كل رجل منا كتاب فيه: من الله إلى فلان بن فلان)، وهو ما سجله سبحانه عليهم بقوله: (بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة.. المدثر/52)، جاءت الآية (كلا بل لا يخافون) لإبطال ظاهر كلامهم ولردعهم عما بدر منهم من أفانين التكذيب بالله وبقرآنه – على ما هو مفاد من (كلا) وما تلى ذلك من حرف الإضراب (بل) – ليكون المعنى ليس كل ما قالوه إلا تنصلاً وإصراراً على الكفر، وأن لو أنزل الله عليهم كتاباً ما آمنوا وما تأتي لهم الخوف من عذاب الله يوم القيامة.

ثم يجيء النظم الكريم (كلا إنه تذكرة)، ليكون بمثابة الردع المؤكد لما قبله والمقرر لحقيقة أمرهم فالضمير في قوله: (إنه تذكرة) للقرآن، والجملة تعليل للردع عن اقتراحهم الآيات وسؤالهم أن تنزل عليهم صحف منشرة وبيان بأن القرآن برهان وحجة، لمن يخاف وعيد الآخرة، وهو تذكرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ونكتة التنكير في (تذكرة) إرادة التعظيم، وقوله: (فمن شاء ذكره) تفريع على أنه تذكرة وتعريض في الوقت ذاته بالترغيب في التذكر، أي التذكر طوع إرادتكم فإن شئتم فتذكروا، وفي هذا من إقامة الحجة والتسجيل عليهم بقبيح فعالهم ما فيه وما لا يخفى على عاقل .

ومما هو صريح في تأكيد المعنى وتقريره لما فيه من تكرير، ما جاء في سياق الآيات الكريمة من سورة النبأ: (ثم كلا سيعلمون) بعد قوله (كلا سيعلمون)، فهو "تكرير للردع والوعيد للمبالغة في التأكيد والتشديد، و(ثم) للدلالة على أن الوعيد الثاني أبلغ وأشد، وقيل الأول عند النزع والثاني عند القيامة، وقيل الأول للبعث والثاني للجزاء، وقرئ (ستعلمون) بالتاء على نهج الالتفات إلى الخطاب الموافق لما بعده من الخطابات تشديدا للردع والوعيد لا على تقدير: (قل لهم) كما تُوهم فإن فيه من الإخلال بجزالة النظم الكريم مالا يخفى"

ونظير ذلك ما ورد في قوله جل شأنه من سورة التكاثر: (كلا سوف تعلمون. ثم كلا سوف تعلمون. كلا لو تعلمون علم اليقين . لترون الجحيم.. التكاثر /3-6).. فإن حرف الزجر (كلا) وإن دل في المرة الأولى على ردع العاقل عن الاشتغال بما لا يعنيه عما يعنيه وتنبيهه إلى ما ينبغي أن لا يكون مقصوراً عليه معظم همّه من التلهي بالدنيا والتفاخر فيها بالكثرة، وبيان أن عاقبة ذلك وخيمة.. فقد جاء حرف الردع في المرة الثانية بقصد التأكيد الذي أوضحه ودل عليه بصورة أبلغ حرف العطف (ثم) فصار الأمر فيه أشبه بما يقوله العظيم لعبده: (أقول لك ثم أقول لك، لا تفعل)، فعطفه في الآية بحرف (ثم) اقتضى كونه أقوى من الأول لأنه أفاد تحقيق الأول وتهويله.. ولكونه أبلغ فقد نزل منزلة المغايرة فعطف.. ثم أعيد الزجر للمرة الثالثة في قوله سبحانه: (كلا لو تعلمون علم اليقين)، زيادة في إبطال ما هم عليه من اللهو عن التدبر في أقوال القرآن لعلهم يقلعون عن انكبابهم على التكاثر بما هم يتكاثرون فيه وينصرفون عن لهوهم به إلى دعوة الحق والتوحيد، والجملة الأخيرة أضافت وأفادت – إلى ما سبق – التهويل والإزعاج بحذف جواب (لو) منها، إذ بحذفه تذهب النفوس في تقديره كل مذهب، والمعنى: لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر المتيقن أي كعلمكم ما تستيقنونه من الأمور، لتبين لكم حال مفظع عظيم، أو لفعلتم ما لا يوصف ولا يكتنه، أو لشغلكم ذلك عن التكاثر وغيره، وهو – على إيٍّ من التقديرات – بيان لما في (كلا) من الزجر.. وعلى القول بأن الزجر الأول في القبور أو الموت والثاني في النشور، يكون التكرير بين الثاني والثالث وحسب كذا ذكر أهل العلم.

والحق أن هذا من مستتبعات التراكيب، والتعويل على معونة القرائن إنما يكون بتقدير مفعول خاص لكل من فعلَى (تعلمون) الأول والثاني، ومفاد التكرير حاصل على أي حال.

وقريب مما سبق، تأتي الآية الكريمة في سورة المطففين: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون.. المطففين/ 15) ومعطوفاتها (ثم إنهم لصالوا الجحيم . ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون.. المطففين /16، 17) بعد قوله: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون.. المطففين /14)، فقد جاء النظم الكريم (كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)، مصدراً بـ (كلاّ) التي هي للزجر بقصد ردع أهل الكفر عند قولهم عن الآيات المتلوة على مسامعهم (أساطير الأولين) وذلك إبطالاً لقولهم، وتلا ذلك الحرف (بل) الذي دل هو الآخر على الإبطال، تأكيداً لمضمون (كلاّ) وكشفاً عما حملهم على أن يقولوا في القرآن ما قالوا، وبياناً لما أعمى بصائرهم من الرين .. ثم أعقب كل هذا – إمعاناُ في تقرير ذلك وتأكيده – بقوله: (كلاّ إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) فـ "(كلاّ) الثانية – على حد ما ذكر ابن عاشور – تأكيد لـ (كلاّ) الأولى"، وقد جئ بها "زيادة في الردع ليصير توبيخاً".

وفي إطار التأكيد على ما سبق اشتمل هذا القول الحكيم وما عطف عليه، على أنواع ثلاثة من الويل هي: الإهانة والعذاب والتقريع مع التيئيس من الخلاص من العذاب، أما الإهانة فحجْبُهم عن ربهم، وأما العذاب فهو ما في قوله: (ثم إنهم لصالوا الجحيم)، وقد عطفت جملته بـ (ثم) الدالة على عطفها الجمل على التراخي الرتبي وهو ارتقاء في الوعيد لأنه وعيد بأنهم من أهل النار وذلك أشد من خزي الإهانة، وأما التقريع مع التيئيس فهو مضمون جملة (ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون) وقد دلت عطف جملتها بـ (ثم) على ما دلت عليه سابقتها، كما دل اسم الإشارة على أنهم صاروا إلى العذاب، ودل الإخبار عن العذاب بأنه الذي كانوا به يكذبون، على أنه العذاب الذي تكرر وعيدهم به وجحودهم إياه وهو ما يستلزم خلودهم فيه، وذلك أشد من الوعيد، وبذلك كان مضمون هذه الجملة أرقى رتبة في الغرض من مضمون الجملة المعطوفة هي عليها.

والنكتة في التعبير بالاسم الموصول التذكير بتكذيبهم به في الدنيا تنديماً لهم وتحزيناً، وفي تقديم شبه الجملة (به) على (تكذبون) اهتمام بمُعاد الضمير مع الرعاية على الفاصلة.

وفي روح المعاني أن (كلاّ) في قوله بعد: (كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين.. المطففين/ 18) وما أعقبه، هي "تكرير للردع السابق في قوله تعالى: (كلا إن كتاب الفجار لفي سجين.. المطففين / 7)، ليُعقب بوعد الأبرار كما عُقّب ذلك بوعيد الفجار، إشعاراً بأن التطفيف فجور والإيقاء بر"، وهو إن سلم يكون داخلا في مقام التقرير والتأكيد على ما سبق أيضا، وبرأي الطاهر هي "ردع لما تضمنه ما يقال لهم (هذا الذي كنتم به تكذبون)، فيجوز أن تكون.. مما قيل لهم مع جملة (هذا الذي كنتم به تكذبون)، ردعا لهم فهي من المحكي بالقول ويجوز أن يكون معترضة من كلام الله في القرآن إبطالا لتكذيبهم المذكور"، وهو في مجمله في معنى ما ذكره الآلوسي، غير أنه يصب – على ما هو مفاد كلامه – في تأكيد ما جاء في قول الله تعالى (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون).

وأيّاً ما كان فالوجه فيه أن يجعل قسيما لما في شبيهها فتحصل مقابلة وعيد الفجار بوعد الأبرار وتلك من عادة القرآن فهو كثيراً ما يعقب الإنذار بالتبشير والعكس، لأن الناس راهب وراغب، فالتعرض لنعيم الأبرار إدماج اقتضته المناسبة وإن كان المقام من أول السورة مقام إنذار وتعجب وتنبيه عن خطأ وغفلة.

والشئ بالشئ يذكر فقد جاء القول الحكيم (كلا لا تطعه.. العلق /19) ـ على حد ما ذكر أهل التأويل - ردعاً للّعين أبي جهل بعد ردع، وزجراً له إثر زجر والقصد من تصديره بـ (كلا) "إبطال ما تضمنه قوله (فليدع ناديه.. العلق /17) أي ليس بفاعل، وهذا تأكيد للتحدي والتعجيز" ومراده مع ما تقدم من قوله (أرأيت الذي ينهى..العلق/9) إلخ: لا تترك صلاتك يا محمد في المسجد الحرام وإن فعل هذا الجاهل ما فعل ولا تخش منه ولا تخفه ولا تحذره فإنه لن يضرك، وأطلقت الطاعة على الحذر الباعث على الطاعة على طريق المجاز المرسل، وأكد قوله (لا تطعه) بجملة (واسجد) بعدها اهتماما بالصلاة فهو على ظاهره، أو هو مجاز عن الصلاة، ووجه العطف عليه بقوله (واقترب) التنويه بما في الصلاة من مرضاة الله تعالى، وفي التعبير عن الاقتراب بصيغة الافتعال إشعار بمعنى التكلف والتطلب أي اجتهد في القرب إلى الله وابتغ الأجر والثواب منه بالصلاة


كلا في مقام استفتاح الكلام للتنبيه على ما بعده، وهو ما يسمى بالاستئناف البياني

هذا وقد سبق أن أشرت إلى أن أهل العلم تنبهوا لهذا الغرض عند تعرضهم لأول ما نزل لقرآن فذكروا أن قوله من سورة العلق: (كلا إن الإنسان ليطغى.. العلق/6)، نزل في وقت لاحق من نزول الخمس آيات الأولى من السورة، "فدل ذلك على أن الابتداء بـ (كلا)، من طريق الوحي، فهي في الابتداء بمعنى (ألا) ولا تستعمل.. في هذا المعنى إلا في الابتداء بها".

واستشف بعضهم من ذلك أنها تكون بمعنى (ألا) وأنه إنما يؤتى بها لاستفتاح الكلام لا غير وذلك ما جنح إليه أبو حاتم.. وفيما قاله نظر وحسبنا في رد ما ذكره، ما سبق إيراده من مقامات (كلاّ) في آي التنزيل، وإن حسن مجيئُها لهذا الغرض أحياناً.

ففي هذه الآية الكريمة من سورة العلق يكاد الإجماع أن يكون منعقداً على كونها بمعنى (ألا)، والحق أن مجيئها على هذا النحو – بالنظر إلى أصل معناها – هو على خلاف الأصل، لأن الأصل فيها أن تقع بعد كلام سابق لإبطاله بالزجر عن مضمونه، يقول ابن عاشور في تحرير هذه القضية وفي تعليقه على ما جاء في قوله سبحانه (كلا إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى. إن إلى ربك الرجعى. أرأيت الذي ينهى .عبدا إذا صلى.. العلق /6- 10): إن هذه الآيات جاءت في صورة "استئناف بياني لظهور أنه في غرضه لا اتصال له بالكلام الذي قبله، وحرف (كلا) ردع وإبطال، وليس في الجملة التي قبله ما يحتمل الإبطال والردع، فوجود(كلا) في أول الجملة دليل على أن المقصود بالردع هو ما تضمنه قوله: (أرأيت الذي ينهى. عبدا إذا صلى) الآية"، ويستطرد قائلاً: "وحق (كلا) أن تقع بعد كلام لإبطاله والزجر عن مضمونه، فوقوعها هنا في أول الكلام يقتضي أن يكون معنى الكلام الآتي بعدها حقيق بالإبطال وبردع قائله" والقول في الكشاف وغيره بأن "(كلا) ردع لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه وإنه لم يذكر لدلالة الكلام عليه" هو في معنى ما ذكر في عود الردع المفاد من (كلاّ) على ما بعدها وإن اختُلف في موضعه ومستحقه، ولا مشاحة في هذا كما أن لا مشاحة في البدء بـ (كلا) وإن لم يذكر فيها ما يستحق ردعه والزجر عليه إذ هذه طريقة عند العرب، وإن خالفت المشهور مما درجوا عليه، "ومن هذا القبيل أن يفتتح الكلام بحرف نفي ليس بعده ما يصلح لأن يلي الحرف كما في قول امرئ القيس:

فلا وربك ابنة العامــر ي لا يدّعي القوم أني أفر


هذا وقد ذكر مفتي الديار الرومية في تفسيره لقول الله تعالى: (كلا إنا خلقناهم مما يعلمون.. المعارج/39) – فيما نقله عنه الإمام الآلوسي – أن "الأقرب كونه كلا ماً مستأنفاً قد سيق تمهيداً لما بعده من بيان قدرته عز وجل على أن يهلكهم لكفرهم بالبعث والجزاء، واستهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما نزل عليه من الوحي، وادعائهم دخول الجنة بطريق السخرية، وبيان قدرته كذلك على أنه ينشئ بدلهم قوماً آخرين، لأن قدرته سبحانه على ما يعملونه من النشأة الأولى حجة بينة على قدرته عز وجل على ذلك كما يفصح عنه الفاء الفصيحة في قوله تعالى: (فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون. على أن نبدّل خيراً منهم وما نحن بمسبوقين.. المعارج/ 40،41)، إي إذا كان الأمر كما ذكرنا من أن خلقهم مما يعلمون، وهو النطفة القذرة، فنحن قادرون على أن نهلكهم بالمرة حسبما تقتضيه جناياتهم، ونأتي بدلهم بخلق آخرين ليسوا على صفتهم وما نحن بمغلوبين إن أردنا ذلك، لكن مشيئتنا المبنية على الحِكم البالغة، اقتضت تأخير عقوباتهم به".

وكلامه وإن لم يكن نصاً على الاستئناف في (كلا)، بل يفاد منه أنه يعني بالاستئناف جملة: (إنا خلقناهم مما يعلمون .. المعارج /39) لوقوعه في مقابل القول بأنه تعليل للردع.. إلا أنه يصلح لجعله كذلك استئنافاً بيانياً وردعاً لشكهم في قدرة الله وإنشاء قوم خير منهم أي ردعاً لما بعده، وقد ذهب مكي بن أبي طالب القيسي في شرح (كلا) و(بلى) إلى عدّ هذا الموضع من المواضع التي يحسن الوقف فيها على (كلا) على معنى، ويحسن الابتداء بها على معنى آخر.. كما أجاز جعل (كلا) فيها للاستفتاح بمعنى (ألا) الأشموني في منار الهدى.. وعلى أي من الحالين فالتعبير عن مادة خلقهم بما يعلمون مما يكسر – ولا شك – سورة المتكبرين ويجعلهم على ذُكر بأصل خلقتهم.

وبنحو ذلك ذهب أهل الوقوف والتأويل في تفسيرهم لقول الله تعالى: (كلا لا وزر.. القيامة/11)، ففي التحرير ما نصه:-"يجوز أن يكون (كلا لا وزر) كلاماً مستأنفاً من جانب الله تعالى جواباً لمقالة الإنسان، أي لا وزر لك فينبغي الوقف على (المفر)، ويجوز أن يكون من تمام مقالة الإنسان، أي يقول: أين المفر؟ ويجيب نفسه بإبطال طمعه فيقول: (كلا لا وزر) أي لا وزر لي، وذلك بأن نظر إلى جهاته فلم يجد إلا النار كما ورد في الحديث، فيحسن أن يوصل (أي المفر) بجملة (كلا لا وزر)، وأما قوله: (إلى ربك يومئذ المستقر.. القيامة/ 12) فهو كلام من جانب الله تعالى خاطب به النبي عليه السلام في الدنيا بقرينه قوله (يومئذ)، فهو اعتراض وإدماج للتذكير بملِك ذلك اليوم، وفي إضافة (رب) إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أنه ناصره يومئذ بالانتقام من الذين لم يقبلوا دعوته.. وتقديم المجرور لإفادة الحصر، أي إلى ربك لا إلى ملجأ أخر، والمعنى لا ملجأ يومئذ للإنسان إلا منتهياً إلى ربك، وهذا كقوله تعالى: (وإلى الله المصير) ا . هـ" وفي البحر: "الظاهر أن قوله تعالى: (كلا لا وزر. إلى ربك يومئذ المستقر) من تمام قول الإنسان"، والوجه فيه ما ذكرنا، وإلى القول بالاحتمالين في (كلا لا وزر) مال بعضهم، وذهب مكي إلى ترجيح الابتداء بها بما يعني جعلها للاستفتاح، وكونها من كلام المولى سبحانه، بينا ذهب صاحب (معالم الاهتداء) إلى العكس من ذلك، واستبعد مجيئها بمعنى (ألا) وهو في ذلك قد جانبه الصواب.


تعقيب:

والذي نستطيع أن نصل إليه بعد هذا التجوال في سياقات الآيات التي ورد فيها حرف (كلاّ)، أن ما أجمع عليه أهل اللغة والنحاة وأرباب التأويل من إفادة (كلاّ) للردع والزجر وحسب، كذا بالتعميم، ومن أنها في كل الأحوال "لا معنى لها.. إلا ذلك، حتى أنهم يجيزون أبداً الوقف عليها" وهو ما صرح به سيبويه والخليل والمبرد والزجاج وأكثر البصريين ونقله عنهم ابن هشام وغيره .. يشوبه كثير من القصور.

ولعله قد وضح لنا الآن عدم صحة هذا الاتجاه بعد أن تأكد لنا يقيناً أن ما أطلقوه على هذه الأداة من أنها أداة للردع والزجر قد لا يساعده المقام بل يكون من الخطأ – أحياناً – أن نقول أنها قد أفادته، وأن إفادتها لمعنى الردع والزجر لا يعني قصرها على هذا المعنى، وأن ثمة معان وأغراض أخرى يفرضها سياق الآيات، من غير الردع تأتي (كلا) بمعونة هذا السياق لتأديتها، وربما كان من الأبلغ مع كثير من هذه المعاني البدء بها.

على أن كلمة المفسرين حول إفادة (كلا) المصحوب لهذه المعاني وإن صرحت بذلك وأشارت إليه في خطوة إيجابية للاعتراف بهذه الحقيقة وفاء بحق البلاغة، إلا أن الكثرة الكاثرة من أهل التأويل يحلو لهم الوقوف على معنى الردع والزجر مجرداً عن غيره مما يقضيه المقام ويميله السياق، فتكون النتيجة والمحصلة عدم مراعاة هذا الكثير لما تكتنفه سياقات الآيات من دقيق المعاني والأسرار البلاغية، وسيتبين لنا أن الأمر على العكس من ذلك عند المحققين من علماء الوقوف الذين عنوا بإبراز الوجوه والأسرار التي تعين على الوصول إلى الغايات والأغراض التي تكمن وراء التعبير بـ (كلاّ)، وإن كان الغالب على معالجاتهم تسليط الضوء على مراعاة ذلك من ناحية الوقوف على هذه الأداة أو الابتداء بها حسب ما تمليه أجواء الآيات إذ ذلك أمر ظاهر لديهم لا يكاد يخفى على من له أدنى تعلق بما ذكروه ودبّجوه، وهذا ما سيكشف عنه المبحث الثالث من هذه الدراسة بمشيئة الله تعالى.


المبحث الثالث

أثر الوقوف على (كلا) والبدء بها في اتساع المعنى وإثرائه

تعد الضوابط التي وضعها المحققون من النحاة وأهل الوقوف وعلماء اللغة في الوصول إلى المعنى الصحيح للآيات التي وردت فيها الأداة (كلا) بما يمليه السياق ويقتضيه المعنى.. من الأهمية بمكان.

فقد توركوا على ما ذكره جمهور البصريين وأوضحوا في ردهم أن مذهب النحاة في جعل (كلا) قاصراً على معنى الردع ومن ثم يجب الوقوف عليها "لأنها زجر وردع لما قبلها وأما ما بعدها فهو منقطع عنها".. يرد عليه ما صُدّر به (كلا) من آي التنزيل أو جاء منفصلاً عما قبله على نحو ما جاء في قوله سبحانه (كلا إن الإنسان ليطغى.. العلق/ 6).

كما أوضحوا في ردهم على مذهب الكسائى وجمهور الكوفيين أن جعلها دوماً بمعنى (حقاً)، ومن ثم يجب البدء بها لتأكيد ما بعدها، يرد عليه ما جاء في آي الذكر الحكيم بعد (كلا) مكسوراً همزته من نحو قوله تعالى: (كلا إن معي ربي سيهدين.. الشعراء/ 62) وما ذلك إلا لوجوب فتح همزة (إن) بعد حقاً وهى في هذه وما جاء على شاكلتها مكسورة.

وصرحوا كذلك بأن مذهب النضر والفراء ومن نحا نحوهما ممن ارتضوا أن تكون (كلا) حرف جواب بمعنى (إي) و(نعم)، يرد عليه هو الآخر مجيئ (كلا) في بعض الآيات بعد طلب مراد به الوعيد كما في قوله: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا.. المؤمنون/99، 100)، لأنها لو كانت بمعنى نعم لكانت وعداً من الله بالرجوع إلى الدنيا بينا سنته سبحانه في عباده أنهم إليها لا يرجعون.

إذ تصب هذه الضوابط – من دون شك – في دائرة مراعاة سياقات الكلام ومقتضيات الأحوال، كما يصب في نفس الدائرة ما دبّجوه في صفحات كتبهم من أن (كلاّ) لو قدر لها أن تأتى بمعنى (حقاً) فلا يكون ذلك على جهة الدوام ويجب –والحال هكذا– الابتداء بها لتأكيد ما بعدها، ولو ساغ جعلها للاستفتاح بقصد التنبيه لما بعدها فإنه يجب أيضاً البدء بها لتعلقها كذلك بما بعدها، وإنها إن كانت للردع والزجر أو للنفي والرد فإنه يجب الوقوف عليها لتعلقها ساعتئذ بما قبلها يقول مكي بن أبى طالب في بعض ما ذكرنا: "وتكون (كلا) بمعنى حقاً – وهو مذهب الكسائي – فيبتدأ بها لتأكيد ما بعدها، ولا تستعمل بهذا المعنى عن حذاق النحويين إلا إذا ابتدئ بها لتأكيد ما بعدها، وقد يبتدأ بها ولا يجوز أن تكون بمعنى (حقاً) لعلة".

ويقول ابن هشام في تقرير ما ذكرنا: إن ما قال به أكثر البصريين "فيه نظر لأن.. معنى الزجر في (كلا) المسبوقة بنحو (في أي صورة ما شاء ركبك.. الانفطار/8) (يوم يقوم الناس لرب العالمين.. المطففين/6) (ثم إن علينا بيانه.. القيامة/ 19)، وقولهم في معناه: انته عن ترك الإيمان بالتصوير في أي صورة ما شاء الله، وبالبعث وعن العجلة بالقرآن تعسف، إذ لم يتقدم في الأولين حكاية نفى ذلك عن أحد، ولطول الفصل في الثالثة بين (كلا) وذكر العجلة، وأيضاً فإن أول ما نزل خمس آيات في أول سورة العلق، ثم نزل (كلا إن الإنسان ليطغى.. العلق/6) فجاءت في افتتاح الكلام"، وتابع يقول: إن "قول الكسائى.. لا يتأتى في نحو (كلا إن كتاب الأبرار.. المطففين/18) (كلا إن كتاب الفجار.. المطففين/7) (كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون.. المطففين/15) لأن (إن) تكسر بعد (ألا) الاستفتاحية ولا تكسر بعد حقاً ولا بعد ما كان بمعناها"، ثم أردف ذلك بالقول بأنه "إذا صلح الموضع للردع ولغيره جاز الوقف عليها والابتدء بها على اختلاف التقديرين والأرجح حملها على الردع لأنه الغالب فيها.. وقد تتعين للردع أو الاستفتاح نحو (ارجعون كلا إنها كلمة.. المؤمنون /99 ،100) لأنها لو كانت بمعنى حقاً لما كسرت همزة إن، ولو كانت بمعنى نعم لكانت للوعد بالرجوع لأنها بعد الطلب، كما يقال (أكرم فلاناً) فتقول: (نعم)، وكذا (قال أصحاب موسى إنا لمدركون . قال كلا إن معي ربي سيهدين.. الشعراء/ 61، 62) وذلك لكسر إن ولأن (نعم) بعد الخبر للتصديق، وقد يمنع كونها للزجر نحو (وما هي إلا ذكرى للبشر. كلا والقمر.. المدثر/ 31، 32)، إذ ليس قبلها ما يصلح رده"

ونرمق أن كلام كلٍّ من محققي علماء القراءات الذين اخترنا منهم مكي بن طالب القيسي ومحققي النحاة الذين اخترنا منهم ابن هشام، وكلام أهل البيان في مراعاة المقتضى يخرج من مشكاة واحدة، ولا عجب في ذلك إذا عرفنا أن الوقف والابتداء هو أصل موضوع الوصل والفصل ومصدر إلهام البلاغيين في تأصيل قواعده.

وإنما نعمد لكلام المحققين من النحاة وأهل التجويد واللغة ونخصه بالذكر، لأن غيرهم ممن ليسوا من أهل التحقيق لم يضعوا هذه الضوابط في الحسبان، فاختلت لديهم بالتالي معالم الوقوف وعصف سوء صنيعهم هذا, بدقيق المعاني. فتحت باب الاختلاف في الوقف والابتدء على (كلا) يحكى إمام حذاق التجويد مكي بن أبى طالب ذلك عنهم فيقول: "اختلف القراء والنحويون في الوقف على (كلا) والابتداء بها فذهبت طائفة إلى أنها افتتاح كلام – في إشارة لمذهب أبي حاتم علي ما هو معروف وعلى ما صرح هو به فيما بعد – ولا يوقف عليها البتة عندهم, ويوقف علي ما قبلها بكل حال, وذهبت طائفة إلي أنها يوقف عليها إذا كانت رأس آية خاصة وهو مذهب نصير المغربي، وذهبت طائفة إلي أنه يوقف عليها في كل موضع، فإذا كان قبلها ما يرد وينكر كان معناها: (ليس الأمر كذلك) نحو (أم اتخذ عند الرحمن عهداً.. مريم/78)، وإذا كان قبلها ما لا يرد ولا ينكر كان معناها: حقا، نحو (تظن أن يفعل بها فاقرة. كلا.. القيامة/ 25) أى حقا ما ذكر، وذهب طائفة إلى تفصيلها فيوقف عليها إذا كان ما قبلها يرد وينكر، ويبتدأ بها إذا كان ما قبلها لا يرد ولا ينكر، وتوصل بما قبلها وما بعدها إذا لم يكن قبلها كلام تام نحو (ثم كلا سوف تعلمون.. التكاثر/4)، وهذا المذهب أليق بمذهب الفراء وحذاق أهل النظر، و.. يوجبه النظر، وما عليه حذاق النحويين وأهل المعاني" ولأجل كل هذا وغيره ارتضاه مكي لنفسه، وعليه سيكون المعتمد في هذا المبحث بمشيئة الله تعالى.

يتبع إن شاء الله...


كَلاَّ دلالتها ومواقعها في القرآن الكريم 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52683
العمر : 72

كَلاَّ دلالتها ومواقعها في القرآن الكريم Empty
مُساهمةموضوع: رد: كَلاَّ دلالتها ومواقعها في القرآن الكريم   كَلاَّ دلالتها ومواقعها في القرآن الكريم Emptyالإثنين 19 ديسمبر 2011, 9:08 am

مواقع (كلا) في القرآن بحسب ما يقتضيه الوقوف عليها أو الابتداء بها:

بارتضائنا لطريقة الإمام أبى محمد مكي بن أبى طالب القيسي التي تأثر بها إلى حد كبير بالفراء، والتي ارتضاها واختارها –على حد قوله– كثير من القراء.. وبتتبعنا لما انتهجه واختطه لنفسه في معالجة المواطن التي جئ فيها بـ (كلا) في آي الذكر الحكيم،


يمكن تقسيم الآيات التي وردت فيها هذه الأداة باعتبار الوقوف عليها والابتداء بها إلى أربعة أقسام:

الأول –منها: على وجه الإجمال– ما يحسن الوقوف عليه على معنى ويحسن الابتداء بها على معنى آخر:

وذلك أحد عشر موضعاً، موضعان في مريم وموضع في المؤمنون وموضع في سبأ وموضعان فى المعارج وموضعان في المدثر قوله تعالى:- (ثم يطمع أن أزيد كلا) وقوله: (أن يؤتى صحفاً منشرة كلا)، وموضع في المطففين قوله تعالى: (أساطير الأولين كلا) وموضع في الفجر قوله تعالى: (أهانن كلا) وموضع في الحطمة قوله تعالى: (يحسب أن ماله أخلده كلا).


الثاني: وهو ما لا يحسن الوقوف فيه على كلا:

ويحسن الابتداء بها وذلك ثمانية عشر موضعاً: في المدثر موضعان قوله تعالى: (وما هي إلا ذكرى للبشر. كلا والقمر) وقوله تعالى: (كلا بل لا يخافون الآخرة. كلا إنه تذكرة)، وثلاثة مواضع في القيامة، وموضع في عم يتساءلون قوله تعالى: (الذي هم فيه مختلفون كلا سيعلمون)، وموضعان في عبس، وموضع في الانفطار، وثلاثة مواضع في المطففين، قوله تعالى: (لرب العالمين. كلا إن كتاب الفجار) وقوله: (ما كانوا يكسبون. كلا إنهم ) وقوله تعالى: (الذي كنتم به تكذبون. كلا إن كتاب الأبرار)، وموضع في الفجر قوله: (حباً جماً. كلا إذا دكت الأرض)، وثلاثة مواضع في سورة العلق، وموضوعان في: (ألهاكم التكاثر) قوله: (حتى زرتم المقابر. كلا سوف تعلمون) وقوله: (كلا لو تعلمون) .


الثالث: وهو ما لا يحسن الوقف فيه على كلا ولا الابتداء بها:

وذلك موضعان وهما: في(عم يتساءلون) موضع واحد هو قوله تعالي (ثم كلا سيعلمون)، وفي ألهاكم التكاثر موضع وهو قوله تعالي: (ثم كلا سوف تعلمون).
الرابع: وهو ما لا يحسن الابتداء فيه بـ ( كلا ) ويحسن الوقف.. وذلك موضعان وهما في الشعراء "


ولنشرع في تفصيل ما أجملنا، فنقول وبالله التوفيق:


أولاً : ما يحسن الوقوف عليه على معنى والابتداء بها على معنى آخر

(1)،(2):- جاءت كلا في قول الله تعالى: (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً. أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهداً. كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مداً. ونرثه ما يقول ويأتينا فرداً. واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً. كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً.. مريم/77-82)، في سياق الرد والإنكار على العاص بن وائل – كما سبق أن ذكرنا وكما ثبت في الصحيح – وذلك حين أبى أن يؤدي ثمن سيف صنعه له الخباب، وراح يقول للخباب الذي جاءه في رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ألستم تزعمون أن في الجنة ذهباً وفضة وحريراً ومن كل الثمرات؟ قالوا: بلى، قال على سبيل التهكم والاستخفاف: موعدكم الآخرة, والله لأوتين مالاً وولداً ولأوتين مثل كتابكم الذي جئتم به فنزلت.

فمجيء (كلاّ) في سياقات سورة مريم: ( كلا سنكتب ما يقول.. مريم/79) (كلا سيكفرون بعبادتهم .. مريم/82) ردع له ولمن معه وزجر لهم عن التفوه بتلك العظيمة، واتخاذه ومن معه آلهة اعتقدوا فيها العزة والنصرة، وحسبوا أنها تمنعهم من عذاب الله، ونفي في الوقت ذاته وإبطال لصحة ما تضمه قوله تعالى: (أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهداً)، وقوله (واتخذوا من دون الرحمن آلهة ليكونوا لهم عزا)، كأنه قال على وجه التهديد والوعيد بتسجيل وضبط كل ما يصدر منه ومنهم لمجازاتهم عليه: فليرتدع هذا الكافر عن التفوه بمثل هذا وليرجع عن صلفه وكبره ولينزجر من معه، فلا هو أطلع على الغيب ولا هو اتخذ عند الرحمن عهداً أن يحقق له شيئاً مما زعم حتى يقول ما قال، ولا الأمر على ما ظنه أهل ملته من أن الآلهة التي اتخذوها من دون الله ستشفع لهم أو تدفع عنهم أو تمنعهم من عذاب يوم القيامة، فإن هذه الآلهة ومنهم الملائكة والجن الذين يعبدونهم من دون الله تعالى سيكفرون بعبادتهم وينكرونها عليهم ويتبرءون إلى الله منهم ويكونون عليهم ذلاً وهوانا لا عزاً ونصرا وعلى هذا الوجهين المتضمنين لمعنى الردع ولمعنى (لا) النافية يوقف على (كلا) في الموضعين، لكون ما بعدها فيهما على الاستئناف ولكونها هي في معنى النفي لما قبلها والإثبات لما بعدها، ويكون الوقف علي (كلاّ) فيهما كافيا لتعلقهما بما قبلهما تعلقا معنوياً, لبيان أنهم مخطئون فيما تصوروه ورجوه لأنفسهم.

ولا يرد على ما جاء في حق العاص أن كيف يتأتى حدوث الكتابة مستقبلاً – مع ما أفادته سين التسويف – مع أنه قد كتب من غير تأخير، لكون نفس الكتابة لا تتأخر عن القول كما قال سبحانه: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ق/ 18)؟.. لأن جوابه، أنه على معنى سنظهره له ونعلمه أنا كتبنا قوله، وأنه على عادة وطريقة قول المتوعد للجاني: (سوف أنتقم منك)، يعني أنه لا يخل بالانتصار وإن تطال به الزمان واستأخر.


وعلى القول بأن ( كلا ) في الموضوعين في معنى (حقا) أو (ألا) التي للاستفتاح لكون المعنى والتقدير:

سنكتب ما تفوه به هذه المعاند من مقالة نكراء وما صدر عنه من جريمة شنعاء، سنكتبه كتاباً حقاً أو كتبا حقاً، وسيكفر أهل ملته بعبادتهم لأصنامهم وابتغائهم العزة منها كفراً ثابتاً لابد من تحقيقه، لكون (حقاً) في المرتين نعتا لمصدر محذوف، أو مراده التنبيه على أن ما بعد (كلا) هو المقصود الذي يجب الاهتمام بشأنه، وعلى هذين الوجهين في الموضعين لا يوقف على (كلا) لتعلقها ولشدة اتصالها بما بعدها، ولأن أداة التنبيه لا بد من أن تجعل في صدر الجملة المنبه عليها على ما أفاده محققوا أهل التفسير وأئمة القراء من أهل الوقوف وأرباب التجويد.

(3):- والوقف على كلا في قوله تعالى: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون . لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون .. المؤمنون /99, 100)، "حسن بالغ وهو قول نافع وأبو حاتم وغيرهما على معنى ليس الأمر كذلك، أو كما يظن من أنه يجاب إلى الرجوع إليها بل هو كلام يطيح أدراج الرياح، فتكون رداً لما تمنى الكافر من الرجوع إلى الدنيا ليعمل صالحاً، لعلم الله أنه لو رد إليها لم يعمل صالحاً، وذلك قوله تعالى: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه.. الأنعام / 28)" انتهى من كلام مكي بشيء من التصرف.

وكلام ابن فارس لا يختلف عنه، وإن فصَل الأخير بين معنى الرد والنفي فذكر أن لـ (كلا) في هذه الآية ثلاثة معان: وذكر في أولها أنها "رد لقولهم (ارجعون) فقيل له (كلا) أي لا ترد، والثاني قوله تعالى: (أعمل صالحاً فيما تركت كلا) أي لست ممن يعمل صالحاً وهو كقوله في الأنعام: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه)"، وأيا ما كان فالمعنى: (كلا) أي لا رجوع، فهو نفى مصحوب بالرد على ما زعم وهى مع كونها للنفي فيها معنى الردع والزجر كذا في حاشية الجمل وفى الكشاف والبيضاوي (كلا) ردع عن طلب الرجعة وإنكار واستبعاد لها

ويجوز الابتداء بـ (كلا) على معنى: ألا إنها كلمة، فتكون بمعنى ألا الاستفتاحية التنبيهية، وعلى هذا الوجه لا يوقف عليها لوثيق الارتباط بما بعدها كما لا يخفى، والأول أبلغ لكون المعنى بالوقف عليها أتم لذا كان كافياً، والوجه فيه أن جملة (إنها كلمة..الخ) استئنافية لا موضع لها من الإعراب قصد بها تقرير معنى (كلا) من عدم جواز الإجابة، أي إنها كلمة لا يجنى لها ثمرة ولا يحصل من ورائها على فائدة، ولا يجاب لما سأل ولا يغاث، فبينها وبين ما قبلها ربط معنوي، والقول بالابتداء بها على تأويلها بـ (حقا) وإن اعترض عليه بشدة من قبل كثير من النحاة وأهل اللغة والتجويد نظراً لكسر همزة (إن) التي يجب فتحها بعد (حقا) أو ما كان بمعناها إلا أن سيبويه والجمهور من نحاة البصرة أساغوه لوروده في نحو: (حقا أنه منطلق ) بفتح (أن) بعد (حقا) وأنشدوا:

أحقا أن جيرتنا استقلوا
فنيتنا ونيتهم فريق

بفتح (أن) بعد حقا، وحكى سيبويه وغيره أنك إذا قلت: (أما أنه منطلق) وجعلت (أما) بمعنى حقا فتحت همزة (إن)، فإن جعلها بمعنى (ألا) كسرتها (إن)، فعلى هذا تجعل (كلا) أيضاً، لأنها بمنزلة (أما) في أنهما – أي أما وكلا – يقعان بمعنى (ألا) وبمعنى (حقا) فهذا بين في وجوب فتح الهمزة في(ان) الواقعة بعد كلا إذا كانت بمعنى (حقا) فلا يبتدأ بـ (كلا) – في هذا الموضع ونظيره – إلا وهو بمعنى (ألا). والحق أن هذا مع قولهم بلزوم كلا في إفادة معنى الردع والزجر – كذا بالتعميم – لا يخلو عن كدر، سيما مع ما ذكرناه من سياقات هي أقرب إلى المعاني والأغراض الأخرى من أن تكون للتحقيق المفاد من جعل (كلا ) بمعنى حقا.

4- والمتبصر للآية الكريمة في سورة سبأ (قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم. قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم.. سبأ/27،26)، يدرك أنها بمنزلة البيان للآية التي قبلها (قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون.. سبأ /25)، لأن نفى كل فريق عن عمل غيره يقتضي أن هنالك سؤالاً عن عمل نفسه، فبُيّن بأن الذي يسأل الناس عن أعمالهم هو الله تعالى، وأنه الذي يفصل بين الفريقين بالحق حين يجمعهم يوم القيامة الذي هم منكروه، وهذا تدرج من الإيماء بأن كلاً محاسب عن عمله.. إلى ما يشير إلى ضلالهم وما يستلزمه من حساب وسؤال.

والوجه في التذييل بـ (الفتاح العليم ) لجملة (يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق)، أن يجعل وصفاً كليا لحكم جزئي، وفى ذلك من الوصف بالقوة والإحاطة ما فيه، ونكتة اتباع العليم بـ (الفتاح)، الدلالة على أن حكمه عدل محض وأنه لا تحُف بحكمته أسباب الخطأ، لكونه منزه عنه وعن الجور الناشئ عن الجهل والعجز واتباع الضعف النفساني الناتج عن عدم معرفة الأحوال والعواقب.

وهنا يأتي النظم الكريم: (قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم)، لبيان أنهم مفتضحون على تلك الإراءة، وأعقب طلب تحصيلها بإثبات أثرها وهو الردع عن اعتقاد إلهيتها وإبطالها عنهم بإثباتها لله تعالى وحده فلذلك جمع بين حرفي الردع والإضراب ثم الانتقال إلى تعيين الإله الحق على طريقة (كلا بل لا تكرمون اليتيم.. الفجر/17) فاحتمل المعنى في (كلا) لأن يكون للردع ولأن يكون للنفي والرد، كأنه قيل ارتدعوا عن هذا القول وذاك الزعم الذي تزعمونه من أن هذه الأصنام شركاء لله تعالى، فإن هذه الأصنام لا تخلق شيئاً ولا ترزق أحداً.

قال العلامة الآلوسي: "كلا ردع لهم عن زعم الشركة بعدما كسره بالإبطال كما قال إبراهيم عليه السلام: (أف لكم ولما تعبدون من دون الله..الأنبياء/68) بعدما حج قومه"، كأنه لما قال: عرفوني هذه الأصنام والأوثان التي جعلتموها شركاء لله عز وجل وهل شاركتني في خلق شئ، أتبعه بقوله: (كلا) نفياً لجوابهم المحذوف المقدر بأنها هي الأصنام، فتكون كلا قد جاءت لنفي ذلك ولتحقيق معنى ليس الأمر كما زعمتم لأنه تعالى جل أن يكون له شركاء..أو رداً على قوله: (أروني) أي أنهم لا يرون ذلك ولا يقدرون عليه. وكيف يرون شيئاً لا يكون وعلى هذه الأوجه يسوغ الوقف على الأداة (كلا) ويكون الوقف عليها وقفاً كافياً لعدم تعلق ما بعدها بها لفظاً وإن تعلق معنى.. ويجوز البدء بها والوقف على شركاء بجعلها من تمام القول، والوقف عليها كاف للعلة نفسها فيكون في الآية وقفان متجاوران.

ومن فساد المعنى وصل (شركاء) بـ (كلا) إذ يصير مفاد الآية أن إلحاقهم الشركاء بالله تعالى حق ثابت، وهذا معنى بيّن الفساد واضح البطلان، كما لا يجوز البدء بها بجعلها بمعنى (حقا) ولا يصح، لما يترتب على الوقوف على شركاء والبدء بـ (كلا) ووصلها بما بعدها بهذا الاعتبار، من ركة العبارة وتهافت الأسلوب، وإن أساغة ابن فارس في مقالة (كلا) تحقيقا لقوله (وهو العزيز الحكيم)، ويقتضي دقة النظم ألا يسوغ جعل كلا بمعنى (ألا) التنبيهية لأنه لم يعهد في فصيح الأساليب وبليغ التراكيب، إقران (ألا) التي للتنبيه بـ (بل).

والحق أن هذا اللون من الوقوف يحتاج إلى مزيد بحث نظراً لما يحمله من ثراء في المعنى واتساع في فهم المراد، وما ذلك إلا لإفادته معنى عند البدء به مع ما بعده، وإفادته معنى ثانياً ومغايراً عند الوقوف عليه بصحبة ما قبله، لذا كان من المناسب إرجاء الحديث عنه إلى حين البحث مع نظائره من حروف المعاني الأخرى التي يسوغ لنفس العلة ولنفس السبب، الوقف عليه والبدء به، وذلك حتى يتسنى لنا الحديث عن ذلك باستفاضة وبما يقتضيه ويستحقه هذا النوع من التعانق.


ثانياً: ما يحسن الابتداء فيه بـ (كلاّ) ولا يحسن فيه الوقوف عليها:

ويستقيم لنا من خلال ما ذكر أن أشير إلى أن الوجه فيما لا يحسن الوقف فيه على (كلا) ويحسن أن يبتدأ فيه بها من مواضع بلغ مجموعها ثمانية عشر موضعاً.. إنما يتلخص في كون هذه الأداة غير صالحة لنفي ما قبلها، كما أنها غير صالحة لرده أو زجره، ومن ثم يصبح من اللائق وفاء بحق السياق وبلاغته ألا يوقف عليها، ولا يعني ذلك بحال أن يتحتم كونها بمعنى (حقاً) أو (ألا)، فإن ذلك ليس بشرط للبدء بها وإن أجازه بعضهم فيما لا يسوغ فيه استعمالهما وعممه آخرون.

ففي قوله في سورة المدثر: (وما هي إلا ذكرى للبشر. كلا والقمر.. المدثر/31،32) تنازع أهل العلم في إساغة الوقف على (كلا)، فذكر الفراء فيما نقله عن القرطبي أن "(كلا) صلة للقسم والتقدير أي والقمر) وقيل المعنى حقاً والقمر" وعلق يقول: "فلا يوقف على هذين التقديرين على كلا"، بينا أجاز الطبري الوقف عليها وجعلها رداً للذين زعموا أنهم يقاومون خزنة جهنم فجعل المعنى في ذلك: ليس الأمر كما يقول من زعم أنه يقاوم خزنة النار ثم أقسم سبحانه على ذلك بالقمر وما بعده وفيما قاله نظر لأن السياق لا يساعده لذا فقد رده ابن هشام في المغني قائلاً: "وقول الطبري وجماعة أنه أنزل في عدد خزنة جهنم (عليها تسعة عشر.. المدثر/ 30) فقال أبو جهل: (اكفوني اثنين وأنا أكفيكم تسعة عشر) فنزل (كلا) زجراً له، قول متعسف لأن الآية لم تتضمن ذلك" يعني بقوله أنه لم يذكر في الآية الواقعة قبلها التي هي سبب النزول ما يناسب ذلك، وكلا التي للردع والزجر لا بد أن يتقدمها صراحة ما يردع عليه، ويؤخذ من كل ما ذكر أن الأبلغ في هذه الآية أن يكون بمعنى (إي) و(نعم) أو تكون بمعنى (حقاً) لكون ذلك هو الأنسب للسياق والأوقع في مراعاة النظم الكريم.

وما ذكره الزمخشري من أن المراد بها الإنكار على ما سبق بعد أن جعلها سبحانه ذكرى، تعقبه أبو حيان بأنه لا يسوغ في حقه تعالى أن يخبر أنها ذكرى للبشر – يقصد في قوله قبل (وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر) سواء عاد الضمير فيه على (سقر) أو على عدة خزنتها أو على الآيات الناطقة بأحوال سقر – ثم ينكر أن يكون ذلك لهم ذكرى وأجاز بعضهم أن تكون كلا بمعنى (ألا) الاستفتاحية التي تفيد التنبيه على التنويه بشأن ما بعدها والعناية بأمره.

وعلى أي من هذه الأحوال السائغة فإن الوجه في أن يكون الوقف على ما قبلها والبدء بها، هو تعلقها – والحال هكذا – بالكلام اللاحق بعدها، وقد سبق أن ذكرنا أن المقام فيها مقام إقسام فهي مع ما ذكر صلة لليمين وهذا ذكره ابن فارس كما نص عليه غيره، كما يعضد من شأن البدء بها والوقف على ما قبلها مراعاة للسياق.

والوقف على (كلا) في قوله تعالى من نفس السورة: (كلا إنه تذكرة.. المدثر/54) لا يجوز، "لأن في الوقف عليها نفي لما حكى الله عن أهل الكفر من أنهم لا يخافون الآخرة، فإن جعلتها للنفي على أنها تأكيد لـ(كلا) الأولى، جاز الوقف عليها عند بعض العلماء – وهو مذهب أبي حاتم والكسائي ونصير – يجعلونها رداً وتأكيداً لـ(كلا) الأولى فتنفي ما نفته الأولى، وهذا بعيد، لأن التأكيد لا يُفرق بينه وبين المؤكد، وهم قد أجازوا الوقف على كلا الأولى فكيف يجوز الوقف عليها والثانية عندهم توكيد لها فيفرقون بين المؤكد وتوكيده"، كذا ذكره مكي ونص عليه ويفاد منه أن القول بالنفي أياً ما كان الأمر فيه، فيه إشكال فلا يحسن – من ثم – الوقف عليه على ما يقتضيه كلام المحققين.

وسواء امتنع حمل المعنى على النفي أو ساغ حمله على معنى: حقاً إن هذا القرآن عظة (فمن شاء ذكره) أي اتعظ به.. أو بمعنى (ألا) كما ذهب لكلّ فريق من أهل العلم فإن ذلك يستلزم البدء بـ (كلا) لكونها على أي من الحالات التي ذكرت متعلقة بالجملة بعدها.

لكن الغريب في أمر مكي والعجيب، أنه جرى في تفسيره، على معنى النفي فقال: "أي ليس الأمر كما يقول هؤلاء المشركون في القرآن إنه سحر يؤثر وإنه قول البشر، ولكنه تذكرة من الله لخلقه، ثم قال تعالى: (فمن شاء ذكره) أي اتعظ به واستمع ما فيه"

والحق أن الوقف على (كلا) في هذه الآية الكريمة وإن لم يسغ مع ما ذكرنا من معنى النفي إلا أن ذلك لا يمنع من إساغته في حال ما ارتبط المعنى بمتعلق إرادتهم أن يؤتى كل منهم صحفاً منشرة، فتكون (كلا) حينئذ ردع لهم عن إرادتهم تلك وزجر لهم عن اقتراحهم الآيات ويصح أن تكون ردعاً ثانياً مؤكداً للردع الذي قبله والحاصل في قوله: (كلا بل لا يخافون الآخرة) وجملة: (إنه تذكرة) تعليل للردع عن سؤالهم أن ترد عليهم صحف منشرة بأن هذا القرآن فيه ما يكفي لكونه تذكرة عظمى كما في قوله تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين. أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون.. العنكبوت/50، 51).

هذا وقد نفى النحاة وجل علماء أهل اللغة بشدة جعل (كلا) في آيات سورة القيامة وبعض سور القرآن الأخرى للردع لمنافاة ذلك لما يقتضيه السياق في تلك السور، ونعوا على الذاهبين إلى عكس ذلك قولهم، ففي معرض الحديث عن لزوم (كلا) لمعنى الزجر والردع الذي قال به أكثر البصريين أوضح ابن هشام أن هذا غير صحيح وأنه لا يظن معنى الزجر في كلا المسبوقة بنحو (في أي صورة ما شاء ركبك.. الانفطار/8) – يعني في قوله بعدها (كلا بل تكذبون بالدين) – (يوم يقوم الناس لرب العالمين.. المطففين/6) – يعني في قوله بعدها: (كلا إن كتاب الفجار لفي سجين) – (إن علينا جمعه.. القيامة/17) – يعني في قوله بعدها: (كلا بل تحبون العاجلة.. القيامة/20) – وذكر أن ذهاب القائلين بإفادة هذه المواضع لمعنى الردع وجعلهم "المعنى: انته عن ترك الإيمان بالتصوير في أي سورة ما شاء الله، وبالبعث وعن العجلة بالقرآن، تعسف" وعلل ذلك بالقول بأنه "لم يتقدم في الأولين حكاية نفي ذلك عن أحد، ولطول الفصل في الثالثة بين كلا وذكر العجلة، وأيضاً فإن أول ما نزل خمس آيات من أول سورة العلق ثم نزل (كلا إن الإنسان ليطغى.. العلق/6)، فجاءت لافتتاح الكلام" وقد جاءت الإشارة إلى بعض ذلك عند الرضي في شرح الكافية.

كما صرح بعضهم أن ذلك يستلزم أحياناً جعل الأداة بمعنى (ألا)، ويستلزم أحياناً كثيرة أن تحمل على معنى (حقاً)، وابتناء على ما لاحظوه بمعونة السياق يكون الابتداء بـ(كلا) هو الاختيار ويكون فيما ذكره جل أهل التفسير خلافاً لذلك نظر.

يقول مكي في (كلا) الوارد ذكرها في قول الله تعالى: (ثم إن علينا بيانه. كلا بل تحبون العاجلة.. القيامة/ 19، 20): "الوقف على (كلا) لا يحسن لأنك كنت تنفي ما تضمن الله لنا من بيان كتابه، والابتداء بـ(كلا) هو الحسن المختار.. في هذا على معنى (حقاً) أو على معنى (ألا) وكونها بمعنى (حقاً) هنا أحسن، ليؤكد بها ما أخبر الله عن عباده من محبتهم الدنيا وزهدهم في الآخرة، وذلك صحيح في كل الخلق إلا من عصمه الله ووفقه".

وبنفس هذه العلة يشير – عليه من الله سحائب الرحمة والرضوان – إلى أن الوقف على (كلا) في قوله (في أي صورة ما شاء ركبك. كلا بل تكذبون بالدين.. الانفطار/8،9): "لا يحسن، لأنك كنت تنفي ما أخبر الله سبحانه به من أنه يصور الإنسان في أي صورة شاء – في صورة أب أو أم أو خال أو عم أو حمار أو خنزير – وذلك حق لا ينتفي، وقد أجازه نصير على معنى: لا يؤمن هذا الإنسان بذلك، وقيل معنى الوقف: ليس كما غررت به، وفيه بعد للإشكال، والابتداء بها حسن على معنى (ألا بل تكذبون) أو على معنى (حقاً بل تكذبون) وكونها بمعنى (حقاً) أحسن لتقييد تأكيد كذبهم بالدين وهو الجزاء في الآخرة".

و(كلا) الواردة في آية المطففين: (يوم يقوم الناس لرب العالمين. كلا إن كتاب الفجار لفي سجين.. المطففين/6، 7) لا يجمل الوقف عليها هي الأخرى لأن في ذلك نفي لقيام الناس لرب العالمين، وذلك لا ينفى كونه حق لا شك فيه، وقد أجازه الطبري نفياً لما يظنه المشركون من عدم الحشر والبعث ولعل متكأه في هذا قوله تعالى: (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم .. المطففين /4)، والحق أن الوقف على هذا التقدير بعيد لأنه لا يدري ما نفت أإثبات البعث أم نفيه؟ ولأن الذي يقرب منها أولى بأن تكون نفياً له مما بعد منه، والذي لا يقرب منها لا يجوز نفيه، لأنه إثبات للبعث والحشر وذلك لا يُنتفى، ففي الوقف عليها إشكال ظاهر، إذ لا يعلم ما نفت إلا بدليل آخر، فترك ذلك أحسن وأولى، وأبعد مما ذهب إليه الطبري، ما ذكره نصير في إجازته الوقف عليها من أن المعنى: (لا يسوغ لكم النقص) فجعلها بذلك رداً على ما جاء في أول السورة، ويرد عليه ما سبق ذكره سيما مع زيادة البعد للمنفي.

ويسلمنا هذا كله إلى القول بترجيح الحمل في (كلا) على معنى (ألا) إذ به يحسن البدء، وإنما لم يحسن على معنى (حقاً) لأنه يلزم فتح (إن) المكسورة وهو ما لم يقرأ به أحد، كما أنه لا يجوز لأن اللام في خبرها وقريب في جل ما سبق ما جاء في قوله تعالى: (ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون. كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين.. المطففين/17، 18)، لذا فقد جرى مكي في تفسيره على أن معناه: ألا إن كتاب أعمالهم لفي عليين.

وفي إشارات لافتة لمراعاة مقتضيات السياق في النسق القرآني يرى مكي في موضعي سورة عبس أن الوقف على (كلا) – يعني في قوله تعالى: (وأما من جاءك يسعى. وهو يخشى .فأنت عنه تلهى .كلا أنها تذكرة .. عبس/ 8-11)، وقوله: (ثم إذا شاء أنشره.. عبس/22) – لا يحسن، أما الأول فلأنه يتضمن نفي ما حكى الله عز وجل من أمر النبي صلى الله عليه وسلم مع ابن أم مكتوم، وأما الثاني فلأن فيه نفي البعث، لذا حسن البدء فيهما على معنى (ألا)، أو على معنى (حقاً) في الثاني منهما، نظراً لكسر همزة (إن) في أول الموضعين، وإلى الأخير في جعلها للتحقيق ذهب ابن فارس، وقال الحسن البصري في معناه: أي حقاً لم يقصد أي لم يعمل بما أمر.

وفي تقديري أن هذا - لشدة تعلقه بما بعده ولما ذكره ابن الأنباري من قبح الوقف على (كلا) أولى بالاتباع من القول بإفادة الردع الذي قال به الزمخشري والقرطبي وأبو حيان والآلوسي والسيوطي ومن لف لفهم، وتكلفوا له بعد أن ساقه معظمهم بلفظ التمريض.

والأداة (كلا) في قول الله تعالى في سورة النبأ: (كلا سيعلمون.. النبأ/4)، وقوله في سورة التكاثر: (كلا سوف تعلمون..التكاثر/3)، (كلا لو تعلمون علم اليقين .. التكاثر/5) لا يحسن الوقف على شئ منها البتة، لأن الوقوف على الأولى في السورتين نفي لما قبلها ونفيه لا يجوز فإن روعي فيهما معنى التوكيد من التي تليهما في السورتين، أعني من قوله في سورة النبأ: (ثم كلا سيعلمون.. النبأ/5)، وقوله في سورة التكاثر: (ثم كلا سوف تعلمون.. التكاثر/4)، وجب أن تكون جملتي (سيعلمون) و(سوف تعلمون) الأخيرتين تأكيداً للتين قبلهما مع مراعاة أنه لا يجوز التفريق بين بعض التأكيد وبعض، وهذا يستلزم وجوب وصل (كلا) المسبوقة بـ(ثم) في السورتين.

ويسوغ في سورة التكاثر جعل الثالثة (كلا لو تعلمون علم اليقين) تأكيداً لسابقتيها، وأجاز بعضهم الوقف عليها على معنى لا يؤمنون بهذا الوعيد وهذا يستلزم الوقف على الأولى ليكون كلاهما للردع والزجر عن اشتغال الإنسان بما لا يعنيه ويكون التكرار للتأكيد والتغليظ، وأجاز بعضهم ذلك على جهة النفي أي ليس الأمر على ما أنتم عليه من التكاثر والتفاخر وسوف تعلمون عاقبة هذا، وكان محمد بن عيسى يقول (حتى زرتم المقابر كلا) والمعنى عنده: كلا لا ينفعكم التكاثر، وعلى قوله يوقف في الآيتين الأولى والثالثة من سورة التكاثر على (كلا)، وما بعد (كلا) يكون مستأنفاً، لكن البدء بها وترك الوقف عليها أبين وأقوى لما ذكر من الاحتمال المفسد للمعنى في السورتين، ووجه الحسن في البدء بها ـ باستثناء ما كان منها مسبوقاً بـ(ثم) كما ألمحنا- جعلها بمعنى حقاً، أو على تقدير (ألا سوف تعلمون) (ألا تعلمون علم اليقين) وهذا كله اختيار أبي حاتم.


ثالثاً: ما لا يحسن الابتداء فيه بـ(كلا)، ويحسن الوقف فيه عليها:

ومن يجيل النظر في قوله تعالى: "ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون. ولهم عليّ ذنب فأخاف أن يقتلون. قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون.. الشعراء/13-15) يلحظ أن المقام الذي وردت فيه -على ما سبق ذكر ذلك- مقام تطمين لموسى عليه السلام وإزالة مخاوفه وإذهاب قلقه واضطرابه وهذا لا يناسبه إلا معنى الردع بقصد التوجيه وإلقاء السكينة وبث الطمأنينة في صدره، أو نفي أن يقع عليه قتلٌ ممن يتربصون به حتى يزيد ذلك من طمأنته عليه السلام إذ من شأن ذلك أن يقوي عنده جانب الثقة بالله وأنه سبحانه عاصمه من كيد أعدائه وحافظه من إلحاقهم الضرر به، لذا كان الحمل على معنى الردع أو النفي أولى، والوقوف من ثم على (كلا) للدلالة علي أي من المعنيين أبلغ وكأنه سبحانه يقول له: "ارتدع عن خوف القتل فإنك بأعيننا" أو قال له على حد قول القرطبي في أحكام القرآن: "كلا لن يقتلوك، فهو ردع وزجر عن هذا الظن وأمر بالثقة بالله تعالى، أي ثق بالله عن خوفك منهم فإنهم لا يقدرون على قتلك ولا يقوون عليه".

ولا يتأتى لـ(كلا) مع هذه المعاني الملائمة لورودها في هذا المقام أن تكون للتنبيه بمعنى (ألا)، كما لا يتأتى لها أن تكون بمعنى (حقاً) وإلا لكانت له إزعاجاً وليس تطميناً، ذلك أن موسى عليه السلام، قد ساوره الخوف واستولى عليه القلق وملك عليه حواسه وشعوره فالتجأ إلى ربه كي يطمئن خاطره ويهدأ روعه فقال: (ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون)، فإذا كان أول ما يطرق سمعه من ربه معنى (حقاً) فلا شك أن هذا سيضاعف خوفه ويزيد من قلقه ويملأ جوانحه زعراً واضطراباً.

كما لا يصح من جهة أخرى الوقف على (قال) والابتداء بـ(كلا)، لأن (كلا) وما بعدها إلى آخر الآية مقول القول ولا يجوز الفصل بين القول ومقوله وهذا الوجه يجعل هذا الموضع ضمن المواضع التي لا يحسن الوقف فيه على (كلا) ولا البدء بها، أما عدم البدء بها فلما ذكرنا من كونها زجر ونفي وهو ما لا يستقيم معه المعنى، وأما عدم الوقوف عليها فلكونها وما بعدها تتمة مقولة القول.

والأمثل – برأيي – أن يوقف عليها ثم تعاد مع (قال) ومع تتمة الجملة ليكتمل بهذا الوضع في الوقف والابتداء تمام المعنى، وحمله على جميع أوجهه المحتملة، لأن قوله (فاذهبا بآياتنا) عطف على ما دل عليه حرف الردع من الفعل كأنه قيل: (ارتدع عما تظن فاذهب أنت وأخوك وأنا معكم وبصحبتكم).

والشئ بالشئ يذكر فإن ما قيل في خطاب الله لموسى، شبيه بما أعقبه من خطاب موسى u لأصحابه.. ففي قول الله تعالى: (فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون. قال كلا إن معي ربي سيهدين .. الشعراء/ 61 ،62) حوار بين موسى وأصحابه وقد وقعت (كلا) في هذا الحوار في مقول موسى لأصحابه على جهة الطمأنة بمعية الله وموعوده لهم بالنصر والتأييد، وجاءت (كلا) في ثنايا كلامه لردعهم عن سوء ظنهم، يقول القرطبي: "لما لحق فرعون بجمعه جمع موسى وقرب منهم، ورأت بنو إسرائيل العدو القوي والبحر أمامهم ساءت ظنونهم وقالوا لموسى على جهة التوبيخ والجفاء (إنا لمدركون) فرد عليهم قولهم وزجرهم وذكّرهم وعد الله سبحانه بالهداية والظفر (كلا) أي لم يدركوهم، (إن معي ربي) أي بالنصر على العدو (سيهدين) أي سيدلني على طريق النجاة، فلما عظم البلاء على بني إسرائيل ورأوا من الجيوش ما لا طاقة لهم بها، أمر الله تعالى موسى أن يضرب الحجر بعصاه.. ولما انفلق صار فيه اثنا عشر طريقاً على عدد أسباط بني إسرائيل ووقف الماء بينها كالطود العظيم أي الجبل العظيم".

فالزجر والنفي هما المعنيان المناسبان لمعنى الآية والملائمان لمدلولها ولفحوى سياقها، ويبعد أن تكون للتنبيه لأن التقدير عليه – وهو ما يعني: (ألا إن معي ربي سيهدين) – لا يناسب مقام التطمين من قِبَل موسى لأصحابه كما أن القول بأن الأداة (كلا) في معنى (حقاً)، يكدر صفوه كسر الهمزة بعدها في (إن)، إذ لو كانت بمعنى حقاً لفتحت وجوباً ولكان ذلك إثباتاً لكونهم مدركين، ولا شك أن كليم الله موسى u يريد أن ينفي كونهم مدركين ولا يصح والحال هكذا البدء بـ(كلا)، كما لا يصح من جهة أخرى البدء بها لكونها إلى آخر الآية مقول القول ولا يسوغ الفصل بين القول ومقوله.

وبالنظر لتتمة القول بعد (كلا)، فإنه أيضاً لا يصح الوقف عليها والبدء بقوله: (إن معي ربي سيهدين)، لأن ذلك من جملة مقول القول ولا يحسن الفصل بين القول ومقول القول وهذا يدعونا إلى القول جمعاً بين هذه المعاني التي يتحملها السياق ويدعو إليها مقتضى الحال، الوقف عليها حتى يتحقق معنى الزجر أو النفي، ثم البدء بها مع (قال) وتتمة القول حتى يتم المعنى ولا يكون ثمة فصل بين القول ومقول القول أو تتمته.


رابعاً: ما لا يحسن البدء فيه بـ (كلا) ولا الوقف فيه عليها:

ولئن حسن الابتداء بـ (كلا) الأولى من سورة النبأ، والأولى والثالثة من سورة التكاثر لما ذكرنا من أوجه، وساغ الوقف عليها لأجله، فإن ما جاء عقب الأولى في السورتين معطوفة بـ (ثم)، وهما قوله: (ثم كلا سوف تعلمون.. النبأ/5) وقوله (ثم كلا سوف تعلمون.. التكاثر/4) لا يحسن بحال الوقف عليها ولا البدء بها، أما عدم البدء بها فالوجه فيه أن حرف العطف لا يوقف عليه دون المعطوف، يقول مكي: "ولا يحسن الابتداء بها لأن قبلها حرف عطف وهو (ثم) ولا يوقف على حرف العطف دون المعطوف، والأحسن أن تقف على (سيعلمون) الآخر - أي التي قبلها- وتجعل الجملة الثانية وهي (ثم كلا سيعلمون)، توكيداً للجملة الأولى ومعطوفة عليها، ويجوز أن تقف على سيعلمون الأولى وتبتدئ (ثم كلا سيعلمون) على قول الضحاك، لأنه قال: (كلا سيعلمون) الأولى للكافرين، (ثم كلا سيعلمون) الثانية للمؤمنين، ولك أن تجعله تهدداً بعد تهدد ووعيداً بعد وعيد، وفيه معنى التأكيد أيضاً، والاختيار أن تصل فلا تقف عليه".

والوجه في عدم إساغة الوقف على (كلا) في الموضعين "أنك كنت تنفي ما مضى من التهدد والوعيد وتنفي وقوع العلم منهم وذلك كفر، فإن جعلت (كلا) بمعنى (حقاً) وجعلتها تأكيداً وتكريراً لـ (كلا) الأولى لم يحسن الوقف عليها أيضاً لأن (سيعلمون) تكون أيضاً تأكيداً وتكريراً لـ (سيعلمون) الأولى ولا يفرق بين بعض التأكيد وبعض".


خاتمة:

هكذا نجد أنفسنا أمام ضرب من أضرب الكلام يحمل في طياته ما يحمل من ثراء المعنى واتساع العبارة وتعدد الغرض، فأنت أينما وقفت أو ابتدأت تجد من أفانين القول ما يعجز اللبيب عن الإحاطة به.

يضاف لذلك ما يكتنفه هذا الضرب من الكلام من الإيجاز الذي يهدف إلى تأكيد الجملة المستأنفة بيانياً ويكون الغرض منه تحقيق المعنى أو التنبيه عليه.. وما اشتمل عليه من الاختصار الذي يغني عن تكرير ما سبق مما يستحق الرد ويستأهل الردع والزجر، وما يحتويه من التنوع في مقصود الكلام ومراده فهذا يستكنه منه التهديد وذاك يشتم منه التوجيه وآخر يفاد منه الإقسام وغيره يفهم منه الاستنكار والاستبعاد وسواه يهدف إلى تقرير الكلام وتأكيده.

وتلعب (كلا) في كل هذا دوراً أساسياً وتعد واسطة العقد وقطب الرحى في كل موضع جاءت فيه، فهي من ناحية تأديتها لمعاني الكلام وأغراضه لاءمت المقامات التي جاءت فيها واقتضتها سياقات الكلام ومقتضيات الأحوال، وهى من ناحية وضعها اللغوي صححت الأفهام وأزالت الشك وردعت المنكرين وردت عليهم افتراءاتهم وأثبتت الحقائق التي لا يماري فيها إلا جاهل أو معاند..

فهي في الردع أقوى دلالة وأعمق أثراً وفى التنبيه لفت نظر وفي التحقيق رفع احتمال وتثبيت يقين، وهى مع كل هذا ناسبت أحوال المخاطبين فقرعت باعتبارها من خصائص القرآن المكي أسماعهم ودحضت على وجه الإلزام أكاذيبهم وملأت بالحقائق - التي لم يقووا على إدراكها أو يقدروا على استيعابها أو الوقوف أمامها- آذانهم، وما كان عنادهم بعد ذاك إلا غطاء هشاً لما انطوت عليه قلوبهم من الحقد الدفين والعداء المستحكم للحق والحقيقة.

وبعد فهذا ما سنح به الوقت ووسعه المقام واقتضاه الحال، فإن كان من صواب فبتوفيق من الله وإن كان من خطأ فأنا أبرأ إلى الله منه فهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

*********

أهم مراجع البحث:

الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ط مكتبة مصر بالقاهرة.

إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم لإبي السعود محمد العمادي ط دار إحياء التراث العربي بيروت.

إملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب للعكبري دار الفكر بيروت 1414

أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي دار الكتب العلمية ط 1 لسنة1417.

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي دار الفكر ط 2 لسنة1983.

باهر البرهان في معاني مشكلات القرآن لمحمود بن أبي حسين النيسابوري من مطبوعات جامعة أم القرى سنة 1998م.

البرهان للزركشي

بصائر ذوي التمييز لمحمد بن يعقوب الفيروزابادي ط المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.

تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ت السيد صقر ط دار الكتب العلمية. بيروت سنة 1981م.

تفسير التحرير للطاهر بن عاشور ط دار سحنون بتونس.

تفسير القرطبي للإمام القرطبي ط دار الغد العربي سنة 1990م.

جامع البيان للطبري ط دار المعرفة 1412هـ.

الجني الدانى للمرادي ت محمد فاضل ط دار الكتب العلمية. بيروت.

جواهر الأدب لعلاء الدين الإربلي ت حامد نيل ط مكتبة النهضة المصرية ط سنة 1984م.

حاشية الجمل المسماة بالفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين لسليمان الجمل ط سنة 1293هـ.

حاشية الشهاب على البيضاوي دار الكتب العلمية ط 1 لسنة 1417هـ

دراسات قرآنية د/ محمد عبد الخالق عضيمة ط 1لسنة 1392مطبعة دار السعادة.

رصف المباني في شرح حروف المعاني لأحمد بن عبد النور المالقي ت أحمد الخراط ط مجمع اللغة العربية بدمشق سنة 1975م.

روح المعاني في تفسير القرآن العظيم للآلوسي دار الفكر بيروت 1983.

شرح الرضي على الكافية ت يوسف حسن عمر ط سنة 1978م.

شرح كلا وبلى ونعم والوقف على كل في كتاب الله لأبي محمد مكي بن أبي طالب ت أحمد سيد فرحات ط دار المأمون للتراث. بيروت سنة 1983م.

شرح المفصل لابن يعيش ط عالم الكتب. بيروت.

الصاحبي لأبي الحسين أحمد بن فارس ت السيد صقر ط الحلبي سنة 1977م.

الصحاح للجوهري ط دار الحضارة بيروت.

فتح القدير للإمام الشوكاني ط الدار العربية الثقافية بيروت.

القرطين لأبي مطرف الكناني ط دار المعرفة بيروت.

الكشاف لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي ط دار الفكر.

الكليات لأبي البقاء الكفوي ت عدنان درويش ط دار الكتاب الإسلامي بالقاهرة سنة 1992م.

لسان العرب لابن منظور ط دار المعارف.

معالم الاهتداء إلى معرفة الوقف والابتداء للشيخ محمود خليل الحصري ط الشمرلي.

معترك الأقران للإمام السيوطي ت علي محمد علي البجاوي ط در الفكر العربي.

معاني الحروف لأبي الحسن على بن عيسى الرماني ت د.عبد الفتاح إسماعيل ط دار نهضة مصر.

معني اللبيب بحاشية الشيخ محمد الأمير ط الحلبي

مغني اللبيب.. ت الفاخوري ط دار الجيل سنة 1991م.

مفاتيح الغيب للرازي ط دار الغد العربي ط 1لسنة 1993.

مقالة (كلا) وما جاء منها في كتاب الله لابن فارس ت عبد العزيز الراجكوتي ضمن مجموعة – المطبعة السلفية ط 1387.

المكتفى في الوقف والابتداء في كتاب الله عز وجل لأبي عمرو الداني ت جايد زيدان ط وزارة الأوقاف والشئون الدينية بالعراق سنة 1403هـ

منار الهدى للأشموني ط الحلبي.

نظم الدرر في تناسب السور للبقاعي ت عبد الرزاق المهدي دار الكتب العلمية ط 1 لسنة 1415

نهاية القول المفيد في علم التجويد لمحمد مكي نصر ط الحلبي 1349.


فهرس الموضوعات:

المقدمة

المبحث الأول

(كلا) في اصطلاح النحويين وأهل اللغة

أولاً : دلالة (كلا) في اصطلاح النحاة من حيث اللفظ

ثانياً : دلالة (كلا) من حيث المعنى

مناقشة ما ذكر من الآراء سالفة الذكر

مواضع (كلا) في القرآن الكريم

أثر تحديد المعنى في الوقف على (كلا) والابتداء بها

المبحث الثاني

مقامات (كلا) في آي الذكر الحكيم

(كلا) في مقام التوجيه والإرشاد

(كلا) في مقام الطمأنة ورباطة الجأش وبث السكينة

(كلا) في مقام التنبيه على الخطأ

(كلا) في مقام الاستبعاد وقطع الأمل والرجاء

(كلا) في مقام الإقسام على ما يتوهم الشك فيه

(كلا) في مقام التهديد والوعيد

(كلا) في مقام تقرير الكلام وتأكيده

(كلا) في مقام التنبيه وافتتاح الكلام

المبحث الثالث

أثر الوقوف على (كلا) والبدء بها في اتساع المعنى وإثرائه

مواقع (كلا) في القرآن بحسب ما يقتضيه الوقف عليها أو البدء بها

أولاً : ما يحسن الوقف عليه على معنى، والابتداء بها على معنى آخر

ثانياً : ما يحسن الابتداء فيه بـ (كلا)

ثالثاً : ما يحسن الوقف فيه على (كلا)

رابعاً : ما لا يحسن البدء فيه بـ (كلا) ولا الوقف فيه عليها

الخاتمة وأهم مراجع البحث.


كَلاَّ دلالتها ومواقعها في القرآن الكريم 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
كَلاَّ دلالتها ومواقعها في القرآن الكريم
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» القرآن الكريم
» القصص في القرآن الكريم 
» فتاوى القرآن الكريم
» طريقة حفظ القرآن الكريم
» الفراسة فى القرآن الكريم

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: كتابات في القرآن-
انتقل الى: