| الفصل الأول: كتب أحاديث الأحكام | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: الفصل الأول: كتب أحاديث الأحكام الأحد 26 مايو 2024, 6:37 pm | |
| الفصل الأول: كتب أحاديث الأحكام تمهيد: نقصد بهذه الكتب تلك التي جمع علماء الحديث مادتها من نوع تستنبط منه أحكام الفقه وبحوثه من الأحكام الشرعية التي تدل السُّنَّة عليها، وهي تختلف عن كتب علم الفقه بعامة، فإنه كما عرفه أهل الأصول: العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، وواضح أن الأدلة التفصيلية تعتبر السُّنَّة قسمًا منها، فإنها المصدر الثاني من مصادر الأحكام -بعد كتاب الله- كما هو مقرر، ويلي السُّنَّة النبوية الإجماع ثم القياس ثم بقية الأدلة على الاختلاف فيها، وهي الاستحسان والمصالح المرسلة، والأصل في الأشياء الإباحة، وما إلى ذلك.
وكتب الفقه العام كثيرة ومتداولة، بدأت منذ عهد الأئمة، ومن بينها كتب الفروع الفقهية للمذاهب المختلفة، والتي تدرس في معاهد العلم المتعددة.
وأما فقه السُّنَّة، فيبدو أن أول ما ألف فيه بوجه عام كتب عرفت بين المحدثين بأنها كتب السنن.
قال العلامة السيد محمد بن جعفر الكتاني في الرسالة المستطرفة1: ومنها كتب تعرف بالسنن، وهي في اصطلاحهم الكتب المرتبة على الأبواب الفقهية من الإيمان والطهارة والصلاة والزكاة.
ثم أورد منها عددًا أضافه إلى السنن الأربعة المشهورة فبلغت خمسة وعشرين كتابًا نذكرها مرتبة بحسب سنة الوفاة لمؤلفيها على النحو التالي: 1- سنن ابن جريج، وهو أبو الوليد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الرومي ثم المكي، المتوفى سنة 150هـ2. 2- سنن موسى بن طارق، وهو الذي يروي عن ابن جريج وموسى بن عقبة وغيرهم، وهو أبو قرة موسى بن طارق اليماني الزبيدي، ذكره صاحب الرسالة المستطرفة3. ونقل عن التقريب أنه ثقة يقرب من التاسعة ولم يذكر له وفاة: 3- سنن الإمام الشافعي، برواية أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، وهو أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، المتوفى سنة 204هـ4. ---------------------------- 1 الرسالة: ص25. 2 شذرات الذهب: ج1 ص226. 3 الرسالة المستطرفة: ص27. 4 شذرات الذهب: ج2 ص9. ---------------------------- 4- سنن سعيد بن منصور، وهو أبو عثمان سعيد بن منصور الخراساني الحافظ، المتوفى سنة 227هـ1. 5- سنن الدولابي، وهو محمد بن الصباح البغدادي البزار المزني مولاهم الدوبلابي، المتوفى سنة 227هـ2. 6- سنن أبي عمرو، "سهل بن سهل" زنجلة الرازي الخياط الأشتر الحافظ، المتوفى في حدود سنة 240هـ3. 7- سنن الخلال، وهو أبو محمد الحسن بن علي بن محمد الهزلي الخلال الحلواني -نزيل مكة- المتوفى سنة 242هـ4. 8- سنن الدرامي، وهو أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن التميمي الدارمي السمرقندي الحافظ الثقة المتوفى سنة 255 هـ5. 9- سنن أبي بكر الأثرم، وهو أحمد بن محمد بن هانئ الطائي الحافظ الثبت، المتوفى سنة 261هـ6. 10- سنن ابن ماجه، وهو الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه الكبير، المتوفى سنة 273هـ7. 11- سنن أبي داود، وهو الإمام أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير الأزهري المتوفى سنة 275هـ8. وسنتناول هذا الكتاب بالدراسة في هذا الفصل إن شاء الله. 12- سنن الترمذي، وهو الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك السلمي أبو عيسى الترمذي الضرير، وهو تلميذ البخاري ومشاركه فيما يرويه، توفي سنة 279هـ9. 13- سنن أبي إسحاق، وهو إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد القاضي الأزدي، المتوفى سنة 282هـ10. 14- سنن أبي مسلم الكشي، وهو إبراهيم بن عبد الله بن مسلم بن ماعز البصري الحافظ، المتوفى سنة 292هـ11. ---------------------------- 1 شذرات الذهب: ج2 ص62 2 شذرات الذهب: ج2 ص62 3 الرسالة المستطرفة: ص27. 4 شذرات الذهب: ج2 ص100. 5 شذرات الذهب: ج2 ص130. 6 شذرات الذهب: ج2 ص141. 7 شذرات الذهب: ج2 ص164. 8 شذرات الذهب: ج2 ص167. 9 شذرات الذهب: ج2 ص174 10 شذرات الذهب: ج2 ص78. 11 الرسالة المستطرفة: ص27. ---------------------------- 15- سنن أبي يوسف بن يعقوب بن حماد بن زيد بن درهم القاضي الأزدي، المتوفى سنة 297هـ1 وهو ابن عم إسماعيل القاضي الأزدي. 16- سنن النسائي الكبرى، وهو الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي النسائي أحد الأعلام، توفي سنة 303هـ2. 17- سنن الصفار، وهو الإمام أحمد بن عبيد بن إسماعيل البصري الصفار أبو الحسن. حدث عنه الدارقطني وغيره، وتوفي سنة 341هـ3. 18- سنن أبي بكر محمد بن يحيى الهمذاني الشافعي، المتوفى سنة 347هـ4. 19- سنن النجاد، وهو أبو بكر أحمد بن سليمان بن الحسن بن إسرائيل بن يونس البغدادي الفقيه الحافظ، المتوفى سنة 348هـ5. 20- سنن الدارقطني، وهو أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود البغدادي الإمام الحافظ الكبير، المتوفى سنة 385هـ6. 21- سنن ابن لال، وهو الإمام أبو بكر أحمد بن علي بن أحمد الهمذاني، المتوفى سنة 398هـ7. 22- سنن اللالكائي، وهو أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري الحافظ الفقيه، المتوفى بالدينور سنة 418هـ8. 23- سنن البيهقي، وهو الإمام العلم أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي الخسروجردي الشافعي الحافظ صاحب التصانيف، المتوفى سنة 458هـ9. وإذا أضفنا إلى هذه الكتب ما عده صاحب الرسالة المستطرفة10 من بينها من رواية الإمام أبي جعفر الطحاوي أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي المتوفى سنة 321هـ لسنن الإمام الشافعي، وسنن النسائي الصغرى "المجتبى" التي لخصها مؤلفها من السنن الكبرى تاركًا لما تكلم في إسناده من التعليل لتبين لنا أن عدد كتب السنن التي اعتمدها العلماء خمسة وعشرون. وإذا تتبعنا ما ألفه المحدثون من كتب جمعت أحاديث الأحكام، ويسرت للفقهاء سبيل الأدلة وجدنا من بينها هذه المؤلفات التي ذكرها صاحب الرسالة المستطرفة وغيره من المؤلفين. ---------------------------- 1 شذرات الذهب: ج2 ص227. 2 شذرات الذهب: ج2 ص239. 3 شذرات الذهب: ج2 ص358. 4 الرسالة المستطرفة: ص28. 5 شذرات الذهب: ج2 ص376 والرسالة المستطفرة ص28 ونقل صاحبها عن كشف الظنون أنه توفي سنة 343هـ. 6 شذرات الذهب: ج2 ص116. 7 شذرات الذهب: ج2 ص151. 8 شذرات الذهب: ج2 ص211. 9 شذرات الذهب: ج2 ص304. 10 ص25. ---------------------------- |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: كتب أحاديث الأحكام الأحد 26 مايو 2024, 6:37 pm | |
| قال السيد محمد جعفر الكتاني في الرسالة المستطرفة1: ومنها كتب مرتبة على الأبواب الفقهية، مشتملة على السنن وما هو في حيزها أوله تعلق بها، بعضها يسمى مصنفًا وبعضها جامعًا، وغير ذلك.
ثم أورد مصنفات عديدة، وجوامع كثيرة لمؤلفين من الأعلام اعتبرها العلماء مراجع في الاستدلال في العصور المتعاقبة، كما أورد غيره كثيرًا منها.
وها نحن أولاء نشير إلى هذه المؤلفات وأسماء بعض المؤلفين، ممن اشتهرت مصنفاتهم وعول عليها العلماء في كثير من الأمصار، مرتين لها بحسب سني وفاتهم على النحو التالي: 1- جامع أبي عروة، وهو معمر بن راشد الأزدي مولاهم البصري نزيل اليمن، المتوفى سنة 153هـ2. 2- موطأ ابن أبي ذئب، وهو الإمام أبو الحارث محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب هشام بن شعبة القرشي العامري المدني الفقيه، المتوفى سنة159هـ3. وهذا الموطأ لم يطبع ولم يتداول، ولم يشتهر كموطأ مالك، ولم يعرف إلا بالحديث عن اسمه في بعض الكتب، فقد ذكره الكتاني في الرسالة المستطرفة فقال4: وقد صنف ابن أبي ذئب بالمدينة موطأ أكبر من موطأ مالك، حتى قيل لمالك: ما الفائدة في تصنيفك؟ فقال: مما كان لله بقي. 3- مصنف أبي سلمة "حماد بن سلمة" بن دينار البصري الحافظ، المتوفى سنة 167هـ5. 4- موطأ الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المتوفى سنة 179هـ6 وسنتناوله بالدراسة إن شاء الله في هذا الفصل. 5- كتاب الآثار لمحمد بن الحسن الشيباني مولاهم الكوفي صاحب أبي حنيفة، والمتوفى سنة 189هـ7. 6- مصنف أبي سفيان، وكيع بن الجراح بن مليح الرواسي، المتوفى سنة 197هـ8. 7- جامع أبي محمد سفيان بن عيينة بن ميمون الهلال مولاهم الكوفي الحافظ، نزيل مكة، المتوفى سنة 198هـ9. ---------------------------- 1 الرسالة المستطفرة: ص30. 2 شذرات الذهب: ج1 ص235 والرسالة المستطرفة: ص32. 3 شذرات الذهب: ج1 ص245. 4 الرسالة المستطرفة: ص8. 5 شذرات الذهب: ج1 ص262. 6 شذرات الذهب: ج1 ص289. 7 الرسالة ص32 وشذرات الذهب ج1 ص321. 8 الرسالة ص31 والشذرات ج1 ص349. 9 الرسالة ص31 والشذرات ج1 ص354. ---------------------------- 8- كتاب الأم للشافعي، الإمام محمد بن إدريس من رواية الربيع بن سليمان المرادي عنه، وهو في سبع مجلدات، والإمام الشافعي توفي سنة 204هـ1. 9- مصنف عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري مولاهم الصنعاني أبو بكر، المتوفى سنة 211هـ2. 10- مصنف أبي الربيع سليمان بن داود العتكي الزهراني البصري نزيل بغداد، المتوفى سنة 234هـ3. 11- مصنف ابن أبي شيبة أبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطي الأصل الكوفي العبسي، المتوفى سنة 235هـ4. 12- الجامعان: الكبير والصغير، كلاهما للإمام البخاري محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري مولى الجعفين، المتوفى سنة 256هـ5. 13- جامع الإمام مسلم بن الحجاج بن مسليم بن ورد القشيري النيسابوري، المتوفى سنة 261هـ6. 14- مصنف بقي بن مخلد بن يزيد القرطبي الحافظ أبي عبد الرحمن الأندلسي القرطبي، المتوفى سنة276 هـ7. 15- تهذيب الآثار لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري بن يزيد بن خالد، المتوفى سنة 310هـ8. 16- جامع أبي بكر الخلال، أحمد بن محمد الخلال الحنبلي، المتوفى سنة 311هـ9. 17- معاني الآثار وشرحه، للإمام الطحاوي أبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك الأزدي الطحاوي، المتوفى سنة 321هـ10 وسنتحدث عنه في هذا الفصل بإذن الله. 18- الشريعة في السُّنَّة، لأبي بكر محمد بن الحسين بن عبد الله البغدادي الآجري، المتوفى سنة 360 هـ11. 19- معاني الأخبار، المسمى ببحر الفوائد، لأبي بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي، المتوفى سنة 380هـ12. ---------------------------- 1 الرسالة ص32 والشذرات ج2 ص9. 2 الرسالة ص31 والشذرات ج2 ص27. 3 الرسالة ص31. 4 الرسالة ص31 والشذرات ج2 ص85 5 الرسالة ص32 والشذرات ج2 ص134. 6 الرسالة ص32 والشذرات ج2 ص144. 7 الرسالة ص31 و56 والشذرات ج2 ص169. 8 الرسالة ص33 والشذرات ج2 ص260. 9 الرسالة ص32 والشذرات ج2 ص261. 10 الرسالة ص33 والشذرات ج2 ص288. 11 الرسالة ص32 وشذرات الذهب ج3 ص35. 12 الرسالة ص33. ---------------------------- 20- معرفة السنن والآثار1، لأبي سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي المتوفى سنة 388هـ2. 21- شرح السُّنَّة، لركن الدين ومحيي السُّنَّة أبي محمد الحسين بن مسعود بن محمد المعروف بالقراء البغوي، المتوفى سنة 516هـ3. 22- عمدة الأحكام، للإمام الحافظ تقي الدين عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي الجماعيلي الحنبلي، المتوفى سنة 600هـ4، وسنتناوله بالدراسة في هذا الفصل إن شاء الله. 23- جامع الأحكام في معرفة الحلال والحرام، للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي المتوفى سنة 638هـ5. 24- المنتقى، المعروف بمنتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار، لمجد الدين ابن تيمية، أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن علي بن تيمية الحراني الفقيه الحنبلي، المتوفى سنة 652هـ6. 25- المحرر في الحديث في شرح الإلمام من أحاديث الأحكام، للحافظ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة المقدسي الجماعيلي، المتوفى سنة 744هـ7. 26- تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد، للحافظ العراقي، المتوفى سنة 806هـ8، وسنتناوله بالدراسة في هذا الفصل بين كتب الأحكام إن شاء الله. 27- بلوغ المرام من أدلة الأحكام، للحافظ ابن حجر العسقلاني، المتوفى سنة 852هـ9 وسنتحدث عنه في هذا الفصل بإذن الله. 28- كشف الغمة عن جميع الأمة، للإمام الشعراني، المتوفى سنة 973هـ وسنفرد له دراسة خاصة في هذا الفصل إن شاء الله. هذه بعض الكتب التي وقفنا عليها بعد البحث، ورأينا إضافتها إلى ما سبقها من كتب السنن. باعتبار أن هذه وتلك كانت كلها مراجع للعلماء والباحثين في الفروع، وكان الكثير منها محل اهتمام المحدثين والفقهاء، فتناولوها بالشرح والتنقيح، والاختصار والتهذيب، ولا تزال حتى الآن موضع العناية من المسلمين في كافة الأقطار والأمصار. ---------------------------- 1 هكذا ورد في الرسالة المستطرفة وإن كان صاحب الشذرات قد ذكر أنه معالم السنن، كما ذكره صاحب كشف الظنون ص638. 2 الرسالة ص33 وشذرات الذهب ج3 ص127. 3 الرسالة ص32 والشذرات ج4 ص48. 4 شذرات الذهب: ج4 ص345. 5 الرسالة: ص32، وشذرات الذهب ج5 ص190. 6 شذرات الذهب: ج5 ص257. 7 شذرات الذهب: ج6 ص141 وهدية العارفين في أسماء المؤلفين: ج6 ص151. 8 شذرات الذهب: ج5 ص257. 9 شذرات الذهب: ج7 ص270. ----------------------------
فإن موضوعها تلك الأحاديث التي استدل بها فقهاء الأمة الإسلامية على ما اتجه إليه كل منهم في الأحكام الفرعية العملية المتعلقة بأفعال المكلفين، مما وصل إليه من أدلة السُّنَّة، سواء أكانت أفعال المكلفين هذه عبادات أم معاملات أو غيرها، وسواء أكانت الأحاديث تفصيلًا لمجمل الكتاب، أم تفسيرًا لما أبهم فيه، أو كانت أحاديث تستقل بالتشريع، قولية كانت أو فعلية.
وقد اتجهت عناية الأئمة إلى أحاديث الأحكام، وأفردت لها كتب خاصة بها -اعتناء بشأنها- لتوقف تصحيح كثير من الأعمال أو كمالها على معرفتها، ولتعرف إذن الشارع في بعض الأفعال أو عدم إذنه فيه، وإن كان بعض هذه الكتب قد مزج ما فيها من أحاديث الأحكام بآثار الصحابة وفتاوى بعض التابعين.
ولئن كنا قد تناولنا بعض هذه المؤلفات بالدراسة من غير تقيد بالزمان ولا بالمكان، فمرجع ذلك إلى رغبتنا في إيضاح تسلسل الربط بين الماضي والحاضر، واعتبارنا هذه الكتب هي الدعامة التي بنيت عليها مدرسة الحديث في مصر، وهي المراجع الأصلية التي تتلمذ عليها علماؤها الأعلام في هذا النوع من أحاديث الأحكام.
فلنبدأ -باسم الله وعلى بركته- في دراسة أشهر ما وقفنا عليه من هذه المؤلفات، موجزين فيما يستحق الإيجاز مما اعتبرناه منها أساس لموضوع البحث، متوسعين -بعض الشيء- فيما عدا ذلك مما هو من موضوعه الأصيل، والله المستعان. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: كتب أحاديث الأحكام الأحد 26 مايو 2024, 6:38 pm | |
| موطأ الإمام مالك: موطأ الإمام مالك، هو ذلك الكتاب المبارك الذي ألفه الإمام مالك بن أنس الأصبحي الحميري أبو عبد الله المدني، إمام دار الهجرة رضوان الله تعالى عليه، وكان من أتابع التابعين، أورده الحافظ في التذكرة في الطبقة الخامسة من الحفاظ، ووصفه بأنه الإمام الحافظ فقيه الأمة وشيخ الإسلام وإمام دار الهجرة، وهو أحد الأئمة الأربعة المعروفين، كان رحمه الله عظيم المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مبالغًا في تعظيمه، حتى كان لا يركب في المدينة مع ضعفه وكبر سنه ويقول: لا أركب في بلد فيها جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفون، توفي رضي الله عنه عام تسع وسبعين ومائة للهجرة1.
وكتابه الموطأ، وصفه الحافظ السيوطي في مقدمته للشرح المسمى بتنوير الحوالك -نقلًا عن القاضي أبي بكر بن العربي- بأنه الأصل الأول واللباب، وكتاب البخاري هو الأصل الثاني في هذا الباب "يريد الحديث"، وعليهما بنى الجميع كمسلم والترمذي، وقد جمع فيه قبل تهذيبه -كما نقل السيوطي- عشرة آلاف حديث، ولم يزل يعرضها على الكتاب والسُّنَّة ويخبرها بالآثار حتى رجعت إلى خمسمائة، وأورد عدة نقول تختلف بعض الاختلاف مع هذا النقل بالزيادة أو النقصان.
وينقل السيوطي في هذا المقام عن أبي بكر الأبهري في جملة ما في الموطأ من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين أنها ألف وسبعمائة وعشرون حديثًا: المسند فيها ستمائة حديث، والمرسل مائتان واثنان وعشرون حديثًا، والموقوف ستمائة وثلاثة عشر، ومن قول التابعين مائتان وخمسة وثمانون.
وأورد نقولًا أخرى تختلف عن ذلك أيضًا، وقال: إن هذا الموطأ رواه عن مالك جماعات كثيرة، وبين رواياتهم اختلاف من تقديم وتأخير وزيادة ونقص، وأكبرها رواية القعنبي2.
وقد أورد عن الإمام مالك في سبب تسميته بالموطأ ما قال: إنه عرض كتابه هذا على سبعين من فقهاء المدينة، فكلهم واطأه عليه، فسماه الموطأ3.
وقد اشتهر عن الإمام الشافعي أنه قال: ما على ظهر الأرض كتاب بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك، وواضح أن ذلك كان قبل ظهور كتب السُّنَّة المعتبرة التي على رأسها الصحيحان الجليلان اللذان تلقتهما الأمة بالقبول -صحيحا البخاري ومسلم.
وفي هذا المقام يقول الحافظ ابن حجر: كتاب مالك صحيح عنده وعند من يقلده على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع وغيرهما. ---------------------------- 1 شذرات الذهب: ج1 ص289. 2 تنوير الحوالك: ج1 ص7. 3 تنوير الحوالك: ج1 ص5. ---------------------------- وفي كتب المصطلح تناوُل لهذا الكتاب، وما وجه إليه من نقد، وما دفع به عنه، ولا يتسع مجالنا الآن لإيراد ذلك، فإن المقصود بيان أن الموطأ من أهم أسس الكتب الحديثية الخاصة بالأحكام إن لم يكن هو الأساس الأول لتلك الكتب.
ولا بد أن نشير إلى أن الموطأ من الكتب العظيمة التي اتجهت إليها عناية العلماء والمحدثين بالشرح، حتى قال القاضي عياض: إنه لم يعتن بكتاب من كتب الحديث والعلم اعتناء الناس بالموطأ، فقد شرحه ابن عبد البر بكتاب سماه التمهيد والاستذكار، وشرحه أبو الوليد بن الصفار بكتاب سماه "الموغب"، وشرحه أبو محمد بن السيد البطليموسي النحوي بكتاب سماه "المقتبس"، وشرحه القاضي أبو بكر بن العربي بكتاب سماه "القبس"، وشرحه أبو الوليد الباجي بثلاثة شروح: "المنتقى والأسماء والاستيفاء"، كما شرحه السيوطي بكتابه الذي سماه كشف المغطى في شرح الموطأ، وكتابه الآخر تنوير الحوالك، وقدم له بمقدمة شحنها بكثير من الفوائد، وهي التي رجعنا إليها في تصويرنا لهذا الكتاب والحديث عنه.
ومن العلماء من وجه عنايته إلى شرح غريبة فقط، منهم الأخفش، والبرقي، وأبو القاسم العثماني المصري.
ومنهم من ألف في رجاله فقط، كأبي عبد الله بن الحذاء، وأبي عبد الله بن المفزع، والبرقي، وللسيوطي كتاب في رجاله سماه: "إسعاف المبطأ برجال الموطأ".
ولا يفوتنا -قبل مغادرة الحديث عن هذا الكتاب الجليل- أن نشير إلى الناحية البارزة فيه، وهي أنه أورد بجانب الأحاديث النبوية من أقوال الصحابة والتابعين ما قدر بثمانية وتسعين وثمانمائة من الآثار: الموقوف منها ثلاثة عشر وستمائة، والمقطوع خمسة وثمانون ومائتان، وهو ما يربو على نصف الكتاب، وللإمام وجهته في ذلك، فإنه انتفع بتلك الآثار وأفاد بها فائدة جليلة فوق ما أورده من الأحاديث: مسانيدها ومرسلها.
إن من هذه الآثار ما كان يوجه إلى أحكام مستقلة لم تسعفه رواية الحديث بها، ومن ذلك الأثر الذي رواه عن سالم بن عبد الله دليلًا على منع تغطية الفم في الصلاة، من أنه كان إذا رأى من يغطي فاه بثوبه وهو يصلي جبذ الثوب جبذًا شديدًا1.
ومن ذلك ما نقله عن ابن عمر من أن في قُبلة الرجل امرأته وجسها الوضوء، ونقل مثله عن ابن مسعود بلاغًا، ومثلهما عن ابن شهاب من التابعين، ولم يذكر حديثًا في هذا الموضوع2.
ومنها ما يشير إلى خلاف في الرأي بين بعض الصحابة وبعض، أو بين بعض الصحابة وبعض التابعين، وذلك كما أورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قدم من العراق، فدخل عليه بعض الصحابة فقرب له طعامًا قد مسته النار فتوضأ أنس، ولم يتوضأ الآخر. ---------------------------- 1 تنوير الحوالك: ج1 ص30. 2 تنوير الحوالك ج1 ص50. ---------------------------- ونظير هذا ما نقله عن عثمان بن عفان، أنه أكل خبزًا ولحمًا ثم مضمض وغسل يديه ومسح بهما وجهه، ثم صلى ولم يتوضأ.
وكذلك ما بلغ مالكًا عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما كانا لا يتوضأان مما مسته النار1.. ونظير ذلك الحديث.
وكما نقل عن عروة بن الزبير أن أباه مسح على الخفين ولم يزد على مسح الظهور، ثم نقل عن ابن شهاب أن مالكًا سأله عن المسح على الخفين فمسحهما أمامه من تحت الخف ومن فوقه، وإن كان مالك أيد ما نقله عن ابن شهاب2.
ومما نقل فيه الخلاف أيضًا بين الصحابي والتابعي حكم الرعاف في الصلاة، فإن ابن عباس غسل الدم ثم بنى من غير وضوء، وأما سعيد بن المسيب فإنه توضأ ثم بنى على ما صلى3، ولم يؤيد مالك أحد الرأيين في موطئه.
ومنها كذلك ما يقع تفسيرًا لبعض غريب القرآن4، كما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه فسر دلوك الشمس بميلها، وعن ابن عباس أنه قال: دلوك الشمس إذا فاء الفيء، وغسق الليل اجتماع الليل وظلمته.
ويبدو أن بعض الرواة عن مالك كان يضيف زيادات مما يستقر عليه رأي مالك في بعض الأحكام كالذي نقله يحيى عن مالك أنه سئل: هل في القيء وضوء؟ قال: لا، ولكن ليتمضمض وليسغل فاه، وليس عليه وضوء5.
وكما في رأي مالك فيمن نسي أن يمسح رأسه حتى جف وضوءه، قال راوي الكتاب: سئل مالك عن رجل توضأ فنسي أن يمسح رأسه حتى جف وضوءه، فقال: أرى أن يمسح برأسه، وإن كان قد صلى أن يعيد الصلاة.
على أن بعض ما عد من الآثار في هذا الكتاب ما يستحق أن يعد من الأحاديث المرفوعة؛ بناء على ما تقرر في أصول الحديث من أن قول الصحابي له حكم الرفع إذا كان مما لا مجال للرأي فيه، ولدينا في الموطأ آثار عديدة من هذا النوع.
منها ما نقله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى عماله: أن صلوا الظهر إذا كان الفيء ذراعًا إلى أن يكون ظل أحدكم مثله، والعصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية، والمغرب إذا غربت الشمس6 ... إلخ، ونظيره ما كتبه إلى أبي موسى: أن صل الظهر إذا زاغت الشمس إلخ، ومثله ما نقله عن أبي هريرة، أن رجلًا سأله عن الأوقات فقال: صل الظهر إذا كان ظلك مثلك، والعصر إذا كان ظلك مثليك. ---------------------------- 1 تنوير الحواليك: ج1 ص37 وما بعدها. 2 تنوير الحوالك: ج1 ص47. 3 تنوير الحواليك: ج1 ص47. 4 تنوير الحوالك: ج1 ص23. 5 تنوير الحوالك: ج1 ص37. 6 تنوير الحوالك: ج1 ص19. ---------------------------- والنسخة التي بين أيدنا للموطأ بشرح تنوير الحوالك من طبع الحلبي بمصر عام تسع وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة، وهي جزءان في مجلد.
بدئ الأول منها بحديث في وقوت الصلاة1 قال: حدثني يحيى بن يحيى الليثي عن مالك بن أنس عن ابن شهاب بن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يومًا فدخل عليه عروة بن الزبير، فأخبره أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يومًا وهو بالكوفة، فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري، فقال: ما هذا يا مغيرة؟ أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: بهذا أمرت؟ فقال عمر بن عبد العزيز: أعلم ما تحدث به يا عروة، وإن جبريل هو الذي أقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الصلاة... إلخ.
وانتهى الجزء الأول بأثر عنون له بميراث ولد الملاعنة وولد الزنا، وهو: حدثني يحيى عن مالك، أنه بلغه أن عروة بن الزبير كان يقول في ولد الملاعنة وولد الزنا: إنه إذا مات ورثته أمه حقها في كتاب الله عز وجل وإخوته لأمه حقوقهم، ويرث البقية موالي أمه إن كانت مولاة، وإن كانت عربية ورثت حقها، وورث إخوته لأمه حقوقهم، وكان ما بقي للمسلمين، قال مالك: وبلغني عن سليمان بن يسار مثل ذلك، قال مالك، وعلى ذلك أدركت أهل العلم ببلدنا.
ثم بدأ الجزء الثاني بكتاب النكاح: ما جاء في الخطبة وأورد حديثًا في أوله قال فيه: حدثني يحيى عن مالك بن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه".
وانتهى الجزء الثاني بحديث عنون له بأسماء النبي صلى الله عليه وسلم هو: حدثني مالك عن ابن شهاب عن محمد بن جبير بن مطعم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لي خمسة أسماء أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب".
والكتاب مشحون بالأحاديث والآثار والبلاغات، موزعة على الكتب والأبواب وما يندرج تحتها من عناوين، ويحوي مادة خصبة للدارسين والباحثين، يرفع من شأنها قرب عهد مؤلفها من صدر الإسلام، ومعاصرته لكثير من أجلاء التابعين وأتباع التابعين، ممن نقلوا إلينا السُّنَّة وأخذنا عنهم الدين، ومما يصدق شهادة الإمام الشافعي لهذا الكتاب من أنه أصح كتاب بعد القرآن الكريم أن الأمة تلقته بالقبول، ولم يزل تعويلها عليه منذ ظهر إلى يومنا هذا، فكان العلماء والأئمة ما بين شارح له، أو مقتبس منه، أو راجع إلى ما فيه من الأحاديث والآثار الكريمة.
رحم الله الإمام مالك بن أنس، وجزاه عما قدم للأمة الإسلامية خير الجزاء. ---------------------------- 1 تنوير الحوالك ج1 ص11 وورد العنوان هكذ: وقوت الصلاة. ---------------------------- |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: كتب أحاديث الأحكام الأحد 26 مايو 2024, 6:39 pm | |
| سنن أبي داود: وأما سنن أبي داود السجستاني، فهو ذلك الكتاب العظيم، الذي ألفه سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي، المولود سنة اثنتين ومائتين للهجرة، والذي تحدث عند الذهبي في تذكرته1 فقال: إنه الإمام صاحب السنن، الذي حدث عنه الترمذي، والنسائي، وابنه أبو بكر بن أبي داود، وأبو عوانة، وأبو بشر الدولابي وغيرهم ممن رووا عنه سننه، سمع أبا عمرو بن الضرير ومسلم بن إبراهيم والقعنبي و ... وخلقًا كثيرًا بالحجاز والشام ومصر والعراق وغيرها، وقال الذهبي: كتب عنه شيخه أحمد بن حنبل حديث العتيرة، وأراه كتابه فاستحسنه.
ويقول الحافظ المنذري: إن الإمام ابن حنبل استجاده واستحسنه، ثم نقل عن أبي بكر بن عبد العزيز أنه سمع كتابًا كتبه أو داود لأهل مكة يقول فيه عن سننه: إن هذه الأربعة آلاف والثمانمائة حديث كلها في الأحكام، فأما أحاديث كثيرة من الزهد والفضائل وغيرها من غير هذا فلم أخرجها2، وأن محمد بن إسحاق الصاغاني قال: لين لأبي داود الحديث كما لين لداود الحديد.
ونقل الذهبي عن ابن داسة أن أبا داود قال: ذكرت في كتابي الصحيح وما يشبهه وما يقاربه، وما كان فيه من وهن شديد بينته، وأورد أن بعض الأئمة قال: كان أبو داود يشبه بأحمد بن حنبل في هديه ودله وسمته، كما نقل عن الحاكم أنه قال: أبو داود إمام أهل الحديث في زمانه بلا مدافعة، وفي بعض نقوله الأخرى ما يؤكد أنه دخل مصر3.
ونقل المنذري عن أحمد بن محمد بن ياسين الهروي قال: كان سليمان بن الأشعث السجزي أحد حفاظ الإسلام لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمه وعلله وسنده، في أعلى درجة النسك والعفاف والصلاح والورع من فرسان الحديث، وكانت وفاته رحمه الله ورضي عنه سنة خمس وسبعين ومائتين للهجرة4.
وكتابه السنن أحد الكتب الستة المشهورة، التي عول عليها العلماء والفقهاء في جميع بقاء الأمة الإسلامية وأزمانها، ولا تجد في وصفه أصدق مما وصفه به مصنفه فيما رواه المنذري عن ابن داسة قال: سمعت أبا داود يقول: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب، جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه5.
ومما وصفه به أيضًا قوله: ما ذكرت في كتابي حديثًا اجتمع الناس على تركه. ---------------------------- 1 تذكرة الحفاظ ج2 ص152 وما بعدها. 2 مختصر سنن أي داود ج1 ص5، 6. 3 تذكرة الحفاظ ج2 ص154. 4 الشذرات ج2 ص167. 5 مختصر سنن أبي داود ج1 ص6 و7. ---------------------------- ونقل الحافظ المنذري عن محمد بن إسحاق بن منده الحافظ: أن شرط أبي داود والنسائي إخراج أحاديث أقوام لم يجمع على تركهم إذا صح الحديث باتصال الإسناد من غير قطع ولا إرسال.
ولعله يريد بقوله: إذا صح الحديث كونه مستوفيًا لشروط القبول، وإلا فإن الصحة بالمعنى المصطلح عليه عند المحدثين ليست ملتزمة في سنن أبي داود، لاعتراف مؤلفها بقوله: جمعت فيه الصحيح وما يشبهه ويقاربه، وقوله: وما كان فيه من وهن شديد يينته، من أنه أحيانًا يذكر الضعيف وينبه إلى علته.
وحكي عن أبي داود أنه قال: ما ذكرت في كتابي هذا حديثًا أجمع الناس على تركه1، وأورد مثله الخطابي نقلًا عن أبي داود عند الحديث عن سننه2.
ويقول الخطابي3 في شرحه للسنن4: اعلموا رحمكم الله أن كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف، لم يصنف في علم الدين كتاب مثله، وقد رزق القبول من الناس كافة، فصار حكمًا بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، فلكل فيه ورد منه شرب، وعليه معول أهل العراق وأهل مصر وبلاد المغرب وكثير من مدن أقطار الأرض، ثم فضله على صحيحي البخاري ومسلم في حسن وصفه، وكثرة فقهه.
وذكر الخطابي في مقدمته لشرح السنن عند تقسيم الحديث: أن كتابه هذا مجمع النوعين من الصحيح والحسن، فأما السقيم من الحديث فعلى طبقات: شرها الموضوع ثم المقلوب ثم المجهول، وكتاب أبي داود خَلِي منها، فإن وقع فيه شيء من بعض أقسامه لضرب من الحاجة تدعوه إلى ذكره فإنه لا يألو أن يبين أمره، ويذكر علته، ويخرج من عهدته.
ومن راجع ما كتبه علماء المصطلح وجد أن لهم وجوها في الحكم على المسكوت عنه من سنن أبي داود، وقد تناولها الحافظ السخاوي وانتهى منها إلى أن التحقيق التمييز لمن له أهلية النظر، ورد المسكوت عنه إلى ما يليق بحاله من صحة وحسن وغيرها، ثم قال: ومن لم يكن ذا تمييز فالأحوط أن يقول في المسكوت عليه صالح -كما هي عبارته- خصوصًا وقد سلك جماعة هذا المسلك5.
وقد وصفه الحافظ العراقي في ألفيته بأنه من مظان الحديث الحسن، وبين السخاوي أن الظن هنا بمعنى العلم، وقد بنى ذلك الوصف على ما وصفه به أبو داود نفسه من أنه ذكر فيه الصحيح وما يشبهه ويقاربه. ---------------------------- 1 مختصر سنن أبي داود ج1 ص8. 2 شرح الخطابي على السنن ج1 ص11. 3 هو أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي من أعلام المحدثين والفقهاء وأحد شيوخ الحاكم مؤلف غريب الحديث، ومعالم السنن وأعلام السنن وشرح البخاري توفي سنة 388هـ. 4 مختصر السنن ج1 ص10. 5 فتح المغيث ج1 ص73، 76، 77. ---------------------------- ونقل السخاوي في هذا المقام عن الغزالي: أن ما فيه من الأحاديث يكفي المجتهد في الفقه كما نقل عن النووي: أنه ينبغي للمشتغل بالفقه ولغيره الاعتناء بهذا الكتاب وبمعرفته التامة، فإن معظم أحاديث الأحكام التي يحتج بها فيه، مع سهولة تناوله وتلخيص أحاديثه، وبراعة مصنفه، واعتنائه بتهذيبه.
والكتاب الذي بين أيدينا طبعة المطبعة التازية بمصر ويقع في اثنتين وتسعين وسبعمائة صفحة، ومكون من جزأين: الأول منهما في تسع وثلاثين وأربعمائة صفحة مفتتح بعبارة: حدثنا أبو علي محمد بن عمرو اللؤلئى، حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني في المحرم سنة خمس وسبعين ومائتين: كتاب الطهارة -وذكر فيه أبوابًا- ثم كتاب الصلاة ... وهكذا حتى فرغ منه مرتبًا إياه على أبواب الفقه المعروفة.
ولا بد هنا من أن نشير إلى أن أبا داود بعد أن ألف كتابه السنن بعث برسالة إلى أهل مكة وغيرها جوابًا لهم، أملى فيها كلامًا كثيرًا من السنن منه قوله1: أمَّا بعد عافانا الله وإياكم عافية لا مكروه معها ولا عقاب بعدها، فإنكم سألتم أن أذكر لكم الأحاديث التي في كتاب السنن أهي أصح ما عرفت في الباب؟ ووقفت على جميع ما ذكرتم، فاعلموا أنه كذلك كله إلا أن يكون قد روي من وجهين صحيحين فأحدهما أقدم إسنادًا، والآخر صاحبه أقدم في الحفظ فربما كتبت ذلك، ولا أرى في كتابي من هذا عشرة أحاديث.
وإذا أعدت الحديث في الباب من وجهين وثلاثة فإنما هو من زيادة كلام فيه، وربما فيه كلمة زيادة على الأحاديث، وربما اختصرت الحديث الطويل؛ لأني لو كتبته بطوله لم يعلم بعد من سمعه، إلى أن قال: وليس في كتاب السنن عن رجل متروك الحديث شيء، وإذا كان فيه حديث منكر بينت أنه منكر.
ثم قال: وما كان من كتابي هذا من حديث فيه وهن شديد فقد بينته، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض2 وهو كتاب لا يرد عليك سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهي فيه إلا أن يكون كلامًا استخرج من الحديث، ولا يكاد يكون هذا، ولا أعلم شيئًا بعد القرآن، ألزم للناس أن يتعملوا من هذا الكتاب.
إلى أن قال: والأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير، وهي عند كل من كتب شيئًا من الحديث إلا أن تمييزها لا يقدر عليه كل الناس.
ثم قال: ولعل قدر الذي في كتابي أربعة آلاف وثمانمائة حديث، ونحو ستمائة حديث من المراسيل.
وختم رسالته بقوله: ولم أصنف في كتب السنن إلا الأحكام، ولم أصنف في كتب الزهد وفوائد الأعمال وغيرها. ---------------------------- 1 نقلًا عن كتاب رسالة أبي داود السجستاني وصفًا لتأليفه كتاب السنن رواية أبي الحسين بن جميع عن محمد بن عبد العزيز الهاشمي عنه قدمها وعلق عليها محمد زاهد الكوثري طبع مطبعة الأنوار بالقاهرة سنة 1369هـ. 2 أوردنا مثل هذا القول في تقديمنا لهذا الكتاب نقلًا عن الذهبي عن ابن داسة. ---------------------------- هذا هو أهم ما ورد في رسالة أبي داود السجستاني إلى أهل مكة، وما ورد في غيرها مما يستعان به على تعرف هذا الكتاب ومزيته، والقارئ في رسالة أبي داود لأهل مكة يجدها مشتملة على كثير من الركة والإبهام في الأسلوب، ولهذا اكتفينا بنقل ما ينفع ويفيد منها. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: كتب أحاديث الأحكام الأحد 26 مايو 2024, 6:40 pm | |
| هذا: وإن الممارس لهذا الكتاب، والمتتبع لما فيه من مزايا وصفات، تتجلى له فيه ظواهر واضحة عديدة أهمها ما يأتي: 1- أنه يعنى بإيراد الروايات المتعددة للفظ الواحد في الحديث من غير أن يكرر الحديث كله -كما هو صنيع البخاري في تكرار الحديث الواحد من أجل الاختلاف في كلمة في الحديث أو عبارة فيه.
وذلك مثل قوله في حديث ابن عمر: "الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله" قال أبو داود: وقال عبيد الله بن عمر: أتر، واختلف على أيوب فيه، وقال الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وتر1.
ومن ذلك أيضًا قوله في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه كان موضع المسجد حائطًا لبني النجار فيه حرث ونخل ... إلخ، وحدثنا عبد الوارث بنحوه، وكان عبد الوارث يقوله: فيه خرب2.
ومن ذلك قوله في حديث أبي هريرة في قوله صلى الله عليه وسلم: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا" قال أبو داود: وكذا رواه عقيل ويونس وأبو أويس: "من قام رمضان" وروى عقيل: "من صام رمضان وقامه" 3.
2- أنه يقوي الحديث بمتابعته بغيره مع تحديد الفرق بينهما دقة في عرض السُّنَّة ومن ذلك حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في لغو اليمين: "إنه كلام الرجل في بيته كلا والله، وبلى والله". قال أبو داود: روى هذا الحديث داود بن الفرات عن إبراهيم الصائغ موقوفًا على عائشة، وكذا رواه الزهري وعبد الملك بن أبي سليمان ومالك بن مغول، وكلهم عن عطاء عن عائشة موقوفًا4.
3- أنه ينقل اختلاف العلماء في وصل بعض الأحاديث أو قطعها. وذلك كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين" قال أبو داود: وسمعت أحمد بن حنبل يقول: أفسدوا علينا هذا الحديث، قيل له: وصح إفساده عندك؟ هل رواه غير ابن أبي أويس؟ قال: أيوب كان أمثل منه -يعني أيوب بن سليمان بن بلال- وقد رواه أيوب، قال أبو داود: سمعت أحمد بن شبويه يقول: قال ابن المبارك -يعني في هذا الحديث: حدث أبو سلمة، فدل ذلك على أن الزهري لم يسمعه من أبي سلمة. ---------------------------- 1 سنن أبي داود ج1 ص68. 2 سنن أبي داود ج1 ص75. 3 سنن أبي داود ج1 ص216. 4 سنن أبي داود ج2 ص75. ----------------------------
قال أحمد بن محمد المرودي: إنما الحديث حديث علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن الزبير عن أبيه عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم، أراد أن سليمان بن أرقم وهم فيه، وحمله عنه الزهري، وأرسله عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنه1.
4- أنه ينبه على ما في الحديث من وهن إن كان ذلك فيه، كما عرف من وصف كتابه وأشرنا إلى ذلك في حديثنا عنه. ومن ذلك قوله في حديث يحيى بن أيوب أنه قال: يا رسول الله أمسح على الخفين؟ الحديث قال أبو داود: رواه ابن أبي مريم المصري عن يحيى بن أيوب عن عبد الرحمن بن رزين عن محمد بن يزيد بن أبي زياد عن عبادة بن أنس عن أبي بن عمارة قال فيه: حتى بلغ سبعًا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم وما بدا لك" قال أبو داود: وقد اختلف في إسناده وليس بالقوي2.
ومن ذلك قوله في حديث المغيرة بن شعبة قال: "وضأت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فمسح أعلى الخفين وأسفله" قال أبو داود: وبلغني أنه لم يسمع ثور هذا الحديث من رجاء3 وهو طعن منه في الحديث بالانقطاع وعدم القبول.
ومن ذلك قوله في حديث أبي سعيد: "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بغلام وهو يسلخ شاة" الحديث، قال أبو داود: وقال عن هلال بن ميمون الرملي رواه عبد الواحد بن زياد وأبو معاوية عن هلال عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا لم يذكر أبا سعيد4.
ومن ذلك أيضًا -مع بيان السبب- قوله في حديث أبي هريرة قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا الناس في رمضان يصلون" الحديث. قال أبو داود: ليس هذا الحديث بالقوي، مسلم بن خالد ضعيف5، ومن ذلك أيضًا قوله في حديث على الذي رواه عنه ميمون بن أبي شبيب: "أنه فرق بين جارية وولدها فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم ... " الحديث، قال أبو داود: ميمون لم يدرك عليا، قتل بالجماجم، والجماجم سنة ثلاث وثلاثين6.
ومن ذلك قوله في حديث ابن عباس: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معاقرة الأعراب" قال أبو داود: غندر أوقفه عن ابن عباس7.
5- أنه ينبه على اختلاف رواة الحديث بالزيادة أو النقص فيه، ومن ذلك قوله في حديث عمرو بن أمية الضمري قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره... إلى أن قال: ثم أمر بلالا فأذن" وفي رواية أخرى عن ذي مخبر ابن أخي النجاشي في هذا الخبر قال: فأذن وهو غير عجل8. ---------------------------- 1 سنن أبي داود ج2 ص78. 2 سنن أبي داود ج1 ص25. 3 سنن أبي داود ج1 ص26. 4 سنن أبي داود ج1 ص29. 5 سنن أبي داود ج1 ص217. 6 سنن أبي داود ج1 ص422. 7 سنن أبي داود ج1 ص6. 8 سنن أبي داود ج1 ص73. ---------------------------- ومن ذلك أيضًا إيراده حديث عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي صلاة العشاء في جماعة ... " الحديث، ثم إشارته إلى رواية أخرى يقول عنها: إن الراوي لم يذكر: "يسوي بينهن في القراءة والركوع والسجود"1.
ومن ذلك حديث أبي هريرة: "أن رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أرى الليلة" فذكر الحديث، ثم قال: إن الزهري رواه عن عبيد الله عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا لم يذكر القسم، زاد فيه "ولم يخبره"2.
ومن ذلك حديث عبد الرحمن بن أبي بكر قال: "نزل بنا أضياف لنا" وذكر الحديث ثم أورد رواية أخرى بهذا الحديث نحوه وقال: زاد عن سالم في حديثه: "ولم يبلغني كفارة"3.
6- أنه يحدد من وقع منه الشك من شيوخه -إن كان، ومن ذلك حديث أبي بن كعب: "أنه وجد صرة فيها مائة دينار" قال أبو داود في آخره: "وقال: لا أدري أثلاثًا قال عرفها أو مرة واحدة؟ " ثم ذكر الحديث برواية شعبة بمعناه قال: "عرفها حولا، وقال: ثلاث مرات، وقال: لا أدري أقال له ذلك في سنة أو في ثلاث سنين؟ 4".
7- أنه يتحرى الدقة والأمانة في إيراد السند على حقيقته بكل وجه يصل إليه، أو الإشارة إلى ما فيه من غموض أو شك تبرئة للذمة. ومن ذلك ما جاء في حديث يعلى بن أمية عن أبيه: "أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة ... " وذكر الحديث، ثم أورده برواية أخرى عن صفوان بن يعلى عن أبيه، ثم قال بهذه القصة قال فيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اخلع جبتك" فخلعها من رأسه، وساق الحديث. ثم أورد سندًا آخر إلى يعلى بن منبه عن أبيه بهذا الخبر قال فيه: "فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزعها ويغتسل مرتين أو ثلاثًا ... " وساق الحديث، ثم أورده برواية رابعة: "أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة وقد أحرم بعمرة وعليه جبة وهو مصفر لحيته ورأسه ... " وساق هذا الحديث5.
وفي هذا الحديث نفسه يذكر اختلاف اللفظ في قوله: وعليه أثر خلوف، أو قال: أثر صفرة.
ومن ذلك حديث نبيه بن وهب برواية أحمد بن حنبل قال: اشتكى عمر بن عبيد الله بن معمر عينيه، فأرسل إلى أبان بن عثمان... إلى أن قال: اضمدهما بالصبر، فإني سمعت عثمان يحدث ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر رواية أخرى عن نبيه بن وهب بهذا الحديث برواية عثمان بن أبي شيبة6. ---------------------------- 1 سنن أبي داود ج2 ص212. 2 سنن أبي داود ج2 ص76. 3 سنن أبي داود ج2 ص76. 4 سنن أبي داود ج1 ص269. 5 سنن أبي داود ج1 ص287 وما بعدها. 6 سنن أبي داود ج1 ص290. ---------------------------- ومن ذلك حديثه عن أبي بكرة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته" الحديث، ثم أورده برواية أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه، قال أبو داود: سماه ابن عون -أي في سند آخر- فقال: عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبي بكرة في هذا الحديث، وبيان ذلك أن ابن أبي بكرة ورد في السند الأول بكنيته دون اسمه، ولكنه في السند الأخير ذكر باسمه وكنيته1.
ومن ذلك قوله في حديث كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة عن بعض أهلي عن جده: "أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي" الحديث ثم قال أبو داود: قال سفيان: كان ابن جريج أخبرنا عنه أخبرنا ابن كثير عن أبيه قال: فسألته فقال: ليس من أبي سمعته، ولكن عن بعض أهلي عن جدي2.
ومن ذلك قوله في حديث عبد الرحمن بن سعيد المخزومي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: " ... " وساق الحديث، قال أبو داود: لم أفهم إسناده من أبي العلاء كما أحب3 ومعنى ذلك عدم اعتداده بهذا السند.
ومن ذلك أيضًا قوله في حديث عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي في ملاحفنا" قال حماد: وسمعت سعيد بن أبي صدقة قال: سألت محمدًا عنه فلم يحدثني، وقال: سمعته منذ زمان ولا أدري ممن سمعته، ولا أدري أسمعته من ثبت أم لا؟ فسلوا عنه4.
ومن ذلك تعقيبه على التماس ليلة القدر، قال أبو داود: لا أدري أخفي علي شيء منه أم لا؟ 5.
8- أنه يعقب على بعض الأحاديث بوصف بعض الرجال أو نسبته أو تسميته زيادة في تحقيقه وتحديده، سواء أكان الموصوف أو المنسوب أو المسمى من رجال السند أم لم يكن. ومن ذلك قوله في حديث عبد الله بن حوالة الأزدي قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لنغنم..." وساق الحديث ثم قال: عبد الله بن حوالة حمصي6، ومن ذلك قوله تعقيبًا على حديث عمر بن الخطاب: "لما كان يوم بدر" الحديث: اسم أبي نوح قراد، والصحيح عبد الرحمن بن غزوان7.
ومن ذلك قوله في حديث أنس بن مالك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح ... " الحديث إلى أن قال: "جاءه رجل فقال ابن خطل متعلق بأستار الكعبة" قال أبو داود: ابن خطل اسمه عبد الله، وكان أبو برزة قتله8.
9- وأنه يشير إلى اختلاف الرواة في فهم الحديث عند وجود هذا الاختلاف. ---------------------------- 1 سنن أبي داود: ج1 ص306. 2 سنن أبي داود: ج1 ص315. 3 سنن أبي داود: ج1 ص420. 4 سنن أبي داود: ج1 ص61. 5 سنن أبي داود: ج1 ص219. 6 سنن أبي داود: ج1 ص397. 7 سنن أبي داود: ج1 ص421. 8 سنن أبي داود: ج1 ص420. ---------------------------- ومن ذلك قوله في حديث أبي موسى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني والله -إن شاء الله- لا أحلف على يمين ... " الحديق قال أبو داود: وسمعت أحمد يرخص فيها الكفارة قبل الحنث، ونقل عن ابن سمرة أنه قال: كفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير، قال أبو داود: أحاديث أبي موسى الأشعري وعدي بن حاتم وأبي هريرة في هذا الحديث روي عن كل واحد منهم في بعض الرواية الحنث قبل الكفارة، وفي بعض الرواية الكفارة قبل الحنث1. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: كتب أحاديث الأحكام الأحد 26 مايو 2024, 6:41 pm | |
| 10- أنه يبين رأيه في تحقيق راوي الحديث، ومن هو الأولى في الأخذ عنه. ومن ذلك قوله في حديث صفوان بن عمرة: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر بهذا الحديث -يريد الحديث الذي سبق- قال أبو داود: رواه قيس كما قال سفيان، والقول قول سفيان، ثم قال: حدثنا ابن أبي رزمة، سمعت أبي يقول: قال رجل لشعبة: خالفك سفيان. قال: دمغتني، وبلغني عن يحيى بن معين قال: كل من خالف سفيان فالقول قول سفيان، وحدثنا أحمد بن حنبل ثنا وكيع عن شعبة قال: كان سفيان أحفظ مني2.
11- أنه -أحيانًا- يفسر الغريب من لفظ الحديث. ومن ذلك قوله في حديث المسجد النبوي -تفسيرًا لكلمة القصة التي وردت في الحديث- قال أبو داود: القصة الجص3.
12- أنه يروي المدرج مع بيان من أدرجه. ومن ذلك قوله في حديث بناء المساجد بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أمرت بتشييد المساجد" قال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى4.
13- أنه يروي بعض الآثار الموقوفة أو المقطوعة في سننه. ومن ذلك أنه أورد أثرًا بسنده إلى عطاء، أنه كره الوضوء باللبن والنبيذ -بعد أن ذكر أحاديث الوضوء بالنبيذ- وقال: إن التيمم أعجب إلي منه، وأورد بعده كذلك أثرًا بسنده إلى أبي خلدة، قال: سألت أبا العالية عن رجل أصابته جنابة وليس عنده ماء وعنده نبيذ أيغتسل به؟ قال: لا5.
وهذا المسلك في رواية الآثار الموقوفة أو المقطوعة لا يقع منه إلا على ندرة، بخلاف صاحب الموطأ الذي شرحنا مسلكه فيما سبق.
14- أنه يكثر من عدد الأبواب مهما قلت أحاديثها إلى درجة ألا يكون في الباب إلا حديث واحد معدود الكلمات. وذلك مثل باب النهي عن البول في الجحر، ولم يذكر في هذا الباب إلا حديث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الجحر"6. ---------------------------- 1 سنن أبي داود: ج2 ص77. 2 سنن أبي داود: ج2 ص84. 3 سنن أبي داود: ج1 ص74. 4 سنن أبي داود: ج1 ص74 5 سنن أبي داود: ج1 ص14. 6 سنن أبي داود: ج1 ص6. ---------------------------- ومن ذلك باب كراهية الكلام عند الحاجة، حيث لم يذكر فيه إلا حديثًا واحدًا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان" 1.
ومن ذلك: باب في الرجل يذكر الله على غير طهر، لم يذكر فيه أبو داود إلا حديثًا واحدًا لعائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه"2.
ومن ذلك باب الخاتم يكون فيه ذكر الله، لم يذكر فيه إلا حديثًا واحدًا، على أنه حكم بأنه حديث منكر3.
ومن ذلك أيضًا باب البول قائمًا، لم يذكر فيه إلا حديثًا واحدًا.
ومن ذلك باب الرجل يبول بالليل في الإناء ثم يضعه عنده، لم يذكر فيه إلا حديثًا واحدًا أقصر من عنوانه.
وباب ما جاء في أكل معاقرة الأعراب لم يذكر فيه إلا حديثًا واحدًا4.
وباب ما جاء في ذبيحة المتردية لم يذكر فيه إلا حديثًا واحدًا.
وكذلك باب المبالغة في الذبح5.
وبعد هذا فإن فيما أوردناه من شهادات الحفاظ والعلماء لسنن أبي داود والتنويه بشأنها ما يدل على أنه كتاب جدير بالعناية بأمره، والاستمساك بحبله، واعتباره كنزًا من كنوز المعرفة والعلم بالسُّنَّة المحمدية، ولا سيما فيما يتعلق بالأحكام الشرعية، ولهذا عده بعض العلماء والأئمة الكتاب الثالث في الرتبة بعد الصحيحين، وإن كنا نتجه إلى أنه أولها رتبة فيما يختص بجمع أحاديث الأحكام وتقريبها وتهذيبها، والأمانة في عرضها بأسانيدها ومتونها.
ولا يفوتنا أن ننوه بهذا الكتاب من زاوية أن مؤلفه ممن عاشوا في عصور الرواية التي تنتهي بنهاية المائة الثالثة للهجرة، وأنه من الأئمة ذوي الحق في التعديل والتجريح، والتصحيح والتضعيف، ولهذا اختص كتابه من بين سائر مدونات الأحكام بطابع الرواية عند إيراد كل حديث، وبيان الطرق التي أوصلته إليه في كل منها، وبيان المقبول منها والمردود، إما بالنص عليه أو بالسكوت الذي جعله علامة على صلاحية الحديث كما بينا ذلك.
وما اشتهر من أن الكتاب في أحاديث الأحكام، لا ينافي ما وقع في آخره من أحاديث يتعلق بعضها بالعقائد، وبعضها بالترغيب والترهيب والآداب، فإنه -رحمه الله- لم يرد أن يخلي كتابه من هذه الفوائد بعد أن استفرغ وسعه في رواية أحاديث الأحكام، وإن كانت هذه الأبواب أيضًا يمكن ردها إلى الأحكام، باعتبار ما فيها من إلزام للمكلفين، أو ترغيب وترهيب للمؤمنين. ---------------------------- 1 سنن أبي داود: ج1 ص4. 2 سنن أبي داود: ج1 ص4. 3 سنن أبي داود: ج1 ص4. 4 سنن أبي داود: ج1 ص6. 5 سنن أبي داود: ج1 ص7. ---------------------------- وقد اتجهت عناية الفحول من علماء الأمة إلى الاهتمام بهذا الكتاب، فقد عمل له الإمام العظيم الحافظ أبو سليمان حمد الخطابي المتوفى سنة 388هـ شرحًا ممتازًا أفرغ فيه كثيرًا مما في جعبته من المعارف الإسلامية، ولا سيما في الأحكام الشرعية، كما هذبه الحافظ المنذري المتوفى سنة 656هـ وحذف أسانيده وعوض عنها ذكر من خرج الحديث من أئمة الرواية غير مؤلفه، كما هذبه العلامة الحافظ ابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751هـ تهذيبًا عظيمًا، بدأه بالتنويه به وقال: إنه من الإسلام بالموضع الذي خصه الله به بحيث صار حكمًا بين أهل الإسلام، وفصلًا في موارد النزاع والخصام، وأثنى على تهذيب الإمام المنذري له، وبين أنه إمامه في التهذيب الذي قام به.
قال صاحب كشف الظنون: إن الإمام المنذري سمى هذا التهذيب "المجتبى" وقد ألف السيوطي عليه شرحًا سماه "زهر الربى على المجتبى"1.
وممن ذكرهم صاحب كشف الظنون من شارحي السنن؛ العلامة ابن قيم الجوزية في شرح مختصر السنن، والحافظ جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911هـ، وقال: إن له شرحًا سماه "مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود" وإن لابن الملقن شرحًا لزوائده على الصحيحين في مجلدين، وولي الدين العراقي، والشيخ شهاب الدين أحمد بن الحسين الرملي المتوفى سنة 844، والشيخ قطب الدين أبو بكر بن أحمد بن دعين اليمني المتوفى سنة 752هـ في أربع مجلدات كبار في آخر عمره، وشرحها أبو زرعة أحمد عبد الرحيم العراقي سنة 826هـ وكتب منه سبع مجلدات إلى أثناء سجود السهو، والحافظ علاء الدين مغلطاي المتوفى سنة 762هـ ولم يكمله.
وشرحها شهاب الدين أبو مخمد بن محمد بن إبراهيم المقدسي من أصحاب المزي المتوفى سنة 765هـ سماه "انتحاء السنن واقتفاء السنن".
وشرح قطعة منها العلامة بدر الدين محمود بن أحمد العيني الحنفي المتوفى سنة 855هـ2.
ولقد تأثر الإمام الحافظ ابن حجر في كتابه بلوغ المرام بمسلك أبي داود في كتابه السنن، حيث ختمه بكتاب في الأدب وما يتصل به، سماه كتاب الجامع، وسنين ذلك -بإذن الله- عند الكلام على كتاب بلوغ المرام.
وقد شرح كتاب السنن أيضًا من العلماء المعاصرين شرحًا ضافيًا فضيلة العالم العامل الشيخ محمود خطاب السبكي، غير أن الله اختاره لجواره قبل أن يتمه، فأكمله خليفته وابنه العالم الجليل الشيخ أمين خطاب مع أعوان له من فحول العلماء من رجال السُّنَّة.
رحم الله الجميع، ونفع بهم وبما قدموه للأمة الإسلامية من أثر صالح ومجهود كريم. ---------------------------- 1 كشف الظنون ج1 ص1004. 2 كشف الظنون: ج2 ص1005 وما بعدها. ---------------------------- |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: كتب أحاديث الأحكام الأحد 26 مايو 2024, 6:42 pm | |
| شرح معاني الآثار للإمام الطحاوي: ومؤلف هذا الكتاب هو الإمام أحمد بن محمد بن سلمة الأزدي الطحاوي الفقيه، الذي انتهت إليه رياسة الحنفية بمصر، ومولده ومنشؤه في طحا من بلاد الصعيد، تفقه على مذهب أبي حنيفة ورحل إلى الشام سنة 268هـ فاتصل بأحمد بن طولون وكان من خاصته1، وكان مولده سنة تسع وعشرين ومائتين، ونقل الذهبي أن ولادته كانت سنة سبع وثلاثين ومائتين، صحب خاله المزني تلميذ الإمام الشافعي وتفقه عليه، ثم أدمن النظر في كتب الحنفية فتأثر بها حتى انتقل إلى مذهب الإمام أبي حنيفة.
وقد وصفه السيوطي بأنه كان ثقة ثبتًا فقيهًا لم يخلف بعده مثله، وعده بين حفاظ الحديث وقال: إنه انتهت إليه رياسة الحنفية بمصر، وإنه صاحب التصانيف البديعة، وذكر منها شرح معاني الآثار وأحكام القرآن والتاريخ الكبير وغيرها.
وأورده الذهبي في تذكرة الحفاظ فوصفه بأنه كان فقيهًا عالمًا ثقة ثبتًا لم يخلف مثله، كما ذكره الكفوي في الطبقات فقال: إنه أخذ الفقه عن أبي جعفر أحمد بن أبي عمران عن محمد بن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة2.
وأورده ابن العماد في شذرات الذهب، وذكر أنه سمع هارون بن سعيد الأيلي وطائفة من أصحاب ابن عيينة وابن وهب، ومنه أحمد بن القاسم الحساب، والطبراني، وصنف التصانيف منها العقيدة السنية، وبرع في الفقه والحديث، وتوفي في ذي القعدة سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة3.
وموضوع الكتاب هو شرح معاني الآثار المتعلقة بالأحكام الفقيه، والآثار كلمة تشمل الأحاديث وأقوال الصحابة والتابعين، ولعله لا يختلف -من هذه الناحية- عن مسلك الإمام مالك في إيراد ما يتعلق بالأحكام الفقهية مما وقع به الاستدلال للمذهب المراد تأييده من الآثار، وإن كان يختلف عنه في شرح معاني تلك الآثار، وإيراد ما ارتضاه مذهبًا لنفسه، والدفاع عنه بما لديه من الحجج والأدلة، وهو مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان.
وهو يتحدث عن سبب تأليفه هذا الكتاب فيقول في مقدمته: سألني بعض أصحابنا من أهل العلم أن أضع له كتابًا أذكر فيه الآثار المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحكام التي يتوهم أهل الإلحاد والضعفة من أهل الإسلام أن بعضها ينقض بعضًا، لقلة علمهم بناسخها من منسوخها وما يجب العمل به منها، لما يشهد به الكتاب الناطق، والسُّنَّة المجتمع عليها. ---------------------------- 1 من الأعلام للرزكلي نقلًا عن طبقات الحفاظ للسيوطي والطبقات لابن النديم. 2 مقدمة شرح معاني الآثار ج1 ص7، وحسن المحاضرة للسيوطي ج1 ص350، والتذكرة ج3 ص28. 3 شذرات الذهب: ج2 ص288. ---------------------------- وأجعل لذلك أبوابا أذكر في كل كتاب منها ما فيه من الناسخ والمنسوخ، وتأويل العلماء، واحتجاج بعضهم على بعض، وإقامة الحجة لمن صح عندي قوله منهم بما يصح به مثله من كتاب أو سنة أو إجماع أو تواتر في أقاويل الصحابة أو تابعيهم.
ثم يقول: وإني نظرت في ذلك وبحثت عنه بحثًا شديدًا، فاستخرجت منه أبوابا على النحو الذي سأل، وجعلت لذلك كتبًا، ذكرت في كل كتاب منها جنسًا من تلك الأجناس، فأول ما ابتدأت بذكره من ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطهارة.
وهو بهذه المقدمة الموجزة قد وضح المنهج الذي سلكه في كتابه هذا، من إيراد الآثار التي وصل إليها بعد البحث والتقصي خاصة بالأحكام، ولا سيما التي وقع فيها توهم لبعض الزائغين من تناقض يريدون به أن يرفضوا الأخذ بتلك الآثار، فهو بمسلكه هذا قد دعمها، وبين طريق الاستفادة منها بقدر ما وصل إليه اجتهاده، وانتهى إليه رأيه، وأنه قسم تلك الآثار أبوابا بحسب ما يندرج تحت كل باب من نوع معين من تلك الأحكام.
وهو لا يفرق بين الباب والكتاب في عبارته في المقدمة، وإنما يريد ما يندرج تحت نوع معين من الأحكام المتماثلة، وإن كان في مسلكه يصنع ما يصنعه غيره من المؤلفين فيعبر بالكتاب وهو يريد ما يشمل أبوابًا متعددة، فهو يقول مثلًا: كتاب البيوع، ثم يقول: باب بيع الشعير بالحنطة باب بيع الرطب -باب تلقي الجلب- باب خيار الرؤية.
ويقول: كتاب الهبة والصدقة ثم قال: باب الرجوع في الهبة باب هبة بعض الأولاد... إلخ.
والإمام الطحاوي لا يختلف عن غيره ممن ألفوا أحاديث الأحكام، من حيث إنه يوردها مفصلة بحسب الكتب والأبواب الفقهية في الجملة، وأنه وإن كان يختلف عن أبي داود في أنه يبرز شخصيته في كل موضوع من الأحكام، ويتدخل -بعد ذكر المتن وسنده- شارحًا ومعلقًا، وموفقًا بين ما يبدو للبعض في الأحاديث من تضارب، ومنتصرًا لمذهبه الذي ارتضاه بسوق الأدلة لتأييده فإنه يشبهه في إكثاره من إيراد الأبواب كثيرة التجزئة، كما رأينا في كتاب الطهارة الذي أورد في ضمنه باب سؤل الهر، باب سؤل الكلب، باب سؤر بني آدم، باب التسمية على الوضوء، باب الوضوء للصلاة مرة مرة وثلاثا ثلاثا... وهكذا، ثم يقول في كتاب الصلاة: باب الأذان كيف هو باب الإقامة كيف هي، باب قول المؤذن في صلاة الصبح: الصلاة خير من النوم، باب التأذين للفجر أي وقت هو... وهكذا إلى أن يقول: باب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم، باب القراءة في الظهر والعصر، باب القراءة في صلاة المغرب، باب القراءة خلف الإمام.
وقد طبع الكتاب أخيرًا في القاهرة عام ثمان وثلاثمائة وألف للهجرة طبعته مطبعة الأنوار المحمدية في أربعة أجزاء مختلفة الحجم، بلغت في مجموعها خمسا وأربعين وخمسمائة وألف صفحة من القطع الكبير.
وقد بدت لنا بعض الملاحظات التي سنحت عند استعراض صفحات هذا الكتاب نورد أهمها فيما يأتي: 1- أن المؤلف يبدأ كل باب فيه بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث، فإن كان في المسألة التي يورد الأحاديث في شأنها خلاف بين العلماء أورد من الأحاديث ما يستشهد به كل فريق، ثم يعقب على ذلك بذكر الآثار من عمل الصحابة والتابعين وروايتهم مع الموازنة والترجيح واختيار الرأي الذي ارتضاه.
ففي باب ذكر الجنب والحائض والذي ليس على وضوء، وقراءتهم للقرآن1 نرى المؤلف قد ساق حديثين أولهما عن المهاجرين قنفذ: "أنه سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ فلم يرد عليه، فلما فرغ من وضوئه قال صلى الله عليه وسلم: "إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طهارة" وثانيهما عن المهاجر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول -أو قال مررت به وقد بال- فسلمت عليه فلم يرد علي حتى فرغ من وضوئه ثم رد علي" ثم قال الإمام الطحاوي: فذهب قوم إلى هذا فقالوا: لا ينبغي لأحد أن يذكر الله تعالى بشيء إلا وهو على حال يجوز له أن يصلي عليها، وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: من سلم عليه وهو على حال يجوز له أن يصلي عليها. وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: من سلم عليه وهو على حال حدث تيمم ورد عليه السلام وإن كان في المصر، وقالوا فيما سوى السلام مثل قول أهل المقالة الأولى. ثم ساق الأحاديث التي احتج بها الفريق الآخر.
ومنها حديث نافع قال: انطلقت مع ابن عمر إلى ابن عباس في حاجة لابن عمر، فقضى حاجته فكان من حديثه أنه قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سكة من السكك وقد خرج من غائط أو بول، فسلم عليه فلم يرد عليه السلام حتى كاد الرجل أن يتوارى في السكة، فضرب بيديه على الحائط فتيمم لوجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فتيمم لذراعيه. قال: ثم رد عليه السلام وقال: "أما إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني كنت لست بطاهر".
وحديث ابن عمر: "أن رجلًا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فلم يرد عليه حتى أتى حائطًا فتيمم".
وحديث ابن عباس: "أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخلنا على أبي الجهم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو الجهم: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بير جميل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه حتى أقبل على الجدار فمسح وجهه ويديه، ثم رد عليه السلام".
ثم ذكر حديثًا آخر عن عمر مولى ابن عباس مثل الحديث السابق ثم قال: فبهذه الآثار رخصنا للذي يسلم عليه وهو غير طاهر أن يتيمم ويرد عليه السلام.
ثم ذكر حديثًا آخر عن عمر مولى ابن عباس مثل الحديث السابق ثم قال: فبهذه الآثار رخصنا للذي يسلم عليه وهو غير طاهر أن يتيمم ويرد عليه السلام، ليكون ذلك جوابًا للسلام، ثم قال: وهذا كما رخص قوم في التيمم للجنازة وللعيدين إذا خيف قوت ذلك إذا تشوغل بطلب الماء لوضوء الصلاة. ---------------------------- 1 شرح معاني الآثار: ج1 ص85 وما بعدها. ---------------------------- |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: كتب أحاديث الأحكام الأحد 26 مايو 2024, 6:43 pm | |
| وذكروا في ذلك أحاديث ساقها الإمام الطحاوي أيضًا منها: حديث موقوف على ابن عباس رواه عنه عطاء: في الرجل تفجؤه الجنازة وهو على غير وضوء.
قال: "يتيمم ويصل عليها" ثم ساق مثله ثمانية أحاديث أخرى وانتهى منها إلى هذا القول: فلما كان قد رخص في التيمم في الأمصار خوف فوت الصلاة على الجنازة.
وفي صلاة العيدين لأن ذلك إذا فات لم يقض، قالوا: فكذلك رخصنا في التيمم في الأمصار لرد السلام ليكون ذلك جوابًا للمسلم؛ لأنه إذا لم يفعل فلم يرد السلام حينئذ فات ذلك، وإن رد بعد ذلك فليس بجواب له، وأما ما سوى ذلك مما لا يخاف فوته من الذكر وقراءة القرآن فلا ينبغي أن يفعل ذلك أحد إلا على طهارة.
قال الطحاوي: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا بأس أن يذكر الله تعالى في الأحوال كلها من الجنابة وغيرها، ويقرأ القرآن في ذلك خلاف الجنابة والحيض فإنه لا ينبغي لصاحبها أن يقرأ القرآن.
ثم ساق ما احتجوا به من أحاديث: منها حديث رواه عن علي جاء في آخره: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجزه عن ذلك شيء، ليس الجنابة" وفي رواية ابن سلمة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته فيقرأ القرآن" وفي رواية أخرى عن علي: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن على كل حالة إلا الجنابة".
وبعد أن ساق الإمام الطحاوي عدة روايات مثل هذا الحديث، وما في معناه قال: ففيما رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إباحة ذكر الله تعالى على غير وضوء، وقراءة القرآن كذلك، ومنع الجنب من قراءة القرآن خاصة، ثم قال: وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يدل على إباحة ذكر الله تعالى على غير طهارة، وساق حديثًا عن عمرو بن عبسة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من امرئ مسلم يبيت طاهرًا على ذكر الله فيتعار من الليل يسأل الله تعالى شيئًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه اللهُ إيَّاهُ" وحديثًا مثله عن أبي ظبية عن معاذ، وآخر عن شمر بن عطية.. ثم قال: فهذا بعد النوم، ففي ذلك إباحة ذكر الله تعالى بعد الحدث، ثم ساق أحاديث أخرى في هذا المعنى بعضها عن عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه"، وبعضها عن ابن عمر ومالك بن عبادة الغافقي، ثم انتهى إلى قوله: فثبت بما في هذين الحديثين مع ما في حديث علي رضي الله عنه أنه لا بأس بذكر الله وقراءة القرآن في حال الحدث غير الجنابة والحيض، وأن قراءة القرآن خاصة مكروهة في حال الجنابة والحيض فأردنا أن ننظر أي هذه الآثار تأخر فنجعله ناسخا لما تقدم، فنظرنا في ذلك فإذا ابن داود قد حدثنا ثم ساق عدة أحاديث انتهى منها إلى القول بأن حديث علي متأخر، فهو ناسخ لما ورد قبله من "أحاديث أبي الجهم وابن عمر وابن عباس والمهاجر، وأن الحكم في حديث علي متأخر عن الحكم الذي فيه، ثم أورد عددًا من الآثار بعضها عن ابن عباس وبعضها عن ابن عمر تؤيد رأيه في أن حديث على ناسخ لغيره من الأحاديث. وقال: فهذا ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما قد رويا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يرد السلام في حال الحدث حتى يتيمم، وهما فقد قرأا القرآن في حال الحديث، ولا يجوز ذلك عندنا إلا وقد ثبت النسخ أيضًا عندهما، ثم قال: وقد تابعهما على ما ذهبا إليه من هذا قوم. ثم أورد آثارًا أخرى تشهد لما ذهبًا إليه، بعضها من عمل الصحابة، وبعضها من رواية التابعين، كل ذلك في نحو سبع صفحات من الكتاب.
ومثل هذا ما أورده المؤلف في باب وضع إحدى الرجلين على الأخري1. فقد ذكر حديثًا رواه جابر بأسانيد متعددة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره أن يضع الرجل إحدى رجليه على الأخرى، وزاد في بعضها "وهو مضطجع"، كما ذكر حديثًا عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى أن يثني الرجل إحدى رجليه على الأخرى".
ثم قال أبو جعفر: فكره قوم وضع إحدى الرجلين على الأخرى لهذه الآثار، واحتجوا في ذلك أيضًا بما رواه الطحاوي بسنده إلى أبي وائل قال: كان الأشعث وجرير بن عبد الله وكعب قعودًا، فرفع الأشعث إحدى رجليه على الأخرى، وهو قاعد، فقال له كعب بن عجرة: ضمها فإنه لا يصلح لبشر، ثم قال: وخالفهم في ذلك آخرون فلم يروا بذلك بأسًا، واحتجوا في ذلك بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ساق حديثًا عن عباد بن تميم عن عمه قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مستلقيًا في المسجد واضعًا إحدى رجليه على الأخرى، وأورد بعده ستة أحاديث مثله ثم قال: قالوا: فهذه الآثار قد جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإباحة ما منعت منه الآثار الأول.
قال: وأما ما ذكروه مما احتجوا به من قول كعب بن عجرة، فإنه قد روى عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك، ثم أورد عددًا من الآثار الدالة على أن كبار الصحابة كانوا يفعلون ذلك، ومن بينهم أبو بكر وعمر وعثمان وأسامة بن زيد وابن عمر وأنس بن مالك، ثم قال: فقد روينا عن الجلة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مما لا يتوصل إلى تبينه من طريق النظر، فنستعمل فيه ما استعملناه في غيره من أبواب هذا الكتاب، وأخذ يستعرض الأحاديث والآثار ويقارن بعضها ببعض، وانتهى إلى احتمال نسخ أحد الأمرين للآخر.
ثم قال: فلما وجدنا أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم -وهم الخلفاء الراشدون المهديون على قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمهم بأمره- قد فعلوا ذلك بعده بحضرة أصحابه جميعًا، وفيهم الذي حدث بالحديث الأول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكراهة فلم ينكر ذلك أحد منهم، ثم فعله عبد الله بن مسعود وابن عمر وأسامة بن زيد وأنس بن مالك رضي الله عنهم، فلم ينكر عليهم منكر ثبت بذلك أن هذا هو ما عليه أهل العلم من هذين الخبرين المرفوعين، وبطل بذلك ما حالفه لما ذكرنا وبينا. ---------------------------- 1 شرح معاني الآثار ج ص277 وما بعدها. ---------------------------- وبعد هذا ساق الإمام الطحاوي بعض الآثار المؤيدة لهذا الذي انتهى إليه من نسخ كراهة هذا الفعل.
2- يرفع التضاد الذي يبدو للدارس بين الآثار المتعارضة، وذلك إما بشرحها وتأويلها على معنى يوفق بينها وبين النصوص الأخرى، وإما باحتمال نسخ الأثرين للآخر، وهو -في غالب الأحيان- يؤيد وجهة نظره بما يروي من الآثار التي يستدل على ما اختاره.
فمن ذلك ما أورده في باب الذي يجامع ولا ينزل1 من حديث زيد بن خالد الجهني أنه سأل عثمان بن عفان عن الرجل يجامع فلا ينزل قال: ليس عليه إلا الطهور، ثم قال: "سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم" وأن زيدًا سأل عليًّا والزبير وطلحة وأبي بن كعب فكلهم قال ذلك، ثم روى آثارًا كثيرة بأسانيد متعددة، كلها تؤيد هذا المعنى وإن اختلفت صبغتها، كقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس في الإكسال إلا الطهور" وقوله في الجواب عن الرجل يجامع فيكسل: "يغسل ما أصابه ويتوضأ وضوءه للصلاة" وقوله: "الماء من الماء والغسل على من أنزل" وغير ذلك من الآثار.
ثم قال أبو جعفر: فذهب قوم إلى أن من وطئ في الفرج فلم ينزل فليس عليه غسل، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: كتب أحاديث الأحكام الأحد 26 مايو 2024, 6:44 pm | |
| وخالفهم آخرون فقالوا: عليه الغسل وإن لم ينزل: واحتجوا في ذلك بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن الرجل يجامع فلا ينزل، فقالت: "فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا منه جميعًا" وما روي عنها أيضًا قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقى الختانان اغتسل" وأن سعيد بن المسيب قال: ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقى الختانان أيوجب الغسل؟ فقال أبو موسى: أنا آتيكم بعلم ذلك، فنهض وتبعته حتى أتى عائشة رضي الله عنها فقال: يا أم المؤمنين، إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحيي أن أسألك، فقالت: سل فإنما أنا أمك. قال: إذا التقى الختانان أيجب الغسل؟ فقالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التلقى الختانان اغتسل"، وما روي أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل، هل عليه من غسل؟ -وعائشة رضي الله عنها جالسة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل".
قالوا: فهذه الآثار تخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يغتسل إذا جامع وإن لم ينزل، فقيل لهم: هذه الآثار تخبر عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يجوز أن يفعل ما ليس واجبًا عليه، والآثار الأول تخبر عما يجب وما لا يجب فهي أولى. ---------------------------- 1 شرح معاني الآثار: ج1 ص53 وما بعدها. ---------------------------- ثم أورد حجة أهل المقالة الثانية على أهل المقالة الأولى بأن ما أوردوه من الآثار الدالة لهم إنما هي على ضربين: أحدهما: "الماء من الماء" والثاني: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا غسل على من أكسل حتى ينزل".
ثم قال: "فأما ما كان من ذلك فيه ذكر الماء من الماء".
والثاني: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا غسل على من أكسل حتى ينزل".
ثم قال: "فأما ما كان من ذلك فيه ذكر الماء من الماء" فإن ابن عباس رضي الله عنه قد روي عنه في ذلك أن مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم به قد كان على غير ما حمله عليه أهل المقالة الأولى، وأورد الطحاوي عن ابن عباس بسنده أن ذلك كان في الاحتلام، إذا رأى أنه إذا جامع ثم لم ينزل فلا غسل عليه، قال: فهذا ابن عباس قد أخبر أن وجهه غير الوجه الذي حمله عليه أهل المقالة الأولى، فضاد قوله قولهم.
وأما ما روي فيما بين فيه الأمر وأخبر فيه بالقصد أنه لا غسل عليه في ذلك حتى يكون الماء فإن قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك، ثم روى حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قعد بين شعبها الأربع ثم اجتهد وجب الغسل" وآثارًا أخرى مثل هذا عن عائشة رضي الله عنها وفي بعضها عبارة "ثم ألزق الختان الختان" بدلًا من "ثم اجتهد" ومن بينها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل".
قال أبو جعفر: فهذه الآثار تضاد الآثار الأول وليس في شيء منها دليل على الناسخ من ذلك ما هو؟ فنظرنا في ذلك، فإذا علي بن شيبة قد حدثنا -وذكر سنده إلى أبي بن كعب- قال أبي بن كعب: "إنما كان الماء من الماء في أول الإسلام، فلما أحكم الله الأمر نهى عنه" وأورد بإسناد آخر أن أبي بن كعب أخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الماء من الماء رخصة في أول الإسلام، ثم نهى عن ذلك وأمر بالغسل.
وذكر الطحاوي بعد ذلك آثارًا أخرى عن بعض الصحابة تؤيد ما ورد من النسخ ثم قال فهذا أبي قد قال هذا، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك، فلا يجوز هذا عندنا إلا وقد ثبت نسخ ذلك عنده من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر بعد ذلك من الآثار ما يدل على اتجاه كبار الصحابة إلى هذا الرأي منهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان عثمان ممن روى خلافه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز ذلك إلا وقد ثبت النسخ عنده، وكذلك أبو هريرة الذي قال -عند سؤاله عما يوجب الغسل: إذا غابت المدورة.
مع أنه روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك قال الطحاوي فهذا أيضًا دليل على نسخ ذلك.
ثم أورد آثارًا أخرى كثيرة تؤيد النسخ وقال بعد ذلك: فقد ثبت بهذه الآثار التي رويناها صحة قول من ذهب إلى وجوب الغسل بالتقاء الختانين، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار.
ثم قال: وأما وجهه من طريق النظر، فإنا رأيناهم لم يختلفوا أن الجماع في الفرج الذي لا إنزال معه حدث، فقال قوم: هو أغلظ الأحداث، فأوجبوا فيه أغلظ الطهارات وهو الغسل، وقال قوم: هو كأخف الأحداث، فأوجبوا فيه أخف الطهارات وهو الوضوء، ثم استعرض مسائل متصلة بهذا الباب، وأخذ يبين حكمها ويقيس عليه. حتى انتهى إلى قوله: فالنظر على ذلك أن يكون الجماع بغير إنزال في حكم الأحداث أغلظ الأحداث، ويجب فيه أغلظ ما يجب في الأحداث وهو الغسل.
وساق حججًا أخرى ينتصر بها لهذا الرأي، واستوعب أكثر من ثماني صفحات من الكتاب في بيان الحكم في هذا الباب.
3- يستنبط الأحكام في كتابه هذا من طريقين: طريق الآثار وطريق النظر، فهو يستعرض الأحاديث والآثار الدالة في الباب، وبين دلالاتها ويوازن بينها، ثم يرجح ويختار، ويسوق كثيرًا مما يؤيد ما اختاره من طريق الآثار، ثم يعقب الاستنباط عن طريق النظر بذكر مسائل أخرى مشابهة لما هو بصدده، ويذكر حكمها ويقيس عليه، ثم ينتهي أخيرًا إلى رأي أبي حنيفة وصحبه، ويذكر بعد ذلك ما يؤيد مذهبه من الأحاديث والآثار.
فمن استعماله الطريقتين ما أورده في باب الوضوء هل يجب لكل صلاة أم لا؟ 1 فيما رواه ابن بريدة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد" وأنه صلى الله عليه وسلم: صلى يوم فتح مكة خمس صلوات بوضوء واحد ومسح على خفيه فقال له عمر: صنعت شيئًا -يا رسول الله- لم تكن تصنعه، فقال: "عمدًا فعلته يا عمر".
وما رواه علقمة عن سليمان عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتوضأ لكل صلاة، قال الطحاوي: فذهب قوم إلى أن الحاضرين يجب عليهم أن يتوضئوا لكل صلاة، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث.
وخالفهم في ذلك أكثر العلماء، فقالوا: لا يجب الوضوء إلا من حدث.
ثم أورد حديثًا آخر يؤيد وجهة نظر المخالفين، وهو ما رواه عن جابر بن عبد الله قال: "ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة من الأنصار ومعه أصحابه، فقربت لهم شاة مصلية2 فأكل وأكلنا، ثم حانت الظهر فتوضأ وصلى، ثم رجع إلى فضل طعامه فأكل، ثم حانت العصر فصلى ولم يتوضأ".
قال أبو جعفر: ففي هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر بوضوئه الذي كان في وقت الظهر، وقد يجوز أن يكون وضوءه لكل صلاة على ما روى ابن بريدة كان على التماس الفضل لا على الوجوب، ثم يتساءل أبو جعفر: فهل في هذا من فضل فيلتمس، ويجيب على هذا التساؤل: نعم، ويروي حديث عمر بما يفيد أنه توضأ لكل من الظهر والعصر والمغرب فسأله أبو غطيف: أي شيء هذا يا أبا عبد الرحمن؟ الوضوء عند كل صلاة؟ فقال عمر: وقد فظنت لهذا مني! ليست بسنة، إن كان لكاف وضوئي لصلاة الصبح صلواتي كلها ما لم أحدث، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من توضأ على طهر كتب الله له بذلك عشر حسنات" ففي ذلك رغبت يابن أخي. ---------------------------- 1 شرح معاني الآثار: ج1 ص41 وما بعدها. 2 قوله: مصلية أي مشوية. كذا في هامش ج1 ص42 معاني الآثار. ---------------------------- قال المؤلف: فقد يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما فعل ما رواه عنه ابن بريدة لإصابة هذا الفضل، لا لأن ذلك كان واجبًا عليه.
قال: وقد روي عن أنس عن مالك أيضًا ما يدل على ما ذكرنا، قال أنس: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فتوضأ منه.
فقال الراوي لأنس: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة؟ قال: نعم. قلت: فأنتم؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء.
فهذا أنس قد علم حكم ما ذكرنا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ير ذلك فرضًا على غيره.
وقد يجوز أيضًا أن يكون كان يفعل ذلك وهو واجب ثم نسخ، فنظرنا في ذلك هل نجد شيئًا من الآثار يدل على هذا المعنى فإذا ابن أبي داود قد حدثنا. ثم ساق حديثًا يدل على ذلك النسخ، ثم استطرد بذكر أحكام للسواك في مناسبة وروده في الحديث الذي ساقه، وأورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة انتهى منها إلى قوله: فثبت بقوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" أنه لم يأمرهم بذلك، وأن ذلك ليس عليهم، وأن في ارتفاع ذلك عنهم -وهو المجعول بدلًا من الوضوء لكل صلاة- دليل على أن الوضوء لكل صلاة لم يكن عليهم ولا امروا به، وأن المأمور به النبي صلى الله عليه وسلم دونهم، وأن حكمه كان في ذلك غير حكمهم.
قال: فهذا وجه هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار، وقد ثبت بذلك ارتفاع وجوب الوضوء لكل صلاة.
وأما وجه ذلك من طريق النظر، فإنا رأينا الوضوء طهارة من حدث، فأردنا أن ننظر في الطهارات من الأحداث كيف حكمها؟ وما الذي ينقضها؟، فوجدنا الطهارات التي توجبها الأحداث على ضربين: فمنها الغسل، ومنها الوضوء. وأورد وجهه نظره التي انتهى منها إلى أن النظر أن يكون حكم الطهارات من سائر الأحداث أنه لا ينقضها مرور الوقت كما لا ينقض الغسل مرور الوقت.
وبعد أن ساق حجة أخرى تؤيد هذا ومسائل قاس عليها ما هو بصدده قال: وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى، وقد قال بذلك جماعة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أورد كثيرًا من الآثار التي تؤيد مذهب أبي حنيفة وصحبه رضوان الله عليهم. ---------------------------- 1 شرح معاني الآثار: ج1 ص189 وما بعدها. ---------------------------- ومن استعماله طريق الآثار وحده في الاستنباط وإهداره طريق النظر ما صنعه في باب صلاة العصر هل تعجل أو تؤخر1 حيث روى فيه حديث أنس بن مالك إذا يقول: "ما كان أحد أشد تعجيلًا لصلاة العصر من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان أبعد رجلين من الأنصار دارًا من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبو لبابة بن عبد المنذر أخو بني عمرو بن عوف، وأبو عيسى بن خير أحد بني حارثة: دار أبي لبابة بقباء، ودار أبي عبس في بني حارثة، ثم إن كانا ليصلينان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، ثم يأتيان قومهما وما صلوها لتبكير رسول الله صلى الله عليه وسلم بها".
وبعد أن أورد هذا الحديث عن أنس بأسانيد متعددة وروايات مختلفة يستدل منها على التعجيل بصلاة العصر قال: وأما ما روى الزهري عن أنس رضي الله عنه فإنه قال: "كنا نصليها مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم نأتي العوالي والشمس مرتفعة" فقد يجوز أن تكون مرتفعة قد اصفرت، ثم قال: فقد اضطرب حديث أنس هذا لأن معنى ما روى الزهري منه بخلاف ما روى إسحاق بن عبد الله، وعاصم بن عمرو وأبو الأبيض عن أنس رضي الله عنه، ثم روى حديثًا عن غير أنس، رواه عن أبي أروى قال: "كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العصر بالمدينة ثم آتي الشجرة ذا الحليفة قبل أن تغرب الشمس، وهي على رأس فرسخين "وفي رواية أخرى عن أبي أروى أيضًا: "كنت أصلي العصر مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم أمشي إلى ذي الخليفة فآتبهم قبل أن تغيب الشمس".
قال: وأما قوله قبل أن تغرب الشمس فقد يجوز أن يكون ذلك وقد اصفرت الشمس ولم يبق منها إلا أقل القليل، ثم روى ما يؤيد ذلك من حديث ابن مسعود قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة العصر والشمس بيضاء مرتفعة، يسير الرجل حين ينصرف منها إلى ذي الحليفة ستة أميال قبل غروب الشمس".
ثم روى عن أنس مرة أخرى: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة العصر والشمس بيضاء محلقة" روى هذا الحديث عن أنس تأييدًا لتأخير رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العصر، ثم لا يكون بين صلاته صلى الله عليه وسلم وبين المغرب إلا بمقدار ما يسير الرجل إلى ذي الحليفة، ثم روى حديثًا آخر عن أنس أنه سئل عن مواقيت الصلاة فقال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة العصر ما بين صلاتيكم هاتين" واستدل منه ومما سبقه على أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤخرها.
ثم تساءل المؤلف كيف يتفق هذا وقد روى عن أنس رضي الله عنه حديثًا في ذم من يؤخر العصر؟ وروى حديثه في هذا، وبين أنه في التأخير المكروه الذي لا يتمكن معه مصليها من أدائها على وجهها، ولا يستطيع فيها أن يذكر الله متمكنًا قبل أن تتغير الشمس.
ثم قال: فأما صلاة يصليها متمكنًا، ويذكر الله تعالى فيها متمكنًا قبل تغير الشمس فليس ذلك من الأول في شيء.
ثم قال: والأولى بنا في هذه الآثار لما جاءت هذا المجيء أن نحملها ونخرج وجوهها على الاتفاق لا على الخلاف والتضاد.
وبعد أن أورد حديث عائشة رضي الله عنها بأسانيده المتعددة ورواياته التي يبدو منها تعجيل النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة العصر, ورده على ذلك، وبعد أن أورد حديث أبي برزة الذي يقول: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر فيرجع الرجل إلى أقصى المدينة والشمس حية" وأجاب عنه بما سبق له الإجابة به قال: فلم نجد في هذه الآثار لما صححت وجمعت ما يدل إلا على تأخير العصر، ولم نجد شيئًا منها يدل على تعجيلها إلا قد عارضه غيره، فاستحيينا بذلك تأخير العصر، إلا أنها تصلى والشمس بيضاء، وفي وقت يبقى بعده من وقتها مدة قبل أن تغيب الشمس.
ثم قال: ولو خلينا والنظر لكان تعجيل الصلوات كلها في أوائل أوقاتها أفضل، ولكن اتباع ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما تواترت به الآثار أولى.
فقد رأينا هنا كيف أعمل الآثار في استنباط الحكم وأهمل النظر، حيث استطاع أن يحمل وجوه الآثار على الاتفاق فاستقامت دليلًا على الحكم، فلا حاجة به إذًا إلى النظر والاجتهاد، فإنه لا اجتهاد مع النص.
ومثل ذلك أيضًا ما جاء في باب الرجل يتحرك سنه هل يشدها بالذهب أم لا1. فإنه بعد أن استعرض الأحاديث والآثار الواردة في الباب، وبعد أن أورد تساؤلًا قال فيه: فإن قال قائل: فقد رأينا خاتم الفضة أبيح للرجال ومنعوا من خاتم الذهب، فقد أبيح لهم من الفضة ما لم يبح لهم من الذهب قيل لهم: قد كان النظر ما حكينا، وهو إباحة خاتم الذهب للرجال كخاتم الفضة، ولكنا منعنا من ذلك، وجاء النهي عن خاتم الذهب نصًّا، فقلنا به وتركنا له النظر، ولولا ذلك لجعلنا في الإباحة كخاتم الفضة.
4- يعنى بسرد الأحاديث والآثار بأسانيدها دون اعتناء بالكلام على درجة الحديث أو تقويم رجاله اكتفاء بذكر الإسناد الذي انتهى به إلى هذا الأثر أو ذلك الحديث.
ولا يكون الكلام منه على درجة الحديث أو رجاله إلا عند المقارنة والترجيح بين الآثار، فإنه حينئذ يتكلم على رجال الإسناد، وعلى درحة الأحاديث، انتصارًا لفريق على فريق، واختيارًا لرأي دون رأي.
ومن ذلك ما ذكره عند الكلام على الأحاديث والآثار الواردة في باب صلاة العيدين كيف التكبير فيها2، فإنه بعد أن سرد الأحاديث الواردة في هذا الباب، والدالة على أن التكبير سبعًا في الأولى من الركعات وخمسًا في الثانية، في الأضحى وفي الفطر على السواء قال: قالوا: فهذه الآثار نقول وإليها نذهب. ---------------------------- 1 شرح معاني الآثار: ج4 ص257. 2 شرح معاني الآثار: ج4 ص343 وما بعدها. ---------------------------- ثم قال: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: بل التكبير في العيدين تسع تكبيرات: خمسًا في الأولى وأربعًا في الآخرة، ويوالي بين القراءتين.
قال: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى فيما احتجوا به عليهم من الآثار التي ذكرنا أن حديث عبد الله بن عمر إنما يدور على عبد الله بن عبد الرحمن وليس عندهم بالذي يحتج بروايته، ثم هو أيضًا من عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وذلك عندهم أيضًا ليس بسماع وأما حديث ابن لهيعة فبين الاضطراب مرة يحدث عن عقيل، ومرة عن خالد بن يزيد عن ابن شهاب، ومرة عن خالد بن يزيد عن عقيل، ومرة عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، وأبي واقد رضي الله عنه. قال: وبعد، فمذهبهم في ابن لهيعة ما قد شرحناه في غير موضع من هذا الكتاب، وأما حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فإنما يدور على ما رووه عن عبد الله بن عامر، وهو عندهم ضعيف.
ثم يقول بعد سطور قليلة: فلما انتفى أن يكون في هذه الآثار شيء يدل على كيفية التكبير في العيدين لما بينا من وهائها وسقوطها نظرنا في غيرها، هل فيها ما يدل على شيء من ذلك؟ ثم ساق حديثًا قال في تقويمه: إنه حديث حسن الإسناد، وعن رجاله: إنهم أهل رواية، معروفون بصحة الرواية ليس كمن روينا عنه الآثار الأول، فإن كان هذا الباب من طريق صحة الإسناد يؤخذ، فإن هذا أولى أن يؤخذ به مما خالفه.
وبعد: فهذه بعض نماذج لما بدا لنا في هذا الكتاب عند الدراسة، عرضناها على القارئ الكريم تصويرًا لما في الكتاب من جهد مشكور، وعناية فائقة بعرض الأحاديث والآثار، واستنباط الأحكام منها بعد عرض الأدلة التي تساند كل فريق إن كان في المسألة خلاف. وترجيح أحد الرأيين أو الآراء في الأدلة، والانتصار في النهاية لمذهب أبي حنيفة الذي ارتضاه المؤلف، وسوق الأدلة بعد هذا تدعيمًا لهذا المذهب، وهو في هذا كله طويل النفس، قوي الحجة، غزير المادة، محيط بمذاهب العلماء في الخلافيات، يعرض أدلتهم ويدعم ما يراه منها موافقًا لمذهبه، ويفند ما عدا ذلك، مما يجعله بحق أستاذًا لتربية ملكة التفقه عند الدارسين، ورائدًا من الذين يعتز بهم رجال الفقه والحديث، حتى لقد نوه به علماء الرجال، ووصفوه بأنه انتهت إليه رياسة الحنفية بمصر، وقال عنه العلامة الكفوي في الطبقات بعد أن عده في الطبقة الثانية من أصحابنا: هو الشيخ الإمام جليل القدر مشهور في الآفاق ذكره الجميل مملوء في بطون الأوراق... إلى أن قال: وكان رحمه الله إمامًا في الأحاديث والأخبار، سمع الحديث من خلق كثير من الغرباء ومن المصريين. ثم قال: وكان رحمه الله عالمًا بجميع مذاهب الفقهاء.
أجزل الله الأجر للإمام أبي جعفر الطحاوي، فقد أسدى الخير للمسلمين، وقدم لهم من تراث الإسلام ما يستحق الدراسة ويستأهل التقدير، جزاه الله عن أمة الإسلام خير الجزاء. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: كتب أحاديث الأحكام الأحد 26 مايو 2024, 6:46 pm | |
| منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار: مؤلف هذا الكتاب -كما يقول شارحه العلامة الشوكاني-1 هو الشيخ الإمام علامة عصره المجتهد المطلق، أبو البركات شيخ الحنابلة مجد الدين عبد السلام بن عبد الله، ينتهي إلى علي بن عبد الله الحراني المعروف بابن تيمية.
قال الذهبي في النبلاء: إنه ولد سنة تسعين وخمسمائة تقريبًا، وتفقه على عمه الخطيب، وقدم بغداد وهو مراهق مع ابن عمه، وسمع من أحمد بن سكينة وابن طبرزد ويوسف بن كامل وغيرهم وسمع بحران من حنبل وعبد القادر الحافظ، وتلا بالعشر على الشيخ عبد الواحد بن سلطان، وحدث عنه ولده شهاب الدين والدمياطي وعبد الغني بن منصور وغيرهم، وتفقه وبرع، وصنف التصانيف، وانتهت إليه الإمامة في الفقه، ودرس القراءات وصنف فيها أرجوزة.
وحج في سنة إحدى وخمسين على درب العراق، وابتهر علماء بغداد لذكائه وفضله، وأقام ببغداد ستة أعوام مكبًّا على الاشتغال في العلم، ثم ارتحل إليها مرة أخرى قبل العشرين وستمائة فتزيد منه، وصنف التصانيف وتوفي بحران سنة اثنتين وخمسين وستمائة.
وقد وصف المؤلئف "ابن تيمية" كتابه المنتقى فقال: هذا كتاب يشتمل على جملة من الأحاديث النبوية التي ترجع أصول الأحكام إليها، ويعتمد علماء الإسلام عليها، انتقيتها من صحيحي البخاري ومسلم ومسند الإمام أحمد بن حنبل، وجامع أبي عيسى الترمذي، وكتاب السنن لأبي عبد الرحمن النسائي وكتاب السنن لأبي داود السجستاني، وكتاب السنن لابن ماجه القزويني، واستغنيت بالعزو إلى هذه المسانيد عن الإطالة بذكر الأسانيد.
وذكر أن العلامة لما رواه البخاري، ومسلم "أخرجاه" ولبقيتهم "رواه الخمسة" ولهم سبعتهم "رواه الجماعة" ولأحمد مع الشيخين "متفق عليه" وفيما سوى ذلك أسمى من رواه منهم، ولم أخرج فيما غزوته عن كتبهم إلا في مواضع يسيرة، وذكرت في ضمن ذلك شيئًا يسيرًا من آثار الصحابة رضوان الله عليهم، ورتبت أحاديث هذا الكتاب على ترتيب فقهاء أهل زماننا لتسهل على مبتغيها وترجمت لها أبوابًا ببعض ما دلت عليه من الفوائد... إلخ. ---------------------------- 1 نيل الأوطار ج1 ص13. ---------------------------- وقد علق الشوكاني على اصطلاح المؤلف فيما رواه الثلاثة بمتفق عليه بأن هذا خلاف المشهور عند الجمهور من أن المتفق عليه ما رواه الشيخان، ولكن لا مشاحة في الاصطلاح، وبين أن قوله: لم أخرج فيما عزوته عن كتبهم يقصد به أنه اقتصر في كتابه هذا على العزو إلى الأئمة المذكورين، وقد يخرج عن ذلك في مواضع يسيرة فيروي عن غيرهم كالدارقطني والبيهقي وسعيد بن منصور والأثرم وهذا شيء واضح لمن تتبع هذا الكتاب ودرسه بتأن ودقة1.
وقد نقل الشوكاني عن جماعة عن أئمة الحديث أن هذا الكتاب من أحسن الكتب المصنفة في الفن، لولا عدم تعرض مصنفه -رحمه الله- للكلام على التصحيح والتحسين والتضعيف في الغالب ونقل عن البدر المنير أنه قال: وأحكام الحافظ مجد الدين عبد السلام بن تيمية المسمى المنتقى هو كاسمه وما أحسنه لولا إطلاقه في كثير من الأحاديث العزو إلى الأئمة دون التحسين والتضعيف، فيقول مثلًا: رواه أحمد، رواه أبو داود، ورواه الدارقطني، ويكون الحديث ضعيفًا، وأشد من ذلك كون الحديث في جامع الترمذي مبينًا ضعفه، فيعزوه إليه دون بيان ضعفه. قال: وينبغي للحافظ جمع هذه المواضع وكتبها على حواشي هذا الكتاب، أو جمعها على مصنف، يستكمل به فائدة الكتاب المذكور.
ونقول: إن هذا كان واجبًا قبل ظهور نيل الأوطار، فأما بعد ظهوره، فلم تعد تلك التنبيهات واجبة على الحافظ أو غيره، وقد بين الإمام الشوكاني منة الله عليه في ذلك فقال: وقد أعان الله وله الحمد على القيام بما أرشد إليه هذا الحافظ مع زيادات إليها تشد رحال الطلاب، وتنقيحات تنقطع بتحقيقها علائق الشك والارتياب.
وقد صدق الشوكاني في ذلك، فقد بذل جهدًا فيه، حتى إن الناظر في كتابه ليلمس أنه يبدأ في شرح الحديث ببيان درجته ومرتبته، وإن كان المصنف قد بينها فإن له فيه تفصيلًا وبحثًا، قد يطول أحيانًا، وقد يختلف به مع المؤلف في تقويمه للحديث مع البيان المقنع الشافي، فشكر الله له هذا المجهود.
ومن نظر في أول حديث أخرجه المؤلف -وهو حديث طهورية ماء البحر- تبين له ذلك بجلاء ووضوح، فإن المصنف اقتصر في تخريج الحديث وتقويمه على قوله: رواه الخمسة، وقال الترمذي: هذا الحديث حسن صحيح، ولكن الشوكاني اتجه ببيان مستقل ينبئ عن شخصية علمية فذة، فإن القارئ للمتن من شأنه أن يعتمد على ما أورده المصنف من أنه رواية الخمسة، ومن حكم الترمذي عليه بالحسن والصحة، ولكن أمانة العلم وشدة الفحص دعت الإمام الشوكاني إلى أن يبين أن الحديث أخرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، وابن الجارود في المنتقى، والحاكم في المستدرك والدارقطني والبيهقي في سننهما، وابن أبي شيبة، وذكر حكاية عن الترمذي نقلًا عن البخاري أن الحديث صحيح، ثم أورد معركة في الحكم على هذا الحديث يطول شرحها، ولا يستبينها إلا من رجع إلى هذا الشرح، وأراد أن يعزز الحديث في النهاية بأنه مروي عن جابر عند أحمد وابن ماجه وابن حبان والدارقطني والحاكم بنحو حديث أبي هريرة، وأن له طرقًا عند الطبراني في الكبير. ---------------------------- 1 نيل الأوطار ج1 ص22. ---------------------------- وأن الحافظ ابن حجر حكم على إسناده بأنه حسن، وليس فيه إلا ما يخشى من التدليس ثم تعرض لشرح هذا التدليس، وانتقل إلى أن ابن السكن قال: حديث جابر أصح ما روي في هذا الباب... إلى آخر ما قال. ولا نعني بذلك أن هذا الاستيعاب في البحث عن درجة الحديث هو مسلكه في جميع الأحاديث، وإلا لخرج عما هو مقصوده من الاستدلال به على الأحكام، وبيان الأئمة في الأخذ به أو العدول عنه ووجهة نظر كل منهم، فإنه وفق في كلتا الناحيتين فأجاد وأحسن، وهذه خدمة جليلة يشكرها الله له.
والكتاب بعد هذا أكبر مؤلف في أحاديث الأحكام التي ألفت مجردة من الأسانيد بعد عهد الرواية، وهو منتقى كاسمه، فقد اختار من الأحاديث أصلحها للاستدلال من تلك الكتب التي أوردها، وبينا المراد بما فيما نقلناه عن شارحه الشوكاني.
وهو مرتب على أبواب الفقه، سالك مسلكها من إيراد العنوان العام المندرج تحته أبواب، إلا أنه تارة يذكر العنوان العام باسم كتاب، كما صنع في كتاب الطهارة وتارة يذكره باسم باب، كما صنع في أبواب الأواني، ولعل حكمته في ذلك أن هذه الأبواب تشتمل أنواعًا مختلفة في موضوع يندرج تحت الكتاب العام، ولأن خطته في عرض الأبواب أن يكثر منها بحيث يشبه أبا داود في سننه، ولعله يتأثره في التنبيه إلى الحكم بإيراده تحت عنوان باب، وما أكثر ما عنون بالباب لمجرد حديث أو حديثين، ومن صور ذلك: باب طهورية ماء البحر وغيره فليس تحته إلا حديثان، وباب بيان زوال تطهيره فليس تحته إلا حديثان، وباب الرد على من جعل ما يغترف منه المتوضئ بعد غسل وجهه مستعملًا، وليس تحته إلا حديث واحد، مع طول هذا العنوان طولًا بينًا.
ولا سبيل لنا إلى استقصاء أحاديث الكتاب فليس له فيما نحن بصدده كبير جدوى، ولكننا نكتفي في الحكم عليه بما وصفه به ذلك الإمام محمد بن علي الشوكاني الذي انبرى له من بين المحدثين، وأبرز ما فيه من أدلة، وما يتصل بكل حديث من منزلة ورتبة، فهو يقول في بيان السبب الذي دعاه إلى شرحه على ذلك الوجه العظيم: إنه لما كان الكتاب الموسوم بالمنتقى من الأخبار في الأحكام مما لم ينسج على بديع منواله، ولا حرر على شكله ومثاله أحد من الأئمة الأعلام قد جمع من السُّنَّة المطهرة ما لم يجتمع في غيره من الأسفار1، وبلغ إلى غاية من الإحاطة بأحاديث الأحكام تتقاصر عنها الدفاتر الكبار، وشمل من دلائل المسائل جملة نافعة تغني دون الظفر ببعضها طوال الأعمار، وصار مرجعًا لجلة العلماء عند الحاجة إلى طلب الدليل، لا سيما في هذه الديار2 وهذه الأعصار، فإنه تزاحمت على مورده العذب أنظار المجتهدين، وتسابقت على الدخول في أبوابه أقدام الباحثين من المحققين، وغدا ملجأ للنظار يأوون إليه، ومفزعًا للهاربين من رق التقليد يعولون عليه. ---------------------------- 1 لعله يريد بذلك ما ألف منها في أحاديث الأحكام خاليًا من الأسانيد بعد عصور الرواية. 2 يريد بها اليمن مسقط رأسه. ----------------------------
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: كتب أحاديث الأحكام الأحد 26 مايو 2024, 6:47 pm | |
| وكان كثيرًا ما يتردد الناظرون في صحة بعض دلائله... حمل حسن الظن بي جماعة من حملة العلم -بعضهم من مشايخي- على أن التمسوا مني القيام بشرح هذا الكتاب1.
هذا؛ وإننا لا نعلم لهذا الكتاب القيم أحدًا قام بشرحه شرحًا كاملًا سوى2 الإمام الشوكاني الذي أفدنا من مقدمته هذه الكلم الجوامع في وصفه لهذا الكتاب، والذي يعنينا من هذا الوصف أن هذا الكتاب نسيج وحده، وأن مجموعته من أحاديث الأحكام المستوعبة مما لم يتح لغيره، وبذلك حاز شهرة جعلته بين كتب الأحكام مرجعًا وإمامًا، وأن مؤلفه -وقد زاد عن صاحب العمدة في عدد الروافد التي يستمد منها أحاديث الأحكام- قد أتيح له ما لم يتح لسلفه من إيراد الكثير من الأدلة التي تفيد الباحث وتقفه على مسائل من الدين ما كانت لتتيسر له لولا أنه توسع في الأخذ عن مظانها من كتب السنن المعتمدة غير الصحيحين.
من أجل هذا نرى أن هذا الكتاب -وإن شابه قصور من ناحية تقويم الحديث والكلام على رجاله- كان أوسع دائرة فيما ألف مختصرًا من أحاديث الأحكام بعد عصر الرواية، وكان تمهيدًا لمن جاء بعده من المؤلفين فيها، فاستكملوا ما فات صاحب المنتقى من تقويم الحديث والكلام على رجال الإسناد، وكان منهم الحافظ العراقي في طرح التثريب الذي رأينا فيه عناية بهذا الأمر تطمئن الدارس على ما ورد فيه من أحاديث الأحكام، والله المستعان. ---------------------------- 1 نيل الأوطار للشوكاني ج1 ص11. 2 جاء في كشف الظنون ج2 ص1851 أن السراج عمر بن الملقن الشافعي المتوفى سنة 804هـ قد شرح هذا الكتاب ولم يكمله بل كتب قطعة منه. ---------------------------- تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد: للحافظ العراقي المتوفى سنة 806هـ: وشرح المسمى طرح التثريب في شرح التقريب؛ للحافظ العراقي وولده أبي زرعة المتوفى سنة 826هـ: هذا كتاب وضعه الحافظ العراقي المتوفى عام ست وثمانمائة للهجرة، وقد ذكره الإمام السيوطي في حسن المحاضرة1 وهو بصدد الكلام على من كان بمصر من حفاظ الحديث فقال: العراقي الحافظ الإمام الكبير زين الدين أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسن بن عبد الرحمن حافظ العصر، ولد بمنشأة المهرماني بالقاهرة في جمادى الأولى سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وعني بالفن فبرع فيه وتقدم، بحيث كان شيوخ عصره يبالغون في الثناء عليه بالمعرفة، كالسبكي والعلائي وابن كثير وغيرهم، ونقل عنه الإسنوي في المهمات ووصفه بحافظ العصر، وله مؤلفات في الفن بديعة، كالألفية التي اشتهرت في الآفاق، وشرحها، ونظم الاقتراح، وتخريج أحاديث الإحياء، وتكملة شرح الترمذي لابن سيد الناس، وشرع في إملاء الحديث من سنة ست وتسعين، فأحيا الله تعالى به سنة الإملاء بعد أن كانت دائرة، فأملى أكثر من أربعمائة مجلس، وقد رثاه -بعد موته- الحافظ ابن حجر بقصيدة طويلة أوردها السيوطي، ونقل ابن العماد في الشذرات2 عن الحافظ ابن حجر في كتابه إنباه الغمر أنه ذكر في ترجمة الحافظ العراقي أنه حفظ التنبيه، واشتغل بالقراءات، ولازم المشايخ في الرواية، وسمع في غضون ذلك من الحافظ عبد الرحيم بن شاهد الجيش وابن عبد الهادي وعلاء الدين التركماني، وقرأ بنفسه على الشيخ شهاب الدين بن البابا وتشاغل بالتخريج، ثم تنبه للطلب بعد أن فاته السماع من مثل يحيى البصري آخر من روى حديث السلفي عاليًا بالإجازة، ومن الكثير من أصحاب ابن عبد الدايم والنجيب بن علاق، وأدرك أبا الفتح الميدومي فأكثر عنه وهو من أعلى مشايخه إسنادًا، وسمع أيضًا من ابن المملوك وغيره، ثم رحل إلى دمشق فسمع من ابن الخباز، ومن أبي العباس المرداوي ونحوهما، وعني بهذا الشأن، ورحل فيه مرات إلى دمشق وحلب والحجاز، وأراد الدخول إلى العراق ففترت همته من خوف الطريق، ورحل إلى الإسكندرية، ثم عزم على التوجه إلى تونس فلم يقدر له ذلك، وصنف أحاديث الإحياء، واختصره في مجلد وبيضه فكتبت منه النسخ الكثيرة، وقد ذكر أنه شرح ألفيته وعمل عليها نكتًا وصنف أشياء أخر كبارًا وصغارًا، وصار المنظور إليه في هذا الفن في زمن الشيخ جمال الدين الإسنائي ثم قال: ولم نر في هذا الفن أتقن منه، وعليه تخرج غالب أهل عصره، ومن أخصبهم به نور الدين الهيثمي، وولي شيخنا العراقي قضاء بالمدينة سنة ثمانين3 فأقام بها نحو ثلاث سنين، ثم سكن القاهرة أنجب ولده قاضي القضاة ولي الدين، ثم قال: لازمت شيخنا عشر سنين تخلل في أثنائها رحلاتي إلى الشام وغيرها، وقرأت عليه كثيرًا من المسانيد والأجزاء، وبحثت عليه شرحه على منظومته وغير ذلك، وشهد لي بالحفظ في كثير من المواطن، وكتب لي خطه بذلك مرارًا، وسئل عند موته: من بقي بعده من الحفاظ؟ فبدأ بي، وثنى بولده، وثلث بالشيخ نور الدين، وتوفي عام ست وثمانمائة للهجرة، وله إحدى وثمانون سنة وربع سنة. ---------------------------- 1 ص360 ج1. 2 ص55 ج7. 3 لعلها سنة ستين وسبعمائة. ---------------------------- وكتابه تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد1 وقد ألفه -كما يقول في مقدمته- لأبنه أبي زرعة الذي ترجم له في شرحه المسمى "طرح التثريب في شرح التقريب" وقال: إنه أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن، المولود بظاهر القاهرة في ثالث ذي الحجة بعد صلاة الصبح من سنة اثنين وستين وسبعمائة، وأنه حضر بالقاهرة على القاضي ناصر الدين أبي عبد الله محمد بن محمد بن أبي القاسم الربعي التونسي، وفتح الدين أبي الحرم محمد بن محمد بن محمد بن أبي الحرم، وعلى أبي العباس أحمد بن أبي بكر العطار العسقلاني وغيرهم، وحضر بدمشق على يعقوب بن يعقوب الحريري، والقاضي عماد الدين محمد بن موسى بن سليمان بن السيرجي، وأبى عبد الله المؤذن وغيرهم، وحضر بصالحية دمشق على أحمد بن النجم إسماعيل بن أحمد بن عمر بن أبي عمر، وعلى الحسن بن أحمد بن هلال بن الهبل وغيرهم، ثم سمع بعد ذلك من خلائق، ومن مسموعاته الكتب الستة، والموطأ، ومسند الشافعي، ومسند الدارمي، ومسند الطيالسي، ومسند عبد بن حميد، وكتاب الأدب للبخاري، وكتاب الأدب للبيهقي، وصحيح ابن حبان، والمعجم للطبراني، وغير ذلك، ثم دعا له بأن يجعله الله من العلماء العاملين.
وقد وصف الحافظ العراقي كتابه التقريب بأنه مختصر في أحاديث الأحكام، متصل الأسانيد بالأئمة الأعلام، حتى لا يقع في نقيصة نقل العلم بدون إسناده، وبذلك يستغني عن حمل الأسفار، وعن مراجعة الأصول عند المذاكرة والاستحضار، وحتى يخلص به من الحرج بنقل ما ليست له به رواية، وذكر أنه أراد أن يسهل له جمع الأسانيد بأن يورد عدة أحاديث في تراجم محصورة، وتكون تلك التراجم فيما عد من أصح الأسانيد.
وطريقته: أن يذكر لفظ الحديث لمن أسنده إليه من الموطأ أو مسند أحمد، وإن كان الحديث في الصحيحين لم يعزه لأحد، وكان عدم العزو علامة على أنه متفق عليه، وإن كان في أحدهما فإنه يقتصر على عزوه إليه، وإن لم يكن في واحد من الصحيحين فإنه يعزوه إلى من خرجه من أصحاب السنن الأربعة وغيرهم ممن التزم الصحة، كابن حبان والحاكم، فإن كان عند من عزا الحديث إليه زيادة تدل على حكم ذكرها، وكذلك إذا كانت الزيادة من عند غيره. ---------------------------- 1 أورده أيضًا صاحب هدية العارفين ج5 ص562. (1/185) ---------------------------- وأورد أن الزيادة إن كانت من حديث ذلك الصحابي "الذي روى الحديث دون الزيادة" لم يذكرها، بل يقول: ولأبي داود وغيره كذا، وإن كانت من غير حديثه قال: ولفلان من حديث فلان كذا، فإذا اجتمع حديثان فأكثر في ترجمة واحدة كقوله: عن نافع عن ابن عمر لم يذكرها في الثاني وما بعده، بل يكتفي بقوله: وعنه -ما لم يحصل اشتباه.
وذكر من منهجه أنه حيث عزا الحديث لمن خرجه فإنما يريد أصل الحديث -لا ذلك اللفظ- على قاعدة المستخرجات، فإن لم يكن الحديث إلا في الكتاب الذي رواه منه عزاه إليه بعد تخريجه -وإن كان قد علم أنه فيه- لئلا يلتبس ذلك بما في الصحيحين.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: كتب أحاديث الأحكام الأحد 26 مايو 2024, 6:49 pm | |
| ثم ذكر ست عشرة ترجمة تنحصر في أسانيدها أحاديث هذا الكتاب، وذكر إسناده إلى تلك التراجم، وشيوخه إلى أربعة منها، وهذه الأربعة هي: 1- نافع عن ابن عمر. 2- الأعرج عن أبي هريرة. 3- أنس. 4- عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة. ثم ذكر الاثنتي عشرة ترجمة الباقية بسند آخر ينتهي به إلى أحمد بن حنبل الذي يروي الأحاديث بأسانيده إلى كل ترجمة منها، وهذه التراجم هي: 5- الزهري عن سالم عن أبيه عن عمر. 6- الزهري عن سالم عن أبيه. 7- عبيدة عن علي. 8- الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود. 9- معمر عن همام عن أبي هريرة. 10- الزهري عن سعيد عن أبي هريرة. 11- ابن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة. 12- سفيان عن عمرو عن جابر. 13- عبد الله بن بريدة عن أبيه. 14- أبو الخير عن عقبة بن عامر. 15- الزهري عن عروة عن عائشة. 16- عبيد الله عن القاسم عن عائشة.
فهذه التراجم الست عشرة هي التي تنحصر فيها أسانيد هذا الكتاب، باعتبار بدئها من شيوخ المصنف ونهايتها إلى الصحابي.
وإنما آثر هذه التراجم الست عشرة باعتبار أنها أصح الأسانيد مطلقًا، أو مقيدة بالصحابي أو بأهل البلد، وذلك على الخلاف الذي أورده علماء مصطلح الحديث في مقام بيان أصح الأسانيد.
وإنما آثر المصنف هذا المسلك حرصًا منه على تجديد عهد الرواية بطرق من أقوى طرق التحمل، خلافًا لما يلجأ إليه غيره من حذف الأسانيد اكتفاء بالتخريج، واعتمادًا على أن أحاديثها، وردت في صحاح كتب السُّنَّة، وهذا الذي يسلكه غيره إنما هو نوع من الوجادة التي اشترط المحدثون في الرواية بها الإذن أو الوصية من المؤلف، وهي عندهم من أضعف أنواع التحمل، إلا أنهم كانوا مضطرين إليها بعد عصر الرواية، اعتمادًا على تحقق الثقة في الأحاديث عن طريقها، ولكن المصنف قد تحاشها، وندد بمن يعتمد في روايته عليها إذ يقول: إن هذا المختصر متصل الأسانيد بالأئمة، ويعلل هذا الاتصال الذي عول عليه في روايته لابنه بقوله: إنه يقبح بطالب الحديث بل بطالب العلم ألا يحفظ بإسناده عدة من الأخبار، يستغني بها عن حمل الأسفار في الأسفار، وقد ادعى أن ذلك غير سائغ بإجماع أهل الدراية، ونقل ذلك عن الحافظ أبي بكر محمد بن خير الأموي.
ولا يسوغ الاعتراض على هذا المسلك بأن روايته عن أحمد بن حنبل ترجع إلى التحمل بالوجادة على اعتبار أنها نقل عن مسنده، فقد صرح المؤلف في الرواية عن أحمد بأن شيخه الذي نقل عن أحمد وهو عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي أحمد بن محمد بن حنبل، فالتحمل هنا بلفظ حدثني لا بطريق الوجادة في المسند.
وقد أوضح المؤلف بأنه لم يرتب كتابه هذا على طريق التراجم التي ذكرها في المقدمة، بل على أبواب الفقه لقرب تناوله، كما صرح بأنه أتى في آخره بجملة من الأدب والاستئذان وغيره، وهذا لأنه لم يرد أن يخليه من جانب الترغيب في الطاعة والترهيب من المعصية.
وقد تأثر بهذا تلميذه الحافظ ابن حجر فختم كتابه "بلوغ المرام" بكتاب سماه الجامع، ذكر فيه أنواعًا من ذلك، إلا أنه لم يتأثر بشيخه في إيراده لبعض أحاديث تتعلق بالقدر وأشراط الساعة والبعث وذكر الجنة والنار لأن فيها استطرادًا يبعد به عن مقصود الكتاب، وإنما موضعها العقائد.
ومن تتبع الصحابة الذين تنتهي إليهم هذه التراجم وجدهم لا يخرجون عن عشرة من أجلائهم، هم على الترتيب الذي أورده في المقدمة: ابن عمر، أبو هريرة، أنس، عائشة، عمر بن الخطاب، علي بن أبي طالب، عبد الله بن مسعود، جابر، بريدة، عقبة بن عامر.
غير أنه عند إيراده لأول حديث في الكتاب -وهو حديث: "إنما الأعمال بالنيات" الذي التزم إيراده في أوله جريًا على طريقة المصنفين- خرج عن هذه التراجم لكونه لم يشترك مع ترجمة أحاديث عمر التي أوردها ضمن تراجمه، بل اعتمد في هذا الحديث على رواية علقمة بن أبي وقاص عن عمر، وهي غير الترجمة التي أوردها في الرواية عن عمر والتزم بها في هذا الكتاب، فإنها رواية سالم عن أبيه عن عمر، وذلك لأنه لم يجد لحديث: "إنما الأعمال بالنيات" هذه الترجمة التي التزم بها في أحاديث هذا الكتاب.
ومن الصور البارزة في هذا المؤلف أن الحافظ العراقي قد تجلت عنايته بالرواة وغيرهم ممن وردت أسماؤهم في الكتاب -كما يقول- فترجم لكل منهم قبل البدء في شرح الكتاب ترجمة مصورة له تصويرًا واضحًا.
وقد أفادنا هذا المسلك إفادة قيمة، ولا سيما فيما يتعلق بشيوخه الذين أخذ عنهم ووصلوا به إلى هذه التراجم، فإنه ربما لم يرد أن يحيل القارئ إلى العناء في البحث عنهم، وربما لا يتيسر للقارئ مراجع يتعرف بها على هؤلاء الشيوخ الذين انتهوا به إلى تلك الأصول، وإن في بيان شيوخه زيادة ثقة واطمئنان إلى هذا الكتاب وما ورد فيه من أحاديث.
ومما ينبغي التنبيه له في هذا المقام أن الحافظ العراقي قد استقل في هذا الكتاب بمتن التقريب، وأنه اشترك مع ابنه أبي زرعة في وضع الشرح عليه، فكتب كل منهما بعضًا من هذا الشرح، ولم تكن كتابة كل منهما على الترتيب من حين بدأ إلى حيث انتهى كما يقع في غيره من الكتب التي يشترك فيها أكثر من مؤلف استكمالًا لما ترك شاغرًا في الكتاب، وإنما اشترك التمليذ مع والده في حياته في شرح هذا الكتاب.
ولأمر ما بدأ الوالد بالتعريف بالرجال الذين وردت أسماؤهم فيه، ثم شرح جزءاً من المتن لم يكن هو كل ما تناوله من الشرح في هذا الكتاب، ثم بدأ الابن من حيث انتهى أبوه، فشرح قطعة أخرى من المتن متصلة بما وقف عندها والده، ثم عاد الوالد فبدأ من حيث انتهى ابنه.
وهكذا حتى انتهى شرح الكتاب المسمى "طرح التثريب في شرح التقريب".
وقد وقفنا على بيان هذه التجزئة التي لم نتبين بالتحديد الباعث عليها، وربما كان الباعث عليها هو دقة إشراف الوالد على عمل ابنه فيما اشترك معه فيه، وحفز همته إلى الكدح والاجتهاد الذي يقرب له المساواة معه في طريقة البحث، أقول: وهذا الذي وقفنا عليه من بيان هذه التجزئة هو تصريح من أبي زرعة ولد الحافظ العراقي في إجازة نقلت من خط أبي زرعة نفسه يذكر فيها: أن جميع هذا الجزء الأول من طرح التثريب من تأليف والده وتكميل أبي زرعة له؛ فمن أوله إلى أول باب مواقيت الصلاة من كلام والده رحمه الله، ومن أول الباب المذكور إلى أول باب التأمين من كلام أبي زرعة، ومن أول باب التأمين إلى باب الإمامة من كلام والده، ومن الإمامة إلى باب الجلوس في المصلى وانتظار الصلاة من كلام أبي زرعة، ومن ثم إلى آخر هذا المجلد من كلام والده رحمة الله عليه.
هذا ما وصل إلينا نقلًا عن الضبي ناسخ هذا الكتاب من خط مؤلفيه، ذكرته لجنة التحقيق في تصديرها للكتاب1.
وهذا القدر من البيان لم يوضح لنا إذا كان هذا المجلد الذي أشار إليه أخيرًا هو ذات الجزء الأول فقط أم أنه استوعب الكتاب كله؟ وإذا كان المجلد هو الجزء الأول فقط كما يشعر به ظاهر هذه العبارة فمن منهما الذي تولى شرح بقية الكتاب؟
غير أننا نرجح أن أبا زرعة شارك في شرح بقية الكتاب بعد أن عثرنا أثناء النظر فيه على بعض. ---------------------------- 1 طرح التثريب: ص8 ج1. ---------------------------- عبارات تشعر بمشاركة أبي زرعة لوالده في شرح بقية الكتاب، منها ما ورد من إيراده لنظم نسبه إلى والده وقال: وقد نظم ذلك والدي بقوله: "سبعة أمعاء لكل آدمي ... إلخ"1 وقد ورد مثل ذلك في باقي الكتاب، ومنها عبارة أخرى في شرح حديث: "الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معي واحد" وهذه العبارة هي قوله: وقال والدي رحمه الله في شرح الترمذي: إنه "يريد كون جهجاه هو صاحب الواقعة" لا يصح لأن مدار حديثه على عبدة الربذي وهو ضعيف2.
فهذا الكلام واضح في أن أبا زرعة هو شارح هذا الحديث لأن والده الحافظ العراقي هو شارح الترمذي كما هو معروف.
ثم إنه في حديث: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم بلبن قد شيب بماء" ذكر تعليقًا نسبه كذلك إلى والده في شرح الترمذي بقوله: قال والدي رحمه الله3 في شرح الترمذي.
على أن هناك من العبارات ما يشعر بأن الحافظ العراقي أيضًا له مشاركة في الشرح، فقد ورد في شرح حديث: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب..." الحديث، تعبير للشارح يدل على أن الشرح للحافظ العراقي صاحب المتن، فهو ينقل عن شيخه فيقول4: وزعم شيخنا الإمام جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي أن مذهب الشافعي جواز قتلها "أي الكلاب" كما ورد مثل هذا التعبير في شرح حديث عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان يبايع النساء بالكلام... قالت: وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة..." الحديث، قال الشارح: ظاهره أنه -صلى الله عليه وسلم- لم تمس يده يد أحد من محارمه، ثم أورد خلاف العلماء في ذلك وقال: وقد حكى شيخنا الإمام عبد الرحيم الإسنوي الإجماع على الجواز5.
وقد أورد صاحب هدية العارفين كتاب طرح التثريب في شرح التقريب من بين مصنفات الحافظ زين الدين العراقي6، وأورده صاحب ذيل كشف الظنون7، من بين مصنفات ولده أبي زرعة، تأييدًا لما أورده صاحب كشف الظنون8. أما السخاوي في كتابه الضوء اللامع9 فإنه ذكر في ترجمة أبي زرعة: أنه أكمل شرح والده على ترتيب المسانيد وتقريب الأسانيد وهو كتاب حافل.
وإذن فقد دل التعميق في البحث على أن هذا الشرح من أوله إلى آخره كان مناوبة بين الأب الحافظ العراقي وابنه ولي الدين أبي زرعة.
ومهما يكن من أمر فإن هذا لن يغير من قيمة الكتاب العلمية في شرحه، ولا من الميزة الحديثية فيه، فإن جميع ما فيه متجانس، ولا يكاد بعضه مختلف عن بعض في الاستيعاب واستيفاء المذاهب وأدلتها، وظهور الشخصية العلمية المتميزة. ---------------------------- 1 طرح التثريب: ص18 ج6. 2 طرح التثريب: ص19 ج6. 3 طرح التثريب: ص25 ج6. 4 طرح التثريب: ص33 ج6. 5 طرح التثريب: ص45 ج7. 6 هدية العارفين ج5 ص562. 7 ذيل كشف الظنون ج4 ص83. 8 كشف الظنون ج1 ص464. 9 الضوء اللامع: ص343 ج1. ---------------------------- |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: كتب أحاديث الأحكام الأحد 26 مايو 2024, 6:49 pm | |
| هذا؛ وفي دراستنا لمتن الكتاب تبين لنا أن الحافظ العراقي لا يخليه من الاستنتاجات الفقهية اللطيفة يبرز فيها شخصيته في فقه السُّنَّة. ومن ذلك قوله بعد رواية حديث أبي هريرة بترجمتين عنه في شأن الإيراد عن الصلاة أو عن الحر يقول في في التعليق عليهما: وليس في حديث أبي هريرة ذكر للظهر فيدخل في عمومه الإيراد بالجمعة1.
وقد يفسر بعض الألفاظ التي يرى أنها تحتاج إلى بيان بالسياق أو غيره كما في حديث أنس عند البخاري: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أشتد الحر أبرد بالصلاة، وإذا اشتد البرد بكر بالصلاة" فبين الصلاة بقوله: يعني الجمعة2.
ومن هذا النمط ما جاء من إضافته قيدًا في حديث الأعرج عن أبي هريرة: "إذا قلت لصاحبك أنصت فقد لغوت" قال العراقي: يريد والإمام يخطب3.
وللحافظ العراقي تعليقات تشعر بالدقة حتى في اختيار أصح الألفاظ في رواية الأحاديث، وقد ذكر حديث: "أبردوا بالظهر..." إلخ ثم قال: وفي علل الخلال من حديث أبي سعيد "من فوح" بدل "فيح" قال أحمد: لا أعرف أحدًا قال فوح غير الأعمش4.
ومن ذلك قوله في حديث الأعرج وهمام عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الملائكة يتعاقبون فيكم..." فذكره ولم يقل "بهم" التي وردت في الرواية الأخرى وهي قوله: وهو أعلم بهم، وقال: "فقالوا" موضع "فيقولون" الواردة في الرواية الأخرى5.
ومن ذلك ما ورد في حديث الجمع بين حديثي جابر في قصة معاذ وتطويله للصلاة من: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بأن يقرأ: سبح اسم ربك الأعلى، والليل إذا يغشى وبين حديث بريدة: "من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يصلي بالشمس وضحاها" ونحوها من السور حيث قال الحافظ: والجمع بين حديث بريدة وجابر في قصة معاذ أنهما واقعتان6.
ومن ذلك ما ورد في حديث أبي سلمة عن أبي هريرة في سهو النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه سلم من ركعتين في صلاة الظهر فقام رجل فقال: يا رسول أقصرت الصلاة أم نسيت..." وفي رواية أخرى لأبي هريرة "أن ذلك كان في صلاة العصر" وفي رواية ثالثة لعمران بن الحصين: "أنه صلى العصر فسلم في ثلاث"، وفي رواية لأبي داود والنسائي والحاكم من حديث معاوية بن خديج: "فسلم وقد بقيت من الصلاة ركعة"، وذكر ابن خديج أن الرجل طلحة بن عبد الله، وقد جمع الحافظ العراقي بين هذا الاختلاف نقلًا عن المحققين: بأن لأبي هريرة قصتين، ولعمران قصة أخرى، ولمعاوية بن خديج قصة أخرى7. ---------------------------- 1 طرح التثريب: ص151 ج2. 2 طرح التثريب: ص156 ج2. 3 طرح التثريب: ص190 ج3. 4 طرح التثريب: ص156 ج2. 5 طرح التثريب: ص304 ج2. 6 طرح التثريب: ص278 ج2. 7 طرح التثريب: ص4 ج3. ---------------------------- ومن غرائبه أنه يذكر الحديث أحيانًا ثم يسلط عليه أسلوب الأصوليين في الترجيح وقد سلك هذا المسلك في حديث همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا نودي للصلاة -صلاة الصبح- وأحدكم جنب فلا يصم يومئذ". فقال: إنه إما منسوخ كما رجحه الخطابي، أو مرجوح كما قاله الشافعي رحمه الله والبخاري بما في الصحيحين من حديث عائشة وأم سلمة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم" فبين العراقي بهذا أن حديث همام هذا مرجوح لا يعمل به، ووجه كونه مرجوحًا أن هناك ما ينسخه على مسلك الخطابي، أو ما هو أقوى منه على مسلك الإمامين الشافعي والبخاري، وأكد ذلك بأن عائشة ذكرت بأنه ليس من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وأن أبا هريرة رجع عنه حين بلغه حديث عائشة1.
والكتاب متنًا وشرحًا يقع في ثمانية أجزاء: أولها خاص بالتراجم التي تعرف بكل من له ذكر في الكتاب من الشيوخ منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصر المؤلف، بعد مقدمة الحافظ العراقي لكل من متن الكتاب وشرحه، مع تضمين مقدمة الشرح ترجمة لابنه ولي الدين أبي زرعة.
ثم سار في بقية أجزاء الكتاب مرتبًا له على أبواب الفقه المعروفة، مبتدئًا بكتاب الطهارة ومنتهيًا بكتاب الشهادات ثم باب السلام والاستئذان.
ثم ذكر أبواب الأدب، وذكر الطب والرقى، والرؤيا، والأمثال، وحق الضيف، والرجاء والخوف، والقدر، وأشراط الساعة، والبعث، وذكر الجنة والنار، وبه ينتهي الكتاب بأجزائه الثمانية.
وفي كل كتاب أبواب، وتحت كل باب مسائل وردت بشأنها أحاديث، تكثر في بضع الأحيان وتقل في بعضها الآخر، وفي تخريج هذه الأحاديث، وبيان معانيها واستنباط الفوائد الكثيرة منها ما يبرز شخصية المؤلف، ويدل على غزارته العلمية وعمقه في البحث، وأصالته في التفكير.
وبعد: فإن هذا الكتاب هو أحد الكتب التي وضعت لأحاديث الأحكام، وهو لفحل من فحول هذا الشأن قلما يجود بمثله الزمان، فهو عمدة في هذا الباب، ومرجع يعول عليه العلماء والطلاب.
وطريقته التي ذكرناها في التقيد بالتراجم التي اختارها لأصح الأسانيد لم يشاركه فيها أحد فيما وصل إلينا من الكتب، فإن المتأمل يجد في هذا المسلك مجهودًا أشق من مجهود الاختيار من الصحيحين وحدهما -كما التزم بذلك الإمام المقدسي في كتابه عمدة الأحكام- وأدق من مسلك من اكتفى بأحاديث الكتب الستة وما يشبهها في التزام الصحيح من الأحاديث -كابن تيمية في كتابه منتقى الأخبار، وابن حجر في كتابه بلوغ المرام- فإن مسلكه هذا يستدعي فحص الأحاديث وتتبعها في الصحيحين وفي غيرهما لاختيار ما تتحقق فيه تلك التراجم. ---------------------------- 1 طرح التثريب: ج4 ص122. ---------------------------- وإن يكن قد فاته أن يقدم للدارسين بعض الأدلة التي حال التزامه بذكر أصح الأسانيد دون إيرادها متن الكتاب فإنه رحمه الله قد تدارك ما فاته بهذا الشرح العظيم الذي برهن على فحولته الفقهية، وعلى تمكنه من مختلف أبواب الدين بما أورده من الفوائد العديدة المستمدة من الأحاديث التي ينفسخ بها له -في الشرح- مجال الاستدلال ما دامت تصلح لذلك، دون تقيد بما التزمه في المتن ومن الإنصاف أن نسجل مشاركة ولده أبي زرعة له في شرح بعض أحاديث الكتاب، ولكن المنهج واحد والأسلوب لا يختلف، وما تناوله الابن بالشرح من الكتاب لا يقل مكانة عما تناوله والده استدلالا وتعمقًا وطول نفس، وقوة استنتاج.
ومما يزيد في قيمة الكتاب العلمية كون مؤلف الشرح هو مؤلف المتن، فهو أدرى بما أورده مما يحتاج إلى بسط في البحث، أو أخذ ورد في تصوير المذاهب الفقهية، وكيفية المآخذ من هذه الأدلة ونفي الشبهه العارضة عليها، ودفع ما قد يتوهم من تعارض بينها.
ومن الأمانة العلمية أن نورد هنا ما ذكره الشيخ محمد جمال الدين القاسمي المتوفى عام اثنين وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة في كتابه قواعد التحديث1 تحت عنوان "ذكر من صنف في أصح الأحاديث" قال رحمه الله: جمع الحافظ أبو الفضل عبد الرحيم العراقي فيما عد من أصح الأسانيد كتابًا في الأحكام رتبه على أبواب الفقه سماه: "تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد" وهو كتاب لطيف جمعه من تراجم ستة عشر قيل: إنها أصح الأسانيد إما مطلقًا وإما مقيدة، ومع ذلك فقد فاته جملة من الأحاديث كما قاله ابن حجر.
ونلاحظ أن القاسمي لم يبين لنا في أي كتاب ذكر الحافظ ابن حجر هذا الاستدراك على الحافظ العراقي، ولئن كان قد قال ذلك إن استدراكه لمردود؛ لأن العراقي لم يدع استيعاب أصح الأسانيد في أحاديث الأحكام، وإنما ذكر أنه يريد أن يجمع أحاديث عديده في تراجم محصورة2 وقد وفي بما وعد.
رضي الله عن الحافظ العراقي وولده ولي الدين أبي زرعة، وأجزل أجرهما لقاء ما قدما إلى أمة الإسلام من نصح، وما أسديا إليها من معروف. ---------------------------- 1 قواعد التحديث: ص84. 2 طرح التثريب: ج1 ص17 وما بعدها. ---------------------------- |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: كتب أحاديث الأحكام الأحد 26 مايو 2024, 6:50 pm | |
| بلوغ المرام من أدلة الأحكام: للحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ: وموضوع هذا الكتاب -كما يبدو من عنوانه- هو الأحاديث التي يستدل بها على الأحكام الفقهية. ومؤلفه هو الإمام أحمد بن علي بن محمد بن علي المصري القاهري الشافعي المعروف بابن حجر وهو لقب بعض آبائه1.
ولد سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة بمصر العتيقة، ونشأ بها يتيمًا في كنف أحد أوصيائه، فحفظ القرآن صغيرًا، ثم درس الكتب المعتبرة في الفقه والحديث وأصول الفقه كالعمدة والحاوي ومختصر ابن الحاجب، وتردد على فحول عصره في مختلف الأماكن، ولزم الأبناسي مدة طويلة وتفقه عليه، ولزم العز بن جماعة في غالب العلوم، وأخذ اللغة عن المجد الفيروزآبادي صاحب القاموس، ثم حبب الله إليه الحديث فأقبل عليه بكليته، وتفرغ لدراسته، ولزم الزين العراقي فتخرج به وانتفع بملازمته، وقرأ عليه ألفيته وشرحها، ونكته على ابن الصلاح دراسة وتحقيقًا، ثم تحول إلى القاهرة فسكنها وارتحل إلى البلاد الشامية، والحجازية، وأكثر جدا من السماع من الشيوخ، حتى اجتمع له من الشيوخ المشار إليهم ما لم يجتمع لأحد في عصره، وأذن له جلهم في الإفتاء والتدريس، وقد تصدى لنشر الحديث، وقصر نفسه عليه مطالعة وقراءة وإقراء، وتصنيفًا وإفتاء، حتى زادت تصانيفه -التي معظمها في فنون الحديث- على مائة وخمسين تصنيفًا، ورزق من السعد والقبول -ولا سيما في فتح الباري بشرح البخاري الذي لم يسبق نظيره- أمرًا عجيبًا.
وقد اعتنى بتحصيل تصانيفه كثير من شيوخه وأقرانه فمن دونهم وكتبها الأكابر.
ومن البازر في تاريخه أن السلطان المؤيد ولاه الحكم في بعض القضايا، ولزم من ذلك النيابة، ولكنه لم يتوجه إليها ولا انتدب لها حتى عرض عليه الاستقلال بالحكم، وألزم من أجابه بقبوله فقبل، وقد ندم فيما بعد على قبوله، وصرح بأنه جنى على نفسه بتقلد هذا الأمر، ولم يلبث أن صرف ثم أعيد، وهكذا حتى صمم على الإقلاع عنه.
ومما عرف في تاريخه أنه درس في عدة أماكن لعدة فنون، فدرس التفسير بالحسينية والمنصورية، والحديث بالبيبرسية والمالية وغيرها، والفقه بالحروبية البدرية بمصر والشريفية الفخرية وغيرهما. ---------------------------- 1 عن الضوء اللامع للسخاوي ج2 ص36 بتصرف. ---------------------------- ومن أعماله الخطابة بالجامع الأزهر ثم بجامع عمرو، ويقول السخاوي: إن الناس أخذوا عنه طبقة بعد أخرى، وألحق الآباء بالأبناء والأحفاد.
كما يقول: إنه قرأ عليه الكثير جدًّا من تصانيفه ومروياته، وكانت وفاته رضي الله عنه سنة 852هـ.
وصنف المؤلف كتابه في تقديمه له بأنه مختصر على أصول الأدلة الحديثية للأحكام الشرعية وذكر أنه حرره تحريرًا بالغًا، ليصير من يحفظه بين أقرانه نابغًا1 وأنه بين عقب كل حديث من أخرجه من الأئمة، لإرادته نصح الأمة.
وقد علق الشارح الصنعاني على هذه العبارة بقوله: في ذكر من أخرج الحديث عدة نصائح للأمة: منها بيان أن الحديث ثابت في دواوين الإسلام، ومنها أنه قد تداولته الأئمة الأعلام، ومنها أنه قد تتبع طرقه وبين ما فيها من مقال، ومن تصحيح وتحسين وإعلال، ومنها إرشاد المنتهي أن يراجع أصولها التي منها انتقى هذا المختصر2.
واستدرك الصنعاني عليه بأنه كان يحسن أن يذكر هنا مسلكه الذي سلكه أثناء الكتاب من بيان صحة الحديث أو حسنه أو ضعفه، وهو استدراك له قيمته؛ لأن ذلك من أبرز مظاهر النصح للأمة، لما فيه من إبراء نفسه، وإخلائها من عهدة التبعة فيما يشبه التدليس في الرواية.
وذكر المصنف في مقدمته بسيان مصطلحه، عند التخريج والنسبة إلى الأئمة، وأنه يريد بالسبعة -حين يوردها- أحمد البخاري ومسلمًا وأبا داود وابن ماجه والترمذي والنسائي، وبالستة من عدا أحمد، وبالخمسة من عدا البخاري ومسلمًا، وقد يقول الأربعة وأحمد، وأنه يريد بالأربعة أبا داود وابن ماجه والترمذي والنسائي، كما ذكر أنه يريد بالثلاثة من عدا الثلاثة الأول وعدا الأخير؛ أي أنه يريد بها ابن ماجه وأبا داود والترمذي، ويريد بالمتفق عليه البخاري ومسلمًا، وأنه قد لا يذكر معهما غيرهما مع علمه باشتراك غيرهما معهما، اكتفاء بأن إليهما المنتهى في الوثوق بالحديث، وقال: إن ما عدا هذه المصطلحات فهو مبين، ويريد بذلك أن الحديث إذا خرجه غير هؤلاء المذكورين -سواء أكان مشتركًا معهم أو مع بعضهم- فإنه يذكر ذلك المخرج باسمه، وذلك مثل قوله في الحديث الأول: أخرجه الأربعة وابن أبي شيبة واللفظ له، وأخرجه ابن خزيمة والترمذي، ورواه مالك والشافعي وأحمد، وواضح أن ابن أبي شيبة وابن خزيمة ومالكًا والشافعي لم يدخلوا في مصطلحاته السابقة، فنص عليهم بأسمائهم بناء على ما أورده في هذه المقدمة، وقد سماه المصنف بلوغ المرام من أدلة الأحكام جريًا على طريقة معاصريه من المؤلفين في التزام السجع في أسماء الكتب. ---------------------------- 1 بلوغ المرام ص9. 2 سبل السلام ص10 والصنعاني هو الإمام محمد بن إسماعيل بن صلاح الدين الكحلاني المتوفى سنة 1182هـ من أعلام من درسوا الفقه والحديث رواية ودراية، وبرعوا في مختلف العلوم، وألف في الحديث وعلومه كتبا حافلة منها سبل السلام "شرح بلوغ المرام" ومنها العدة في شرح العمدة للمقدسي، ومنها شرح التنقيح في علوم الحديث. ---------------------------- وإذا كان المؤلف قد بين -في تقديمه للكتاب- أنه اشتمل على أصول الأدلة الحديثية فإنه لا يريد بذلك أنه استوعب جميع الأدلة الحديثية كما يبدو واضحًا من تتبع الكتاب واستقراء أحاديثه، وموازنته بغيره من كتب أحاديث الأحكام، كمسند أبي داود، ومعاني الآثار للطحاوي، وكالمنتقى لابن تيمية الذي اشترك مع المصنف في تجريد الأحاديث من أسانيدها وفي تخريجها، كما اشترك معه أيضًا في علة عدم التنبيه على بعض ما ينبغي التنبيه عليه من بيان درجة الحديث، ولكن ابن حجر اختار نخبة من الأحاديث، واتجه في أكثر ما اختاره إلى ما بنى عليه الإمام الشافعي رضي الله عنه مذهبه في الفقه، بمقتضى ميل المصنف، واتجاهه لمناصرة هذا المذهب، ولكن إنصافه -والحق يقال- لم يمنعه من عرض بعض الأحاديث التي تختلف مع فروع المذهب الشافعي كما سنبين ذلك عند الكلام على الظواهر العامة في الكتاب، وبناء على ذلك فمن المجازفة ما قيل: إن ابن حجر جمع في هذا الكتاب كل الأحاديث التي استنبط الفقهاء منها الأحكام الفقيهة1.
ومما ينبغي الإشارة إليه من هذا المقام أن هذا المؤلف -فوق أنه كما وصفه مؤلفه وكما تعارفه الناس عنه من الاشتمال على الأدلة الحديثية للأحكام الشرعية، فإنه يمتاز بأن مؤلفه الإمام الحافظ ابن حجر بغزارته، وسعة علمه، وكرم نصحه للأمة قد وضع في آخره كتابًا جامعًا لأبواب ستة، هي: الأدب، والبر والصلة، والزهد والورع، والترهيب من مساوئ الأخلاق، والترغيب في مكارم الأخلاق، والذكر والدعاء، وهو تصرف غاية في الحكمة والدقة والإحسان، فإن هذه الأبواب عيون التصرف، وضالة كل شخصية مسلمة، فالفقه في الحقيقة -ولا سيما عند الأولين من علماء المسلمين- كانت له عناية خاصة بالآداب، واتجاه إلى ما يصلح النفوس ويهذيها، ويدعوها إلى مكارم الأخلاق، كما يركز الإمام الغزالي على ذلك في كتابه الإحياء وينعى على الفقهاء أنهم أهملوا ذلك الاتجاه الإسلامي الرفيع، ويقول: إن تعلم ذلك الفقه التهذيبي فريضة على كل مسلم ومسلمة، فجزى الله المؤلف خيرًا بما لفت به نفوس المتفقهين إلى تلك النواحي الكريمة من الدين.
ويشتمل هذا الكتاب على ثلاثة وسبعين وثلاثمائة وألف حديث، ما عدا المتداخل، وهو المتشابه ببعض الاختلاف، وهو الذي يشير إليه بقوله: وفي رواية فلان كذا، ونحو ذلك.
ويبلغ عدد هذه الأحاديث المتداخلة، واحدًا وثلاثين ومائة حديث، وبها تصل أحاديث الكتاب إلى أربعة وخمسمائة وألف حديث.
وقد وجد اختلاف في عد أحاديث الكتاب بين بعض النسخ وبعض، تبعًا لاختلاف الطبعات، واتجاهات المصححين والمراجعين في إدخال بعض الأحاديث في بعض، أو فصل بعضها عن بعض وقد أحصاه بعض المؤلفين المعاصرين2 بأربعمائة وألف حديث. ---------------------------- 1 انظر صدر كتاب سبل السلام عند التعريف ببلوغ المرام وشرحه ص3 للأستاذ محمد عبد العزيز الخولي. 2 الحديث والمحدثون لفضيلة الدكتور أبي زهو ص447. ---------------------------- |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: كتب أحاديث الأحكام الأحد 26 مايو 2024, 6:50 pm | |
| وهذه الأحاديث موزعة على الأبواب الفقهية التي سلك بها مسلك الفقهاء على النحو التالي: 1- كتاب الطهارة: وفيه باب المياه، وباب الآنية، وباب إزالة النجاسة وبيانها، وباب الوضوء، وباب المسح على الخفين، وباب نواقض الوضوء، وباب آداب قضاء الحاجة، وباب الغسل وحكم الجنب، وباب التيمم، وباب الحيض.
2- كتاب الصلاة: وفيه باب المواقيت، وباب الأذان، وباب شروط الصلاة، وباب سترة المصلي، وباب الحث على الخشوع في الصلاة، وباب المساجد، وباب صفة الصلاة، وباب سجود السهو وغيره من سجود التلاوة والشكر، وباب صلاة التطوع، وباب صلاة الجماعة والإمامة، وباب صلاة المسافر والمريض، وباب صلاة الجمعة، وباب صلاة الخوف، وباب صلاة العيدين، وباب صلاة الكسوف، وباب صلاة الاستسقاء، وباب اللباس.
3- كتاب الجنائز: وليس تحته أبواب.
4- كتاب الزكاة: وفيه باب صدقة الفطر، وباب صدقة التطوع، وباب قسم الصدقات.
5- كتاب الصيام: وفيه باب صوم التطوع وما نهي عن صومه، وباب الاعتكاف وقيام رمضان.
6- كتاب الحج: وفيه باب فضله، وبيان من فرض عليه، وباب المواقيت، وباب وجوه الإحرام وصفته؛ وباب الإحرام وما يتعلق به، وباب صفة الحج ودخول مكة، وباب الفوات والإحصار.
7- كتاب البيوع: وفيه باب شروطه وما نهي عنه، وباب الخيار، وباب الربا، وباب الرخصة في العرايا وبيع الأصول والثمار، وأبواب السلم والقرض والرهن، وباب التفليس والحجر، وباب الصلح وباب الحوالة والضمان، وباب الشركة والوكاة، وباب الإقرار، وباب العارية، وباب الغضب، وباب الشفعة، وباب القراض، وباب المساقاة والإجارة، وباب إحياء الموتى، وباب الوقف، وباب الهبة والعمري والرقبي، وباب اللقطة، وباب الفرائض، وباب الوصايا وباب الوديعة.
8- كتاب النكاح: وفيه باب الكفاءة والخيار، وباب عشرة النساء، وباب الصداق، وباب الوليمة، وباب القسم، وباب الخلع، وباب الطلاق.
9- كتاب الرجعة: وفيه باب الإيلاء والظهار، والكفارة، وباب اللعان، وباب العدة والإحداد، وباب الرضاع وباب النفقات، وباب الحضانة.
10- كتاب الجنايات: وفيه باب الديات، وباب دعوى الدم والقسامة، وباب قتال أهل البغي، وباب قتال الجاني وقتل المرتد.
11- كتاب الحدود: وفيه باب حد الزانى، وباب حد القذف، وباب حد السرقة، وباب حد الشارب وبيان المسكر، وباب التعزير وحكم الصائل.
12- كتاب الجهاد: وفيه باب الجزية والهدنة، وباب السبق والرمي.
13- كتاب الأطعمة: وفيه باب الصيد والذبائح، وباب الأضاحي، وباب العقيقة.
14- كتاب الإيمان والنذور: وليس تحته أبواب.
15- كتاب القضاء: وفيه باب الشهادات، وباب الدعاوي والبينات.
16- كتاب العتق: وفيه باب المدبر والمكاتب وأم الولد.
17- كتاب الجامع: وفيه باب الأدب، وباب البر والصلة، وباب الزهد والورع، وباب الترهيب من مساوئ الأخلاق، وباب الترغيب في مكارم الأخلاق، وباب الذكر والدعاء.
وختم الكتاب بما سبق أن ختم به الإمام البخاري صحيحه، ختمه بحديث: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" ويا حبذا لو بدأه بما بدأ به البخاري صحيحه: "إنما الأعمال بالنيات".
فإنه من الأحاديث التي عليها مدار الإسلام فضلًا على أن النية في العمل شرط في صحته.
وقد أوردنا محتويات الكتاب على هذه الصورة التي رأيناه عليها ليلمس القارئ فيها ظاهرة تبدو بارزة في تبويب الكتاب، وأنه لم يكن دقيقًا ولا مضبوطًا في بعض ما اندرج من الأبواب تحت عنوان الكتاب منه، أو في وجود أحاديث كانت تستحق إيرادها تحت أبواب غير تلك التي أدرجت فيها، أو في إيراد كتب ليس تحتها أبواب، وقد كانت حرية بذلك، أو في إيراد أحاديث سائبة دون عنونة، وقد كانت جديرة بذلك، أو في إيراد أبواب كان الأولى بها أن تكون كتبًا لفقد الربط بينها وبين ما اندرجت تحته من الكتب.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: كتب أحاديث الأحكام الأحد 26 مايو 2024, 6:51 pm | |
| فمن الأول: باب اللباس، فقد أدرجه المصنف تحت كتابه الصلاة، وكان حقه أن يكون كتابًا مستقلًّا برأسه، وهو بذلك أولى من كتاب الجنائز الذي تبدو الصلة واضحة بينه وبين كتاب الصلاة باعتبار صلاة الجنازة وأهميتها، ومع ذلك أفرد للجنائز كتابًا مستقلًّا برأسه، ولم يفعل ذلك في اللباس الذي لا تربطه صلة بكتاب الصلاة، ولا ينبغي أن يقال: إن ستر العورة باللباس شرط من الشروط في الصلاة، فإن المصنف لم يورد في هذا الباب من الأحاديث ما يربط بينه وبين كتاب الصلاة، فضلًا عن أن ستر العورة واجب على المسلم في كل أحواله: في الصلاة وفي غير الصلاة.
ومن الثاني: حديث: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد..." ولا تبدو له مناسبة بينه وبين كتاب الإيمان والنذور الذي أورده فيه، اللهم إلا إذا قيل: إنه أورده هنا للتنبيه على عدم جواز النذر لشد الرحال لغير هذه المساجد؛ لأنه لا نذر في معصية، غير أن نص الحديث لا يساعد على هذا الربط بينه وبين الكتاب الذي ورد فيه، وقد ورد هذا الحديث بعينه في باب الاعتكاف وقيام رمضان، وقد يقال في إيراده في هذا الباب ما قيل في إيراده في كتاب الإيمان والنذور.
ومن الثالث: ما أورده من أحاديث تحت عنوان كتاب الجنائز، وقد كان الأولى بكثير منها أن تندرج تحت أبواب تحمل عناوين متعددة، فإن طول كتاب الجنائز وتشتت موضوعاته جدير بذلك، فإن منها ما يتعلق بتجهيز الميت ومنها ما يتعلق بتكفينه، ومنها ما يتعلق بدفنه، وذكر الموت، وما إلى ذلك.
ومنها أيضًا ما أورده من أحاديث في كتاب الإيمان والنذور كان مقتضى الدقة والضبط أن تفرز في أبواب مختلفة، فإن منها ما يتعلق بالنهي عن الحلف بغير الله، ومنها ما يتعلق بكيفية اليمين، ومنها ما يتصل بالكفارة عنه، ومنها ما هو بيان ليمين النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما يبين اليمين الغموس واللغو، ومنها ما يرتبط بالنهي عن النذر، وبيان حكم النذر في الطاعة وفي المعصية وكفارة النذر، وغير ذلك.
ومن الرابع: تلك الأحاديث التي قدمها سائبة في أوائل بعض الكتب بين يدي إيراده لأبوابها وهذه الكتب هي: 1- كتاب الزكاة: وقد أورد في أوله خمسة وعشرين حديثًا ليست داخلة تحت باب، وكان حقها أن يعنون لكل منها بما يناسبه، فإن منها ما يتصل بفرضية الزكاة، ومنها ما يتعلق بنصابها في الزروع والثمار، وفي مال التجارة ومواقيت الأداء، وغير ذلك.
2- كتاب الصيام: وقد أورد في أوله ستة وعشرين حديثًا لم يذكر لها عناوين تناسب كل نوع منها، وإن منها ما يتعلق بالنهي عن سبق رمضان بصيام غير معتاد، ومنها ما يرتبط بالنهي عن صوم يوم الشك، وما هو مرتبط برؤية هلال رمضان، وما هو متصل بتبييت النية، والسحور، وما يفطر عليه، الصائم، والنهي عن الوصال، وغير ذلك.
3- كتاب النكاح: وقد أورد في أوله واحدًا وثلاثين حديثًا سائبة بغير تنويع، وكان أولى بها مثل هذه العناوين: الترغيب في النكاح، تخير الزوج، خُطبة النكاح، الخِطبة، الصداق، إعلان الزواج، شروط النكاح، الاختيار وعدم الإكراه، النكاح المحرم، نكاح المتعة، المحلل.
4- كتاب الجنايات: وأورد في أوله ستة عشر حديثًا دون تبويب، لو أنه بوبها لكان الأقرب إلى ذلك ما يأتي: القصاص، حرمة دم المسلم، أحكام الجنايات، بين القصاص والعفو، وأن يلحق بالديات ما يخصها من هذه الأحاديث.
5- كتاب الجهاد: وأورد في أوله ثلاثة وأربعين حديثًا لم يبوبها، ولو أنه فعل لكانت عناوينها أقرب إلى ما يأتي: الحث على الجهاد، جهاد المرأة ومن له أبوان، الهجرة "ومن عجب أن تقحم في موضوعات الجهاد وبين أحاديثه" وصية الأمير للجيش، التورية في الجهاد، اختيار الوقت، طرق القتال، الغلول في الغنائم، جزاء الغدر، الفدية، الشفاعة للأسير، حل الأخذ من الغنائم بقدر الحاجة قبل القسمة، تطهير الجزيرة العربية من أهل الكتاب، حسن معاملة العدو، أحكام متفرقة.
6- كتاب الأطعمة: في أوله اثنا عشر حديثًا دون تبويب، كان يمكن إدراجها تحت باب أو بابين عن المباح والمحظور من الأطعمة.
7- كتاب القضاء: وأورد في أوله ثلاثة عشر حديثًا سائبة، لو أنه بوبها لكانت قريبًا مما يأتي: حث القاضي على المعرفة والعدل، الترهيب من قبول القضاء، حكم خطأ المجتهد، إرشاد القاضي، التحذير من الاحتيال لأخذ المال، قضاء المرأة، نهي القاضي عن الاحتجاب، حرمة الرشوة، المساواة بين المتخاصمين.
8- كتاب العتق: وفي أوله تسعة أحاديث لم تدخل تحت باب، ولو أنه بوبها لكانت كما يأتي: فضل العتق، عتق بعض العبد، أحكام عامة، الولاء.
ومن الخامس: هذه الأبواب التي أوردها تحت كتب، وليس بينها وبين تلك الكتب أية صلة، ومن ذلك ما أورده تحت كتاب البيوع من أبواب: إحياء الموات، والوقف، والهبة، والعمري والرقبى واللقطة، والوصايا، والوديعة، وأبرز من هذا كله باب الفرائض، وقد عده من بين أبواب حكاب البيوع، وأية علاقة بينه وبينها حتى يعد بابًا منها؟
ومن الظواهر التي رأيناها عند دراستنا لهذا الكتاب أمانة ابن حجر العلمية في عرض أدلة المخالفين لمذهبه، فإنه يورد هذه الأدلة في مواجهة أدلة الشافعية لتكون أمام الدارس والمجتهد والفاحص يتعرف من خلالها طريقه، ويتبين من ثناياها مسلكه، وبذلك يبرئ ابن حجر عهدته، ويلقي على الدارس عبثه ومسئوليته، بعد أن يضع أمامه أدلة كل فريق، ومن غير تحيز ولا تعصب لمذهبه الذي ارتضاه.
ومن ذلك ما فعله فيما يأتي: 1- في المسح على العمامة أورد المصنف حديث المغيرة بن شعبة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين" وقد قال الصنعاني في شرحه لهذا الحديث: إن الاقتصار بالمسح على العمامة لم يقل به الجمهور.
ونقل عن ابن القيم قوله: ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة، لكن إذا مسح بناصيته كمل على العمامة، كما في حديث المغيرة هذا1.
وقد أورد في نفس المعنى حديث ثوبان قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأمرهم أن يمسحوا على العصائب؛ يعني العمائم، والنساخين؛ يعني الخفاف" قال الصنعاني في شرحه لهذه الحديث2: ظاهر الحديث أنه يجوز المسح على العمائم كالمسح على الخفين.
إلى أن قال: وظاهره أيضا أنه لا يشترط للمسح عليها عذر، وأنه يجزئ مسحها وإن لم يمس الرأس ماء أصلًا.
2- وفي حديث عائشة رضي الله عنها3: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ" قال الصنعاني4: فالحديث دليل على أن لمس المرأة وتقبيلها لا ينقض الوضوء، وهذا هو الأصل.
وذهب الشافعية إلى أن لمس من لا يحرم نكاحها ناقض للوضوء مستدلين بقوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاء} فلزم الوضوء من اللمس.
وفي هذا الباب أورد حديث طلق بن علي5 قال: قال رجل: مسست ذكري، أو قال: الرجل يمس ذكره في الصلاة أعليه وضوء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا، إنما هو بضعة منك". ---------------------------- 1 سبل السلام: ج1 ص51 وبلوغ المرام ص21. 2 سبل السلام: ج1 ص60 وبلوغ المرام ص34. 3 بلوغ المرام: ص26. 4 سبل السلام: ج1 ص66. 5 بلوغ المرام: ص26. ---------------------------- |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: كتب أحاديث الأحكام الأحد 26 مايو 2024, 6:53 pm | |
| وقال الصنعاني1 في شرحه: والحديث دليل على ما هو الأصل من عدم نقض مس الذكر للوضوء.
كما أورد في هذا الباب حديثًا آخر يناقضه في الدلالة، وهو حديث بسرة بنت صفوان2 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مس ذكره فليتوضأ" وقال الصنعاني عند شرحه له: وبه استدل من سمعت عن الصحابة والتابعين وأحمد والشافعي على نقض مس الذكر للوضوء والمراد مسه من غير حائل3.
3- وفي باب صلاة المسافر والمريض أورد حديثًا يستدل به الحنفية على أن القصر عزيمة لا رخصة، وهو حديث عائشة4 رضي الله عنها قالت: "أول ما فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر".
ثم أورد بعده حديثًا لعائشة5 رواه الدارقطني: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويصوم ويفطر" وهو دليل للشافعية، ولكن أمانة ابن حجر العلمية وعدم تحيزه للمذهب الذي ارتضاه دفعاه إلى بيان ما في الحديث من إعلال، فقال عنه: إنه معلول، والمحفوظ عن عائشة من فعلها لا من روايتها.
4- وفي كتاب النكاح أورد الحافظ ابن حجر حديثًا عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال6: "الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر وإذنها سكوتها" وفي رواية: "ليس للولي من الثيب أمر" وهو يختلف مع مذهب الشافعية من أن الولي ركن في النكاح مطلقًا دون تفرقة بين الثيب والبكر.
وبعد: فإن هذا الكتاب من تأليف الحافظ ابن حجر، وهو من عرف علماء الحديث علمه وفضله واستيعابه لأكثر السُّنَّة، وإمامته في علوم الحديث والرجال، وقد أعانه ذلك على أن يقدم الضروري من أدلة الأحكام في إيجاز يعين على حفظه واستظهاره عند الحاجة، ومن أجل ذلك لم يسلك مسلك غيره ممن توسع في تقديم كثير من الأحاديث في موضوعات الفقه المتعددة، مما يفتر بعض الهمم، ويقعد بها عن دراسة الفقه والحديث.
ويبدو لنا أن أبرز ميزة في هذا الكتاب أن مؤلفه قد توخى فيه إلى ما تدعو إليه حاجة المتفقهين والمستدلين، فإنه تناول فيه أحاديث الأحكام مراعيًا فيها ميزة القبول، بحيث تكون من بين الصحيح أو الحسن وتصلح للاحتجاج، فإن أورد حديثًا أدنى درجة من هذه فإنه يورده تابعًا أو شاهدًا، أو مشتملًا على زيادة لا تخل بدلالة غيره مما استوفى شروط القبول. ---------------------------- 1 سبل السلام: ج1 ص67. 2 بلوغ المرام: ص26. 3 سبل السلام: ج1 ص67. 4 سبل السلام: ج1 ص67. 5 بلوغ المرام ص94. 6 نفس المرجع والصفحة. ---------------------------- من أجل ذلك أقبل العلماء على هذا الكتاب، وتناولوه في مختلف الأعصار والأمصار بالشرح والتعليق، فقد شرحه1 الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني اليمني المتوفى سنة سبع ومائة وألف في كتابه "سبل السلام".
وشرحه القاضي شرف الدين الحسين المعروف بالمغربي قاضي صنعاء المتوفى عام تسع عشر ومائة وألف في كتابه الذي سماه "البدر التمام" وهو مخطوط.
وشرحه أيضًا مختصرًا من سبل السلام الشيخ أبو الخير نور الحسن خان وسماه "فتح العلام" وقد طبع في بولاق، كما شرحه العلامة أبو الطيب صديق حسن خان بشرح مطبوع بالهند باللغة الفارسية شرحه السيد محمد بن يوسف الأهدلي بشرح لم يطبع بعد.
وشرحه أيضًا العلامة المواولي أحمد حسن الدهلوي بشرح منتخب من فتح الباري وشروح الكتب الستة ونيل الأوطار ومختصر سنن أبي داود وتلخيص الخبير لابن حجر، وطبع في جزأين بالهند.
وشرحه كذلك الشيخ محمد عابدين أحمد الأنصاري الحنفي المتوفى سنة سبع وخمسين ومائتين ألف.
"أخيرًا شرحه فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ محمد علي أحمد أستاذ الحديث بكلية أصول الدين بالأزهر الشريف.
وبهذا القدر نكتفي في دراسة هذا الكتاب العظيم من كتب الأحكام، ونسأل الله لمؤلفه المثوبة والأجر على ما قدم لأمة الإسلام من فضل ومنة، بتأليفه لكتاب بلوغ المرام من أدلة الأحكام الله الموفق وهو المستعان. ---------------------------- 1 نقلًا بتصرف عن مقدمة طبعة مصطفى البابي الحلبي لكتاب سبل السلام سنة 1378هـ. ---------------------------- كشف الغمة عن جميع الأمة: للشعراني المتوفى سنة 973هـ: مؤلف هذا الكتاب هو الشيخ العابد الزاهد عبد الوهاب بن أحمد الشعراوي الشافعي، أورده الشيخ عبد الرءوف المناوي في طبقاته فقال: هو شيخنا الإمام العابد الزاهد الفقيه المحدث الأصولي الصوفي المربي من ذرية محمد بن الحنفية ولد ببلده1 ونشأ بها، ومات أبوه وهو طفل فحفظ القرآن، وأبا شجاع والأجرومية وهو ابن سبع أو ثمان ثم انتقل إلى القاهرة سنة إحدى عشرة وتسعمائة فقطن بجامع الغمري، وجد واجتهد فحفظ عدة متون في مختلف الفنون، ثم شرع في القراءة فأخذ عن الشيخ أمين الدين إمام جامع الغمري، وقرأ عليه ما لا يحصى كثرة منها الكتب الستة، وقرأ على الشمس الدواخلي والنور المحلى والنور الجارحي وتلا على العجمي وعلى القسطلاني2، والأشموني والقاضي زكريا والشهاب الرملي، وحبب إليه الحديث فلزم الاشتغال به والأخذ عن أهله، وكان مع ذلك فقيهًا صوفيًّا له دراية بأقوال السلف ومذاهب الخلف، وكان يديم الصوم ويفطر على أوقية من الخبز، واستمر كذلك حتى قويت روحانيته، ثم أخذ الطريق عن المشايخ المشهورين في عصره، ثم تصدى للتصنيف فألف كتبًا منها مختصر سنن البيهقي الكبرى، ومختصر تذكرة القرطبي، وكشف الغمة "وهو ما نحن بصدد دراسته" والمنهج المبين في أدلة المجتهدين، والبدر المنير في غريب أحاديث البشير النذير، ولوائح الخذلان على من لم يعمل بالقرآن، وحد الحسام على من أوجب العمل بالإلهام، والبرق الخاطف لبصر من عمل بالهواتف، والاقتباس في القياس، وغير ذلك من الكتب، وحسده طوائف فدسوا عليه كلمات يخالف ظاهرها الشرع، وعقائد زائفة ومسائل تخالف الإجماع، رموه بكل عظيمة فخذلهم الله وأظهره عليهم، وكان مواظبًا على السُّنَّة مبالغًا في الورع، مؤثرًا ذوي الفاقة على نفسه، حتى في ملبوسه، وكان عظيم الهيبة وافر الجاه تأتي إلى أبوابه الأمراء، ومن كلامه: دوروا مع الشرع كيف كان لامع الكشف فإنه قد يخطئ، وكان يحث على مطالعة كتب الفقه، على عكس ما عليه بعض المتصوفة الذين كانوا يزعمون أنها حجاب تحول بينهم وبين الله3 وفي الكواكب السائرة4 أنه قرأ على الشيخ نور الدين الجارحي شرح ألفية العراقي، وعلى القسطلاني كل المواهب وغالب شرحه للبخاري، قال صاحب الشذرات: توفي عام ثلاث وسبعين وتسعمائة للهجرة. ---------------------------- 1 بلده قرية أبي شعرة من قرى مصر كما أورده نجم الدين الغزي في الكواكب السائرة ص176 ج3. 2 هو الحافظ شهاب الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر القسطلاني المصري صاحب المؤلفات العظيمة، منها شرحه لصحيح البخاري في عشرة أسفار، ومنها المواهب اللدنية بالمنح المحمدية توفي سنة 923هـ. 3 نقل بتصرف من شذرات الذهب ص372 ج8. 4 ص 176، ج3. ---------------------------- وقد ذكر في سبب تأليفه لكتاب كشف الغمة1 وما كان من شكوى جماعات من المتصوفة ما يجدونه من العلماء الذين يقرأءون مذاهبهم وينصرون أقوالها، وأنهم وقعوا في حيرة شديدة من اختلاف هؤلاء العلماء، وتوجيه كل واحد منهم إلى مذهبه، وتهديد الكثير منهم ببطلان عباداتهم إذا خرجوا عن مذاهب أئمتهم، وأطال في تصوير ذلك، وفي بيان ترددهم عليه، وما كان يجيبهم به ليصرفهم عن هذا التكليف الشاق، ولكنهم ألحوا عليه في أن يجمع لهم كتابًا حاويًا لأدلة المذاهب الأربعة المشهورة وغيرها من صريح السُّنَّة النبوية، وسنة الخلفاء الراشدين، وأن يجرده عن أقوال جميع المجتهدين التي لم تصرح بأحكامها الشريعة؛ ليعرفوا ما شرعه نبينا صلى الله عليه وسلم فيقدموا العمل به؛ لأنه هو الذي يسألون عنه بين يدي الله سبحانه وتعالى، وطال الجدل بينهم وبينه، حتى تحقق من صدق قصدهم في اتباع سنة نبيهم، وشدة ظهور رغبتهم في ذلك، فشمر عن ساعد الجدر والاجتهاد، وشرع بعون الملك الوهاب في جمع أحاديث الشريعة وآثارها من كتب الأحاديث التي تيسرت له حال جمعه في البلاد المصرية، كموطأ الإمام مالك، ومسند الإمام سنيد بن داود2 -وهو من أقران مالك يروي عن وكيع، وقد وقعت له منه نسخة بخط الإمام محمد بن عذرة، ولم يظفر بها أحد من حفاظ الحديث وكالصحيحين، ومسانيد الأئمة الثلاثة أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وصحيح أبي داود، وصحيح الحاكم، وصحيح ابن خزيمة وابن حبان والترمذي والنسائي وابن ماجه، والأحاديث المختارة للضياء المقدسي -قال الشيخ جلال الدين السيوطي: وكلها صحيحة- وغير ذلك من كتب حفاظ المحدثين رضي الله عنهم أجمعين، بل لم أذكر في هذا الكتاب شيئًا من أحاديث غير هذه الكتب إلا نادرًا؛ لأنها هي التي اعتمدها العلماء وتلقوها بالقبول، ولا يخرج عنها من أحكام الشريعة -فيما أعلم- إلا النادر.
والفلك المحيط لجميع هذه الكتب وغيرها من المسانيد الغريبة هو كتاب جامع الأصول لابن الأثير، وكتاب السنن الكبرى للبيهقي، وكتاب الجامع الكبير والجامع الصغير، وكتاب زيادة الصغير، كل هذه الثلاثة الأخيرة للشيخ جلال الدين السيوطي خاتمة حفاظ الحديث بمصر المحروسة.
ثم قال: وقد طالعت جميع هذه الكتب، وأخذت منها جميع ما يتعلق منها بأمر أو نهي أو مكارم أخلاق من الحديث والآثار، وتركت كل ما زاد على ذلك من السير والتفسير وغير ذلك مما هو ليس من شرط كتابنا، فصار كتابنا هذا بحمد الله حاويًا لمعظم أدلة المجتهدين. ---------------------------- 1 ص3 وما بعدها من كشف الغمة. 2 واسمه حسين بن داود المصيصي لقبه العماد في الشذرات بالمحتسب الحافظ وقال: إنه اشتهر بلقب سنيد وإنه أحد أوعية العلم والآثر، وثقه ابن حبان، والخطيب البغدادي وإن تكلم فيه أحمد. توفي 226هـ شذرات الذهب، ص59 ج2 وذكره صاحب الرسالة المستطرفة في أصحاب المسانيد وضبط المصيص بكسر الميم وتشديد الصاد، ويقال بفتح الميم وتخفيف الصاد نسبة إلى المصيصة مدينة وقال: إن سنيد كزبير، وإنه الحافظ المحتسب صاحب التفسير المسند المشهور: الرسالة المستطرفة ص51. ---------------------------- |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: كتب أحاديث الأحكام الأحد 26 مايو 2024, 6:53 pm | |
| ثم ذكر أنه لا يعلم الآن في كتب المحدثين كتابًا أجمع لأحاديث الشريعة وآثارها منه فإنه جمع -مع صغر حجمه- أدلة المجتهدين المشهورة، وإن أردت امتحان ذلك فانظر في أي باب منه، وانظر ذلك الباب في جميع أبواب كتب المحدثين تجد جميع ما قالوه في أبواب كتبهم كلها مستوفى في باب واحد، فإن كتب المحدثين إنما طالت بذكر السند وتكرار الأحاديث فلله الحمد، ولم أعز أحاديثه إلى من خرجها من الأئمة؛ لأني ما ذكرت فيه إلا ما استدل به الأئمة المجتهدون في مذاهبهم، وكفانا صحة لذلك الحديث استدلال مجتهد به، وملت فيه إلى الاختصار، فلا أذكر من كل حديث إلا محل الاستدلال المطابق للترجمة، فأقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل كذا أو يقول أو يأمر بكذا أو ينهى عن كذا أو يشدد في كذا ومرادي مكان وقوع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ولو مرة، ثم "قد" يكون ذلك الأمر قد تكرر وقوعه منه صلى الله عليه وسلم وقد لا يكون تكرر، ولا أذكر القصة التي سبق فيها الحديث إلا إن اشتملت على موعظة أو اعتبار أو أدب من الآداب، ولا أكرر حديثًا في باب واحد إلا لزيادة حكم ظاهر لم يكن في الحديث الذي قبله، والذي دعاني إلى شدة هذا الاختصار مناسبة الزمان والسامعين، من غالب الفقراء والمحترفين من عامة المسلمين، وتعجيل ذكر ما هو المقصود من الحديث، ولم أمل فيه إلى تأويل حديث ولا إلى النسخ بالتاريخ -كما يفعله بعضهم- أدبًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتقيد كلامه فيما فهمه عالم دون آخر، وأن ينسخ غيره كلامه؛ إذ لا ناسخ لكلامه صلى الله عليه وسلم إلا هو كقوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها" وقوله: "كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فادخروا، وكنت نهيتكم عن الانتباذ في الحنتم والنقير فانتبذوا غير ألا تشربوا مسكرًا".
وقال أطال في هذا المنهج بما يؤكد أنه نقل السُّنَّة النبوية الكريمة في موضوعات الأحكام وما يتعلق بها بكل دقة وأدب وورع، وإنما هي الأمانة العلمية التي تقتضي أداءها كما هي، ونقلها بتصرف وحكمة مع تركها للقارئ يفهمها بما يفتح الله به عليه.
غير أننا نلاحظ أن له استطرادات عديدة نضحها عليه اتجاهه الصوفي، وحرصه على ربط النفوس بحب الرسول صلى الله عليه وسلم، وحفزها على التأسي به، ودراسة الكثير من أخلاقه وشمائله، مع حرصه على الترغيب والترهيب بتصوير أنواع من الثواب والعقاب، وكل ما عمله من تصرف هو بالقدر الذي يكفل تعجيل المنفعة للقارئ والسامع، مع عدم كده في المراجعات إلا أن يكون على سبيل الامتحان للاطمئنان إلى أنه استوعب ما في بطون كتب السُّنَّة، ولم يدخر منه شيئًا نصحًا للأمة، وفي هذا منه مسايرة للزمان الذي تطور فيه أمر التأليف بما يساير ظروف المجتمعات، ولهذا نرى أن النقل يختلف في كل زمان عنه في الزمان الآخر.
فهذا الذي صنعه الإمام الشعراني لا يخرج أن يكون ثمرة لهذه التطورات، وأثرًا لانصباب دراسات الأئمة وتجاربهم في العصور المختلفة التي عهدت بها عناية الله ورعايته إلى من يصطفيه من هذه الأمة ليبلغهم رحيق الدين، وخالص ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وتلامذته الذين ورثوه من بعده، وفي هذا تطبيق دقيق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "رحم الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه".
وبهذا يكون الشعراني قد تأدب بأدب النبوة حيث آثر أن ينقل ما وصل إليه من علم النبوة إلى من يتلقاه عنه، ليتصرف فيه بفهمه وإدراكه، أو يسأل عنه أهل الذكر إن شاء ذلك، فهو وإن لم يكن سمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم فإن أمرنا جميعًا وأمره وأمر غيره من المحدثين أن يكون ممن يطبق هذا الحديث معنى وفقهًا لا لفظًا وحرفًا، فإن الغاية من ورائه أن يسارع العلماء إلى نقل السُّنَّة، وأن يبادروا بحملها إلى المسلمين.
وأبرز ما في هذا الإمام من الأدب أنه ترك أمرين بارزين تقحم فيهما كثير من العلماء والفقهاء هما: التأويل والحكم بالنسخ؛ لأن واحدًا منهما لا يخلو من إظهار شخصية حيال الأحاديث النبوية، فقد أدى به ورعه وأدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يحمل عهدة ذلك؛ لأن المتعرض له قل أن يخلو من أن يكون عرضة للخطأ والمسئولية، وإن كان الخطأ في مثل ذلك مغفورًا، إلا أنه أخذ بالعزيمة فيه، وترك تلك الرخصة لمن عمل بها أو أراد أن يعمل بها، ولكل وجهته، وجزى الله الجميع خير الجزاء.
وأهم ما في الموضوع أن الشعراني قد استطاع أن ينقل إلينا سفرًا جليلًا في جميع ما تناوله من أبواب لا تحويها الأسفار العظيمة لولا تصرفه الذي أغنانا به عن عناء الطلب الطويل الكثير.
ونحن لا نستطيع أن نجزم -محاباة منا للمؤلف- بأن جميع أحاديث كتابه صحيحة، ولكنا نقول: إنه اجتهد في هذه الناحية وحمل مسئوليتها وحملنا معه تلك المسئولية بعرض ما نقل فيه من كتب السُّنَّة التي تروي الصحاح، وأن جميع أحاديث الكتاب أدلة فقهية للمجتهدين الذين تجل ساحتهم -وهم مسئولون عن أدلة الأحكام- أن يكون من بينها حديث ضعيف.
ومهما يكن من أمر فإننا -بعرض هذا الكتاب ودراسته وتصويره- نكون قد عرضنا لونًا من ألوان التأليف في أحاديث الأحكام، في ختام هذا العصر الذي نحن بصدد دراسته، وهو لون لا نعلم أن غيره شاركه فيه، سواء أكان مبرأ من العيوب أو لم يكن كذلك.
ثم إن مؤلفه رحمه الله لم يقصره على ذكر الأبواب المعهودة في كتب الفقه خاصة، بل إنه -باتجاهه الصوفي- أخلص النصيحة للأمة، واجتهد أن يكون بهذا الكتاب الشخصية المسلمة الكاملة التي تسير على جادة الإسلام، وهديه القويم الأكرم، وبذلك يمثل المسلمون -إذا انتهجوا نهجه- سيرة السلف الصالح على بينة واتجاه سليم، وقد نص على ذلك في مقدمة كتابه فقال: أولًا1 إنه أخذ جميع ما يتعلق بأمر أو نهي أو مكارم أخلاق من الأحاديث والآثار، وعرض ثانيًا2 لتفصيل ما أورده خارجًا عن أبواب الفقه المتعارفة وحدد مواضعه المتفرقة. ---------------------------- 1 ص5 ج1 كشف الغمة. 2 ص7 ج1 وما بعدها من نفس المصدر. ---------------------------- فقال: إنه ختم ربع العبادات1 بباب جامع لفضائل الذكر بجميع أنواعه مطلقًا ومقيدًا، وما جاء في فضل الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وختم باب الجهاد بخاتمة لخص فيها سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من ولادته إلى رسالته إلى وفاته، وختم أبواب فقه الكتاب بباب جامع لجملة من أخلاقه صلى الله عليه وسلم، ولجملة من هديه في أنواع مخصوصة -وإن كان ذلك مفرقًا في أبواب الكتاب- وأتبع هذه الأخلاق بذكر ما جاء في حقوق الوالدين وصلة الرحم وستر عورات المسلمين، وما إلى ذلك من أبواب الدين التي ذكر منها الشيء الكثير، ثم أورد أنه ذكر الموت وأحوال الموتى وعذاب البرزخ ونعيمه، وما جاء في الحشر والنشر والحساب والميزان والصراط، وغير ذلك من مواقف القيامة وعدتها خمسون موقفا كل موقف للعاصي ألف سنة.
وما جاء في صفة الجنة والنار وذبح الموت بينهما، ثم قال: وأكرم به من كتاب احتوى على مقاصد الشريعة كلها مع عذوبة لفظه وحلاوته، وكيف لا يكون ذلك وهو كلام سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، ومن نظر فيه علم يقينًا أن الشريعة لا تضييق فيها، ولا حرج على أحد من المسلمين، ولزم الأدب مع الله ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشفق على الأمة المحمدية، ولم يأمر أحدًا بشيء لم تصرح به الشريعة المطهرة إلا إن أجمع عليه، فإن في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: "اللهم من شق على أمتي فأشقق اللهم عليه"، ولا أحد أشق على الأمة من فقيه يحجر عليهم، ويحكم ببطلان عباداتهم ومعاملاتهم، وتطليق نسائهم، وسفك دمائهم، ويحكم بكفرهم بأمور ولَّدها بعقله ورأيه، ولم يأت بما صريحًا من كتاب ولا سنة، حتى تضيق الدنيا على العاصي منهم، فمن فعل ذلك معهم فقد دخل في دعائه صلى الله عليه وسلم بأن الله يشق عليه، نسأل الله العافية.
ومؤلف هذا الكتاب -في أدب وتواضع- يقول: إنني أشكر الله عز وجل أن وفقني لعرض هذا الكتاب المختبئ، وهو كتاب جامع لكل هذه الأغراض التي قلما اجتمعت لمثله في استيعابها وإيجازها، ونبهت إليه كثرة من القراء الذين تتشوف نفوسهم إلى التضلع من الشريعة الإسلامية في أوجز وقت وأقربه، ينتفعون به في فقه الدين، ويستفيدون منه في معرفة السُّنَّة، وفي جميع أبواب السير والسلوك، مع الاطمئنان إلى ما فيه من المعلومات، والتأثر بروحه الطيب في الاستنارة بالهدي النبوي الكريم، فهو مادة جليلة لكل مسلم من الخواص والعوام، وهو بهذا جدير أن يعلم في المساجد والمدارس إن لم يكن كله فليكن بالقدر الذي يلزم المسلم في أعمال اليوم والليلة منه، والذي تدعو إليه ضرورة فوق ضرورة الطعام والشراب، والذي له أثر في إصلاح تلك المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله.
على أنه في تناوله للأحكام الفقهية الأخرى من المعاملات -كالبيع والشراء والإجارة وغيرها- يعرضها عرضًا نديًا يحفز النفوس إلى العودة إلى ذلك الهدي النبوي الكريم، كأنها تعيش فيه، مما يكفل للأمة الإسلامية أن تحيا في تكافل يؤلف النفوس ويجمعها على الحب والخير. ---------------------------- 1 ص7 ج1 كشف الغمة. ---------------------------- ويا حبذا لو عرف أئمة المساجد والخطباء والوعاظ هذا الكتاب الذي يملأ نفوسهم وعقولهم بالمعارف الإسلامية الصحيحة، بدل تلك التي يلجأ إليها بعضهم من كتب خاصة بمجالس الوعظ: كتذكرة القرطبي وغالية المواعظ، وغيرها من الكتب التي تجمع الصحيح والمنكر، والتي تغري بعضهم بما فيه من ترغيب أو ترهيب أن ينقلها إلى الناس نقلًا لا يليق بخواص الأمة، ومن يحملون عبء دعوة الناس إلى الدين الصحيح.
وإن من واجب أساتذة الكليات التي تدرس فيها علوم الشريعة أن يلفتوا أنظار طلابهم إلى ذلك الكتاب، لينهلوا من معينة الصافي، ولينتفعوا به في مواقفهم الإسلامية المختلفة، فإن ظروف الحياة، ووضعهم الديني والاجتماعي فيها يلجئهم إلى أن يخوضوا في أمور دينية ذات شأن عظيم، تستدعي أن يكون لديهم حصيلة نقية صافية من علوم الدين التي يسر تناولها هذا الكتاب في استيعاب وسهولة عرض، وتخير للأحاديث، واطمئنان إلى سلامتها، خروجًا من عهدة التدليس أو الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونسأل الله التوفيق.
وإذا كنا قد تعودنا أن نصف كل مؤلف من الكتب التي مرت بنا، فإنه كان يسعنا أن نكتفي بما وصف به هذا الإمام كتابه -وهو أدرى به- غير أننا نرى أن نضع يد القارئ على بعض صفات سنحت لنا في هذا الكتاب، وقد يكون بعضها مما أشار إليه المؤلف إشارة عابرة في أثناء تصوير منهجه، ومن بين هذه الصفات.
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: كتب أحاديث الأحكام الأحد 26 مايو 2024, 6:54 pm | |
| 1- الاستطراد: ولسنا نعني بالاستطراد ما يدعو إليه الحديث فيدخل بعضه في بعض لمناسبة تدعو إليه، ولكننا نعني أنه يقحم بعض مسائل بعنوان معين ربما يرى أن بينه وبين ما قبله ارتباطًا يدعو لأن يتناوله بشيء من الشرح والإيضاح، وذلك كموضوع التوبة1 الذي ألحقه بكتاب الإيمان ومباحثه التي أوردها، ثم تطرق في هذا الباب إلى إيراد عدة آثار لبعض الصحابة والتابعين كعبد الله بن عمر من الصحابة وعكرمة من التابعين وقد أورد له أثرين.
ومن ذلك أنه أورد عنوانًا لبيان سنن الوضوء2 وكان مقتضى عرضه على منهجه أن يورد الأحاديث النبوية ويترك للقارئ الاستدلال، ولكنه في هذا المقام يبدأ بذكر الحكم ثم يورد الدليل عليه فيقول: أمهات السنن المؤكدة عشر ويورد الدليل، ثم يقول: الثانية غسل اليدين ويورد الدليل، والثالثة الاستنثار والمضمضة والاستنشاق3 ثم يورد الدليل.
ومن ذلك أنه في صفحة 268 ج1 ذكر مع العنوان "كتاب الأطعمة" أن الأصل في الأعيان والأشياء الإباحة... فأبدى رأيه في الحكم قبل أن يعرض الدليل عليه، وهي الأحاديث التي من بينها: "اتركوني ما تركتكم" وما يشبهه. ---------------------------- 1 ص30 ج1 كشف الغمة. 2 ص52 ج1 كشف الغمة. 3 يلاحظ أنه اعتبر هذه الثلاثة سنة واحدة ولم يراع فيها الترتيب. ---------------------------- ومن ذلك أنه أكثر من ذكر الآثار والأخبار عند حديثه عن تكبير العيد، وقد كان يمكن الاجتزاء بقليل مما أورده لبيان الحكم الشرعي.
ومن ذلك أيضًا أنه عند بيانه لما يحل ويحرم من اللباس1 أطال في ذكر ذلك حتى إنه ذكر أحوال آدم وحواء في اللبس، وفي نسخة وغزله للباس، وفي حلة تميم الداري التي اشتراها بألف درهم لليلة التي يرجو أنها ليلة القدر فقط.
ومن ذلك أنه ألحق بموضوع الأشربة وآداب الأكل والشرب وما يتصل به كتابًا2 أورد فيه كثيرًا من صور الطب النبوي، والإرشادات فيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في ذلك أحكام شرعية، وكتب فيه نحوا من ثماني صفحات.
ومن ذلك أنه تعجل -قبل أن يدرس موضوع النكاح والهدي النبوي فيه- بذكر ما اختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم3 سواء أكان اختص به في ذاته في الدنيا، أو في شرعه وأمته في الدنيا، أو في ذاته في الآخرة، أو في أمته أيضًا في الآخرة، أو كان من الواجبات التي هي تخفيف على غيره كصلاة الضحى والوتر والتهجد ولم يكن هذا الموضوع ليحتاج إلى أكثر من خصائصه صلى الله عليه وسلم في النكاح على ألا يكون سابقًا عليه، وقد قال في نهاية ما كتب: كما ثبت هذا من خط شيخنا خاتمة الحفاظ الشيخ جلال الدين السيوطي التي تتبعها مدة عشرين سنة.
2- الإكثار من ذكر الآثار، وهو شيء يطول بيانه، إلا أننا نكتفي بإيراد أمثلة منه، فقد أورد عن واثلة بن الأسقع4 أنه كان يقول: لا بأس بالحديث قدمت فيه أو أخرت إذا أصبت معناه.
ومنها ما نقله في مجاز الإيمان5 لعمار بن ياسر أنه كان يقول: ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان... إلخ، وعن علي بن أبي طالب كان يقول: الإسلام ثلاث خصال، وأحيانًا كان يروي هذه الآثار باسم السلف أو الصحابة فيعطيها صورة قوية تؤكد الاستدلال بها مثل قوله6: كان السلف لا يرون بأسًا بطهارة البصاق، ومثل قوله7: قال عكرمة: كانت الصحابة رضي الله عنهم يغشون أزواجهم وهن مستحاضات، وقوله8: كانت الصحابة لا يصلون لمثل الزلازل، وكقوله9: كانت الصحابة رضي الله عنهم يستسقون لنواحي الأرض، وكقوله في معاملة العبيد10: كانت الصحابة رضي الله عنهم يرسلون عبيدهم في تجارتهم ... إلخ، ومن الطريف أنه لم يذكر تحت هذا العنوان "معاملة العبيد" إلا هذا الأثر، ولكنه أكده بحديث سبق ---------------------------- 1 ص171 كشف الغمة. 2 ص 285 ج1 كشف الغمة. 3 ص2 ج2 إلى ص13 كشف الغمة. 4 ص19 ج1 كشف الغمة. 5 ص25 ج1 كشف الغمة. 6 ص37 ج1 كشف الغمة. 7 ص76 ج1 كشف الغمة. 8 ص177ج1 كشف الغمة. 9 ص178 ج1 كشف الغمة. 10 ص323 ج1 كشف الغمة ---------------------------- له في البيع، وقد يكون ذلك اختلاف عبارة لا اختلاف فقه، كما جاء فيمن سأل كلا من ابن عباس وابن عمر في حكم من نذر أن ينحر نفسه إن نجاه الله1.
3- كثيرًا ما ينقل عن شيخه بعض الأقوال ولكنه لا يعين هذا الشيخ.
ومن ذلك قوله2: قال شيخنا: لم يبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء في كراهية استقبال القبلة حال الجماع، ونقل عن شيخه3 في شأن التسليم الذي كان يفعله المؤذنون بأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، وإنما كان في أيام الروافض بمصر تسليمًا على الخليفة ووزرائه، وأن صلاح الدين أبطل هذه البدعة، وأمر المؤذنين بالصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بدل تلك البدعة.
ومن ذلك قوله4: قال شيخنا: وشذ من قال بوجوب النية "في الصوم" بعد صلاة العشاء.
4- أحيانًا يورد استنتاجًا يضيفه إلى غيره مثل قوله5: قال العلماء: وفي الحديث دليل على طهارة بول ما أكل لحمه، تعليقًا على قول إبراهيم النخعي: كانوا يستشفون بأبوال الإبل ولا يرون به بأسًا، ولعله اعتبره حديثًا بناء على وقوعه بعد حديث عرينة الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فيه أن يشربوا من أبوال الإبل.
5- أحيانًا يذكر عنوانًا دقيقًا يحتاج إلى تأمل في الربط بينه وبين الحديث، فقد عقد -في الإيمان-6 فصلا فيمن حلف لا يهدي هدية فتصدق، وأورد حديثًا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يسأل عما يأتيه من الطعام أحيانًا فيقول: "أهدية أم صدقة؟ " فإن قيل: صدقة لم يأكل منه.
وليس في هذا الحديث تعرض للحلف، وإنما يدل على أن الهدية مغايرة للصدقة.
6- يورد أحكامًا تشتمل على بعض الغرابة ويضع لها عنوانًا مثل قوله: فصل في صلاة التوبة7، وذكر حديثًا يدل على ذلك، كما أنه ينقل عن بعض الصحابة أحكامًا8 فيها شيء من الغرابة كقوله: كان عمر يقول: من مس إبطه أو نقى أنفه أو مس أنثييه فليتوضأ، وكان علي إذا مس صليبًا على نصراني يذهب فيتوضأ من مسه ويقول: إنه رجس، وكثيرًا ما كان يتوضأ من مس الأبرص واليهودي، وكما يروى عن أبي هريرة قوله: من فسر القرآن برأيه وهو على وضوء فليتوضأ، وكان أيضًا يقول: من تجشأ فملأ فمه فليعد الوضوء.
7- يذكر من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ما يدل على قاعدة أصولية9 وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "كلامي لا ينسخ كلام الله..." إلخ. ---------------------------- 1 ص176 ج1 كشف الغمة. 2 ص63 ج1 كشف الغمة. 3 ص87 ج1 كشف الغمة. 4 ص220 ج1 كشف الغمة. 5 ص37 ج1 كشف الغمة. 6 ص172 ج2 كشف الغمة. 7 ص133 ج1 كشف الغمة. 8 ص57 ج1 كشف الغمة. 9 ص28 ج1 كشف الغمة. ---------------------------- وأحيانًا يذكر في النسخ الذي تورع من الإقدام عليه ما روي فيه عن بعض الصحابة كما يقول1: قال جابر: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار.
وأحيانًا يضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما يدل على النسخ صراحة كقوله2: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحيانًا يكسوهم من الخز ثم نهى بعد ذلك عن لبسه. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: كتب أحاديث الأحكام الأحد 26 مايو 2024, 6:55 pm | |
| 8- يكثر من العناوين الفرعية التي لا يندرج تحتها كثير من الأحاديث3؛ لأن في ذكر العنوان تنبيهًا إلى الحكم، فيتعرف عليه السامع من السُّنَّة ويستقر في نفسه، فقد عقد فصلًا للاستمناء ولم يذكر فيه إلا أثرين عن ابن عباس4، كما ذكر عدة عناوين أخرى ليلفت إلى موضوعاتها الأنظار مثل: إجابة الداعي، وما يصنع إذا اجتمع الداعيان، وإجابة من قال لصاحبه: ادع من لقيت، ومن دعي فاستعفى لعذر، ومن دعي فرأى منكرًا، وطعام المتباهين، والنثار في العرس، وحجة من كره النثار، وإجابة دعوة الختان، وقد رأينا مثل ذلك لأبي داود في سننه.
9- لا يراعي الدقة في الترتيب وربط بعض الموضوعات ببعض، فقد ذكر آداب النوم والانتباه عقب التوبة التي جعلها ذيلًا للإيمان وما يتصل به5، ولو أنه ذكر التوبة في أخريات أبواب الكتاب لكان أشبه، ولو أنه ألحق آداب النوم وأذكاره بموضوعات الذكر التي يوردها فيما بعد لكان أقرب، كما ذكر حديث الأعمال بالنيات الذي يعنى به المحدثون ويجعلونه رأسًا سابقًا على كل ما يتكلمون فيه من السُّنَّة، فجعله المصنف ذيلًا لبعض أبواب الطهارة6، ثم ذكره في صدر باب التيمم7، ولهذا نظائر كثيرة في الكتاب، وقد يكون ذلك أثرًا لغلبة الاستطراد التي أشرنا إليها، والاستطراد أثر لذكر الشيء بالشيء وإن لم يكن على مقتضى الترتيب الطبيعي.
10- يفسر بعض الألفاظ النبوية -أحيانًا- وكأنه يفعل ذلك ليبحث تفسيره، ويوفق بينه وبين التفسيرات الأخرى، ونذكر من ذلك على سبيل المثال أنه فسر البردة الواقعة في حديث، "أصل كل داء البردة" بأنها بمعنى الهواء الذي يلفح الجسد8 ووفق بين ذلك وبين قول الأطباء: إنها إدخال الطعام على الطعام.
11- انفرد من بين كتب الأحكام بإيراد سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من مولده إلى وفاته موجزة مركزة في نحو عشرين صفحة عقب كتاب الجهاد9.
12- وهناك ظاهرة غريبة لم تعهد في كتب الأحكام، بل نستطيع أن نقول: إنها لم ترد فيما نعرف من كتب السُّنَّة. ---------------------------- 1 ص60 ج1 كشف الغمة. 2 ص172 ج1 كشف الغمة. 3 ص38 ج2 كشف الغمة وانظر ص172 ج2 وص186 ج2 يتجلى لك هذا الأمر. 4 ص44 ج2 كشف الغمة. 5 ص30، 31 ج1 كشف الغمة. 6 ص48 ج1 كشف الغمة. 7 ص69 ج1 كشف الغمة. 8 ص287 ج1 كشف الغمة. 9 ص149 ج2 كشف الغمة. ---------------------------- تلك هي التزكيات التي أوردها المؤلف من الفقهاء والمحدثين المعاصرين في ذيل الكتاب1 وسماها إجازات، ليزيد القارئ بها طمأنينة تدفعه إلى الانتفاع بما في هذا الكتاب من فوائد حديثية، وهذه الإجازات من كل من الأئمة شهاب الدين أحمد بن حمزة الرملي الشافعي المتوفى سنة 957هـ، ونور الدين علي بن يس الطرابلسي الحنفي المتوفى سنة 942هـ وأحمد بن يونس الحنفي الشهير بابن شلبي المتوفى سنة 947هـ، ومحمد بن سالم الطبلاوي الشافعي المتوفى سنة 966هـ، وشهاب الدين أحمد البرلسي الشافعي المتوفى سنة 957هـ.
ونكتفي بهذا القدر في بيان المكانة العلمية والحديثة لهذا الكتاب، عسى أن تتجه إليه أنظار المسلمين من الخاصة والعامة، فإنه من أنفس ما ألف في كتاب الدين، وأغزرها فائدة، وأعجلها بتحصيل المقصود لكل عالم وطالب.
غير أنه يحتاج إلى كثير من الدقة في تحقيق ما ورد به من آثار، وتخريجها، وتمييز المقبول منها من غيره، فإن أحاديث الأحكام ينبغي أن تكون في مرتبة تجعلها صالحة للاحتجاج، ولا ينبغي أن يكون من بينها ما ليس بصالح، ونسأل الله التوفيق. ---------------------------- 1 ص255 ج2 كشف الغمة. ---------------------------- |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الأول: كتب أحاديث الأحكام الأحد 26 مايو 2024, 6:55 pm | |
| خاتمة الفصل الأول: والآن، وبعد أن استعرضنا نماذج من كتب أحاديث الأحكام، بدأناها بموطأ الإمام مالك، وختمناها بكشف الغمة عن جميع الأمة للإمام الشعراني، ورأينا كيف كانت محاولة الإمام مالك لجمع أحاديث الأحكام، والآثار التي وردت بشأنها، وكان لهذه المحاولة قيمتها وأثرها، باعتبار قربها من المنابع الأصيلة لتعاليم الإسلام زمانًا ومكانًا، فقد عاش صاحبها في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاصر كثيرًا من التابعين وأتباعهم، وكانت تعاليم الإسلام لا تزال غضة، وأهل العصر ما يزالون متمسكين بعهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومترسمين لنهجه وخطاه، ولم تكن الفرق قد نشأت بعد، ولا الأعاجم قد اختلطوا بالعرب والمسلمين ذلك الاختلاط الذي أثر فيهم، فكان الموطأ جامعًا لما تفرق من الآثار الواردة في الأحكام، يحدو مؤلفه الإخلاص للسنة، والنصح للأمة.
ثم جاء أبو داود، وأدرك عصر الرواية، وتيسر له من الرسائل ما لم يتيسر لسلفه الإمام مالك، فجمع كثيرًا من الآثار، وحشد كل نوع منها في كتاب أو باب، وأعانة على ذلك وجوده في عصر الرواية، واعتماد الناس آنذاك في أمور دينهم على الإسناد، ولم يكن أبو داود يتدخل بشرح كلمة في الحديث إلا على ندرة، وبذلك يمكن أن نعتبر أبا داود جامعًا لنصوص الأحكام، مستوعبًا لما ورد بشأنها من الحديث والأثر أو يكاد.
ولم يكد يمضي القرن الثالث الهجري حتى جاء الإمام الطحاوي، وكانت السُّنَّة قد جمعت على أيدي الأئمة الأعلام: فقد سبقه لذلك أبو داود، وسبقه إماما الحديث البخاري ومسلم، وسبقه أئمة الفقه الأعلام: الشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل، ومن قبل هؤلاء الإمام مالك، والحركة الفكرية في الجمع والتصنيف والتدوين ما تزال على أشدها، فأعانه ذلك -بعد جمعه لأحاديث الأحكام- على إبراز شخصيته محدثًا وفقيهًا، وشارحًا للآثار، وموفقًا بين ما يبدو فيها من تضارب، ومنتصرًا لمذهبه الذي اختاره، ومرجحًا لأدلته على أدلة غيره، فجاء كتابه "شرح معاني الآثار" كتاب حديث وفقه، أو على الأصح نستطيع أن نقول: إنه قد برز للوجود أول كتاب في فقه السُّنَّة متمثلًا في كتاب الطحاوي شرح معاني الآثار.
ثم جاء من بعد الطحاوي من رأى حذف السند اختصارًا، معتمدًا على ما استقاه من الصحيحين من أحاديث الأحكام، وكان ذلك أظهر ما يكون في كتاب المقدسي عمدة الأحكام، فكان اختصارًا للأدلة، واختيارًا لأقواها درجة وأصحها إسنادًا، ومن أجل ذلك كان قاصرًا لم يستوعب كثيرًا من الأدلة، تبعًا لاقتصاره على ما أورده الشيخان من أحاديث الأحكام، ومن ثم دعت الحاجة إلى شرحه وبيان ما فيه، وتدعيمه بما تيسر من الأدلة التي عزبت عنه، فكان شرح ابن دقيق العيد المسمى بإحكام الأحكام، وكتابه الآخر الذي سماه بالإلمام.
وجاء بعد المقدسي من تدارك مسلكه، وتوسع في المراجع التي يأخذ عنها الأحاديث؛ فكان الإمام مجد الدين بن تيمية في كتابه منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار، ولم يكن كسلفه المقدسي في اقتصاره على الأخذ من الصحيحين، وإنما أخذ منها كما أخذ من غيرها من كتب الأصول المعتمدة في الحديث، ومن بين هذه الكتب التي أخذ منها مسند الإمام أحمد بن حنبل، وجامع أبي عيسى الترمذي، وكتاب السنن لأبي عبد الرحمن النسائي، وكتاب السنن لأبي داود السجستاني، وكتاب السنن لابن ماجه القزويني، فجاء كتابه المنتقى أوسع دائرة فيما ألف مختصرًا من أحاديث الأحكام بعد عصر الرواية -كما سبق أن ذكرناه- وكان لذلك من أهم المراجع، لولا انصراف مؤلفه إلى إيراد هذه الكثرة الكاثرة من الأحاديث عن تقويمها وبيان درجتها، مما جعل كثيرا ممن جاء بعده يعنى أكبر العناية ببيان درجة الحديث والكلام على رجاله، وعلى رأس هؤلاء الحافظ العراقي، فكان كتابه تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد كما وصفه مؤلفه: بأنه مختصر في أسانيد الأحكام، متصل الأسانيد بالأئمة الأعلام، حتى لا يقع في نقيصة نقل العلم بدون إسناده.
ومن بعد هؤلاء جميعًا جاء الحافظ ابن حجر في كتابه بلوغ المرام الذي عبر عنه: بأنه مختصر يشتمل على أصول الأدلة الحديثية للأحكام الشرعية، وذكر عقب كل حديث من أخرجه من الأئمة؛ لإرادته نصح الأمة، وقد اختار ابن حجر نخبة من الأحاديث، واتجه في أكثر ما اختاره إلى ما بنى عليه الإمام الشافعي مذهبه، وراعى في اختيارها أن تكون من بين ما هو صحيح أو حسن، وأن تكون صالحة للاحتجاج، فإن أورد ما هو أدنى من ذلك درجة فإنما يورده كشاهد أو تابع، أو مشتمل على زيادة ليست في غيره مما استوفى شروط القبول.
وأخيرًا كان الإمام الشعراني في كتابه كشف الغمة عن جميع الأمة، وهو كما قلنا كتاب يتناول أحاديث الأحكام، ويعرضها عرضًا نديًا يحفز النفوس إلى العودة إلى هدي النبي الكريم، وهو في هذا جامع لما تفرق، مستوعب في إيجاز، يفيد من تشوفت نفسه إلى التضلع من علوم الشريعة الإسلامية في أوجز وقت وأقربه، فهو مادة جليلة لكل مسلم، ينتفع به الخاص والعام.
ونرجو أن نكون -فيما عرضناه من نماذج لكتب أحاديث الأحكام- قد وفقنا إلى إعطاء القارئ الكريم صورة صادقة لما كان عليه التأليف في السُّنَّة في تلك العصور، وما كان عليه سلفنا الصالح من بذل الجهد في سبيل تقريب السُّنَّة إلى الدارسين، وتقديمها خالصة من الوشائب، ينتفع بها من أراد الخير لنفسه ولأمته في دينه ودنياه، والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل. |
|
| |
| الفصل الأول: كتب أحاديث الأحكام | |
|