أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: من مولده -صلى الله عليه وسلم- إلى مبعثه -صلى الله عليه وسلم- الخميس 08 فبراير 2024, 8:07 am | |
| الباب الأول من مولده -صلى الله عليه وسلم- إلى مبعثه -صلى الله عليه وسلم- مولده (صلى الله عليه وسلم) كانت حياة الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- متميزة عن حياة أقرانه، فقد ولد يتيماً، إذ مات أبوه عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، وهو في بطن أمه آمنة بنت وهب بن عبه مناف عام الفيل الموافق لعام 570م.
يقول القس الفرنسي لوازون في محاضرة له عن الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-: ((أواخر جميع الأنبياء كان يعتقد المسلمون هو محمد الذي ولد في مكة لعشر ليال مضت من ابريل سنة 570 للميلاد، وكانت عائلته أشرف عائلة في قريش، وهى إحدى القبائل الشهيرة في بلاد العرب، وصاحب النسب المرتقي إلى إسماعيل بن إبراهيم الخليل، وقد كان جده متولياً سدانة الكعبة، وكانت دار حكومتهم، معبد ديانة العرب الوثنية، وتوفي والده عبد الله قبل ولادته، وتوفيت أمه وهو ابن ستة أعوام، وكان على أعظم ما يكون من كرم الطباع وشريف الأخلاق، ومنتهى الحياء، وشدة الإحساس، وقد كفله جده وهو ابن ست سنوات وأثناء كفالته بدأت تظهر من محمد علامات الذكاء ورجاحة العقل، ومر بصبيان يلعبون فدعوه للعب معهم، فأجابهم أن الإنسان خلق للأعمال الجليلة، والمقاصد الشريفة، لا للأعمال السافلة والأمور الباطلة، وكان على خلق عظيم، وشيم مرضية، شفوقاً على الأطفال، مطبوعاً على الإحسان، غير متشدق في نفسه، ولا صلف في معاملته مع الناس، وكان حائزاً قوة إدراك عجيبة، وذكاء مفرط، وعواطف رقيقة شريفة)).
علامات النبوة في مولده: لقد دلت الدراسات الإسلامية لسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، على أن علامات النبوة، قد رافقته منذ ولادته، وأن بعضاً من تلك الدلائل كانت سابقة على ميلاده، وتستدل على أنه سيكون للعرب نبيهم المرتقب... وليس هذا بالأمر العجيب، إذ كانت نبوة الرسول قديمة قدم ألخلق، يقول عليه الصلاة والسلام: ((كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد)) وفي رواية ثانية للرسول -صلى الله عليه وسلم- يتحدث فيها عن قدم رسالته ودلائل نبوته حين رأت أمه يوم مولده نوراً أضاء قصور الشام بقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته وسأخبركم بتأويل ذلك، أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيس بي، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام وكذلك أمهات النبيين يرين)).
وتذكر كتب السيرة الإسلامية والحديث أن اليهود اضطربوا يوم مولد الرسول، ففي رواية لأم المؤمنين عائشة أنها قالت: ((كان يهودي قد سكن بمكة فلما كان الليلة التي ولد فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود؟ قالوا: لا نعلم قال: انظروا فإنه ولد في هذه الليلة نبي هذه الأمَّة بين كتفيه علامة، فانصرفوا فسألوا فقيل لهم قد ولد لعبد المطلب غلام فذهب اليهودي معهم إلى أمه فأخرجته لهم فلما رأى اليهودي العلامة خَرَّ مغشياً عليه وقال: ذهبت النبوة من بنى إسرائيل يا معشر قريش أما والله ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق والمغرب)).
ولم يغب على بال المستشرق والوزير الروماني كونستانس جيورجيو (المولود عام 1916م) في كتابه: "نظر ة جديدة في سيرة رسول الله"، أن يذكر أن السيد المسيح قال لحوارييه حسب رواية في إنجيل يوحنا: إنه سيأتي بعدي شخص يقويكم ويحميكم وإنه سيرسل إليكم" باركلت" لأنني لن أدعكم يتامى، وقد أعلن المسيحيون بعد صعود السيد المسيح أن "باركلت" هو نفسه روح القدس...
يقول جورجيو: ((ويرى المسلمون أن النصارى حرفوا كلمة السيد المسيح، لأنه قال انه سيأتي بعدي "بريكلي توس" ومعناها باليونانية (أحمد) وهو بمعنى (الممدوح)، وهو اسم نبي المسلمين، و(محمد) معناها الأكثر مدحاً، ويروى أن اليهود ذكروا هذه الكلمة "بريكي تول" ويعلمون أن السيد المسيح سيخلفه (أحمد)، لأن اليهود (والعهدة على الرواية) ليلة ولادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اضطربوا كثيراً، وتخَّوفوا من وضع آمنة)).
طفولته في بادية بني سعد: لقد كان لطفولة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في بادية بني سعد أثرها على بنيته الجسدية ومستقبلاً على تحوله الفكري، فقد تكون في تلك البادية استعداده للتأمل الفكري منذ نعومة أظفاره.
يقول المستشرق الفرنسي آتيين دينيه في كتابه: "محمد رسول الله": ((هذه الصحة الأخلاقية والجسمية التي يدين بها إلى البادية، ساعدته كثيراً على تحمل ما ابتلي به بعد من محن. كان محمد يحب إعادة ذكريات تلك الفترة، كثيراً ما كان يقول: " إن من نعم الله علي التي لا تقدر، أني ولدت في قريش أشرف القبائل، وأني نشأت في بادية بني سعد، أصح المواطن بالحجاز" وقد بقيت منطبعة في نفسه صور البادية التي كانت أول الأشياء تأثيراً في حِسِّهِ عندما كان يسرح فيها مع الرعاة فيتسلق شرفاً ليلاحظ القطعان في مراعيهاً، على أن استعداده للتأمل والوحدة لم يكن لينسجم مع أخلاق أقرانه الصاخبة، فكان يفضل اعتزالهم في ألعابهم، ويذهب وحيداً حيث الهدوء والسكون)).
وتتحدث كتب الحديث والسيرة عن دلائل النبوة التي ظهرت له أثناء طفولته في بادية بنى سعد التي ترويهاً حليمة السعدية، حين حضرت إلى مكة مع نساء عشيرتها لالتماس تربية أطفال أشراف مكة حسبما درجت عليه الطبقات الأرستقراطية التي تعهد بأبنائها للمراضع من القبائل البدوية لتنشئهم التنشئة الصحية في أجواء البادية، ومن جهتهم نقل المستشرقون ممن دونوا سيرة النبي عن تلك الكتب بما يخص طفولة الرسول ودلائل النبوة.
ولقد جاء في كتب السيرة والحديث عن طفولته (صلوات الله عليه) على لسان أمه بالرضاع حليمة السعدية، قولها: «قدمت مكة في نسوة من بني سعد بن بكر نلتمس الرضعاء في سنة شهباء فقدمت على أتان لي ومعي صبي لنا وشارف لنا والله ما تبض بقطرة وما ننام ليلنا ذلك أجمع مع صبينا ولا نجد في ثديي ما يغذيه ولا في شارفنا ما يغذيه، فقدمنا مكة فو الله ما علمت منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتأباه إذ قيل إنه يتيم الأب فو الله ما بقى من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعاً غره، فلما لم أجد غيره قلت لزوجي إني لأكره أن أرجع من بين صواحباتي وليس معي رضيع، لانطلقن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه. فذهبت فإذا هو مدرج في ثوب صوف أبيض من اللبن يفوح منه المسك وتحته حريرة خضراء راقداً على قفاه يغط، فأشفقت أن أوقظه من نومه لحسنه وجماله فدنوت منه رويداً، فوضعت يدي على صدره فتبسم ضاحكاً ففتح عينيه ينظر إلي فخرج من عينيه نور حتى دخل خلال السماء، وأنا أنظر فقبلته بين عينيه وأعطيته ثدي الأيمن فأقبل عليه بما شاء من لبن، فحولته إلى الأيسر فأبى، وكانت تلك حاله بعد...
قالت: فروي وروي أخوه، ثم أخذته بما هو إلى أن جئت به رحلي، فأقبل عليه ثدياي بما شاء الله من لبن، فشرب حتى روي وشرب أخوه حتى روي، فقام صاحبي تعني زوجها إلى شارفنا تلك فإذا بها لحافل فحلب فشر ب وشربت حتى روينا وبتنا بخير ليلة. فقال صاحبي يا حليمة والله إني لأراك قد أخذت نسمة مباركة ألم تري ما بتنا به الليلة من الخير والبركة حين أخذناه، فلم يزل الله يزيدنا خيراً. قالت حليمة رضي الله عنها فودعت أم النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم ركبت أتاني وأخذته بين يدي فسبقت دواب الناس الذين كانوا معي، وهم يتعجبون منها. م قدمنا منازل بي سعد ولا أعلم أرضاً من أرض الله أجدب منها وكانت غنمي تروح علي حين قدمنا شباعاً لبناً فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضر من قومنا يقولون لرعانهم: اسرحوا حيث يسرح راعي غنم بنت أبي ذؤيب فتروح أغنامهم جياعاً ما نبض بقطرة لبن وتروح أغنامي شباعاً لبناً)).
وتتحدث كتب السيرة كذلك عن خبر شق صدر الرسول -صلى الله عليه وسلم- واستخراج علقة سوداء من قلبه، مما يرمز لعصمته وتطهره..
هذا، وقد علق آتيين دينه في كتابه: ((محمد رسول الله)) على حادثة شق صدر الرسول بقوله: ((سجل القرآن هذه الحادثة في قوله: (الم نشرح لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك، الذي أنقض ظهرك...)، هذه القصة ككل القصص التي من نوعها، والتي يجدها القارىء أثناء قراءته هذا الكتاب يجب أن تؤول تأويلاً رمزياً. والقصة التي نحن بصددها تعنى: أن الله شرح صدر محمد إلى الفرح بحقيقة التوحيد، إذ أزال عنه منذ الطفولة وزر الوثنية)).
رعاية جده وتوسمه له بالخير: هذا، وتولى عبد المطلب بن هاشم جد الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- رعاية حفيده وسماه محمداً. متوسماً به الخير، وكان يعتقد حسب مصادر الحديث - بأنه سيكون له شأن.
يقول توماس كارليل متحدثاً عن مولده وتوسم الخير به: ((وكان بين هؤلاء العرب التي تلك حالهم، أن ولد الرجل محمد (عليه السلام) عام 570 ميلادي، وكان من أسرة بني هاشم من قبيلة قريش، وقد مات أبوه قبل مولده، ولما بلغ عمره ستة أعوام توفيت أمه، وكان لها شهرة بالجمال والفضل والعقل، فقام عليه جده الشيخ الذي كان ناهز المائه من عمر، وكان صالحاً بارا وكان ابنه عبد الله أحب أولاده إليه، فأبصرت عينه الهرمة في محمد صورة عبد الله فأحب اليتيم الصغير بملء قلبه، وكان يقول: ((ينبغي أن يحسن القيام على ذلك الصبي الجميل الذي قد فاق سائر الأسرة والقبيلة حُسناً وفضلاً)).
وتتحدث كتب السيرة الإسلامية، أن جده كان يعتقد بأن محمداً سيكون نبي العرب، ولم يكن هذا مستغرباً، في تلك المرحلة التي تنتظر ولادة تاريخية جديدة.
ويقول الكاتب جيورجيو في دراسته حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، واستدلال معاصريه بأنه سيكون الرسول المرتقب: ((والأمر المسلم به أن العرب -في الماضي- لم يدهشوا من ولادة نبي، لأن مثل هذا الأمر حصل في بعض أنحاء جزيرتهم قبلاً، حتى آمنة، لم يبد عليهاً العجب، فقد روي أنها سمعت أن ابنها نبي، فلم تندهش لهذه البُشرى، لأن أرض العرب، لم تكن أرضاً مُنجبة للأنبياء وحسب، بل كانت مهداً لأفراد خاطبوا الله تعالى، بل إن كل أنبياء الجزيرة خاطبوا ربهم)).
وتابع قوله: ((ففي شبه الجزيرة العربية المترامية الأطراف، خلافاً للأقطار الأخرى، وصحرائها التي لا يعترضها حاجز... ترى البصر يمتد إلى اللانهاية من كل طرف، صحراء ممتدة الأرجاء، وسماء لا نهاية لها... ولهذا فليس فيها ما يمنع إمكانية معرفة الله وملائكته. ولم تكن مصادفة الخالق في هذه الصحراء الواسعة حالة استثنائية نادرة، كا كما لم تكن ولادة نبي فيها خارقة للعادة.
ويروي بالإضافة إلى آمنة - إذ أقرباء محمد -صلى الله عليه وسلم- جميعاً علموا أن هذا الطفل نبي. ومع هذا فإنهم لم ينظروا إليه نظرة إعجاب، كما لم تختلف رعايتهم له عن رعاية غيره من أطفال قريش. ربما كانت نظرتهم لم إلى ولادة النبي عادية، لأن المهم في الأمر أن هذا النبي في النهاية يستطيع أن يؤدى رسالته التي سيتلقاها)).
كفالة عمه إياه: وحين توفى جد الرسول -صلى الله عليه وسلم- عبد المطلب وهو في الثامنة من عمره، كفله عمه أبو طالب رأس أسرة بنى هاشم بعد أبيه، فأحسن تربيته، وسافر معه إلى الشام في بعض رحلاته التجارية، فالتقي النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو في الثانية عشر من عمره بالراهب (بحيرا) واسمه جرجيس، في بصرى الشام، وتوسم هذا الأخير به علامات النبوة... ولقد أوصي بحيرا الراهب أبا طالب أن يعني بابن أخيه لأنه سيكون النبي المرتقب وحذره من خطر اليهود...
رحلته الأولى إلى بلاد الشام ولقاؤه ببحرا الراهب: تقول كتب السيرة والحديث، أن بحيرا الراهب حين رأى رسول الله قال وهو آخذ بيده: ((هذا هو سيد المرسلين، هذا سيد العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين، فقيل له وما علمك بذلك فقال: أنكم حين أشرفتم به من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً، ولا يسجدان إلا لنبي، وأني أعرفه بخاتم النبوة في أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة وأنا نجده في كتبنا، وسأل أبا طالب أن يرده خوفاً عليه من اليود)).
ولقد بحث الكاتب الإنكليزي توماس كارليل قضية لقاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- ببحيرا الراهب، وما كان لهذا اللقاء من أثر على توجيه للتفكر في قضايا الحياة والخلق... وقد رد كارليل في كتابه الإبطال على تلك المزاعم التي تقول إن ذلك الراهب قد لقنه العلم وانه وراء النبوة التي أنزلت على النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-.
يقول: « ولمَّا شَبَّ محمد وترعرع، صار يصحب عمه في أسفار تجارية وما أشبه، وفي الثامنة عشر من عمره نراه فارساً مقاتلاً يتبع عمه في الحروب، غير أن أهم أسفاره ربما كان ذاك الذي حدث قبل هذا التاريخ ببضع سنين، رحلة إلى مشارف الشام، إذ وجد الفتى نفسه هنالك في عالم جديد إزاء مسألة أجنبية عظيمة الأهمية جداً في نظره، أعنى الديانة المسيحية. واني لست أدري ماذا أقول عن ذلك الراهب سرجياس (بحيرا) الذي يزعم أن أبا طالب ومحمداً سكنا معه في الدار، ولا ماذا عساه أن يتعلمه غلام في هذه السن الصغيرة من أي راهب ما، فإن محمداً لم يكن يتجاوز إذ ذاك الرابعة عشر، ولم يكن يعرف إلا لغته، ولا شك أن كثيراً من أحوال الشام ومشاهدها لم يك في نظره إلا خليطاً مشوشاً من أشياء ينكرها ولا يفهمها. ولكن الغلام كان له عينان ثاقبتان، ولا بد من أن يكون قد انطبع على لوح فؤاده أمور وشؤون فأقامت في ثنايا ضميره، ولو غير مفهومة ريثما ينضجها له كر الغداة ومر العشي، وتحلها له يد الزمان يوماً ما، فتخرج منها أراء وعقائد ونظرات نافذات، فلعل هذه الرحلة الشامية كانت لحمد أوائل خير كثير وفوائد جمة)).
|
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: من مولده -صلى الله عليه وسلم- إلى مبعثه -صلى الله عليه وسلم- الخميس 08 فبراير 2024, 8:07 am | |
| الرحلة الثانية إلى بلاد الشام: ولم تكن رحلته إلى الشام برفقة عمه هي الوحيدة، بل كانت رحلته الثانية وهو ابن عشرين عاماً، التماساً للرزق على ما درج عليه المكيون في العمل بالتجارة»
يقول آتيين دينيه: ((كانت حالة أغلب المكيين -كأبي طالب- تضطرهم إلى التجارة، فإقليمهم من أشد الأقاليم جدباً، ولذلك لم يكن من الممكن لقانطيه أن يعيشوا إلا بالتعامل مع اليمن وسورية، اللذين تربط بينهما مكة، فكانت قوافلها تذهب إلى اليمن الذي أطلق عليه "الإقليم العربي السعيد" للبحث عن منتجاته والمنتجات التي تصل إليه عن طريق البحر، فيبتاعون مما تنتج الحبشة والهند والصين، من التوابل والعطر والبخور، والتبر، والحرير، وفي عودتهم إلى الحجاز يضيفون إلى ذلك تمر يثرب أو الطائف.. ثم يذهبون بعد ذلك إلى سورية ليستبدلوا ببضائعهم منتجاتهم الزراعية: كالقمح، والشعير، والأرز، والتين، والزبيب، يضاف إليها ما يوجد في سورية مما يصدره إليها اليونان والرومان.. ولم تكن النساء بمعزل عن هذا النوع من التجارة: فقد كن يخترن من يخرج في مالهن للاتجار في مقابل جزء من الربح.. وهكذا كانت تفعل خديجة بنت خويلد ذات الثراء الواسع، والحسب النبيل.. وفي ذات يوم أرسلت إلى محمد -وقد كانت تسمع بما له من عقل متزن، وأمانة وإخلاص- فعرضت عليه أن يسير على رأس تجارتها إلى الشام، وأن تمنحه في مقابل ذلك ضعف ما كانت تمنح عادة لغيره)).
خبر لقاءه مع نسطور الراهب: وتتحدث كتب السيرة أيضاً عن لقاءه، بحيرا الراهب، وفي كتب أخرى مع نسطور الراهب، وكيف أنه جلس في ظل شجرة، وأنه في الرواية الأولى قال بحيرا الراهب لأبي بكر: ((هذا والله نبي ما استظل تحت ظلها بعد عيس إلا محمد -صلى الله عليه وسلم-، بين كان تعليق نسطور: ((ما نزل تحت ظل هذه الشجرة بعد عيس إلا نبي)).
زواج الرسول: وتزوج النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- خديجة بنت خويلد وهو ابن خمسة وعشرين عاماً، بينما كانت هي في الأربعين، وعلى جانب من الثراء والجمال، ((ويقال إنها تزوجته لما عرفت عنه من الأمانة والإخلاص والنباهة، وإنها رأت فيه علامات النجابة والنبوة، وان غلامها ميسرة أخبرها حين رجع من رحلته مع الرسول من الشام بأنه شاهد في الهاجرة ملكين يظلانه من الشمس)).
لقد اتفقت الدارسات الاستشراقية على أن النبي شهر بأخلاقه السامية وأمانته وشرف نفسه، يقول الباحث والمستشرق البلجيكي ألفرد الفانز، في كتابه علم النفس: عن أخلاقه -صلى الله عليه وسلم- وأمانته وزواجه من خديجة: ((شَبَّ محمد حتى بلغ، فكان أعظم الناس مروءة وحلماً وأمانة، وأحسنهم جواباً، وأصدقهم حديثاً، وأبعدهم عن الفحش حتى عرف في قومه بالأمين، وبلغت أمانته وأخلاقه المرضية خديجة بنت خويلد القرشية، وكانت ذات مال، فعرضت عليه خروجه إلى الشام في تجارة لها مع غلامها ميسر، فحرج وربح كثيراً، وعاد إلى مكة واخبرها ميسرة بكراماته، فعرضت نفسها عليه وهي أيم، ولها أربعون سنة، فأصدقها عشرين بكرة، وتزوجها وله خمسة وعشرون سنة، ثم بقيت معه حتى ماتت)).
هذا، وقد توقف المفكر الإنكليزي توماس كارليل عند زواج الرسول الحازم الأمين من خديجة التي أعجبت به، وحبه العميق إياها، وعيشه معها تلك العيشة الهادئة، حتى ثار في أعماقه ألق النبوة: ((وما ألذ وما أوضح قصته مع خديجة، وكيف أنه كان أولاً يسافر في تجارات لها إلى أسواق الشام، وكيف كان ينهج في ذلك أقوم مناهج الحزم والأمانة، وكيف جعل شكرها له يزداد وحبها ينمو، ولمَّا زوجت منه كانت في الأربعين، وكان هو لم يتجاوز الخامسة والعشرين، وكان لا يزال عليها مسحة من ملاحة.. ولقد عاش مع زوجه هذه على أتم وفاق وألفة وصفاء وغبطة، يُخلِصُ لها الحُبَّ وحدها، ومما يبطل دعوى القائلين أن محمداً لم يكن صادقاً في رسالته، بل كان ملفقاً مزوراً أنه قضى عنفوان شبابه وحرارة صباه في تلك العيشة الهادئة المطمئنة، لم يحاول أثناءها إحداث ضجة ولا دوى، مما يكون وراءه ذكر وشهرة وجاه وسلطة، ولما يك الا بعد الأربعين أن تحدث برسالة سماوية.. ومن هذا التاريخ تبتدىء حوادثه وشواذه، حقيقة كانت أم مختلقة، وفي هذا التاريخ توفيت خديجة.. نعم، لقد كان حتى ذاك الوقت يقنع بالعيش الهادىء الساكن، وكان حسبه من الذكر والشهرة حسن آراء الجيران فيه، وجميل ظنونهم به، ولم يك إلا بعد أن ذهب الشباب واقبل المشيب أن فار بصدره ذلك البركان الذي كان هائجاً، وثار يريد أمراً جليلاً وشأناً عظيماً)).
وكتب المستشرق البلجيكي الأب هنري لامنس (لا 186 -1977) الذي عرف بدراسته عن عرب الجاهلية والعهد الأموي، فصلاً في أحد مؤلفاته (عهد الإسلام) يقول: ((ن محمداً بعد أن تزوج بخديجة أصبح معروفاً في قومه، وكان الناس يجلون أوصافه ويحمدون سيرته، ويلقبونه بالأمين أي الصادق الذي يعتمد عليه)).
ويقول غلوب باشا في كتابه الفتوحات العربية الكبرى: ((وحرر ثراء خديجة زوجها محمداً من العوز، وفسح له المجال لاحتلال مركز اجتماعي مرمرق في مجتمع مكة الذي يقدر الثراء)).
وهنا لا بد لنا من وقفة، عند آراء المستشرقين أمثال لامنس وغلوب باشا أن عزوا تبوؤ محمد مكانة مرموقة في مكة بفضل ثروة زوجته خديجة.
ومن إقرارنا بأن زواجه يَسَّرَ له شؤون حياته وحَرَّرَهُ من المشاكل المادية، ليجعله أكثر تفرغاً للنواحي الروحية، ولكن هيهات لهذا أن يعزز مكانته الاجتماعية ويدفعه لتسنم ذرى المجد بسبب ثروة زوجته لأنه كان أبعد عن حياة البذخ، دائم التبتل والتأمل، بل يمكن القول إن نجاح الرسول -صلى الله عليه وسلم- مكانته في قبيلته وفي أخلاقه، وأهانته وعصمته...
يقول المستشرق الفرنسي «مارسيل بوازار» في كتابه ((إنسانية الإسلام)): ((هذا، ولقد أمن له هذا الزواج اليسر والرخاء، فكان يقضي أوقات الفراغ في عمله بالتجارة في العزلة والتأمل في ما بلغته الأقوام العربية من التردي الخلقي، كما كان يخلو -قبل رسالته بثلاثة أعوام- إلى غار حراء خلال شهر رمضان للتبتل وتوزيع الطعام على الفقراء)).
ويتحدث الباحث الإنكليزي مونتجمري وات في كتابه «محمد في مكة» أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد زواجه من خديجة، أخذ يرتقي سلم النجاح في مجتمعه المكي، لمكانته في عشيرته ولأخلاقه السامية... وأن خديجة رغم اهتمامها بالمسائل المادية كانت أعجب بكفاءاته الروحية وخير معوان له في المرحلة التالية، يقول: ((كانت السنوات التي تلت زواجه سنوات لم إعداد لعمله في المستقبل.. ولم يحفظ لنا شيء عنها يسمح لنا بإعادة تكوين مراحل هذا الاستعداد.. وأفضل ما نفعل هو أن نقوم ببعض الاستنتاجات مما وصلنا فيما بعد.. كهذه الآيات في سورة الضحى (93/ 6- التي يبدو أنها ترجع لتجارب محمد الأولى.. (ألم يجدك يتيمًا فآوى، ووجدك ضآلًّا فهدى، ووجدك عائلًا فأغنى).. يمكن أن نستنتج من هذه الآيات أن إحدى مراحل تفتحه كانت إدراكه أن يد الله قد أخذت بيده بالرغم من مصائب الدهر وسنعرف بعض الإشارات إلى هذه السنوات الغامضة بعد)).
وكانت خديجة رضي الله عنها خير رفيقة الحياة في مرحلة نبوته اللاحقة وأماً لأولاده، يقول آتيين دينيه: ((كانت خديجة أول زوجة بنى بها الرسول.. وبقيت -طيلة حياتها- زوجه الوحيدة المحببة التي لا يجد غيرها إلى قلبه سبيلاً.. وقد أنجبت له سبعة أولاد، ثلاثة ذكور هم: القاسم، والطاهر والطيب، وأربع إناث: رقية، وزينب، وأم كلثوم، وفاطمة.. وبعد مولد القاسم الذي كان أول من أنجب الرسول من الذكور كني محمد بأبي القاسم.. لكم سعد محمد بأن منحه الله طفلا ذكرا ولكم أعز محمد هذا الطفل وأحبه، ولكم حزن حين أصابته المقادير، وهو ما زال بعد في دور الطفولة.. وأراد الله أن يكون مصير الطاهر والطيب مصير القاسم، فمات الجميع قبل بعثة الرسول.. أمَّا البنات فقد عشن إلى ظهور الإسلام وكن من أوليات مَنْ أسلمن، وساعدن جاهدات، في سبيل الله ورسوله)).
المثل الأعلى في الاستقامة والأمانة وأجمع مؤرخو السيرة على استقامة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأمانته التي اعترف فيا أعداؤه قبل أصدقائه، وكان يلقب قبل البعثة بالأمين.... حتى أن زواج خديجة منها سببه استقامته، يقول أستاذ اللغات الشرقية ورئيس مجمع البحوث والآداب في باريس المستشرق الفرنسي كليمان هوار (1854 -1927) في الجزء الأول من كتابه: (تاريخ العرب)): ((كيف تعرف محمد إلى خديجة، وكيف أمكن أن يحصل على ثقتها ويتزوج بها، الجواب على الشق الأول لا زال غير معروف عندنا، وأما على الشق الثاني فقد اتفقت الأخبار على أن محمداً كان في الدرجة العليا من شرف النفس، وكان يلقب بالأمين، أي بالرجل الثقة المعتمد عليه إلى أقصى درجة، إذ كان المثل الأعلى في الاستقامة)).
وعن رفيع أخلاقه وسامي خصاله وعصمته من الانزلاق في مهاوي الرذيلة يتحد المستشرق جرسان دتاسي، قائلاً: ((أن محمداً ولد في حضن الوثنية، ولكنه منذ نعومة أظفاره أظهر بعبقرية فذة، انزعاجاً عظيماً من الرذيلة وحباً حاداً للفضيلة، وإخلاصاً ونية حسنة غير عاديين إلى درجة أن أطلق عليه مواطنوه في ذلك العهد اسم الأمين)).
وبديهي أن يعتبر الباحثون المسلمون والمؤرخون العرب تلك الصفات، وهذه السجايا من دلائل النبوة، وتتمثل أشد ما تتمثل بعصمة الله رسوله المرتقب من أجواء الرذيلة الشائعة في جاهلية العرب، وأنه صلوات الله عليهى كان يشعر انطلاقاً من حدسه بأن عليه الابتعاد عن المعاصي والموبقات، وأن الله جلت عظمته اختاره لأداء رسالة عظيمة... وعن هذا الأمر يتحدث الباحث الأرجنتيني دون بايرون (1839 - 1900) في مؤلفه: « أتح لنسفك فرصة » فيقول: «لا يبعد أن يكون محمد يحس بنفسه أنه في طينته أرق من معاصريه، وأنه يفوقهم جميعاً ذكاء وعبقرية، وأن الله اختاره لأمر عظيم وقد اتفق المؤرخون على أن محمد بن عبد الله كان ممتازاً بين قومه بأخلاق حميدة، من صدق الحديث والأمانة والكرم وحسن الشمائل والتواضع حتى سماه أهل بلده الأمين، وكان من شدة ثقتهم به وبأمانته يودعون عنده ودائعهم وأماناتهم، وكان لا يشرب الاشربة المسكرة، ولا يحضر للأوثان عيداً ولا احتفالاً، وكان يعيش مما يدره عليه عمله من خير، ذلك أن والده لم يترك له شيئاً يذكر، ولما تزوج خديجة كان يعمل بأموالها().
إذاً، كانت حياة الرسول الأولى، قبل أن ينزل عليه الوحي حياة الهدوء والسلام، يميل للدعة، مما وقف تجاهه المستشرق الايرلندي السير وليم موير (1808-1867) في كتابه (الإسلام)، فقال: ((إن محمداً لم يكن في وقت من الأوقات طامعاً في الغنى، إنما سعيه كان لغيره، ولو ترك الأمر لنفسه لآثر أن يعيش في هدوء وسلام قانعاً بحالته)).
وقال، في مكان آخر: ((إن النبى محمداً في شبابه طبع بالهدوء والدعة والطهر والابتعاد عن المعاصي التي كانت قريش تعرف بها)).
ويقول المستشرق سيديو، في الجزء الأول من كتابه: (تاريخ العرب): ((ولقد بلغ محمد من العمر خمساً وعشرين سنة استحق بحسن مسرته واستقامته مع الناس أن يلقب بالأمين ثم استمر على هذه الصفات الحميدة حتى نادى بالرسالة ودعا قومه إليها فعارضوه أشد معارضة، ولكن سرعان ما لبوا دعوته وناصروه، وما زال في قومه يعطف على الصغير ويحنو على الكبير، ويفيض عليم من عمله وأخلاقه)).
وعن هذه القضية يتحدث المؤرخ والمستشرق الإنكليزي السير موير في كتابه: (حياة محمد): ((إن محمداً نبي المسلمين لقب بالأمين منذ الصغر بإجماع أهل بلده لشرف أخلاقه، وحسن سلوكه. ومهما يكن هناك من أمر فإن محمداً أسمى من أن ينتهي إليه الواصف، ولا يعرفه من جهله. وخبير به من أنعم النظر في تاريخه المجيد، وذلك التاريخ الذي ترك محمداً في طليعة الرسل ومفكري العالم)).
الأمين وبناء الكعبة: ولما بلغ النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- من عمره الخامسة والثلاثين، تعرضت الكعبة للهدم، فعمدت قريش إلى بنائها، فلما تنازع القرشيون فيما بينهم من الذي يضع الحجر الأسود في مكانه، اتفقوا على تحكم أول من يخرج لهم،.. فكان -صلى الله عليه وسلم- أول من خرج ، فحكم بينهم بأن يجعلوا الحجر الأسود في ثوب ثم يرفعه من كل قبيلة رجل.. وجاء في أحدى روايات كتب الحديث الشريف: أنهم قالوا: نحكم أول من يدخل من باب بني شيبة، فكان أول من دخل منه، فاخبروه فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل فخذ من قبائل قريش بأن يأخذ بطائفة من الثوب فرفعوه م أخذه فوضعه بيده الشريفة)).
وقد استرعت هذه الحادثة انتباه المستشرق الألماني أغسطينوس موللر (1148- 1894) الذي درس اللغة العربية في فيينا، فتوقف عندها ملياً، وقال في كتابه «الإسلام»: ((ذكر أن قريشاً هدمت الكعبة، وكان النبي هو ابن -35- منة يشتغل معهم، وتعرض لتنازع قريش برفع الحجر الأسود فيضعه مكانه، ثم تعرض لسياسة النبي محمد في هذا المقام وأنه أدهش قريشاً بسياسته الرشيدة.. ولقد راح بعض المستشرقين يعلق على هذا الحادث تعليقات مليئة بالتقدير والإعجاب لهذه الشعلة العبقرية التي مكنت محمدأ من تفهم الموقف بسرعة عظيمة، والتوسل بهذه الحيلة البريئة إلى إرضاء زعماء قريش جميعاً)).
كما توقف الأب هنري لامنس عند هذه الحادثة فقال: ((لما اختلفت قريش في قضية بناء الكعبة، وأي فخذ منها يجب أن يعهد إليه بوضع الحجر الأسود في مكانه، وكادوا يقتتلون، فاتفقوا على أن يعهدوا بذلك إلى محمد بن عبد الإله الهاشمي، قائلين هذا هو الأمين)).
حادثة بناء الكعبة مقدمة النبوة: لقد ربط المستشرق الأسوجي أرثر جيلمان في كتابه: « الشرق » بين هذه الحادثة التي منعت اقتتال القبائل العربية التي هي بطون لقريش ووحدت إرادتهم في بناء الكعبة، وبين المرحلة اللاحقة لبدء البعثة، والتي تشكل مقدمة للنبوة بقوله: ((لا بد أن يكون محمد قد تأثر بإعجاب القوم وتقديرهم العظيم هذه الفكرة التي بسطت السلام بين مختلف القبائل، ولا يبعد أن يكون محمد قد أخذ يحس بنفسه أنه من طينة أرقى من معاصريه، وأنه يفوقهم جميعاً ذكاءً وعبقرية، وأن الله قد اختاره لأمر عظيم وقد اتفق المؤرخون على أن محمداً كان ممتازاً بين قومه بأخلاقه جميلة، من صدق الحديث، والأمانة، والكرم وحسن. الشمائل والتواضع، حتى سماه أهل بلده -الأمين- وكان من شدة ثقتم به يودعون عنده ودائعهم وأماناتهم، وكان لا يشرب الأشربة المسكرة لا يحضر للأوثان عيداً ولا احتفالاً)).
أجل، لقد شهر عن الرسول ابتعاده عن الوثنية السائدة في قريش، وكان دائم التفكير في أحوال أمته، ينأى عن كل أسباب التلوث الفكري والعملي، فعصمته إرادة الله عن ارتكاب المعاصي، يأنس في نفسه الحدس فيما هو مقبل عليه، بمرحلة تأمله في الحقيقة الأزلية لسر الوجود وجوهر الألوهية.... يقول المستشرق كادا دوفيك (1805-1877) في مؤلفه: «مفكرو الإسلام»: ((أن محمداً من سن الخامسة والعشرين إلى الأربعين كان كثير التفكير هادئاً ساكناً، وكان حليماً تقياً حسن الأخلاق، وانه عندما بلغ الأربعين توجهت جميع قواه العقلية إلى جهة التأمل في جوهر الألوهية، والبحث عن الحقيقة الدينية ومذ ذاك أخذ يعتزل الناس ويخلو بنفسه في غار حراء بقرب مكة)).
مقدمات النبوة وسر الوجود: أن هذه الحالة الفكرية التأملية التعبدية التي عاشها الرسول -عليه السلام- كانت عملياً المقدمة للنبوة، فالبحث عن الحقيقة في شؤون الحياة، وواقع العرب، ومسائل الدين لا بد أن يقود إلى معرفة الحقيقة، وان يقترب الإنسان أكثر فأكثر من خالقه، خاصة، وأنه كان على موعد مرتقب مع الوحي الإلهي....
يقول توماس كارليل في هذا الصدد: ((لقد كان سر الوجود يسطع لعينيه -كما قلت- بأهواله ومخاوفه وروانقه ومباهرة، لم يك هناك من الأباطيل، ما يحجب ذلك عنه، فكان لسان حال ذلك السر الهائل يناجيه: «هأنذا».. فمثل هذا الإخلاص لا يخلو من معنى الهي مقدس، وما كلمة مثل هذا الرجل الا صوت خارج من صميم قلب الطبيعة، فإذا تكلم فكل الآذان برغمها صاغية، وكل القلوب واعية، وكل كلام ما عدا ذلك هباء وكل قول جفاء، وما زال منذ الأعوام الطوال، منذ أيام رحله وأسفاره، يجول بخاطره آلاف من الأفكار: ماذا أنا؟ وما ذلك الشيء، العديم النهاية الذي أعيش فيه، والذي يسميه الناس كوناً؟ وما هي الحياة؟ وما هو الموت؟ وماذا أعتقد؟ وماذا أفعل؟ فهل أجابته على ذلك صخور جبل حراء، أو شماريخ طود الطور، أو تلك القفار والفلوات؟ كلا ولا قبة الفلك الدوار، واختلاف الليل والنهار،، ولا النجوم الزاهرة والأنواء الماطرة.. لم يجبه لا هذا ولا ذاك، وما للجواب عن ذلك إلا روح الرجل وألا ما أودع الله فيه من سره.. وهذا ما ينبغي لكل إنسان أن يسأل عنه نفسه، فقد أحس ذلك الرجل القفري أن هذه هي كبرى المسائل وأهم الأمور، وكل شيء عديم الأهمية في جانبها، وكان لم إذا بحث عن الجواب في فرق اليونان الجدلية، أو في روايات اليهود المبهمة، أو نظام وثنية العرب الفاسدة، لم يجده..
وقد قلت إن أهم خصائص البطل، وأول صفاته وأخرها، هي أن ينظر من خلال الظواهر إلى البواطن، فأما العادات والاستعمالات والاعتبارات والاصطلاحات، فينبذها حميدة كانت أو رديئة.. وكان يقول في نفسه: (هذه الأوثان التي يعبدها القوم لا بد من أن يكون وراءها ودونها شيء ما هي لم إلا رمز له وإشارة إليه، وألا فهي باطل وزور، وقطع من الخشب لا تضير ولا تنفع)..
وما لهذا الرجل والأصنام، وأنى تؤثر في مثله أوثان ولو رصعت بالنجوم لا بالذهب، ولو عبدها الجحاجح من عدنان والأقيال من حمير، أي خير له في هذه ولو عبدها الناس كافة ؟ إنه في وادٍ وهم في واد، هم يعمهون في ضلالهم، وهو ماثل بين يدي الطبيعة قد سطعت لعينيه الحقيقة الهائلة، فإما أن يجيبها وإلا فقد حبط سعيه، وكان من الخاسرين. فلتجبها يا محمد، أجب، لابد من أن توجد الجواب، أيزعم الكاذبون أنه الطمع وحب الدنيا هو الذي أقام محمداً وأثاره؟ حمق وأيم الله، وسخافة وهوس، أي فائدة لمثل هذا الرجل في جميع بلاد العرب، وفي تاج قيصر وصولجان كسرى، وجميع ما بالأرض من تيجان وصوالجة، وأين تصير الممالك والتيجان والدول جميعها بعد حين من الدهر، أفي مشيخة مكة، وقضيب مفضض الطرف، أو في ملك كسري وتاج ذهبي الذؤابة منجاة للمرء ومظفرة؟ كلا، إذن فلنضرب صفحاً عن مذهب الجائرين القائل أن محمداً كاذب ونعد مواقفهم عاراً وسبة» وسخافة وحمقأ» فلنربأ بنفوسنا عنه ولنترفع)). |
|